مناجاة

رب! سبَّحتْ لك الخلائق في الأزل، ونطقت بذكرك منذ الخلق الأول، ودارت الأفلاك بحمدك، وسطعت الكواكب بنورك، وسار القمران ثناء عليك، وتعاقب المَلَوانِ تقديسًا لك، وهبَّت الرياح بنفحاتك، وتلألأ البرق من سُبُحاتك، وسار السحاب بقدرتك، وهطل الغيث برحمتك، وتلاطمت البحار في جلالك، واطَّردت الأنهار من نوالك، والجبال راسيات بأمرك، مائلات لحكمك، والغابات رائعة بجمالك، مورقة بأفضالك، والرياض سطور نظامك الباهر، وإبداعك القادر، والطير ألسنة حمدك وشكرك، ونغمات مزاهرك، وأناشيد مآثرك.

أنت لهذا النظم بيت المَطْلَع
وأنت أنت فيه بيت المَقْطَع

والحيوان الأعجم مسيَّر بإلهامك، شاكر لإنعامك، سائر بهديك، ناطق بذكرك، مُسبِّح بحمدك تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ.

رب! والإنسان صنعك الرائع، وبرهانك القاطع، روح الخليقة المشوق إليك، وبصرها الطامح نحوك. رأى نورك فسار، وبهره جلالك فحار. أنت قصده وإن ضل، وَطِلْبته حيثما حل، يُبين عنك قاصدًا أو مُعتسفًا، وينطق باسمك صحيحًا أو محرَّفًا، وينشد شعرك موزونًا أو مضطربًا، ومعجمًا أو معرَبًا:

وألسنة الأكوان إن كنت واعيًا
شهود بتوحيدي بحالٍ فصيحة
وإن عبدوا غيري وإن كان قصدهم
سواي وإن لم يظهروا قصد نيتي١
عبدة الأصنام عبدوك من وراء حجاب، وتوسلوا إليك بالأسباب، والساجدون للنار تهافتوا على ضيائك، وهُرعوا إلى ثنائك. قدسوك في إحدى آياتك، وعظَّموا لك إحدى علاماتك، وعُبَّاد الكواكب اهتدوا بالنجوم إليك، فسبَّحوا لها وإنما ثناؤهم عليك. أنت أنت القصد وإن جاروا، وأنت أنت المعبود وإن حاروا. وكهنة طيبة ومنف أشادوا بذكرك، وجهدوا أن يقدروك حق قدرك، وبابل في زيغها لم تكن إلا بابًا لك،٢ ونينوى في وثنيتها كانت معبدك. أقاموا من أجلك التماثيل، ولاح لهم نورك من خلال الأباطيل، واليونان ألَّهوا آثارك، وأكثروا أسماءك. وما أثينا وزوس وأبولون إلا رموز حكمتك وقدرتك وعلمك وعظمتك. ألفاظ شتَّى لمعنًى موحد، وصور شتى لجوهر فرد، كالماء نبت منه الحلو والمر، والعقيم والمثمر، ودل عليه النجم والشجر، والشوك والزهر.
ربِّ! وهل رتل البراهمة إلا فرقانك، وطلبوا في الكهوف إلا عرفانك؟ وهل انفتحت عن بوذا زهرة الكنج إلا لذكرك؟٣ وهل هجر العالم إلا لوجهك؟ وهل أملى كونفشيوس إلا تعليمك؟ وهل أراد زردشت إلا ذكرك؟ وهل ضمن كتاب الأبستاق٤ إلا حمدك؟ يزدانُ وأهرِمن رمزا نورك وظلالك،٥ وهدايتك وإضلالك.

•••

ربِّ! وموسى إذ لاح له ضياؤك في الغلس، وخلع نعليه في الوادي المقدس، لمع له بصيص في الطور فاهتدى، ودعا الناس إلى الهدى. بنورك ضرب بحر الظلمات فانفلق، ثم بهره جلالك فصعق. وعيسى أمددته بروحك وبِرِّك، وأطلعته على ذرة من مكنون سرك، ومحمد خاتم أنبيائك، وصفي أصفيائك، آنسه ذكرك في الغار، فرأى في الظلمات النهار، فأملى دينك وفرقانك، وأوضح مَحجتك وبرهانك، وترك على الدهر أثرك الأغر، ودينك الأبر. ربِّ! ومن وراء ذلك سرك المكنون، وحماك المصون.

أنقِذنا من الحيرة بهديك، واهدنا إلى جنابك برحمتك. اللهم منك وإليك، أنت الأول والآخر، والظاهر والباطن.

١  ابن الفارض.
٢  أصل بابل: باب إبل، ومعناه باب الله.
٣  يزعم البوذيون أن بوذا انفتحت عنه زهرة على نهر الكنج فمنها كان مولده.
٤  كتاب آوستا «أبستاق»: كتاب زردشت نبي الفرس القدماء.
٥  يزدان خالق الخير، وأهرمن خالق الشر في دين الفرس القدماء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤