الرحلة

أسندتُ رأسي على المِقْوَد، وأَنا أشعر بوخزة متقطعة في صدري، متعجب من تلك المرأة (توحة)، حاولت أن أُغمض عيني، فانهالت على رأسي أشباح الأم وابنتها، حاولت تثبيت أي صورة لأقارنها ﺑ «توحة» لكن الفارق صار أبعد بين الثلاثة، لماذا لم أسألها عن الحلم؟ لماذا لم أرجع معها ما دام أولادها ليسوا بالبيت؟ شعرت بأُلفة غريبة وقتها، لم أعُدْ أراها كما اعتدت؛ فقد غمرتني بفيضٍ آخَرَ من المشاعر، شعرت بها تحتضن روحي بهدوء، لكن هناك شعور آخر يجتاحني الآن؛ الغيظ، نعم، الغيظ، فقد أشعرتني بأنَّني طفلٌ تُرَوِّضُهُ، تقرؤني طول الوقت؛ بينما ظننتها تمارس فنون الإيقاع بابن الجيران كانت تقوم بتسويتي على نارٍ هادئة، تمنح، وتمنع.

هل تملك حقًّا؟ وأين كنت أنا من كل هذا؟ هل كنت فقط المثقف المنحرف الباحث عن الخصوبة بين الطوائف الثقافية والاجتماعية المختلفة؟ وكيف تشعل سيارتي، فقط لأنزل لها؟ ما سر الحلم؟ هل كانت تحلم معي في الوقت نفسه؟ وبدأ الصداع يُعربد برأسي.

مُحيِّر هو الشعور بأن أكون صيادًا وفريسة لطريدتي، رفعت رأسي وكانت الساعة جاوزت الحادية عشرة عندما رنَّ جرس الهاتف.

– أهلًا يا عماد.

– لا بقولك إيه، صوتك حزايني وبتقول لي عماد يبقى فيه مصيبة، الشغل باظ يا هندسة؟

– لا يا حبيبي كله بخير الحمد لله، إبراهيم مستني ابعتله عربية تنقل الشغل، انت عايزني الساعة كام؟

– لا انت مش طبيعي أكيد؛ «حبيبي!» و«انت عايزني الساعة كام؟!» انت اتربيت يا واد انت في سواد الليل؟!

– هاكلم إبراهيم وأجيلك، سلام.

لا أعرف ماذا أصابني، قلة النوم والأحلام الغريبة، وحريق السيارة، وأخيرًا «توحة»، والآن لا أطيق كلمة من أحد، لولا تعب «عماد» في استخراج التصاريح اللازمة للتصوير أمام قصر عابدين لكنت الآن ممددًا في سريري و«توحة» ممددة لجواري.

– سلامُ عليكم يا حاج إبراهيم، أخبارنا إيه؟

– جاهز يا باشمهندس، تبعت عربية ولا أجيب لك من عندي؟

– هات من عندك، وادِّي السواق نمرتي يكلمني لما يقرب من مَنْزَل الدائري من الكورنيش عشان أقابله بالتصاريح عشان اللِّجان، قدامك قد إيه تقريبًا؟

– نص ساعة تحميل ونص طريق؛ يعني ساعة يا باشمهندس.

– على خيرة الله، سلامُ عليكم.

ما زال أمامي ساعة كاملة للوصول لكورنيش المعادي، تلفَّتُّ حولي لأعرف الاتجاهات مرَّة أخرى، سأعود مرَّة أخرى وأمرُّ بجوار نادي هليوبوليس، ثم بيت الرئاسة، وأنحرف لليمين، وأصعد كوبري السادس من أكتوبر … أدرت السيارة وانطلقت بهدوء أبحث عن صوت فيروز؛ فهو أكثر ما أحتاج إليه الآن، «بعدك على بالي، يا قمر الحلوين، يا سهرة تشرين، يا دهب الغالي.»

أزاحت حجرًا جاثيًا من على صدري تلك الفيروز، وأخذت أغني معها وأَنا أتحرك بالسيارة ببطء، أعبُر بين بيت الرئاسة والقصر الجمهوري، ابتسمت لنظرات الحرس الرئاسي المرتابة في منظر السيارة ولم أتوقف عن الغناء، لكنِّي عند المُنحنى شعرت أن كل لجان المرور بالعاصمة ستلاحقني، سيارة قديمة مهشَّمة الزجاج الأمامي، يقودها رجل في أول الأربعينيات في شهر فبراير بقميص مفتوح … كدتُ أنفجر من الضحك.

رغم الزحام الشديد من مخرج نفق العروبة، ومرورًا بالصالة المكشوفة، وبانوراما حرب أكتوبر، وأرض المعارض، «نفسي اتفرَّج على بانوراما أكتوبر دي»، هكذا همست لنفسي؛ مهندس معماري ويعمل بالسينما، ولم يزُر بانوراما حرب أكتوبر من قبلُ! عقدت حاجبَيَّ قليلًا وأَنا أعتلي كوبري السادس من أكتوبر الذي لا يعني الكثير، حتَّى رؤية مئذنتَي مسجد النور بالعباسية لتبدأ سلسلة بانورامية لشارع رمسيس، وكلما اقتربت من غمرة أنظر لليسار، لأستمتع بمدرسة القلب المقدس، أحب جميع تفاصيلها، حتَّى المباني المُستحدَثة بها رائعة، وفتياتها بالتنورة المربعات الكحلية في الأزرق في الأبيض والقميص السماوي، أتذكَّر «سعاد حسني» وفيلم صغيرة على الحب، أستمر في متعتي الوحيدة أثناء الزحام.

الهواء البارد يضايقني؛ يُشعرني بمقدمة احتقان لجيوبي الأنفية، «منك لله يا توحة …» نفثتها مبتسمًا، مجنونة هي، لكنها جميلة، حاولت إغلاق قميصي قدر الإمكان «الله عليكي يا فيروز»، جااااااءت معذبتي، بغيهب الغسق.

تشاء الحتمية القدرية اليومية التوقف التامَّ بين مسجد الفتح ومحطة مصر التي تفتقر تمامًا لتمثال رمسيس الثاني، الذي تمَّ نقله للمتحف المصري الكبير، وكأنَّ تلك البقعة من الكوبري هي بوابة العبور أو الانتقال من قاهرة لقاهرة أخرى، ونقف الآن على الحدود لتهبَّ بي نسمة باردة رطبة بعض الشيء، لألتفت يميني على سيارة إنجليزية فارهة بغطاء مكشوف، عقدت حاجبَيَّ لفكرة كشف سقف السيارة في هذا الجو، حتَّى وقعت عيناي على مِقْوَدِها المُمسَك بأصابع لم تتعرض أظافرها سوى للتقليم والرعاية طوال حياتها، لا أعتقد أن هذه الأيادي قد غسلت أيَّ أطباقٍ قط، أو حتَّى غسلت نفسها؛ فتلك الأيادي يبدو أنَّها تغتسل بحليب الماعز، ابتسمت لطلاء الأظافر الأحمر القاني، ورغم أنَّني لم ألتفت بعدُ لصاحبة الأصابع الحليبية، فإن الفارق واضح بينها وبين «توحة»، حاولت اختلاس النظر دون أن أحرك رأسي لتفاجئني ابتسامةٌ جعلتني ألتفت برأسي ورقبتي ناحية هاتين الشفتين، لا أعرف كيف هبَّت رياح برِّيَّة مُشبَّعة برائحة التوت البري، والفراولة، والكرز، فأكاد أغمض عينَيَّ. لم أَرَ عينيها، أميرة الغابات تلك، فكانت ترتدي نظارة شمسية تغطي نصف وجهها، لكن ما ظهر منه يُبشِّر بالكثير، شعرت بأني في عجلة من أمري، وكأنَّني لص تلاحقه الشرطة، أحاول سرقة كلِّ ما تصله عيناي دون تدقيق لأقوم بفرز السرقة في وكري السري، فرمقتها بنظرة فوتوغرافية سريعة، لم أبتسم حتَّى لابتسامتها المربكة، فلم أعرف أكانت لي، أم مجرد استهزاء بسيارتي المضحكة، أو ربما شفقة بكلينا، رفعت صوت فيروز قليلًا متظاهرًا بالاستغراق في الحالة الفيروزية، محركًا شفتَيَّ دون أن أسمع أي شيء، فرأيت حورية الغابات تضحك، واضعة أَناملها الدقيقة على ثغرها، فلم أفهم السبب حتَّى تحركت السيارات بالفعل، تحركنا جميعًا سويًّا لكن قدرتها على الإفلات من الزحام كانت مميزة، ربما لا تقف تلك السيارات في الزحام، أجد عذرًا شرعيًّا لكلِّ من يلمحها في مرآة سيارته ويُفسح لها الطريق، مهما كلَّفه الأمر من قطع طريق على سيارة مجاورة، أو التسبب في حوادث مريعة؛ فكلُّ ما يتلبَّسه هو الإفساح لملائكة الرحمة بالمرور، فربما ستُنقذ تلك الحورية ملايين الأرواح، أو ربما ستحصدها.

انفجرت في الضحك؛ فقد عرفت لماذا ضحكت الحورية؛ فقد كانت فيروز تردد «نادي لك يا حبيبي ما بتسمع لي ندا …» وددت لو ارتديت قبعةً لأرفعها للست فيروز، مُنقذتي دائمًا.

مررت بمستشفى السكة الحديد، ومبنى الأهرام، ونقابة المهندسين، وجمعية المهندسين بمبناها العريق، الذي يُشبه من الأمام الطراز المملوكي، ومن الخلف عمارة المنمنمات الكنسية، ومع اقترابي من مَنزَل ميدان التحرير، حاولت اختلاس النظر لغنيمتي التي ظفرت بها عند الحدود؛ امرأة في أواخر الثلاثينيات أو أوائل الأربعينيات؛ فنضَارتها قد تخدع أعظم خبراء الجواهر؛ شعرها أسود قاتم تتخلَّله خصلات فضِّيَّة اللون، كخيوط من النجوم الفضية تلمع في سواد الليل، شعرها كان طويلًا؛ فما ارتاح منه على كتفها الأيسر كان يصل لفخذها، بشرتها بيضاء رخامية بلون الحليب الرائق، لمحت أيضًا بنطالًا جلديًّا أسود ضيقًا؛ تبدو ممشوقة القوام طويلة العظام، يُغطي صدرها قميص مُجسم أبيض اللون، يُظهر فقط ترقوتها، وسترة جلدية سوداء، تشبه السيدة القطة في الرجل الخفاش، جعلتني أتمنَّى لو كنت خفاشًا، وتساءلت كم يكلفني قيادتها، لم أحاول أن أُفصح لنفسي أكنت أقصد السيارة الفارهة أم الحورية الفارهة أيضًا … ابتسمت.

حمدت الله أنَّني لم أتجاوز المنزَل، نزلت متدحرجًا بسيارتي الحجرية، المُهشَّمة، المُحترقة، الجميلة، لأبتسم تحيةً للمتحف المصري، البديع مبناه الكولوني العريق، يعجبني كثيرًا ثقته بنفسه، واسترخاؤه بقوة جاعلًا حداثة مبنى هيلتون النيل، وأندلسية جامعة الدول العربية، مجرَّد خلفية متعادلة لعضلاته القوية الممسكة بميدان التحرير، حتَّى مبنى المُجَمَّع الأرت ديكو الفريد، الذي أشْعُرُه قد بلع مبنى وزارة الخارجية القديم، وزخارفه الباروكية الرائعة، استمر زحفي بجوار المُجَمَّع متخطِّيًا مسجد عمر مكرم مجاهدًا للوصول للكورنيش، وأخيرًا اعتدلت موازيًا لكورنيش النيل متجهًا لمطلع الكوبري الدائري باتجاه المعادي.

رغم ما أشعر به من برودة حادَّة داخل أنفي، فإننِّي لم أستطع مقاومة طقسي التقليدي بملءِ رئتَيَّ من هواء النيل، وابتسمت أثناء مروري بفندق جراند حياة، وبسفارة إيطاليا، وتذكَّرت كيف أعجبني ظهورها في مسلسل فارس بلا جواد. اقتربت الآن كثيرًا من المكان المنشود، والآن يجب أن أُطيل قليلًا وأعاود أدراجي لأتوقف بجوار منزَل الكوبري باتجاه ميدان التحرير مرَّة أخرى، وبالفعل وقفت قبل المنزَل وأطفأت السيارة.

اقترب من السيارة مندوب شرطة، أو أمين شرطة، فلم أكن أعرف الفرق، جاءَ مبتسمًا، لافتًا نظري أن الانتظار ممنوع في تلك البقعة، فبادلته ابتسامة مماثلة قائلًا: إن ذلك ممنوع على السيارات، وما أقوده أبعد ما يكون عن كونه سيارة، فضحك قائلًا إنني أستحق سحب السيارة، بسبب مخالفة الأمن والمتانة و… و… فقاطعته أن الرخصة أيضًا منتهية منذ زمن غير معلوم، ونزلت من السيارة، وأعطيته سيجارة وأخذنا نُدخن سويًّا، ونتجاذب أطراف الحديث، وأعتقد أننا صرنا أصدقاء إلى حدٍّ بعيد، وحكيت له أنَّني في انتظار السيارة المحمَّلة بالمناظر الخشبية، والشيء الوحيد السليم معي هو تصريح مرور تلك السيارة في وسط العاصمة، موقَّعًا من حكمدار مرور القاهرة، فشعر أنَّني شخصية مهمة رغمًا عنه، فلم يكن يبدو عليَّ أيَّ أهمية، فنصحني بعدم السير بسيارتي في وسط البلد؛ فحتمًا سيتم سحب السيارة. بدا لي كلامه مُقنِعًا فطرأت لي فكرة، سألته عن اسمه فأجاب: «محسوبك عصام.» فسألته عن انتهاء ورديته، فأفهمني أن الموضوع يمكن تنسيقه لو: «سعادتي محتاج أي خدمة»، فعرضت عليه أن يحضر التصوير معنا، ثم نتعشَّى سويًّا بعدها، تهلَّلت أساريره من فكرة حضور التصوير أمام قصر عابدين، لكنه حاول إخفاء سعادته باعتذارات هَمْهَمَةٍ غير مفهومة، فأصررت أن يكون ضيف التصوير اليوم، وهكذا صرت محميًّا بصديقي الجديد «عصام» من أنياب رجال المرور.

استأذن «عصام» أن يقوم بدورة في مكان خدمته للاطمئنان على استتباب الأمن على أن يعود إليَّ سريعًا، فابتسمت واعدًا بانتظاره، انكمشت بردًا ملتفًّا حولي و«عصام» يبتعد.

اتصلت مرَّة أخرى بالحاج إبراهيم وأخبرته بمكان انتظاري، وطلبت منه أن يتصل بي السائق لأتابعه، تحسَّنت حالتي كثيرًا، وشعرت بالبرد أكثر، فكنت أتحدث بالهاتف وأَنا أتحرك بخطوة رياضية ممدودة، متابعًا مجموعة من المحالِّ التجارية المتنوعة جَيْئًا وذهابًا، مستمتعًا بهوايتي في تسوُّق النوافذ.

قمت بمجموعة من الاتصالات لفريق العمل بالكامل، وتوقفت أمام نافذة لمتجر ملابس، ولمعت في رأسي فكرة شراء جاكت يَقيني من البرد، ويستر قميصي المُقلَّم قليلًا، لم أتردد كثيرًا دخلت وعيني على جاكت من الجلد المقلوب بلون وبر الجمل، وجذبت معه كوفية من الكشمير الخفيف بلون يختلف فيه الأئمة من الزيتوني المطيف بسحابة زرقاء، قمت بقياس ما اخترته ولم أخلعه بل أعطيت البائع بطاقة ائتمانية، فخصم حسابه ووقعت له على الإيصال، وانصرفت في دهشة من البائع دفعته للخروج خلفي ومراقبتي وأَنا أتحرك مرَّة أخرى ناحية السيارة.

كان «عصام» بانتظاري وبيده كوبان من الشاي المغلي قدم أحدهما لي، شكرته بحرارة؛ فهذا ما كنت فعلًا أحتاجه، بدأت في الحديث مع عصام في أمور عامة، وسألته عن أحوال الدنيا، وبدأ عصام وكأنه ينتظر أي فرصة ليشكو أحوال الكون، فجميع الأحوال متردِّية، والراتب لا يكفي، ولولا «ولاد الحلال» و«الحسنات» التي يرزقه الله بها من هنا ومن هناك لكان مات جوعًا من زمن، والضباط لا يرحمون ولا يدَعون رحمة الله تحلُّ بأحد، وكثير منهم يقاسمه «الرزق» الذي يتحصل عليه، وأنه يتمنَّى لو يتم نقله للمباحث؛ فبرغم أن العمل أكثر فإن الرزق أيضًا أكثر وأكثر، كنت أبتسم من وقت لآخر متظاهرًا بالتعجب تارةً، وبالتأثر تارة أخرى، لكن في الحقيقة شعرت بالأسى لا لحال «عصام» بل لحال البلاد؛ فكيف أطلب ممن هو مثل «عصام» أن يُوفِّر لي الأمان الذي يفتقده هو تمامًا، ليتحوَّل زيُّه الرسمي بكل الهيبة النظامية «لعدة الشغل» التي يسترزق منها، فلا فرق فعليًّا بينه وبين أي مواطن يتحايل على الظروف ليلتقط فُتات الرزق من هنا أو من هناك.

اتصل السائق «أبو ميار» ليخبرني أنه اقترب من منزَل المعادي فأخبرته أن ينزل في اتجاه التحرير، وما هي إلَّا لحظات وهبطت سيارة نقل من الشاسيه الطويل بيضاء اللون، مُكدَّسة بالمناظر الخشبية المُلوَّنة، دبابات ومدرعات ومدافع، كانت مصنوعة بمهارة، تخيَّلتها في موقع التصوير وأَنا أراجع الإضاءة، بحيث تظهر مُجسَّمة وطبيعية كالأبقار في فيلم الراقص مع الذئاب، وابتسمت ببعض الإطراء على نفسي «يعني هو كيفن كوستنر أجدع مننا في الإنتاج في إيه!» هكذا حدثت نفسي وأَنا أتفحَّص المناظر، حيَّيت «أبو ميار» وركبت السيارة وبجواري عصام الذي وضع كوبَي الشاي على حافة الرصيف مُعللًا أن صاحبهما سيجدهما، وانطلقنا في اتجاه ميدان التحرير.

أعطيت عصام التصريح وورقةً بخمسين جنيهًا ليتعامل مع أي معوقات أمنية في الطريق.

– إنت بتشتمني كده يا باشمهندس.

– العفو يا عم عصام، هو فيه فرق بينَّا؟ بس عشان لو حد سَخِّف تتصرف على طول.

– لا معلش خلِّي الفلوس معاك ولما ماعرفش اتصرَّف هابقى اقولك.

ورفض تمامًا أن يأخذ النقود، ووضعها في منفضة الدخان وأغلقها عليها ومنتصفها في الخارج، كنت أعرف قدر حاجته للنقود لكنه أحرجني برفضه الحادِّ الغير قابل للتفاوض، فاعتذرت له بلطف مرَّة أخرى، وتولَّى «عصام» أعمال الملاحة فأمرَنا بالانحراف في تفريعات جانبية وصولًا لشارع قصر العيني، وعند إشارة مجلس الشعب بدأت المضايقات، فأوقف الركب رائد شرطة، فقفز «عصام» من السيارة وطلب مني عدم التحرك، وذهب للتحدث مع الضابط، وتصورت ما يقوله وهو عائد مبتسمًا بزهوة النصر، وركب جواري ثانية.

– خيرًا؟ (سألته مبتسمًا.)

– خير إن شاء الله يا باشمهندس، الباشا بس هايطلَّع معانا بوكس، وهاييجي يوصيك على خدمة عند إسماعيل باشا — حكمدار المرور — هو فاهم إنك قريبه، الموضوع دا يهمه شخصيًّا.

رفعت حاجبَيَّ بتعجب ولم أنطق حتَّى رأيت الضابط يقترب مبتسمًا، فأظهرت الجدية الممزوجة بالغضب، فمدَّ يده مصافحًا: مساء الخير يا باشمهندس، ثواني بس هاطلَّع معاك عربية عشان التأمين لحد عابدين، وهاتفضل معاكم لحد ما ترجعوا إن شاء الله.

– ربنا يخليك، أنا شاكر ذوقك الحقيقة، بس مش عايز أسبب أي إزعاج.

– لا يا باشمهندس العفو، دا خط إسماعيل بيه أوامر، هو قريبك؟

– إسماعيل بيه ولَّا خطه؟ (ضاحكًا.)

– (ضحك بدوره) لينا عندك خدمة يا باشمهندس بس لما تخلص شغلك بالسلامة، أنا الرائد «عمر عبد السلام».

– مهندس محمد أحمد، أهلًا بحضرتك، ما تيجي تحضر التصوير معانا طيب، هاتنبسط جدًّا (وكأنه كان مترقبًا لعَرضي، تَظاهَر بالتفكير لأقل من ثانية واحدة، رفع جهاز اللاسلكي لفمه).

– ألو عمليات، ألو عمليات، رائد عمر!

– ابدأ الإشارة يا باشا (هكذا جاءَ الرد من الجهاز).

تحرَّكَ مبتعدًا وهو يتحدث في الجهاز مشيرًا لسيارتي حينًا وللسيارة النقل حينًا، وبدا عليه التوتُّر قليلًا ثم تهللت أساريره وقفز بجوار السائق في سيارة الشرطة «البوكس»، ورجعت السيارة للخلف حتَّى أصبحت بجواري، وتعجبت من اختلاف نظرة الرائد «عمر»، فقد تبددت نظرة الود، وحلَّت محلها نظرة ميرية صارمة، «اديني رقمك يا باشمهندس» هكذا قال بصوت ثابت النبرة، أمليته رقم الهاتف بنبرة ثابته مماثلة، فأردف: «هارنِّلك، اطلبني، ولا مامعاكش رصيد …» وضحك بصوت مرتفع وأَنا مبتسم؛ فكنت أراه كمن مسَّه جنون العظمة بمجرد ركوبه سيارة الشرطة، وأجبته بابتسامة خبيثة: «من عينيا.» وانطلق الموكب مرَّة أخرى باتجاه ميدان التحرير، ولكن بترتيب مختلف: الرائد «عمر» يتصدر الموكب بصوت بوق الشرطة المميَّز، والأضواء الزرقاء أعلى مقصورة القيادة، يليه «أبو ميار» منتشيًا، ثم سيارتي المحترقة وبها جلست أنا و«عصام» ندخن السجائر، سألته عن هذا الرائد.

– دا مجنون يا باشمهندس.

– مجنون ازاي يعني؟

– فاكر نفسه جيمس بندق (ضاحكًا).

– إنت قلت له إيه يا صايع؟

لمعت عيناه وكأنما أعجبته كلمة «صايع»: ليه بس كده يا «باشا»! مافيش والله، قلت له إنِّي واخد التعليمات من إسماعيل بيه طوَّالي.

– وهو كان بيكلم مين على اللاسلكي، هاتودينا في داهية يا أبو عصام!

– (ضحك مقهقهًا متفاخرًا) يا باشمهندس دا شغل رسم؛ عشان يبقى عمل واجب مع «إسماعيل» بيه، ماتشغلش نفسك يا باشمهندس، من دلوقتي الرائد «عمر» هو اللي سايق.

ابتسمت؛ فقد أعجبتني الفكرة ونحن نخترق وسط البلد، فلم نتوجه من باب اللوق بل من قصر النيل، موكب مهيب، سيارة الشرطة في المقدمة، يليها عربة «أبو ميار» المحمَّلة بالمناظر المُلوَّنة، وتليها عربتي و«عصام» حامل التصريح، كانت يد الرائد «عمر» المرسَلة خارج سيارته بجهاز اللاسلكي وكأنَّها عصا موسى التي تشق البحر، وتُحيله أرضًا ممهدة، لكننا لم نكن نعبُر سيناء، ولم نكن بني إسرائيل.

كان الانتقال بين رحاب قاهرة الخديوي ممتعًا، فلم يسبق لي التحرك في ركاب مذلَّلة خطاه بهذا الشكل، عجبت من الفوضى التي يُحدِثها موكبنا، وعجبت لحد استخدام السلطة، ولا أنكر استمتاعي بها قدر استيائي منها. التصريح سليم؛ فبالطبع «شعراني» هو من أحضر التصريح كما يُحضر كل ما نتمناه من أوراق رسمية، ابتسمت عندما تذكَّرته، وكيف كنت متشككًا في التصريح يوم أخذته منه: «شكلك هاتسجنَّا يا أبو شعرة بالورق اللي بتجيبه ده!» كان هذا تعليقي وأَنا أتفحَّص التصريح، فردَّ ضاحكًا: «اتسجن انت بس وماتحملش هَم.» ولكن التصريح لم يكن السبب الوحيد لتلك الرعاية المركَّزة لموكب «المحمل» الذي يختلف كثيرًا عن كسوة الكعبة؛ فمحمل «أبو ميار» لم يكن سوى مناظر خشبية ملوَّنة، كان وجود «عصام» ورغبته في التقرُّب لي بنحوٍ إنساني هو العامل الثاني، لم يراودني شك وقتها أن القصة التي اختلقها «عصام» للرائد «عمر» هي العامل الثالث، أما أغراض الرائد «عمر» الغامضة فكانت العامل الرابع، لتأتي القصة التي يجب أن يكون اختلقها لتلعب دور عصا موسى في رحلتنا لاختراق الزحام، كانت العامل الخامس، لا أعتقد بأن أي مريض يُحتضَر في سيارة إسعاف قد يحظى بكل تلك العوامل، قد يفقد المريض حياته لكن لا يصح أن تتأخر المناظر الخشبية على الأستاذ «عماد».

لا أدري كيف وصلنا لميدان الأوبرا بتلك السرعة، وبدا تمثال إبراهيم باشا شامخًا مستحوذًا على الميدان بالكامل بحصانه الذي قضى به على الحركة الوهابية، وحمى إمارة الحجاز، وكاد يدخل الآستانة لولا تدخل سفراء أوروبا، وإقناع الآستانة بإبرام اتفاقية كوتاهية عام ١٨٣٣م، والتي قضت بتثبيت ولاية محمد علي على مصر وكريت وسوريا، وتجديد ولاية إبراهيم باشا على جدَّة وإمارة الحجاز، مقابل تراجع الجيش المصري عن باقي الأراضي التابعة للأَناضول؛ فصارت حدود مصر الشمالية تصل إلى مضيق كولك بجبال طوروس، ثم معاهدة لندن عام ١٨٤٠م والتي صارت مصر بعدها حكرًا على أسرة محمد علي، لكنها وضعت مصر تحت الوصاية الأوروبية أيضًا، عظيمًا وقويًّا كان محمد علي.

لم أنتبه لمسجد الكخيا أو «عثمان كتخدا» بسلَّمه الحجري، دائمًا أشعر بأن هذا المسجد ما زال غير مكتمل التشطيب والدهان، وأني في يوم سأجد سقالات «المقاولون العرب» منصوبة، ويقومون ببياض جدران المسجد بالمصيص الرديء أو الجير.

اقترب الموكب من ساحة قصر عابدين، وكانت الساحة مليئة بجموع لم أرَها سوى في مظاهرات حركة «كفاية»، الفارق الوحيد أن جموع مظاهرات حركة «كفاية» مُكوِّنها الأساسي رجال الأمن، فكلما أرى مظاهرة أو تجمُّعًا، أتذكَّر يومَ أن رأيت بجوار مبنى وزارة الداخلية مشروع مظاهرة، لم أَرَ المتظاهرين بالفعل، فقد رأيت لافتات، ويُخفيهم آلاف مؤلَّفة من رجال مكافحة الشغب، فكانت النسبة تقريبًا ألف جندي لكلِّ متظاهر، وكان تعليقي يومها أنَّها: «مظاهرة رجال مكافحة الشغب ضد حركة «كفاية»»، أما التجمع الذي أراه كان كله من المدنيين ومجموعات الكومبارس بالزي الحربي البريطاني بعد الحرب العالمية الثانية، لمحت بعض الجنود الكومبارس يرتدون ملابس الجيش الألماني، فطلبت من «عصام» أن يذكِّرني بالجنود الألمان، فاندهش قائلًا: «ألمان؟» فقلت له: «ماتشغلش بالك بس قوللي ماتنساش العساكر الألمان»، فوافق مضطرًّا ومستاءً.

اقتحم الموكب الساحة ببوق الشرطة، بعض الهرج والمرج، توقف الموكب وجرى بعض الجنود النظاميين، وتحرَّك نقيب شرطة مقتربًا من سيارة الرائد «عمر»، الذي قفز من سيارته، ومشيرًا بحركة بيده بحدَّة ناحية «عصام»، فقفز «عصام» بدوره من سيارتي وهرع للرائد «عمر» معطيًا إياه التصريح السحري رافعًا إياه في وجه النقيب، نزلت من السيارة في محاولة لمعرفة ما يحدث فلم أكن قريبًا بدرجة كافية لمعرفة ما يجري.

اعترَضَتْ طريقي يد ممتدة فعرفت تلك الساعة الرقمية العتيقة، والتي يملكها «أبو علي» منذ الدراسة الثانوية من الساعات «الكاسيو»، التي كانت هدية المدرسين العاملين في الخليج لأقاربهم في الثمانينيات.

– خير يا هندسة إيه الزفة دي؟

– موضوع كبير، بس تعالى نشوف بيقولوا إيه.

تأبَّطت ذراعه وأَنا أقترب من الحوار الذي عرفت أن سيادة الرائد «عمر» قد تولَّى قيادة قوات الشرطة المسئولة عن تأمين الموقع أثناء التصوير، وأصبح النقيب الذي لم أعرف اسمه، وسيارته المحملة بقوات مكافحة الشغب أو الأمن المركزي تحت إمرته، و«عصام» أصبح ساعده الأيمن؛ فقد اختفى للحظة وعاد وفي يده كرسي للباشا قائد القوات.

– ما تقلقش يا باشمهندس، الرجالة هايفضوا المكان حالًا عشان تنزلوا الماكاتيات بتاعتكم، مش بتقولوا عليها ماكيتات برضو؟ (ضحك الضحكة نفسها البلهاء.)

– ربنا يخليك، إنت أنقذتنا فعلًا، كان مستحيل نوصل في الميعاد ده.

– ماتنساش بقى تقول «لإسماعيل باشا» (مقهقهًا مرَّة أخرى).

– من عينيا، دا هايقدَّر جدًا اللي سعادتك عملته معانا.

جذبت «أبو علي» وهو على وجهه كل علامات الذهول؛ فعادة كان يقوم بهذا الدور وتلك الاتصالات «شعراني»، وكأنه سمع اسمه في خاطرنا — وأقصد «شعراني» — كان بالفعل قفز بيننا وسألني عمَّا يحدث، فحكيت لهما فيما بعد مقابلة «عصام»، وأرجأت قصة «توحة» لوقت الرواق، وحين أتممت قصة الرائد «عمر» ومعاونه الجديد «عصام»، حتَّى انفجر «شعراني» في الضحك قائلًا: «كدة اليوم اتظبط …» قاطعته: «يوم إيه اللي اتظبط؟ وإيه سر «إسماعيل» باشا؟ دا ولا الخديوي إسماعيل في زمانه.»

– تفتكر الخديوي إسماعيل يعرف يعمل ربع اللي يعرف يعمله «إسماعيل منسي»؛ دا حكمدار مرور العاصمة، انت بتهزر؟

– والتصريح إيه اللي فيه عشان عم «عمر» يحوِّل النقلة لمشروع قومي يعني؟

– ماتفهمش انت يا هندسة المواضيع دي، اعتبرها بروتوكولات مصالح.

– المهم ماتوديناش في داهية يا أبو شعرة.

– لا ما تقلقش، المهم نفطَّم «عماد» يكبَّرك بس قدام الراجل عشان الدور يتسبك.

كان عماد يجلس على كرسي الرحلات، بقماش الخيام المشدودة على القوائم الخشبية، والمكتوب على مسنده من الخلف «المخرج»، وبيده مكبر الصوت، وفي رقبته مُعَلَّقٌ تليفونه المحمول وساعة رقمية، لم يكن واضحًا مكانه في البداية، لكن مع تحركات أكثر من مائة جندي بملابسهم السوداء، وإخلاء الساحة تقريبًا، لم يبقَ سوانا، ومجموعات الكومبارس، وفُتِح الطريق «لأبو ميار» الذي كان مذهولًا مما يراه، وشعر أن الحاج «إبراهيم» يعرف عظام القوم ممن تُفتح لهم الطرق، ويصطفُّ لهم رجال الشرطة.

كان يحاول الإشارة لي وهو يفك الحبل السميك (سلبة) الذي يربط حمولة السيارة، ففهم الرائد «عمر» من إشارته أنه يسأل من سيقوم بإفراغ الحمولة، وبحركة أخرى من يده — أقصد الرائد «عمر» — للنقيب الذي لا أعرف اسمه، ويبدو أن تلك الإشارات يتم تدريسها في وزارة الداخلية؛ فقد فهِم النقيب الإشارة وقام بإشارة أخرى تختلف عن الأولى لجنوده، فهجم مجموعة على السيارة، واستوقفت مجموعة أخرى إشارة صارمة فهمناها جميعًا، أسرعتُ بالتحرك ناحية السيارة لكن الرائد «عمر» أوقفني قبل الوصول إليها، طالبًا مني ألَّا أقلق، وأنهم سيُنزلون كلَّ شيء، ويرصُّونه مكان السيارة، ليتم ركن السيارة بجوار سيارات الجنود؛ «عشان نروَّق المكان» على حدِّ قوله.

جاءَ «عماد» قاطعًا المسافة بصراخه التقليدي، ومكبِّر الصوت في يده اليُمنى، وملف تحت إبطه الأيسر، ويبدو أن «شعراني» قد أفهمه الوضع؛ فبدلًا من تذمُّره المعتاد في مواقع التصوير فاجأني بابتسامة خبيثة ما بين الاحترام والحنق، مدَّ يده مُصافحًا.

– نورت يا باشمهندس محمد.

– أهلًا أستاذ عماد. أستاذ عماد المخرج (موجِّهًا حديثي للرائد «عمر»).

– أهلًا أستاذ عمر (ومدَّ يده مصافحًا ونظر إليَّ).

– عمر بيه ضيفنا النهارده يا أستاذ عماد، يا ريت بقى تبيَّضوا وشِّنا معاه.

– يا باشمهندس ضيوفك ينوَّرونا. دي التصاريح بتاعة التصوير ودخول القصر وكل الورق (مدَّ يده اليسرى بالملف الذي كان يحمله).

– تمام، تمام (هكذا رددت بلكنة متعجرفة وأخذت الملف).

مرَّة أخرى شعر الرائد «عمر» بهَيْبَتِي، واستأذنته لمباشرة توزيع المناظر، وانصرفت مع عماد الذي كان يتوعَّدني همسًا، مكرِّرًا أن الدنيا يومين، أكثر من مرَّة، فتركته وأخذت «حسن» وبدأت في ترتيب المناظر في أماكنْها في ذهني أولًا، جميع المناظر خارج سور القصر فقط ستدخل سيارة المندوب السامي البريطاني والذي سيلعب دوره «حسام فوزي»، انتبهت فلم تقع عيني على السيارة، أسرعت «لعماد» مرَّة أخرى عند كرسيه، وسألته عن السيارة فردَّ بأنَّها في الطريق وأنَّني المسئول وليس هو، بضحكة مستفزة. فقلت: «بلاش السواد دا يا ابن السعاتي.» فضحك قائلًا: «صبرك عليَّا يا هندسة لمَّا نخلَّص، ربنا يستر واليوم يعدي على خير.»

– أنت قلقان يا عماد ليه؟ إن شاء الله خير لا أول ولا آخر فيلم يا فنان.

– مش عارف، مش متعود على الزحمة دي، والمكان حساس أوي، والمعدات كلها متأجرة.

– ما هو كل شغلنا بمعدات متأجرة، هانمثل بقى ولا إيه؟

ضحكنا مرَّةً أخرى، وأخذت منه كل التعليمات الخاصة بوضع المناظر، وانصرفت وطلبت من «حسن» أن يلازمه، ويزيل حدَّة توتُّره، وبينما أبحث بعيني عن شعراني، جاءت السيارة «الأوستن» السوداء موديل ١٩٤٢، برغم أنَّني تمنَّيت سيارة «رولز رويس» لكن ما باليد حيلة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤