الفلسفة اليونانية

(وحلولها محل الفلسفة العربية)

وقد اتخذت كلية بادو في مدة القرن السادس عشر مبادئ نيفوس الرُّشدية شعارًا لها؛ لأنه كان يمكن تطبيقها على الدين. وأصبحت الكنيسة منذ ذلك العهد تستحسن فلسفة أرسطو أشد استحسان حتى أن الكردينال بالافيسيني كان يقول: إنه لو لم يقم أرسطو في العالم لفقدت الكنيسة بعض براهينها. وكانوا يومئذ مجمعين على أن ابن رشد أفضل شُرَّاح أرسطو. ولذلك بلغت مبادئ ابن رشد في ذلك الزمن منتهى النفوذ والانتشار، واضطروا إلى مراجعة كتبه وإعادة ترجمتها وطبعها إجابة للذين كانوا يطلبونها من كل صوب.

فأين كانت يومئذ عينا فيلسوف قرطبة ليرى ما صار له في ذلك الزمان من السلطان على تلامذته الأوروبيين؟ أين كان حُساده الذين كفروه ليروا كيف كان رجال الدين يجارون في أوروبا تيار الفلسفة، ولا يقفون في وجهه لئلا يجرفهم؟ هل كانوا ينظرون ذلك من أعالي السماء في ذلك الزمان؟ وإذا كان الخليفة يعقوب المنصور ينظر وهو في جملتهم فماذا عساه يقول بعد أن يرى بعينيه التبعة الهائلة التي وقعت عليه بمجاراته الحُساد والوشاة في خنق العلم والفلسفة في أرض الأندلس. ألا يشعر حينئذ بزيادة ثقل تاج الخلافة على رأسه إذا كان بقى له هذا التاج هناك؟ ألا يقطع الفضاء السماوي شرقًا وغربًا وشمالاً وجنوبًا للتفتيش عن روح أبي الوليد لطلب الصفح والعفو منها. لا ريب أن أبا الوليد قد انتصر في أوروبا بعد موته انتصارًا لائقًا بحكيم قرطبة وأعظم فلاسفة الإسلام.

ولكن كل شيء يفنى ويتغير في هذه الحياة ولا يدوم إلا وجه الله ذي الجلال. فإن سلطانًا فلسفيًا كهذا السلطان لا يمكن أن يدوم وقتًا طويلاً، وهكذا جرى لابن رشد. ولبيان ذلك نقول: كان الأساتذة في أوروبا يدرسون فلسفة أرسطو من قبل بموجب تلاخيص ابن رشد وابن سينا. فلما قدم العهد بهذه التلاخيص صار الأساتذة يضعون شروحًا عليها من عندهم ويتلونها على الطلبة. فصارت فلسفة أرسطو تصل إلى الطلبة بعد مرورها في التلاخيص الرُّشدية والتلاخيص اللاتينية. فكانت تخسر شيئًا كثيرًا من صفتها الأرسطوطاليسية. ولذلك كان لا بد من الرجوع إلى النص اليوناني الحقيقي عاجلاً أو آجلاً.

ومن جهة أخرى؛ فقد تقدم أن أنصار الفلسفة في أوروبا انشقوا حزبين. فحزب مع ابن رشد العربي. وحزب مع اسكندر اليوناني. وذلك مما أوجب — أيضًا — الرجوع إلى النصوص اليونانية.

وفضلاً عن ذلك؛ فإن علماء إيطاليا كانوا ميَّالين إلى آداب ذلك التمدن اليوناني القديم الذي كان بمثابة شمس أضاءت حينًا ثم خمدت. فأخذوا يعودون إليها.

فنشأ عن كل ذلك حرب جديد أخذ يشتغل بآداب اليونان وعلومهم دون أن يعتمد في ذلك على شيء غير النصوص اليونانية نفسها. وكانوا يسمونهم الحزب الجديد. أم الحزب القديم؛ فهو حزب فلسفة العرب ومبادئ ابن رشد. فبعد أن كان الخلاف بين «رشديِّين وإسكندريِّين» على التخصيص أصبح الخلاف بين «رشديِّين ويونانيِّين» على الإطلاق.

وفي ٤ أبريل من عام ١٤٩٧ صعد الأستاذ نقولا ليونيكوس توموس إلى منبر التعليم في كلية بادو، وأخذ يلقي فيها لأول مرة فلسفة أرسطو باللغة اليونانية. فنظم يومئذ في ذلك بعض الشعراء أبياتًا يقرظ بها هذا الأستاذ دلالة على أهمية هذه الحادثة. ومن ذلك الحين أخذت النهضة اليونانية في إيطاليا بالنمو. فكما أن بادو والبندقية وشمال إيطاليا عادت كلها إلى نص أرسطو الأصلي عادت فلورنسا إلى نص أفلاطون الأصلي — أيضًا — فأصبحت البندقية وفلورنسا في ذلك بمثابة قطبي الفلسفة. فإن الأولى كانت عقلاً يمثل التحقيق في البحث، والثانية كانت قلبًا يمثل رقة الفلسفة وروحانيتها.

فاصطلت يومئذ نار الجدال بين «الرُّشديين» و«اليونانيين» فنشأ عن ذلك اختلاط غريب في فلسفة العرب واليونان والأوروبيين، ولما قام المذهب البروتستنتي في أوروبا انضم إليه كثيرون من أصحاب العقول المعتدلة الذين كانوا يخافون عافية التهور في مبادئ ابن رشد المادية، وباتوا يحاربون هذه المبادئ. فكأن الإصلاح البروتستنتي كان وسطًا بينها وبين المبادئ اللاهوتية القديمة. ومنذ ذلك الحين ازداد فوز «اليونانيين». فلم تأت سنة ١٦٣١ — وهي السنة التي توفي فيها قيصر كريمونيني — حتى زالت فلسفة ابن رشد من طريق الفلسفة الأوروبية الحديثة، ودخلت في حيز التاريخ القديم. وكان كريمونيني هذا آخر زعيم لفلسفة ابن رشد في كلية بادو.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤