الرئيس

توالت الاهتزازات والاصطدامات فأفقت مذعورًا، كان وجه السيد «رفاعي» مبتسمًا مطمئنًا فزاد فزعي، أعرفه هذا الرجل، «كمال الراعي» رئيس المخابرات، نعم، نعم، لكنِّي أعرفه من مكان آخر، لا أستطيع التذكر.

– عفوًا سيادة الرئيس، إنَّها صدمات هبوط الطائرة؛ فقد وصلنا، وأَعِدُ بتغيير الطيار أثناء العودة (قالها الراعي بنبرةٍ مفتعَلة).

لم أكن أُعِيره أيَّ اهتمام، كنت أريد بعض الماء، كان حلمًا غريبًا، لكن برغم غرابته أعاد لي بعض الطمأنينة، فما زلت أنا نفس الشخص، لا أشتاق الآن إلَّا لكوب من الشاي ومراقبة «توحة» وهي تُمارس فنون الإغواء قبل أن أتمدَّد على سريري، لم أهنأ حتَّى بالتفكير في توحة؛ فقد اقتحم «الراعي» أفكاري ليُنَبِّهني بأن الموكب سيتحرك الآن.

جلس «الراعي» بجواري في سيارة الرئاسة الفارهة، وجلس بجوار السائق رئيس طاقم الحراسة الرئاسية، هكذا قال «الراعي»، كانت تتقدمنا سيارتان ودراجة بخارية، وخلفنا عدد لا بأس به من السيارات، وانطلق الموكب في هدوء وسرعة تتناسب مع هيبته ومع الساعة المتأخرة من الليل، حتَّى وصلنا الكورنيش في لا وقت، ابتسمت كعادتي للنيل وأنزلت زجاج السيارة بجواري لأملأ رئتيَّ من هواء النيل، وأغلقت الزجاج قبل أن يعلق «الراعي»، لم نتبادل أي كلمات أخرى حتَّى لاح معبد الأقصر.

بدأت الألفة تسري لنفسي بالقرب من رائعة الأسرتين الثامنة والتاسعة عشرة بالدولة الحديثة، لا أعرف لِمَ تذكَّرت وقتها حديث «كمال الراعي» عن السلطة المهيمِنة على الدولة أو القلب الجرانيتي كما ذكر، كنت أفكر في أخناتون، ولماذا تمرَّد سياسيًّا على سلطات الكهنة في طيبة، وأعلن أخيتاتون عاصمة البلاد، وأعلن رفضه كلَّ الآلهة عدا أتون أو قرص الشمس، ولم يتمكن في نفس الوقت من القضاء على سلطات كهنة طيبة؛ مما أوجد معضلة ازدواج الشرعية الذي تسبب بانهيار اقتصاد الدولة، وتدهورت الأمور أكثر في عصر «سمنخ كا رع» الذي لا يعرف التاريخ عنه الكثير غير فرضية أنه بالمقبرة رقم ٥٥ بوادي الملوك، ثم تدهورت أكثر في عصر ولده المشكوك في شرعية نسبه «الملك توت»، وقُسمت السلطة بين الوزير «آي» وقائد الجيش «حور محب»، وبرغم نقل الملك «توت» العاصمة مرَّة أخرى لطيبة ومحاولة تقرُّبه لكهنة طيبة ببعض الإضافات بمعابدها، إلَّا أنه لم يمكث في الحكم طويلًا، وتولَّى شئون الحكم الوزير «آي» الذي تزوَّج من أخته وأيضًا لم يمكث طويلًا لتنتهي فترة الانهيار وازدواج الشرعية بحكم قائد الجيش «حور محب» والذي أصدر العديد من القوانين لتنظيم العلاقات داخل الدولة، شعرت أن مجيئنا لمعبد الأقصر هو تأكيد لرسالة «كمال الراعي» عن الدولة والمؤسسة المهيمِنة، ازدواجية الشرعية تؤدي للانهيار، وقد ينتهي الأمر بالخروج من فكرة الملك الإله التي هي من أعمدة وأركان العقيدة المصرية القديمة حين يكون المَخرَج من الأزمة هو تولى قائد الجيش مُلك مصر.

مررنا عبر البايلون الرئيسي (الصرح) بين تمثالَي رمسيس الثاني ومسلة واحدة، بعد نقل الأخرى لميدان الكونكورد بفرنسا في القرن التاسع عشر، نظرت ناحية مقصورات الثالوث المقدس على اليمين والتي بناها تحتمس الثالث لثالوث طيبة المقدس: «آمون» إله الشمس ورب الأرباب، «نوت» إلهة السماء والخصوبة، و«خنسو» إله القمر، ورغم كون المقصورات تقع في توسعات رمسيس الثاني إلَّا أنه حافظ عليها، حتَّى حوَّل الرومان هذا الجزء من المعبد لثكنة عسكرية!

وصلنا دون تبادل أية إشارات لمنتصف بهو رمسيس الثاني، فكانت هناك كنيسة بطلمية يسار البهو، ويعلوها مسجد الحجاج بمئذنته التي تُشبه المبخرة، والتي تُميز العصر الأيوبي، وكأنه مجمع للأديان الوثنية والسماوية في صورة معمارية مُشوَّهة إلى حدٍّ كبير، «لماذا لا يتم نقل مسجد الحجاج والكنيسة من المعبد، سيد كمال؟» سألته بتعجُّب وأجاب وكأنه يتوقع السؤال: «لم يكن من المناسب وقتها نقله سيدي.» لم أحاول أن أعرف ماذا يقصد «بوقتها»؛ فقد قررت ألَّا أُفسد متعتي بالسير بمحور معبد الأقصر الرئيسي متجاهلًا أساطين رمسيس الثاني التي تُعَد من أقبح النِّسَب المعمارية في تاريخ مصر القديمة لأعبر أعمدة أمنحتب الثالث، ونصل للبهو الثاني للمعبد والمعروف بقاعة الشمس، وتغازل عيني أروع ما رأيت من أعمدة مصرية قديمة؛ تلك التي بناها تحتمس الثالث وحتشبسوت، أعمدة اللوتس المقفلة والمفتوحة وهي تقابل أعمدة البردي دليل وحدة الشمال والجنوب، لم يبقَ كثيرٌ في المعبد؛ فالتالي هو مذبح الإسكندر الأكبر، وقاعة الميلاد لأمنحتب الثالث، وقاعة التتويج ثم قُدس الأقداس.

هبَّت رياح باردة من قلب المعبد، تحوَّلت لنسمات صحوة، وانسحبت بهدوء، لكنها لم تنسحب بمفردها؛ فقد سحبت معها البعض من أُلفتي بالمكان، وتركت خلفها الكثير من التوتُّر والخوف، عادت كلُّ مخاوفي لتحاصرني مرَّة أخرى، فهل حقًّا صدَّقت ما يحدث؟ هل تصورت بأنَّني رئيس مصر؟ بالطبع سيأخذني الآن لأحد المعتقلات السرِّية، راجعت ما حدث بقصر عابدين، إنها كانت خطة للخروج من القصر دون مقاومة، وحتمًا سينتهي الأمر قريبًا بالتخلص مني، لم أعدْ أقوى على السير، بالطبع هو في قمة سعادته الآن وأنا أسير بكل هذا الزهو لمقصلة إعدامي، أو ربما لا يعنيه الأمر بأكثر من مكافأة سيحصل عليها من الرئيس الحقيقي فور التخلص مني، شعرت بأنَّني مجرد شحنة يتم التخلص منها.

تخطينا بهو «تحتمس الثالث» واقتربنا من قاعة الميلاد، فأشار «الراعي» لأحد مساعديه فأعطاه عصًا معدنية، وتوقفنا جميعا بجوار مدخل القاعة، ليدقَّ الراعي دقات متتابعة بتلك العصا لينفرج الجدار عن بابٍ سِرِّيٍّ يليه أحدور شِبْه مظلم يليه إضاءة ساطعة، وأشار لي بالدخول، حاولت إخفاء ذعري، حاولت ابتكار جملة ساخرة، لكنني لم أستطع إلَّا الدخول، لينغلق الباب من خلفنا، كان الأحدور لا يزيد عن المترين، ولا أعرف كيف نزلته، أو كم من الوقت استغرقت حتَّى غمرني الضوء بعدها.

كانت الغرفة صغيرة، جدرانها مكسوَّة برقائق معدنية تعكس الإضاءة، وكانت التجهيزات بداخلها تشبه ما اعتدت رؤيته في أفلام الخيال العلمي، وكأننا انتقلنا من معبد الأقصر إلى قاعدة فضائية بكوكب المريخ، كانت للغرفة ثلاثة فتحات تُفضي لحجرات مجاورة، في كل جدار فتحة، والجدار الرابع كان الأحدور الذي هبط بنا للغرفة، لم تعد الإضاءة مبهرة، واستطعت تَبيُّن بعض ملامح الحجرات الملحقة، كانت هناك حجرتان مكسوَّتان بالرقائق المعدنية وبها حركة كثيفة، أما الثالثة بالجدار الأيمن فكانت حجرية وبإضاءة خافتة، تخيلتها غرفة التعذيب.

أشار لي «الراعي» بأن أتقدم للغرفة المواجهة للأحدور، ولأنَّني لم يَعُد لديَّ ما أخسره دلفت للحجرة التي لا تختلف عن الأولى كثيرًا، إلا أن جدارها الأيمن كان مُصمتًا بلا فتحات، وكانت أكبر حجمًا أيضًا، كان هناك منضدة بيضاوية في منتصف الحجرة، وفي كل ركن صالون صغير الحجم، أشار لي بالجلوس، فجلست وظهري للحائط المُصمت، متوقعًا أن يخلع ساعته ويفك رباط عنقه ثم يبدأ في التعذيب، أو ربما سيحاول نزع الاعترافات مني بشكل ودِّيٍّ في البداية، لم يقطع ترقُّبي سوى دقات كعب حذاء نسائي تتحرك برشاقة، فتوجهت بنظري بشكل تلقائي ناحية الصوت، وكان عطرها يسبقها، عطر برِّيٌّ يُشبه رائحة الغابات الممطرة، فازداد ترقُّبي لصاحبة الخطوة الرشيقة والعطر البرِّيِّ، لكنها لم تأتِ، بل استأذن «كمال الراعي» وغادر للحجرة التي هبَّت منها رائحة الغابات، وتوقفت كل الأصوات ولم يبقَ لي سوى الانتظار لمصيرٍ لا أعرفه، ورائحة تزيدني تشبُّثًا بالحياة.

كان من المهم تذكُّر «الحياة»؛ فربما أفارقها قريبًا، تخيلت عناوين الصحف، والتي حتمًا ستتحدث عن القبض على تنظيم «إرهابي» يحاول قلب نظام الحكم. بقدر مأساوية الموقف، رأيته مشهدًا ساخرًا، لقطات سريعة من حياتي، أصدقائي، حاولت تثبيت الصورة قليلًا عند «توحة»، وجنونها العفوي، ابتسمت حين تذكَّرتها تُلقي بأنبوبة الغاز على سيارتي، لم أتمالك نفسي، فابتسمت قائلًا لنفسي: «هو كان يوم أسود من أوله.» وكعادة «الراعي» قطع حبل الذكريات مرَّة أخرى، لكن هذه المرَّة لم يكن بمفرده.

كان بصحبته سيدة رائعة الجمال تتناسب مع روعة معبد الأقصر، نسيت كل شيء بمجرد رؤيتها، وتمنيت لوهلة أن يكون عقابي البقاء بصحبتها للأبد، أعتقد أن الأمنية استغرقت أكثر بكثير من «الوهلة»، كانت أميرة من الدولة الحديثة بثياب عصرية، عظامها طويلة، حادة الملامح، واسعة العينين، قصيرة الشعر المنسدل كشعر الملكات المُستعار في مصر القديمة، وبنظرة سريعة على أردافها البيضاوية المشدودة تأكدت أن أصولها مصرية خالصة، لم تكن سمراء بل كانت ذهبية، نعم ذهبية.

قدَّمها «الراعي» لي «نرمين خليل قمر» سفيرة مصر في كندا، وكانت تعمل أصلًا في المراسم، وبأنَّها ستساعدني في كلِّ ما يتعلق بالتقاليد الرئاسية، مرَّة أخرى يلقيني في بئر التخبط، وما زلت أنا غير مقتنع بالفكرة برُمَّتها.

– لماذا أحتاج لتعلُّم التقاليد الرئاسية؟

– من المفترض أنك ستكون الرئيس.

– سأكون؟

(ابتسم «الراعي».)

– لقد قمت بالدور الأكبر بالفعل، لكن رئاسة دولة كمصر ليست نزهة نيلية، سيدي؛ فهناك العديد من العلاقات داخل المؤسسة يجب التعامل معها بتقاليد مُتَّبَعة، وإلَّا تسقط المؤسسة ككل.

– هل أنا رهن الاعتقال؟ هل يمكنني فقط الذهاب؟

– يؤسفني القول إنه لا يمكن السماح بذهابك الآن، ببساطة يجب معرفة كيفية إدارة العلاقات بين المؤسسات المفصلية في الدولة، نحن لا نريد رئيسًا يُدير الدولة ارتجالًا.

– وإذا فشلت في تعلُّم ما تريد مني تعلُّمه؟

– يؤسفني أيضًا حينذاك أنَّني سأضطر للإعلان عن محاولة فاشلة للإطاحة بنظام الحكم في مصر، ووفاة القائمين بها إثر مقاومة رجال الحرس الجمهوري.

– فهمت.

عرفت وقتها أنَّني قد انتهيت بالفعل؛ فالفرصة الوحيدة لخروجي من هنا حيًّا هي إعلان وفاة «محمد أحمد» ومولد «محمد الكيال»؛ فرصة واحدة باقية، لا تتعدَّى بضع خطوات تكفي للانتقال من قاعة الميلاد لقاعة التتويج، لم يساعدني كثيرًا وجود تلك الحورية المصرية في تخطِّي ما أشعر به، لم أفهم حقًّا شعوري وقتها، لكنَّني كنت واثقًا بأنه ليس شعورًا جيدًا.

تحوَّل «كمال الراعي» من ادِّعاء تملُّق الرئيس لوظيفته الأم، رئاسة جهاز المخابرات، وطلب مني الخروج بصحبته من تلك الغرفة فتبعته وخلفي السيدة «نيرمين»، وانتقلنا من غرفة لغرفة وشعرت بأننا ندور في دوائر، وكانت كلها حجرات مربَّعة حجرية، حتَّى وقفنا أمام جدار مُصْمَت، فاستعمل إحدى خدعه السحرية بوضع يده على الجدار، فانفرج عن فتحة سرية، لم أشعر بفرق كبير بين جهاز كالمخابرات العامة وبين كهنة آمون منذ أكثر من أربعة وثلاثين قرنًا من الزمان.

بدا لي أن هذه الحجرة هي مكان احتجازي أو تدريبي على حدِّ قوله، ولم يَخِب ظني، لم تكن غرفة في الحقيقة، بل جناحًا يتكوَّن من ثلاث غُرف محيطة بالغرفة الرئيسية؛ غرفة نوم مُهندمة، مُلحق بها حمام، غرفة اجتماعات صغيرة، وصالون، وكانت هناك حفرة مستطيلة في منتصف الغرفة الرئيسية تبدو وكأنَّها كانت مغطسًا، ربما كان هذا الجناح ملاذًا أو مخبأً للملك أو كبير الكهنة، لم أتأمل الأمر كثيرًا؛ فحين سأكون بمفردي سأعرف من مستوى النقوش المدقوقة بالأحجار والزخارف التي تملأ السقف مَرْتبة هذا الجناح.

كان «الراعي» ودودًا للغاية، لكنه حازمٌ، أراني أماكن كل شيء بالجناح، كما يفعل مسئول الغرف بالفنادق، ولكنه أعطاني أيضًا مجموعة من التعليمات المصحوبة ببعض التحذيرات، ثم استأذن في الانصراف طالبًا أن نتعرف أنا والسيدة نيرمين قليلًا قبل وقت الراحة.

بقيت أنا وهي، وعاد المدخل حائطًا مصمتًا، مدَّت يدها لمصافحتي، فلم نتصافح حين قدَّمها «الراعي».

– نيرمين خليل (قالتها مبتسمة).

– قمر.

قلتها بتلقائية أربكتني بعدها ابتسامتها فاستطردت: «السيد كمال قال نيرمين خليل قمر …» فزادت ابتسامتها وسحبت يدها تاركة يدي ممتدة تشعر بالعراء، وتحركت مشيرة للصالون فأشرت للصالون أيضًا أدعوها للتفضُّل قبلي، كنت أريد الاختلاء بنبرة صوتها للحظة، ومراقبتها تتحرك، ولم أتحرك خلفها حتَّى قمت بعمل مسحٍ تلقائيٍّ بعينَيَّ من حذائها الأنيق مارًّا بكلِّ جسمها وحتَّى شعرها المنسدل وبالكاد يلمس كتفيها.

لحقتها وجلسنا في الصالون، وبدأت مرَّة أخرى في التعريف بنفسها كخبيرة في التقاليد الرسمية والعلاقات الدبلوماسية، وكيف أنَّها ستبذل كل الجهد لمساعدتي في معرفة كافة الأمور، لم أكن منصتًا لها، كنت أنظر مباشرة في عينيها، وتسللت بعقلي وبها للبحيرة المقدَّسة بالكرنك، ألبستها ملابس كاهنة ملكية، ولبست ملابس ملك، ودعوتها للرقص، لا بل للاستحمام في البحيرة المقدسة، وراقبتها وهي تُسقِط ردائها، لكنها قاطعتني بلهجة حادة: «سيد كيال، لم تُجِبْني …»

عفوًا، لم أفهم السؤال جيدًا، هل يمكنكِ التوضيح أكثر؟ (لم أجد مخرجًا آخر؛ فلم أكن أسمع ما تقول.)

– كنت أسأل في أيِّ ساعة يمكننا البدء؟ (ابتسمتْ بدهاء أو بدلال، لا أدري) ولمزيد من التوضيح: كم يلزم سيادتك من النوم لترتاح قبل أن نبدأ؟

– ألا يمكننا البدء الآن؟ (قلتها بحماسة طفل يريد اللعب، فأطلقتْ ضحكة قصيرة.)

– لا سيدي، يجب أن ترتاح قليلًا.

ثم قامت لتنصرف فقمت خلفها، حتَّى وصلت للباب قائلة: «هنا سنفترق حتَّى الصباح.» خرجت، وانغلق الباب خلفها.

لم أشعر بالوحدة، لم أشعر أيضًا بالغربة، لم أشعر بالراحة، أعتقد أنَّني لم أشعر بأيِّ شيء، خواء ينمو بداخلي، لا مبالاة تتنافَى مع كلِّ ما مر بي حتَّى الآن ومع سرعته، ربما كنت في انتظار النهاية حتَّى أقوم بتحليلها، ربما في تلك اللحظة، وظهري مسند للباب السرِّي، كنت أفكر فيمن يبتسم بسخرية، ومن يبتسم بشفقة، لم أكن أتصور أن أكون يومًا مصدرًا لأي منهما.

لم أُقرِّر شيئًا، حتَّى الاستحمام قمت به بحكم العادة، تناولت أيضًا بعض العصير من ثلاجة صغيرة بحجرة النوم، مررت بالجدران أراقب النقوش، لمحت فتحات دقيقة جدًّا للتهوية، لكنني كنت مندهشًا من الإضاءة؛ فلم تكن هناك أية أسلاك لتوصيل التيار الكهربي ولم يكن هناك أية إصلاحات للنقوش والرسومات بالحوائط والأسقف، كان أمرًا مثيرًا للحيرة، على الأقل بالنسبة لي.

عرفت من النقوش أنَّها تخصُّ ملكًا بعينه؛ فالخرطوش الملكي لم يتغيَّر في جميع النقوش، لكن بالطبع لم أتمكن من معرفه هويَّته، تبدو فعلًا كغرفة إعداد للملك، بعض النقوش تُظهره واقفًا أو جالسًا لمراقبة الصيد أو التحنيط أو محاكمة أحد، والبعض الآخر تُظهره مشاركًا في أحداث مصورة، وفي التقرب لآمون، حاولت تتبُّع تزامن الحدث في النقوش، فأخذت أبحث حتَّى وجدت الملك صغيرًا، وافترضت أنَّها البداية، ربما، ثم نقوش ممارسة الرياضة والصيد والتدريبات العسكرية، ثم الطب والتحنيط، ثم المحاكمات والاحتفالات، كنت أبحث عن نقش معيَّن لم أجده، كنت أبحث عن تتويج هذا الملك، هل خرج من هنا ملكًا؟ أم لم يخرج أبدًا؟

كان كل شيء في مكانه، ملابس، كتب، أسطوانات أفلام، شاشة عرض، سجائر، سيجار، كل شيء، لم أبحث عن السيجار الكوبي تلك المرَّة، لم أبحث أيضًا عن سجائر العنبر، فقط سحبت علبة من سجائري المفضلة، ومنفضة دخان فضية لخادمتين تحملان قِدرًا مستديرًا، توقَّعت صناعته بهذا الشكل في مطلع القرن العشرين؛ فخطوطه تُعلن بدايات الانتقال من عصر «الأرت نوفو» إلى عصر «الأرت ديكو» ولو كانت القطعة أصيلة فستكون مدموغة بسَنة صنعها، قلبتها في يدي، وبالفعل كان أسفلها دمغة الفضة وبجوارها ١٩١٧، لا أشعر بارتياحٍ كبيرٍ لتلك الفترة؛ اتفاقية سايكس–بيكو، نهاية الحرب العالمية الأولى، معاهدة فيرساي، ثورة صناعية، عصبة أمم، حتَّى خروج مصر من الولاية العثمانية تمامًا لم يذكره التاريخ بأكثر من تغيير العملة وإصدارها باسم السلطنة المصرية، حتَّى أصبحت الأمور «آخر سلطنة».

تمددت بالسرير ساندًا ظهري، أنفث الدخان في الهواء وأراقب تلك النقوش من حولي والدخان ينسحب، لم أكن أفكر فيما سأفعله، أو ما يجب عليَّ فعله، بل كنت أتساءل وقتها عما أريده حقًّا، ليس من الصعب عليَّ تعلُّم التقاليد الرئاسية، ليس من الصعب تعلُّم أي شيء، كادت النقوش تختفي من كثرة الدخان، وما زلت عند نفس السؤال، هل هي الفرصة؟ أم هي الورطة؟

أخذني التفكير مرَّة أخرى للملك «توت» هل حقًّا كان ابنًا «لأخناتون»؟ أم أن «المعبد» و«الجيش» قرَّرا وقتها أنه الحل الآمن لعودة السلطة لطيبة؟ كيف مات أخوه؟ أو الملكة تي المنتحلة صفة أخيه؟ لماذا تولَّى الوزير «آي» الحكم بعده وهو ليس من ذوي الدم الملكي؟ وكيف مات أيضًا؟ ما دور «حور محب» قائد جيش «أمنحتب الثالث» وصديق «أخناتون»؟ كيف أصبح هو أيضًا ملكًا لمصر؟ وبدأت في السقوط في النوم، أو في الماضي، كنت أراه، مجموعة من الصور المهزوزة وكأنَّني جزء منه، حتَّى تملَّك مني، إعلان رحيل الملك، رحيل الملك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤