انتصار الفلسفة الرُّشدية

(وبلوغها في كلية بادق أوج العظمة)

فبناءً على ما تقدم صار ابن رشد عبارة عن راية تتحارب حولها شعوب وأمم مختلفة في إيطاليا وفرنسا وأسبانيا. وكان للفيلسوف العربي الجليل سمعتان, الأولى سمعة الفضل والعلم والنزاهة وهي عند أساتذة المدارس الذين كانوا يرومون كسر النير القديم. والثانية سمعة الكفر وبغض الدين وهي عند العامة والبسطاء والجهلاء. ولم يأت القرن الرابع عشر حتى صارت سلطة ابن رشد في أوروبا فوق كل سلطة وتقدم على ابن سينا بعد أن كان محسوبًا في القرن الثالث عشر دونه. ولما أراد الملك لويس الحادي عشر ملك فرنسا إصلاح التعليم الفلسفي في سنة ١٤٧٣ طلب من أساتذة المدارس «تعليم فلسفة أرسطو وشرح ابن رشد عليها؛ لأنه ثبت أن هذا الشرح صحيح مفيد».

ولقد كان أنصار المبادئ الرُّشدية في القرن الثالث عشر غير معروفين، ولذلك يتعذر تسمية أحد منهم. وإنما عرف وجودهم من حدة الذين كانوا يطعنون في المبادئ العربية كاريمون لول وغيره كما تقدم. (أما في القرن الرابع عشر وما بعده؛ فقد تألف حزب عظيم لابن رشد وكان هذا الحزب يدرس مبادئه جهرًا. وبذلك انتصرت هذه المبادئ انتصارًا عظيمًا).

وإن قيل ما سبب هذا الانتصار ولماذا لم تختنق بزور الفلسفة في تربة أوروبا. فالجواب عن ذلك ينحصر في أربعة أمور. الأول أن جميع اللاهوتيين والفلاسفة كانوا مقرين لأرسطو ومعترفين بفلسفته، ولذلك كان الخلاف على تفسيرها لا على حقيقتها. والثاني أن النسل الهندي الأوروبي الذي تألفت منه أمم أوروبا نسل ذو مزية على باقي الشعور من حيث حب الفلسفة والعلم، كما أن الساميين أي الشرقيين كانوا ممتازين بخروج الحرية والدين منهم. ولذلك نبغ في الأوربيين رجال أصحاب جرأة على القول والعلم. والثالث قيام إمبراطور كبير كفردريك الثاني الذي حارب الدين ورجاله في أوروبا محاربة شديدة، ونصر الفلسفة عليهم بالرغم عنهم كما سيرِد التفصيل. والرابع أن الدين المسيحي بمجاورته للدين الإسلامي والدين اليهودي في الغرب صار أكثر تساهلاً مما كان من قبل، بدلاً من أن يزداد تعصبًا. ومما زاد هذا التساهل الحملات الصليبية على الشرق ومصادفة المسيحيين الأوروبيين سلطانًا مسلمًا كصلاح الدين الأيوبي في غاية النزاهة والعدل والصدق. فلا ريب أنه كان لهذا السلطان الجليل من التأثير على نصارى الغرب بواسطة أخلاقه وصفاته ما لا يحدثه ألف كتاب في الفلسفة والحكمة. ذلك أنه كان كتابًا في الحكمة حيًا ناطقًا لا يحتاج إلى تفسير أو تأويل.

وكان بدء انتصار فلسفة ابن رشد في كلية بادو المشهورة في إيطاليا. وكانت الحركة الأوروبية والفلسفية في بولونيا وفراري والبندقية تابعة لهذه الكلية. وقد بدأت فلسفة ابن رشد فيها بتعليم كتبه الطبية، ثم تلتها كتبه الفلسفية. وأول مؤسسي تعاليم ابن رشد فيها بطرس داباتو الذي أحرق ديوان التفتيش عظامه بعد موته عقابًا له.

ولما انتشرت مبادئ العرب في بادو والبندقية شاعت على الخصوص بين الطبقات العليا. فصار أهلها يفتخرون بأنهم من أنصار فلسفة ابن رشد. فكان هذه الفلسفة أصبحت «موضة» يتزيا بها كل من يطلب استقلال الفكر، ولكنه من المعلوم أن استقلال الفكر الذي لا يضر ولا يؤذي أحدًا ولا مبدأ شيء، واستقلال الفكر الذي هو عبارة عن خشونة وغلاظة شيء آخر. ولذلك نشأ تحت راية فلسفة العرب في ذلك الزمن البعيد جيلٌ جديد كان يزدري الأديان، ويدعي العصمة ولا يقابل آراء غيره إلا بكل وقاحة وخشونة. فقام يومئذ بترارك المشهور الذي كان من أشد أعداء فلسفة العرب لمقاومة تلك الأفكار الجديدة.

وبترارك هذا هو أول فلاسفة الفلسفة الحديثة، وإن كان من فلاسفة الفلسفة القديمة. ذلك أنه أول رجل دعا الناس إلى الرجوع لعلوم اليونان والرومان والقديمة. وكان شديد الكراهة لعلوم العرب وعلى الخصوص ابن رشد. وله في ذلك أقوال تدل على حمقٍ وإخلاصٍ معًا؛ فإنه كان يقول لصديقه جان دوندي «أرجوك أن لا تخاطبني في شأن العرب؛ فإنني أكره هذا الجنس. وإنني لا أجهل قدر أطباء اليونان، أما أطباء العرب فلا قدر لهم عندي. وأما شعراؤهم؛ فقد عرفتهم ولا شيء أشد حدَّة ومضرة وركاكة من شعرهم (بخ بخ بخ؟؟) ولقد سمعت بعض أطبائنا يثني عليهم ويقول على مسمع من رفاقه الذين كانوا يوافقونه: إنه لو وجَدَ طبيبًا في هذا العصر مساويًا لأبوقراط لما سمح له أن يكتب في فن الطب بعدما كتبه العرب فيه. فما هذا القول. كيف كان شيشيرون خطيبًا بعد ذيموستينوس، وفرجيل شاعرًا بعد هوميروس، وتيت ليف وسالوستوس مؤرخين بعد هيرودوتس وتوسيديدوس. ولا يجوز أن يكون أحد بعد العرب شيئًا مذكورًا. فقل لي كيف يجوز أننا نحن معاشر الإيطاليين نساوي اليونان في أشياء ونفوقهم في أشياء، ونسبق كل الأمم إلا العرب. فهل قُضي على قريحة إيطاليا بالخمود والانطفاء. أم ذلك القول جنون وهوس.

وفي كُتب بترارك كثير من هذه الأقوال التي تدل على كراهته للمبادئ العربية. منها أن أحد أهالي البندقية المنتصرين لفلسفة ابن رشد زاره في ذات يوم في مكتبته فيها. وبينما هما في الحديث استشهد بترارك بكلام للرسول بولس. فابتدره الزائر الرُّشدي بقوله دع كلام هذا المعلم لك أما أنا فمعلمي يكفيني (يعني ابن رشد). فحاول بترارك الدفاع عن الرسول فأجاب الزائر الرُّشدي ضاحكًا: ابقَ أنت مسيحيًا صادقًا كما أنت أما أنا فإنني لا أعتقد بشيء من كل تلك الخرافات. وما بولس وأسطينوس اللذان تذكرهما باللذين يستحقان الذكر؛ فإن ابن رشد أعظم منهما بكثير. ويا ليتك تستطيع مطالعة فلسفته. فعند هذا الكلام نهض بترارك بغضب فقبض على رداء زائره ودره من داره.

وبعد بترارك قام في كلية بادو جان دي جاندون، وكان من أعظم أنصار فلسفة ابن رشد حتى دُعي «سلطان الفلسفة وأمير الفلاسفة». ثم قام بعده بولس البندقي وكان من السالكين سبيله. وهكذا لم ينتصف القرن الخامس عشر حتى صار ابن رشد صاحب السلطان المطلق في كلية بادو والمعلم الأكبر الذي لا يُعارَض. ولو شئنا ذكر جميع الأساتذة والعلماء الذين شرحوا فلسفة فيلسوفنا في كليتي بادو وبولونيا في خلال القرن الخامس عشر، لكتبنا بذلك صفحات كثيرة يضيق دونها هذا الكتاب. وقد كان المعارضون لهذه الفلسفة في هذا الزمن ضعفاء الأصوات؛ لأنها كانت في أوج العظمة والسلطان.

ولكن هذه العظمة لم تدُم وقتًا طويلاً. فإن إيطاليا في آخر القرن الخامس عشر اهتمت اهتمامًا شديدًا بمسألة خلود النفس. فقام يومئذ بومبونا المشهور، وأحدث خرقًا في تعلم ابن رشد. ذلك أن أنصار الفلسفة الرُّشدية كانوا يقولون: إن النفس بعد الموت تعود إلى الله وتفنى فيه أي تفقد شخصيتها. أما بومبونا الذي تقدم ذكره؛ فإنه أثبت من كتب اسكندر وفرويزياس الفيلسوف اليوناني — الذي شرح أرسطو قبل ابن رشد والذي كان ابن رشد يعتمد أحيانًا عليه — أن الإنسان يفنى بعد الموت، وأنه لا خلود غير الخلود الإنساني النوعي الذي على الأرض. فانقسم يومئذ المشتغلون بالمبادئ قسمين؛ قسم يعتمد على ابن رشد في إثبات الشخصية للإنسان، وقسم يعتمد على اسكندر دفروديزياس. وعهد البابا لاون العاشر إلى العالم نيفوس بالرد على بومبونا. وكان نيقوس من أنصار مذهب ابن رشد. وفي ذلك منتهى العجب؛ لأن مبادئ ابن رشد صارت يومئذ بمثابة النصيرة للكنيسة على العدو الجديد الذي كان ينكر جميع أصول الدين بعد أن كانت عدوة للكنيسة. وهكذا تكون المبادئ في كل زمان ومكان؛ فإنها تختلف باختلاف العقول التي تتصرف بها والأحوال التي تنشأ فيها.

وكان الناس يومئذ يميلون كل الميل إلى هذه المباحثات. فكانوا يحرضون نيفوس للرد على بومبونا ويطعنون في بومبونا، مع أنهم يؤيدونه في السر ويحثونه على الرد على خصمه. وكان لبومبونا خصم آخر وهو أشيليني أحد زعماء مذهب ابن رشد. ومن المشهور — في كلية بادو حتى اليوم — أن أعظم ما حدث فيها هو الجدال الشديد بين بومبونا وأشيليني. وكان أشيليني يتغلب على خصمه في الظاهر إلا أن الجمهور كان يهرع إلى سماع دروس بومبونا ويفضلها على دروسه. ولعل ذلك كان من قبيل الرغبة في سماع الجديد الغير مألوف. وكان بومبونا يقول: إن فلسفة ابن رشد خالية من الأهمية ولا معنى لها، وهو يشك في أن مؤلفها كان يفهمها.

وكان حزب بومبونا يُدعى (حزب الإسكندريين) وحزب الفلسفة العربية يُدعى (حزب الرُّشديين) ولم يأت أول القرن السادس عشر حتى صارت تلك المبادئ مبادئ إيطاليا كلها. فرغبةً في إيقاف إيطاليا عن نزول هذا الأحدور إلى النهاية انعقد مجمع لاتران وقرر حرم كل من يقول بأن النفس غير خالدة، وبأنها واحدة في جميع الناس، ومحاكمة كل الذين ينشرون هذه المبادئ. وكان ذلك في عام ١٥١٢. وقد روى المؤرخون أن بعض الحاضرين في المجمع أنفسهم قد تكلم مدافعًا عن تلك المبادئ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤