عثمان بن أبي العلاء

الرجل الذي غزا الأسبان اثنتين وثلاثين وسبعمائة غزوة

١

ملك بني مرين يعمُّ المغرب الأقصى، ويرث دولة الموحدين، وهذا سلطانهم السادس يوسف بن يعقوب بن عبد الحق (٦٨٥–٧٠٦ﻫ) يُسيِّر الجحافل لتمكين ملكه، ولكن جماعة من بني مرين حسدوا بني عمومتهم على السلطان، ونفسوا عليهم الرياسة، وزعموا أنهم أحق منهم بميراث عبد الحق، فثاروا على السلطان يوسف، واعتصموا بجبال ورغة، فأنزلهم السلطان من صياصيهم، وألحمهم السيف، فأشفق أعياص بني مرين على أنفسهم، ولحقوا ببني الأحمر بالأندلس سنة ست وثمانين وستمائة.

ثم رجع إلى المغرب بعد سنين أحدُهم، عثمان بن أبي العلاء إدريس بن عبد الله بن عبد الحق؛ لينازع بني عمه السلطان، فثار في جبال غمارة، فاشتملت عليها ناره، واستطارت منها ثورته، فعمت بلادًا كثيرة، ولجأ إليه كل مخالف من بني مرين وغيرهم، ومات يوسف وعثمان في ثورته، فخلفه ابنه أبو ثابت (٧٠٦–٧٠٨ﻫ) فسير الجحافل إلى عثمان، فهزمهم ومد على رغم أبي ثابت سلطانه إلى بلاد أخرى، فنهض أبو ثابت نفسه في جنود لا قبل لعثمان بها، فخلى البلاد واعتصم بسبتة وهي يومئذ في قبضة بني الأحمر.

ومات أبو ثابت، فخلفه أخوه الربيع سنة ثمان وسبعمائة، واصطلح بنو مرين وبنو الأحمر، فضاق المغرب على عثمان بن أبي العلاء، فولى وجهه شطر الأندلس فيمن تبعه من قرابته.

٢

لم يكن للمسلمين في الأندلس إلا مملكة غرناطة الضيقة، وقد ألح العدو عليها، وصمم على محوها. واستمات في الدفاع عنها المسلمون؛ إذ كانت الملجأ الأخير، والوزر الذي ليس وراءه إلا الموت أو الاستعباد. وكان بنو مرين يرسلون جيوشهم مددًا لبني الأحمر حينًا، ويسيرون إلى الجهاد بأنفسهم حينًا. وكان أولو النجدة والصرامة كابن أبي العلاء يفدون على الأندلس مجاهدين مرابطين غضبًا لدينهم، وحمية لإخوانهم.

٣

جاء عثمان الأندلس فتولى «مشيخة الغزاة»، وحسن بلاؤه، وعظمت مكانته، فكان شجًا في حلوق الأسبان، وكان غصة لبني الأحمر، شاركهم في سؤددهم، حتى كاد يستأثر بالأمر دونهم، وهو من قبل خصم قومه ملوك المغرب، ثار عليهم وزلزل دولتهم زمانًا.

لم يكن عثمان ملكًا ولكنه:

كان من نفسه الكبيرة في جيش
ومن كبرياه في سلطان

تولى زعامة الغزاة ثلاثًا وعشرين سنة، فما وهن عزمه، ولا فل حده، ولا أغمد سيفه، ولا حط سرجه.

وما كان إلا النار في كل موضع
تثير غبارًا في مكان دخان

والنفس الكبيرة تستهين بالصعاب، وتطرق على المنايا الأبواب، وما الجيوش الجرارة، والحروب المستعرة في همة الرجل العظيم إذا صمم.

فأثبت في مستنقع الموت رجله
وقال لها: من تحت أخمصك الحشر
وحسبي من الإفاضة في وصف عثمان والإشادة بذكره أن أنقل هنا ما كتبه أصحابه الغزاة على قبره:

هذا قبر شيخ الغزاة، وصدر الأبطال والحماة، واحد الجلالة، ليث الإقدام والبسالة، علم الأعلام، حامي ذمار الإسلام، صاحب الكتائب المنصورة، والأفعال المشهورة، والمغازي المسطورة، إمام الصفوف، القائم بباب الجنة تحت ظلال السيوف، سيف الجهاد، قاصم الأنجاد، وأسد الآساد، العالي الهمم، الثابت القدم، الهمام الماجد الأرضى، البطل الباسل الأمضى، المقدس المرحوم، أبي سعيد عثمان، ابن الشيخ الجليل الهمام الكبير، الأصيل الشهير، المقدس المرحوم، أبي العلاء إدريس بن عبد الله بن عبد الحق، كان عمره ثمانيًا وثمانين سنة، أنفقه ما بين روحة في سبيل الله وغدوة، حتى استوفى في المشهور سبعمائة واثنتين وثلاثين غزوة، وقطع عمره مجاهدًا مجتهدًا في طاعة الرب، محتسبًا في إدارة الحرب، ماضي العزائم في جهاد الكفار، مصادمًا بين جموعهم تدفق التيار، وصنع الله تعالى له فيهم من الصنائع الكبار ما سار ذكره في الأقطار، أشهر من المثل السيار، حتى توفي رحمه الله وغبار الجهاد طي أثوابه، وهو مراقب لطاغية الكفر وأحزابه، فمات على ما عاش عليه، وفي ملحمة الجهاد قبضه الله إليه، واستأثر به سعيدًا مرتضًى، وسيفه على رأس ملك الروم منتضًى، مقدمة قبول وإسعاد، ونتيجة جهاد وجلاد، ودليلًا على نيته الصالحة، وتجارته الرابحة، فارتجت الأندلس لبعده. أتحفه الله برحمة من عنده.

توفي يوم الأحد، الثاني لذي الحجة من سنة ثلاثين وسبعمائة. رحمه الله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤