النهضة١

نهضة الأمة: انتباهها من غفلتها، وانتعاشها من كبوتها؛ للتفكير في حالها، والنظر إلى مآلها، ونقد سيرتها، والبحث عن عيوبها، وتعرُّف نقائصها، وقياس ما بينها وبين الكمال؛ لتتجه نحو الغاية المرجوة، وتعد الوسائل المؤدية إليها.

وهي طور من الأطوار التي تنتاب الأمم في سيرها مع قوانين الاجتماع، وخضوعها للسنن الإلهية، لا ترى أمة تستمر بها الغفلة، ولا أمة تمتد بها اليقظة على مدى الأيام: حياة وموت، وشباب وهرم، وارتقاء واستفال، وصعود وانحدار، ولكن الأسباب تعجل بنهضة أمة أو تعوقها، وتواتيها أو تعاندها.

وللنهضة أسباب داخلية وأخرى خارجية تتعاون على إنتاجها، ويكمل بعضها بعضًا، وقد تكون إحداهما أبين أثرًا، وأوضح مظهرًا.

فمن الأسباب الداخلية نبوغ المصلحين الذي يريدون بعزائمهم تغيير حال الأمة، وسوقها في طريق الكمال. وهذا النبوغ من علامات النهضة ومن أسبابها، فهو أثر لحال جديدة خالطت نفوس الأمة، ومؤثر شديد في هذه النفوس، ومنها نظام الحكم، وأسلوب التعليم، وحال الزراعة والصناعة والتجارة، وهلم جرًّا، وأوضح ما يكون هياج الأفكار، ونزوع النفوس إلى الإصلاح حين تُبلى الأمة بضلال السيرة، واختلال النظام، وتُمنى بمصائب تأخذ عليها طريقها، وتلفتها إلى ما تعانيه من شقاء، وتشعرها بالألم على كثرة ما تحملته، وبمرارة الظلم على طول ما ألفته، وحينئذ يفكر الناس: فيم هذا العيش؟ وإلى أين؟ ولماذا يحملون هذه الأعباء؟ وبأي حق يساسون بهذه السيرة؟ فتبدأ في النفوس سلسلة من الأفكار تنتظم أمور الأمة جميعًا، فإن الفكر إذا تنبه لا يقف في طريقه شيء، وحينئذ يكون ميزان الأعمال العقل لا العادة.

وقد تأتي بذور النهوض من الخارج، وذلك باختلاط الأمم ونظر بعضها إلى بعض، فيكون بينها من التقليد والغيرة والتنافس ما يكون بين الأفراد، كما كانت الحرب الميدية بين الفرس واليونان مقدمة لعصر أثينا الذهبي «عصر بركليس»، وكانت الحروب الصليبية من أسباب مدنية أوروبا الحاضرة، وكما كان سيل الأوروبيين على المشارقة في هذا العصر مثيرًا لهذه الحركات التي تناولت كل أساليب الحياة في الشرق، بينما تكون الأمة راضية بما عندها، ترى عند غيرها ما يخالف عاداتها وأخلاقها وعلومها وآدابها، فتبتدئ القياس والموازنة، وتشرع العقول تفضل بعض المختلفات على بعض، وذلك يقتضي أن تنظر إلى غاية في الحياة، يكون بها الترجيح والتفضيل، فيكون الرجوع إلى هذه الغاية، لا إلى العادات الموروثة.

ومن علامات النهوض كثرة التفكير، وشدة الخلاف، والدعوة إلى العمل مقرونة بالحجة، وتمحيص البراهين المختلفة.

والحياة البشرية لا بد لها من قوانين ترشد العاملين، وعادات يتفق عليها الناس، حتى لا يضطر الإنسان إلى التفكير والترجيح كلما همَّ بعمل صغير أو كبير فيذهب وقته ضياعًا. ومن أجل ذلك كان عصر النهوض الذي يهدم القواعد ولا يبالي بالعادات عصرًا ملؤه الحيرة والشك والملل والانقباض. وقد كان القرن الثامن عشر الميلادي في أوروبا عصر هياج وتمرد وقلق، حتى أنتج الثورة الفرنسية الكبرى، وكانت الأمة العثمانية قي القرن الأخير مجالًا للنزاع والجدال، حتى كانت ثورة الدستور، ولا تزال الأمة في تقلب؛ ومن أجل ذلك كانت الأفكار المصرية في هذا العصر كثيرة التناقض والتنافر، والنزاع بين القديم والحديث، وهلم جرًّا.

فإن لم يكن للأمة في هذا الطور قوَّاد مرشدون، ومصلحون قادرون، كان من وراء هذا الاضطراب شر مستطير. والنهضة إن لم يهدها الحزم، ويهذبها الفكر، فقد يربو شرها على خيرها. لا بد لكل نهضة من فكر يثبت خطاها حين تهيج العواطف، ويبين للأمة قصد السبيل حين تركب العزائم الجامحة كل مركب خشن، وتنزع بالنفوس الثائرة هموم لا تبالي بالعواقب، وحين يغلو الناس في الخروج على العادات، والنفور من النظم حين يرونها قيدًا لإرادتهم، ويفكرون فيما أنتجته من سيئات، فيندفع واحدهم كالحصان الأرن عالج رباطه حتى قطعه، فذهب في الأرض طلق الجموح.

لا بد إذن من أن تُبيَّن الغاية، ويُبصَّر الناس بما ينفعهم وما يضرهم، حتى يخففوا من غلوائهم، فإذا دعاهم الإعجاب بالجديد إلى أن يأخذوا عن غيرهم كل شيء، وإذا أرادوا الخروج من عقائدهم وعاداتهم وسائر ميراث أسلافهم كلفًا بالحرية، وجب أن يقال لهم: انظروا ما أنتم في حاجة إليه، وإياكم أن تحقروا آدابكم وقوانينكم؛ فإن لكل أمة نظمًا ألفتها البيئة والأخلاق والأحوال الخاصة، وأيدها مرُّ الزمان، فأصبحت مثالًا لحياتها، لا تصلح في مكانها نظم أخرى، ولكل أمة عادات تحسن عندها ولا تحسن عند غيرها.

لا تحقِّروا ما أيدته التجارب، وهدَى إليه الوجدان، فعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم. لا تخلطوا المدنية الصناعية بالمدنية الأخلاقية، فتتخذوا رقي أمة في صناعتها دليلًا على رقي أخلاقها وآدابها، ولا تجعلوا فقركم في الصناعة والوسائل المادية برهانًا على فساد أخلاقكم وآدابكم، فبين الأمرين فرق عظيم. خذوا من المدنية الصناعية ما استطعتم؛ فإنها نتيجة القوانين الطبيعية التي لا تختلف باختلاف الزمان والمكان. أما المدنية الأخلاقية التي تُستمد من التربية والتعليم، ومن خواص الشعوب والأجناس، وتاريخ الآباء، وآثار البيئة، فكونوا من أمرها على حذر، وأكثروا فيها النقد والتمحيص، وإياكم أن تأخذوها كما هي، فتكونوا كمن لبس ثوبًا لم يُفصَّل على جسمه، أو كالغراب الذي حاول مشية القطا.

يقال: إن اليابان التي نافست أوروبا حتى زاحمتها في التجارة والصناعة والعلم، ووقفت أمامها بأسلحتها، لم تزل مستمسكة بأخلاقها وعاداتها اليابانية، تزدري كل من يهجر عاداته إلى عادات أوروبا. وقد نرى الهند والصين على اعترافهم بفضل أوروبا في علوم الطبيعة لا يسلمون لها بالسبق في الفلسفة والتربية والأخلاق.

لا بد من النقد وتمييز الخبيث من الطيب، وإلا سارت الأمة في طريق محفوف بالمصاعب، وكانت سيئاتها أكثر من حسناتها.

فإذا عُرفت الغاية واستبانت، فلا بد من النظر في الوسائل، فقد يُشرِّق الإنسان وهو يريد أن يُغرِّب إن لم يستوثق لنفسه. وانظر أمة أرادت تعليم أولادها مثلًا، فأكثرت المدارس العالية، وأهملت المكاتب الأولى، فإنها لا تصل إلى ما تريد، وكذلك أمة تقصر جهدها على الشكل، ولا تهتم بتجارتها وصناعتها ونحو ذلك من شروط الحياة الصحيحة.

حتى إذا عرفت الغاية، واختيرت الوسائل، جاء وقت العمل، ولا بد له من الدأب والصبر، حتى ينجح السعي ويحمد الكد، وإلا ضاع الزمن بين الإقدام والإحجام، وسارت كل طائفة مراحل من الطريق ثم وقفت، فتستأنف السير طائفة أخرى تقف حيث وقفت الأولى أو قريبًا منها، فإذا جهد كثير ضائع، وسعي غير نافع، وإذا الأمة لا تزال في أول الطريق.

إذا عرفت الأمة الغاية والوسيلة، ثم عملت واستمرت، وصابرت وصبرت، فلن يقوى أحد على أن يصدها في طريقها، أو يعوقها عن غايتها، ومن ذا الذي يعطل القوانين الطبيعية، أو يبطل السنن الاجتماعية؟ بل مَن يمنع النتيجة إذا تمت المقدمات، ويحول دون الغاية إذا وضح الطريق، وأزيلت العقبات؟ سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا.

١  ذو الحجة سنة ١٣٤٠ﻫ/يوليو سنة ١٩٢٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤