الفصل السادس

الاختراعات بين العِلم والدِّين

الإنسان يحب الجديد؛ لأنه إزاءه بين فرجة تشرح الصدر وتسر الخاطر، ولكنه في أحوال كثيرة ينفر من الجديد، بل يبلغ من نفوره أن يرتاع منه ويرتاب بظواهره وخوافيه، وينظر إليه كأنه طامع مقتحم يريد أن ينتزع منه ذخيرة يحرص عليها.

هل في ذلك تناقض؟ نعم فيه تناقض، ولكن في الظاهر دون الحقيقة، وما أكثر ما تقلب الإنسان في شعوره وهواه، ولكنه في موقفه أمام الجديد يحبه لأسباب وينفر منه لأسباب أخرى سواها، فهو في الحقيقة بين حبه ونفوره؛ لأن أسباب الحب غير أسباب النفور.

إننا إذا رجعنا إلى أنفسنا وجدنا أننا نحب الجديد ونُقبل عليه في معظم أحوالنا، فإذا نفرنا منه وحذرناه فلا بد أن يكون فيه شيء يمس ذات المعيشة أو يمس المصالح والأرزاق، أو يمس العقائد الدينية والأوهام التي يدخلها بعض الناس في عداد المعتقدات، فإذا كان في الجديد مساس لعذابنا في المعيشة أقلقنا وطرد النوم من عيوننا، ونقول إنه يطرد النوم من عيوننا حقًّا وفعلًا، ولا نقوله من جانب التعبير بالمجاز، فإن الكثيرين منا إذا غيروا سكنهم نفر النوم من أعينهم وإن كان المسكن الجديد أدعى إلى الراحة من مسكنهم الذي ألفوه، وربما حالت العادات بين الإنسان وبين منفعته عند الصدمة الأولى من صدمات التغيير.

ومن الأمثلة الكثيرة على ذلك أننا في مصر تعودنا أن نزرع القطن ونفضله في مناطقه على محاصيل الحبوب، واتفق في أيام الحرب العالمية أن كسدت سوق القطن، وبارت تجارته، وقلت محاصيله، وأن زراعة القمح أصبحت من الضرورات وزادت منافعها على منافع الزراعة القطنية، وأصبح شراؤه مضمونًا بالثمن المطلوب؛ لأن الدولة تشتريه وتشجع زراعته. ولكن الزراع الذين طال عهدهم بزراعة القطن ترددوا كثيرًا قبل أن يقتنعوا بتغيير ما ألفوه، وفضل أناس منهم أن يجازفوا بزراعة القطن؛ لأنهم ألفوه وتعودوا أن يستعدوا له في موسمه على أن يزرعوا القمح المضمون؛ لأنه يكلفهم تغيير العادات المألوفة.

أما الجديد الذي يهدد الناس في مصالحهم وأرزاقهم فلا غرابة في نفورهم منه قبل اطمئنانهم إليه. ونحن اليوم يخيل إلينا أن أمم العالم وقفت في التاريخ تدق الطبول فرحًا واستبشارًا باختراع البخار، ولكن الواقع أن الملاحين حطموا أول سفينة سارت بالبخار، ولما ساد البخار وكثرت الآلات التي تدار به لم يعد فيه جديد، ودخل في عداد المألوفات، وتبين يومئذ أن البخار لا يعرقل الأيدي العاملة كما خطر للمتخوفين منه عند ظهوره، وأن الأيدي التي تعمل فيه أضعاف الأيدي التي كانت تعمل في السفن والمركبات.

إلا أن المخترعات الجديدة قد تمس هذا النفر فتكون ثورتهم عليها أشد من ثورتهم على تغيير عادات المعيشة وتهديد المصالح والأرزاق، والمشاهد بالتكرار أن المخترعات الجديدة ليست كلها مما يثير الأوهام أو يرى فيه الجهلاء مساسًا بالعقائد ومناقضة لأحكام الدين، لكن الغالب على العقول أنها تهاب كل ما يتعلق بتكوين الإنسان، أو يتعلق بنظام الأفلاك، أو نظام السماء؛ لأن خلق الإنسان وتسيير الفلك من أمر الله.

في القرون الوسطى كان الموت عقابًا عاجلًا لكل من يحاول أن يشرح جسم الإنسان؛ لأنهم اعتقدوا في تلك العصور أن المشرحين يختلسون سر الحياة وينازعون الله جل وعلا في أمر الروح. وفي العصور الحديثة، فزع الجهلاء من سماع صوت الإنسان خارجًا من آلات الحديد والخشب، وحدث في بعض قرى الريف عند ظهور الجراموفون أن دعيًّا من أدعياء الدين حطم الجراموفون وأوشك أن يبطش بسامعيه؛ لأنهم يستمعون إلى الشيطان.

وفي بعض البلدان ذهب فريق من الفضوليين إلى دار الإذاعة، وحاولوا إغراء المذيع ليطلعهم على المكان الذي يخبئ فيه الشياطين وينقل منه أصواتهم من وراء الستار، وكان ولي الأمر حكيمًا عاقلًا فأراد أن يقضي على هذا الوهم بدليل محسوس لا يمتري فيه السامعون، قال: «هل يقرأ الشيطان آيات الله؟»

قالوا: «كلا». فأسمعهم من المذياع القرآن الكريم ومحا بذلك ظنونهم في خديعة الإذاعة الأثيرية، فهي على التحقيق ليست من عمل الشياطين.

ومسألة النفس وتنشيط الصدر باستنشاق الهواء وتنبيه القلب بالنبض بعد فتوره، وفتح الدماغ لتصحيح عيوبه وأمراضه؛ كل أولئك كان في عصر الجهلاء افتراء على قدرة الله أو ادعاء للقدرة الإلهية، ثم تعلموا بالخبرة وفهموا حقيقة هذه التجارب العلمية، ففهموا أنها من علم الله وأن الله هو الذي علم الإنسان ما لم يعلم، فلا يكون علم الإنسان إلا دليلًا على قدرة الله.

وفي الأيام الأخيرة يتحدث الناس بالأقمار الصناعية، فكان من الممكن أن تسمى بغير هذا الاسم، فيقال عنها كما يقال في لغة الفلك إنها توابع صناعية للأرض، وتنتهي المشكلة باختلاف الأسماء، ولكن تسمية الجسم الطائر في الفضاء باسم القمر أوهمت فئة من الجهلاء أن هذا الاختراع ادعاء لقدرة الله ومشاركة له سبحانه وتعالى في ملك السماء.

ويسرنا أن نقول: إن هؤلاء المتوهمين قليلون، بل جد قليلين، فلا نظن أنهم يبلغون عشر أمثالهم قبل مائة سنة أو قبل مائتين، لو أن هذا الجسم المسمى بالقمر ظهر في تلك الأيام، وهذه علامة من علامات التقدم في مدى جيلين أو ثلاثة أجيال.

•••

سألت بائعًا في دكان بدال، هل رأيت القمر الذي تحدثوا عنه في الصحف؟

قال في غضب: «لم أره، ولن أراه، ولا أريد أن أراه».

قلت: ولم يا صاح؟

قال: «يشاركون الله في سمائه ثم أنظر بعيني إلى فعلتهم!»

قلت: هل يستطيع أحد أن يشارك الله في سمائه؟

فصاح: «كلا! كلا!»

وبدا عليه كأنه تنبه من غفوة أو غفلة، ثم قال: «ولكن ما لهم وللسماء يتطلعون إليها، ألا يكفيهم ما في الأرض حتى يتطلعوا إلى سماء الله؟!»

قلت: مهلًا يا صاح، فإن الأرض لله والسماء لله، وليس الفضاء الذي وصل إليه القمر الصناعي إلا قيراطًا من ألوف القراريط، فهو من الأرض وإليها، وقد وسعت الأرض مخترعات الإنسان، فلماذا يضيق بها الفضاء؟ وأين يأمن الإنسان من قدرة الله، وهو أقرب إليه من حبل الوريد.

فهدأت غضبة الرجل وقال: جزاك الله خيرًا، فقد أرحتني وما كنت أظن إلا أن القيامة قائمة بين يوم وليلة، وأن الصواعق ستنقضُّ علينا من كل مكان. فالحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله.

إن هذا الرجل البريء ومن على شاكلته معذورون فيما يتوهمون؛ لأنهم يجهلون معنى السماء ولا يدرون معنى مشاركة الله في سمائه. ولكن اللوم حق اللوم على من يعرف طرفًا من العلم ثم يتوهم أن الأقمار والصواريخ تهدم عقيدة من عقائد الدين، أو تكشف عن رأي جديد يزعزع الإيمان ويلقي الشك على قواعد الأديان.

فالأقمار الصناعية وما إليها جديدة في الصناعة وليست جديدة في النظريات العلمية، وما من نظرية علمية يقوم عليها هذا الاختراع كانت مجهولة عند أحد من العارفين بقوانين الحركة وعوامل الطاقة المادية، ولو كانت الشركات أو المصانع التجارية تشتغل بأمثال هذه المخترعات لظهرت الأقمار الصناعية قبل هذه السنة بسنوات كثيرة، ولكن الشركات والمصانع التجارية تنفق أموال حملة الأسهم فيما يعود بالكسب المالي، وإنما تتصدى لهذه المخترعات غير التجارية أمم كبيرة تستطيع أن تنفق مئات الملايين في التجارب والمحاولات؛ ولا تتصدى جميع الدول لذلك، ولو كان لديها أقدر العلماء وأبرع المخترعين؛ ولهذا كانت هذه التجارب والمحاولات محصورة في دولتين اثنتين، ولم تكن عامة حيث وجد العلماء والمخترعون.

ولقد شهدت أمم العالم في القرن الأخير مئات من المخترعات بعضها أغرب في نظرياته وتطبيقاته من الصواريخ والأقمار الصناعية. ولم يقل أحد إنها بدعة في الدين، أو إنها تزعزع ركنًا من أركان العقيدة في دين من الأديان.

هذه المستحدثات لا اعتراض عليها من جانب الإيمان، وإنما يأتي الاعتراض عليها وعلى التوسع فيها من جانب المفكرين في الحرب والسلام، وكل من أصحاب الآراء يبيحها ويرحب بها، أو يخشاها ويتشاءم منها على حسب ما يراه، فمنهم من يرحب بها لأنها معرفة جديدة، ولا يجوز للإنسان أن يغلق أبواب المعرفة بها. ومنهم من يخشى أن يستخدمها المحاربون في القتال فلا تبقي ولا تذر، ولا ينتهي القتال بها إلا بنهاية الحضارة الإنسانية وانتكاس بني آدم إلى عهود الهمجية والجهالة العمياء.

والذين يتفاءلون ويتشاءمون يعتقدون بحق أن خطر الأسلحة الميكروبية أعظم جدًّا من أخطار الصواريخ والأقمار الصناعية؛ لأن سلاح الميكروبات مستطاع لأكثر دول الأرض، لا يتوقف على ضخامة المعامل ولا على وفرة الأموال، فإذا انطلقت القذائف الميكروبية بجراثيم الطواعين والأوبئة فشت في الأرض وفتكت بالمحاربين والمسالمين ولم تمنعها الحواجز والحدود، فهي موفورة لكل أمة ذات صناعة أو غير ذات صناعة، وهي خطر أعظم من خطر القذائف الذرية. فمن دواعي التفاؤل، بل من دواعي الأمل، أن يكون الإنسان قادرًا على تقييدها واتقاء دورها في الحرب الماضية، فهو في المستقبل أحرى أن يقيد الأسلحة الذرية، وأن يستخدم الطاقة الذرية سلاحًا لمكافحة الفقر والقحط ونقص المواد الغذائية، وربما كانت هذه الأقمار مفيدة في يوم قريب في تنظيم المد والجزر أو تنظيم ذوبان الجليد في المناطق القطبية أو تنظيم السحب والأمطار ووسائل الري في الصحاري المهجورة والسهول القاحلة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤