الفريقان المتحاربان في فلسطين

الحق والباطل

يحترب في فلسطين فريقان: فريق العرب يذود عن ذماره، ويدفع عن حقه، ويدعو إلى النصفة والعدل، وإلى أن يعيش هو وخصمه أمة واحدة في بلد واحد، لكل حقه، وعلى كل واجبه.

وفريق آخر من شذاذ الآفاق، وخبث الأقطار، يلجون على العرب ديارهم، بأيديهم المال والسلاح، وما أورثهم تاريخهم والعيش الذليل في أوروبا من ختل وغدر، يظنون أنهم صاروا أمة لأن باطلًا يجمعهم، وعدوانًا يربط بينهم. وكل فرقة منهم تنمى إلى أمة، وكل جماعة تنتسب إلى بلد، وكل فرد يحمل سحنة تُنافر سحنة أخيه، ولا تشبهها إلا في سمات اللعنة فيها، ومياسم الخزي عليها.

ويقول هؤلاء الأرذلون: لا نرضى نصفة معكم، ولا مساواة بكم، ولكنا نريد وطنًا ودولة، وأنف الحق راغم، ودعوة العدل صاغرة، وإن لنا قوة من سلاحنا، ومالنا، وحيلنا، وغدرنا، وخيانتنا، ولنا أعوان في أوروبا وأمريكة يسحرون بالمال، ويسخِّرون بكل الوسائل رؤساء الدول، وأئمة الساسة، وأصحاب الصحف، وبيدهم المصارف ودور السنيما وكل وسائل النشر والتضليل؛ فيأيها العرب المساكين، أفسحوا المجال لدولة إسرائيل!

ويقول العرب: لا لا، بل تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ، نسويكم — أيها الطراء المتطفلون — بأهل البلاد الذين أقرهم التاريخ فيها، لا يعرفون غيرها وطنًا، ولا يتخذون غيرها دارًا، فهلموا إلى الدولة الواحدة، والشريعة العادلة، والتآخي والتناصف!

فتقول هذه الوجوه الملعونة، وهذه الفئات الطريدة: لا لا، إن أرضكم لنا، ودياركم لدولتنا، فانزلوا على حكمنا صاغرين!

ويحمى العربي، وهو سمح لا خنوع، وجواد لا جبان، وحليم لا ذليل، ويستنصر حقه، ويتوكل على ربه، ويستمد سجاياه وشيمه، وأخلاقه ومكارمه، ثم يستوحي تاريخه، ويحشد مآثره؛ فيستبق إليه من أحداث تاريخه ومآثر أمته ما يثبته في المحنة، ويوقره في الشدة، وينثال إليه من عز ماضيه ومجد سلفه ما يهون عليه كل خطب، ويقحمه كل هول.

ويصول عليه عدوان اليهود ومن ورائه مدد من قوى أوروبا وأمريكة، وتدور به خدع المخادعين، وتهاويل المهولين، وهو العربي الذي يعرف نفسه ويعرفه التاريخ، ويهزأ بالشدائد إذا جد الجد، ويحقر الأهوال إذا اشتد البأس:

فأثبت في مستنقع الموت رجله
وقال لها: من تحت أخمصك الحشر!

إن العربي يعرف ما في أيدي أعدائه، وأعوان أعدائه من مكر، وما لديهم من مال وسلاح، وما عندهم من علم وفن، ولكنه يعرف كذلك ما له من حق، وما عنده من كرامة، وما فيه من إباء، وما يمده به تاريخه من ثبات في الأزمات، وصبر في الخطوب، فيقدم على الأهوال ذاكرًا قول سلفه:

إذا همَّ ألقى بين عينيه عزمَه
ونكَّب عن ذكر العواقب جانبا

ويتقدم، فيزيده الهول مضاء والنار صفاء، منشدًا:

فإن تكن الأيام فينا تبدلت
بنعمي وبؤسي والحوادث تفعل
فما لينت منا قناة صليبة
ولا ذللتنا للذي ليس يجمل
ولكن رحلناها نفوسًا كريمة
تحمل ما لا تستطيع فتحمل
وقينا بحسن الصبر منا نفوسنا
فصحت لنا الأعراض والناس هزل

حسب الصهيونيون أن الأمم مال وربًا، وأشكال وألوان، وهياكل وجدران، وبغي وعدوان، وغفلوا عن حقيقة الإنسان. الإنسان الكريم نفس كريمة، وقلب شجاع، وخلق أبيٌّ، وما وراء ذلك صور وزخارف، وخدع وأباطيل، تذوب إذا وقدت النار، وتبوخ إذا حمي الوطيس.

ألا ساء فأل الأوغاد وخاب ظنهم حين زينت لهم أموالهم وزخارفهم أنهم للعرب أكفاء وأنداد، فلتبطل دعواهم الوقائع، ولتكذب ظنونهم المعارك.

ألا إنه إن تحدى باطل الصهيونيين حق العرب، وجرُؤ شذاذ الآفاق على خير الأمم، ولم يلقوا كفاء بغيهم من ردع، وجزاء عدوانهم من خزي:

فيا موت زُرْ إن الحياة ذميمة
ويا نفسي جدي إن دهرك هازل

أيها العرب الأباة، إنه يوم له ما بعده، فاصدعوا الأهوال بقلوب متفقة، وأيد مجتمعة، وامضوا إلى الغاية التي هي بكم أجدر، وبتاريخكم أليق، إنكم تقاتلون حيث قاتل آباؤكم في اليرموك وأجنادين وحطين، وقد حطموا الباطل في كبريائه، وردوا البغي في غلوائه، فزَلزلوا بهؤلاء البغاة الديار، وردوا جند الصهيونيين بالخزي والدمار، واتركوها على التاريخ مأثرة إلى مآثر آبائكم، وسجلوها على الأيام مفخرة إلى مفاخر أسلافكم وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ.

الكرم واللؤم١

ما ينقم اليهود من العرب إلا أنهم حموهم، وأحسنوا إليهم، وفسحوا لهم في ديار العرب يعيشون أحرارًا، ويغشون معابدهم كما يشاءون، ويتولون أمورهم الدينية دون حرج.

فتح العرب فلسطين، والروم يسيطرون عليها، والأمكنة التي يقدسها اليهود، والتي يعادون العرب من أجلها اليوم مزابل عفى عليها الزمان والهوان، فطهر العرب هذه الأمكنة، وجعلوها مساجد تعظيمًا لها، واتباعًا لأمر الإسلام الذي يعترف بما في الأديان السابقة من حقائق ويعظمها، ويبين أنه الدين العام الجامع، الذي يجمع كل ما أوحاه الله إلى رسله في العصور كلها، والأقطار جميعها، بعد أن ينفي عنها تحريف المبطلين، ويخلصها مما علق بها من خرافات الجاهلين.

وعاش اليهود في كنف العرب أحرارًا في فلسطين وغير فلسطين، وتبحبحوا في الأقطار العربية خاصة، والإسلامية عامة، وساروا سيرتهم في عبادة المال، والتوسل إليه بكل الوسائل، فوجدوا مرتعًا خصبًا، ومتقلبًا فسيحًا.

وقد بلغوا في أقطار العرب مناصب علية، وكان لجماعات منهم شأن عظيم في الدولة الفاطمية في مصر، والدولة الإيلخانية في العراق، ودول العرب في الأندلس وغيرها.

•••

ثم ضرب الدهر ضربانه، ودار الفلك دورانه، وجاء اليهود إلى فلسطين يزحمون أصدقاءهم في ديارهم، ويستعينون على حماتهم بالأمم التي كرهتهم وأذلتهم وشردتهم، ففقدوا بأعمالهم صداقة العرب، ولم يكن لليهود صديق سواهم في هذا العالم.

وينسى اليهود تاريخهم وتاريخ العرب كله، ويرمون العرب بكل ما علَّمتهم أوروبا من عدوان، وبكل ما في سجاياهم وتاريخهم من ختل وعداوة للبشر جميعًا، إلا من كان يهوديًّا، وقالوا بزعمهم: هذه بلادنا ومواطننا، نحن أولى بها، قد عشنا فيها زمنًا، وسيطرنا عليها حقبة، ولسنا نبالي أن يكون العرب استوطنوها بعدنا، وعاشوا فيها أكثر مما عشنا، وسيطروا عليها أطول مما سيطرنا، ودافعوا عنها ونحن مشردون في أقطار الأرض، وهم اليوم فيها يعمرونها، ويقلبون في أرجائها، ويحفظون فيها آثارهم ومآثرهم، وفي جوانبها قبور آبائهم الذين استشهدوا فيها، ودفعوا عنها جبروت الروم، وجالدوا من أجلها الصليبيين مائتي سنة!

يقول اليهود: لا نعرف التاريخ، ولا نذكر فضل العرب؛ فإنا قوم لا نزن الأمور إلا بالمال والمنفعة، ولا نقدر الأشياء إلا بفائدتنا وشهوتنا، وإن نال غيرنا ضر؛ فهذا الضرر هوانا وبُغيتنا، وبه جذلنا وغبطتنا، فإننا نعمل لأنفسنا، ونبغض البشر أجمعين، سواء منهم من أساء إلينا — كأهل أوروبا — ومن أحسن إلينا كالعرب، ولكننا نستعين بجماعة على أخرى، ونتمنى أن يهلكوا جميعًا!

•••

لليهود ماضٍ في فلسطين، وللعرب ماضٍ وحاضر، لليهود فيها تاريخ انقطع منذ عشرات القرون، وللعرب تاريخ موصول منذ عشرات القرون.

لليهود في فلسطين تاريخ ذليل مشرد، انقطع بجلائهم عنها، ويأسهم منها، وللعرب تاريخ مجيد عزيز، دافع عنها في غير يأس، واستقر بها في غير ذلة.

لليهود في فلسطين أحجار مهدومة يبكون عليها، هي بقايا الأحداث، وفضلات العصور، وللعرب آثار قائمة مشيدة، تصل تاريخهم، وتشهد بمآثرهم، وتكذِّب دعوى اليهود في كل بقعة.

لليهود في فلسطين صفحات في الكتب، وللعرب صفحات خالدات في أوديتها، وجبالها، ومدنها، وقراها.

ولو لم يكن للعرب في فلسطين إلا أنهم دافعوا الصليبيين فيها، وحولها أكثر من مائتي عام، حتى أجلوهم عنها، وأقروا مجدهم وتاريخهم فيها، لكان هذا كفيلًا لم بحقهم فيها أبد الدهر!

•••

حق العرب في فلسطين يقاتل باطل اليهود، وإحسان العرب يقاتل كفران اليهود، وكرم العرب يلاقي لؤم اليهود.

يتقاتل في فلسطين الحق والباطل، والخير والشر، والمروءة والنذالة، والأخلاق الإنسانية العالية، والطبائع الحيوانية الدنيئة، والتاريخ العزيز القائم، والتاريخ الذليل الميت!

وإن عدل الله — سبحانه — وإن كرامة الإنسان، وإن أخلاق البشر، وسنن الخليقة لتأبى أن يغلب جندُ الباطل جندَ الحق، والفئةُ اللئيمة الفئةَ الكريمة، وأعوانُ الشر أعوانَ الخير، وحزبُ الشيطان حزبَ الله بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ.

١  نشرت في ص٨٨٥، العدد ٢٨٨، السنة ١٠٦ سنة ١٩٤٨م من مجلة الرسالة الغراء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤