البشرى

لم أنتبه كثيرًا للخادمات الحسان اللائي قَدِمن لي بملابس نظيفة وزيوت عطرية وسلَّة فاكهة كبيرة وآنية نبيذ، كنت مستسلمًا لهنَّ حتَّى فرغن من طقوس تغيير الملابس والدهان، واتكأت بجوار المغطس ممسكًا بكأس من الذهب كلما فرغ ملأنه لي من طيب النبيذ.

آمون، رب الأرباب، إله الشمس، كيف يصدِّقون ذلك؟ ولماذا لم ينقذهم حين جاءَ الغزاة من الشرق؟ أين كان ومعابده تُهدم في طيبة ومنف؟ لم أكن أفكِّر بشكل منتظم أو بترتيب معقول بل تقفز صور من هنا وهناك لرأسي الدائر من النبيذ ومن كلام «ابنة القمر» هل حقًّا أراها عاهرة؟ بل هل حقًّا هي عاهرة؟ وذلك الكبير المتسلط الذي سيذبحني قريبًا، تعبت من التفكير وبدأ رأسي بالتثاقل، بالكاد أحافظ عليه فوق أكتافي، كان الخادمات يداعبنني وأَنا مستسلم، لا أعرف كم منهن ضاجعت؛ فلم أكن أرى في وجه أيٍّ منهن سوى وجه ابنة القمر، أهكذا يعيش الملوك؛ منعَّمين بما لذَّ وطاب من العسل والخمر واللبن والحِسَان في سجنٍ مُذهَب وتحت إمرة كبير الكهنة؟ أتعجَّب من تلك العلاقة؛ فملك يجيء بكبير الكهنة ويُنصِّبُه في المعبد، وكبير الكهنة يجيء بالملك ويُنصِّبُه بالمعبد. الناس ترى الملك الرجل الأول وكبير الكهنة هو الرجل الثاني، وكلاهما يعرف أن كبير الكهنة هو الرجل الأول. يزيد الدُّوَار كلما حاولت الفهم، الجميع يمتثل للملك لأنه ابن الإله، والملك يمتثل للكاهن الأعظم لأنه مُتحدث الإله … لكنْ هناك ملوك ذبحوا كاهنهم الأعظم الذي ورثوه مع العرش؛ فلماذا لم يأتِ وقتها بكلام من آمون ينفي فيه نسب الملك ويقلب الجميع ضد الملك؟

طلبت صندوقًا من الرمل وعصًا صغيرة، وجاءَ طلبي بسرعة.

رسمت نهرًا بطول الصندوق فقسمه نصفين، ورسمت شمسًا في الشرق وشمسًا في الغرب، وأخذت أفكِّر أين آمون؟ نصبت عينَيَّ على النهر فرأيت الشمس تتحرك من الشرق للغرب، شعرت ببعض الدُّوَار، النهر يتحرك والشمس تتحرك، بدت لي الخطوط مضيئة بلونٍ فضيٍّ يُشبه صورة القمر على المياه، تزداد سرعة الحركة، أحاول إيقافها، فلملمت الشرق والغرب والشمال والجنوب فرأيت مربعًا مضيئًا، حاولت إزاحته فلم أتمكن، حاولت ضغطه على نفسه فصار يقاوم وأَنا أدفعه بقوة فيصغر شيئًا فشيئًا أضغط بقوة أكثر حتَّى صار نقطة.

إنه الهرم، بقاعدته المربعة، ورأسه المدبب حيث يتلاقى منبع النهر بمصبه، ومشرق الشمس بمغربها، حاولت تثبيت الصورة أكثر فأكثر فتحولت الأضواء الفضية لكتلة حجرية بقلب من الجرانيت الصلب، وتبدَّلت قمته بهُريم من الذهب، ثم غطَّى بدنه طبقة من الملاص أخفت حجارته وقلبه وأخذت الطبقة في الصعود حتَّى وصلت لقاعدة الهُريم، فبرقت وتحول الهُريم لكتلة من الضياء، وكأنه ابتلع طاقة الهرم بأكمله وظهر من قمته شعاع من الضوء شعرت به يخترق السقف الملوَّن وينطلق لعنان السماء، ثم اختفى كل شيء وبقي ما رسمته بصندوق الرمال.

لا أعرف كيف وصلت للمغطس وكيف نزلت في الماء بملابسي ونعلي، فلم أشعر سوى بضيق أنفاسي فرفعت رأسي بقوة قبل أن أختنق.

عادت صورة الهرم برأسي ولكن بشكل هندسي كما نرسمه على صحف البردي، لكنِّي أراه الآن بشكل مختلف، فما عدت أرى الخطوط، بل أرى ما يخفيه من طاقة الشمس بحركتها والنهر بسريانه، رأيت طاقة الشعاع المنبعث من قمة الهرم تخترقه كمحور يصل لقاعه ويمتد مرَّة أخرى، أخذت أفكر في الأحجار وتخيلت لو كل حجر كان حطبًا ورصصناهم لحصلنا على نار تكفي لحرق الأرض والسماء، لِمَ الحرق؟ لما لا يكون الضياء؟ نحصل على ضوء يضيء الأرض والسماء.

خرجت من المغطس ورأسي يكاد ينصهر، وطلبت أصابع الفحم والجير، وأيضًا لم تتأخر تلبية طلبي، حركت كل الأثاث جانبًا في القاعة الرئيسية فحصلت على لوحة كبيرة من الحجر، ورسمت هرمًا كبيرًا بالفحم على أرضية القاعة ورسمت القلب والهُريم بالفحم أيضًا، ثم رسمت الشمس تتحرك لقمة الهرم بالجير والنهر أيضًا، كتبت على الهُريم: «الملك»، وعلى القلب كتبت: «المعبد»، وكتبت على البدن: «الشعب»، ورسمت محور الضياء واستلقيت بجوار ما رسمت، وسبحت في مملكة من الضياء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤