على حافة الفجر وشاطئ النيل

الليل قد مضت ساعاته، ودارت دورتها نجومه، بين بعيد عن القطب قد غرب أو كاد، وقريب منه تزاور عن الأفق الغربي شطر الشمال والشرق. هذه بنات نعش الصغرى طائرات صوب الشرق، والفرقدان يتطلعان إلى أشعة اليوم الوليد وراء الأفق:

فاسأل الفرقدين عمن أحسا
من قبيل وآنسا من بلاد
كم أقاما على زوال نهار
وأنارا لمدلج في سواد

وبنات نعش الكبرى كادت تلامس الأفق، وكأنها جواد محضر على حافة الأفق يبغي مستقره قبل الصبح.

وها هي الثريا جاوزت جوز السماء، نازعة إلى أفقها البعيد في المغرب، تذكر بقول ذي الرمة:

وردن اعتسافًا والثريا كأنها
على قمة الرأس ابن ماء محلق١
ووراء الثريا الدبران يحث قلاصه؛ ليدرك خطيبته بهذا الصداق، لم ييأس منها على طول إعراضها، ولم يمل على تمادي المسير.٢

وهناك المجرة نهر السماء الذي لا يسبر لجه، ولا يدرك غوره، بل نهر الزمان يسيل بالعصور والدهور، يحسر الفكر على شاطئه، ويعيا الوهم دون منبعه وغايته، عالم وراء العالم، وفلك فوق الفلك. وصور أخرى رائعة هائلة تتجلى بها السماء في هذا الصفاء.

يرقى الفكر إلى هذه المشاهد العلوية، فيوغل فيها ثم يوغل حتى ينبهر، فيهوي حسيرًا مرتاعًا كشيطان الرجم يلتمس مكانه على الأرض، يهول الفكر هذا العظم الذي لا يحد، والجلال الذي لا ينتهي، والغور الذي لا يبلغ، والحجاب الذي لا يخترق، ويفزعه جو تتحطم فيه الأجنحة، ومدًى يعيا الطيران في أوله، فيفر من هذه السعة الهائلة التي يفنى فيها المكان إلى الأرض، ثم إلى مكانه الصغير منها، ويعتصم من هذا الكون الفسيح الذي يتيه فيه الزمان إلى الزمن، ثم إلى ساعة منه، يحتمي بهذه الحدود، ويأنس بهذه القيود.

ثم تطمح النفس الإنسانية، بل الشعلة الإلهية إلى العلاء طموح النسر إلى متقلبه من جو السماء، فتقطع قيدًا بعد قيد، وتجتاز حدًّا بعد حد، وتخرج من دائرة بعد دائرة، فإذا هذا الجسم المحدود، والعقل المكدود هاجم فيما وراء الحدود، يحاول الأمر الذي لا ينتهي، والعلم الذي لا ينال.

ثم يعيا وينبهر، فيهبط إلى أرضه ومكانه، ووقته وزمانه، ولكن بصره إلى السماء، وهمته إلى العلاء، وطموحه إلى الإدراك، في الأفلاك وما وراء الأفلاك، وهكذا يعلو ويسفل، ويقدم ويحجم، وينزع ويرجع، حائرًا بين كونه المحدود، وطوقه المجهود، وبين طموحه الذي يأبى القيود، مترددًا بين عالمه الأصغر والعالم الأكبر، بين نفسه الصغرى والحقيقة الكبرى، بل بين الإنسان والله.

أفزعني هذا المراد، وهالني هذا الجهاد، فأويت إلى الحد بعد الحد، والستر من وراء الستر، حتى أمنت على نفسي في موقفي الضيق، على هذه البقعة الصغيرة، فوق هذه الأرض المحدودة، فنزلت من الحقائق الواسعة إلى الدوائر الضيقة، من الوجود المطلق إلى الوجود المقيد، وما زلت أجتاز أجناسًا إلى أجناس، وأنواعًا إلى أنواع، فإذا أنا مطل من داري على شاطئ النيل، في ليلة من ليالي رمضان وقت السحر.

وأشفقت أن ترفعني صور النجوم في الماء إلى حقائقها في السماء، وأن يسلمني نهر النيل إلى نهر المجرة، وأن تردني إلى حيث فررت، هذه الصلات الوثيقات بين الصغير والكبير، والمطلق والمقيد، وبين الذرة والشمس، فألححت على الفكر أن يحبس، في هذا المشهد المحدود، وألزمت العقل الإخلاد إلى هذه الأرض.

ثم كدت أسير مع النيل إلى منتهاه فيصلني بالأبد، أو أرجع معه إلى منبعه، فيسلمني إلى الأزل، فحبست عياني على ما أمامي، وفكري في مرآي، كما يحبس الطائر الوحشي في قفص، ويلهى بالحب عن أطباق الجو.

•••

رأيت النيل رهوًا تتراءى في صفحته مصابيح ساكنة خافتة مطلة من شاطئ الجيزة، ورأيت الزرع نائمًا تمسحه نسمات الفجر رفيقة مشفقة، كأنها أم توقظ طفلها، وآنسني الليل الساجي، والمنظر الصامت، والمشهد المصغي، والطبيعة النائمة، بل الخليقة الحالمة، لا أسمع ركزًا إلا صيحات متفرقة من ديكة متباعدة، كأنها قبل صيحاتها للفجر نغمات متقطعة يمهد بها الموسيقي لألحانه المتصلة، وإلا نقيق ضفادع قليلة مشتتة، وإلا صرير الجنادب بين الزروع موحدًا متصلًا خافتًا، لا يقطع الفكر، بل يسايره مطردًا كأنه مرور الزمان.

ثم انغل الفكر في الناس، فإذا هم بين يقظان انطوت على البر جوانحه، وعمر بالخير قلبه، ونطق به لسانه، يسبح الله، ويفكر لخير نفسه وخير الناس في مثواه، وآخر يقظ يقظة الصل، ينساب في مجاثم الظلام إلى الآثام، وإذا هم بين نائم يستجم بالرقاد؛ ليستأنف الجهاد، ونائم أنامته البطالة، وأماتته التخمة، لا يفتقده نائمًا عمل ولا أمل، ولا تحمد يقظته حركة ولا سكون.

وإذا هم بين حالم سودت أعماله أحلامه، ينشره النهار للضر، ويطويه الليل للشر، ويسلمه النهار الأثيم إلى الحلم الأثيم، وآخر أضاءت رؤياه نيته، وازدهرت بالحلم الطيب طويته، فهو خير اليقظة والنوم، طاهر الحقائق والرؤى، وضروب أخرى من البشر طاف بها الخيال، واسع المجال، ثم انثنى قلقًا مضطربًا.

وكاد يخل هذا التفكير المتنافر بهذا المشهد المتآلف، ويقطع الهم المضطرم هذا النغم المنسجم، فعدت إلى النيل أطالعه، والزرع أراقبه، والخليقة آنس بها، وأسكن إليها، وأتغلغل فيها وأناجيها.

ودوت الأرجاء بالصياح، من ديكة الصباح، وانبجست النواحي بالأذان، يتجاوب في القلوب والآذان، وسرت في الخليقة قشعريرة هزت يقظانها وهاجعها، وأنعشت حيها وهامدها، وتوهمت أشعة الفجر الخفية، تخالط هذه الأصوات الندية، بل خلت الأشعة استحالت أصواتًا، أو الأصوات تحولت أشعة.

استحال العالم كله معبدًا، وبدا كل شيء راكعًا أو ساجدًا، فهذه الأضواء، وهذه النسائم، وهذه المياه، وهذه الزروع، والديكة المؤذنة، والجنادب الصارة، كلها في خشوع وقنوت، وتسبيح وتهليل، والنجوم الغاربة على الأفق ساجدة، والسماء المحدودبة الخاشعة، لجلال الخالق راكعة، سمعت من الخليقة ومن قلبي ومن لساني الآية الكريمة، تفسيرًا لما أرى وأسمع وأتوهم: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ.

لم أجد غيري خاليًا من الصلاة، ولم أر سواي شذوذًا في هذا النغم، فرددت نظرات في العالمين، ثم أسرعت لأكون من الساجدين.

١  ابن الماء: طائر.
٢  في أساطير العرب أن الدبران خطب الثريا، وساق إليها مهرها من الإبل، وما يزال يتبعها بهذا المهر، وهذه الإبل نجوم تظهر بين الدبران والثريا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤