الفصل السادس عشر

عرش يهتز …

التقت قوات الغزو البرية والبحرية على جانبي مضيق كليبولي، ثم لم يلبث الجُند أن وثبوا من شاطئ إلى شاطئ، فإذا هم تحت أسوار القسطنطينية، لم يلقوا كيدًا، ولم يعترِض سبيلهم أحد، فحطُّوا رِحالهم في ذلك الوادي الأفْيَح، وأخذوا يقيمون المضارِب وينصبون الخيام، ويُعدُّون لإقامة طويلة المدى، قد أقسموا لا يعودون إلى أهليهم وديارهم إلا إذا فتحوها ووطئوا بساط قيصر، وأذَّنوا في «أيا صوفيا» وأقاموا الصلاة …

ونُصِبَتْ للأمير خيمةٌ من ديباج على شرف من الأرض، وبُسطَت فيها البُسُط، وانتثرت الطنافِس، ثم أقيمت مضارب الجند، حيث رسم الأمير …

•••

وقال مسلمة يخاطب جنده:
أما بعدَ حمدِ الله والصلاة على نبيه، فإنَّا لم نقطع هذه البرِّيَّة، ونتجشَّم هولَ ذلك البحر من أجل غارة نُغيرها، ثم نئوب قد احتملنا أُسارَى وسبايا، وحصَّلنا غنائِم وتركنا على أديمها صَرعَى وجَرحَى من الروم، كما كُنَّا وكانوا في كلِّ صائفة وشاتية؛ فقد كان ذلك كله تمهيدًا لهذه الغارة العُظمَى؛ لتحطيم عرش قيصر ودكِّ معاقله، ونشر كلمة الله في بلاده، فلا معاد إلى دياركم وأهليكم إلى أنْ يُفتَحَ لكم، وإلا فاعتقِدوها هجرةً إلى دار أبي أيوب لا تبرحونها حتى يبعث الله الموتى.١
الفتح أو الشهادة، لا غاية وراءهما، فهيِّئوا أنفسكم لإحدى الغايتين، لا تُنازِع أحدَكُم نفسُه إلى أهله وزوجه وولده، أو يحنُّ حنينَ النِّيبِ إلى أعطانها،٢ فلا وطن لكم إلا ما أنتم فيه، فاتَّخِذُوه مقامًا حتى يأذن الله بالفتح …

ألا وإنَّ الروم قد حصَّنوا أسوارهم وملَّسُوها وطاولُوا بها حتى لا مطمعَ لناقبٍ أو متسلِّق أو واثب؛ فلتَدَعُوهُم سُجَناء وراء أسوارهم هذه لا يدخل إليهم داخلٌ، ولا يخرج منهم خارِج، حتى ينفد الزاد والعَتَاد، ويبلغ منهم الجَهد، فيطلبوا السلامة ويُلقُوا السلاح ويُفتَحُ لكم.

ألا وإنَّ مُقامكم على هذا سيطول حتى ينفد ما عندهم من ذُخر؛ فلا يمسس أحدٌ منكم طعامًا أتى به من هنالِك، والتمسوا الرزق مما يليكم من هذه القُرى الروميَّة، ودونكم الأرض فاحرثوا وابذروا وثَمِّروا، وقد جلبتُ لكم قُطعانًا من الجاموس والإبل والضأن؛ للحرث واللبن واللحم ودفء الشتاء، ولا تَطُل إقامتكم في هذه الخيام حتى يفجأكم البردُ ويَسُدَّ الثلجُ عليكم أبوابها، فدونكم هذه الغابات فاقتطعوا من أشجارها، واتخذوها بيوتًا من خشبٍ تجعلون فيها متاعكم وتأوون إليها، واحتفِروا العيون واستنبِطوا الآبار تَرْوَون منها وتَسْقُون الزرع والضِّرع …

أيُّها العرب، إنَّ أظفر الطائفتين في هذه المعركة أصبرُهُما؛ فلا عليكم من طول المُقام ما ضمِنتُم الظفر في العاقبة.

أيها المهاجرون إلى الله، لقد خلَّفتُم طائعين دياركم وأهليكم وأزواجكم وأولادكم إلى مدينة أبي أيوب، فتربَّصُوا في دار هجرتكم هذه بعدوِّكم وعدوِّ الله حتى يأذن الله لكم أنْ تلقَوه بيومٍ كيومِ بدر.

وتفرَّقَ جندُ العرب في الأرض الفيحاء على استدارة القوس من أسوار القسطنطينية، قد اتخذوا بيوتًا، وفلحوا أرضًا، واستنبطوا آبارًا، واستنبتوا مراعي، وأنشئوا حظائِر، واستوطنوا استيطان من لا يُفَكِّر في الرحيل!

وكانت غاراتهم ما تزال تَبغَتُ القُرى الرومية على الشاطئين فيصيبون مغانِم، ويعودون إلى بيوتها ظافرين قد أضافوا إلى ما ادَّخَروا من الزاد والعتاد ذُخرًا جديدًا، وزاد العدوُّ جهدًا على جَهد.

ومضى عام وجيش مسلمة لم يَزَل يُحاصِر القسطنطينية، حتى جهِدَتْ جَهدًا شديدًا، وأوشكت أسواقُها أن تُقفِر من الطعام، وضاق أهلها بالحياة …

وبلغت الحالُ في بلاد الروم من الفوضى والاختلال مبلغًا حملَ القيصرَ أنسطاثيوس على اعتزال الملك لينقطِع للدعاء والعبادة راهبًا في دير، وخلا عرش القسطنطينية من قيصر، فراح الأمراء والبطارِقة وقادة الجُند يتواثبون كالضفدع حول العرش، يأمل كلٌّ منهم بلا كفاية أنْ يكون قيصرًا …

وكان إليون المرعشي «الإيزوري» رأسَ الفتنة؛ وهو رجلٌ من غُثاء الناس٣ ليس له جذر يمتُّ به، كان أبوه إسكافًا يصنع النعال؛ فنشأ كما ينشأ ابن كلِّ إسكاف، ثم اتَّجَرَ في الماشية فأثرى وجمع مالًا، ثم اصطنع كما يصطنِع الأثرِياء بطانةً وحاشية، ثم رأى اختلال الأمر في الدولة، فحُبِّبَ إليه أنْ يكون قيصرًا، فاتَّخَذَ كلَّ وسيلة إلى ما يُحِب …

ولم يكن له مطمع في رضا قومه من الروم رضاءً يحملهم على أنْ يصعدوا به إلى العرش، فصار له مطمعٌ في رضا العرب؛ فأوَى إلى سليمان بن عبد الملك وأخيه مسلمة يؤامِرهُما على تحطيم قوات الدفاع الرومية لتخلُص البلاد للعرب، وتخلُصُ له رياسةُ الروم، فاستعانه سليمان ومسلمةُ على شرطِهِ، ووثق به مسلمة فأسلم إليه بعضَ الأمر!

وبلغ الجهد بأهل القسطنطينية ما بلغ، فاستعانوا البلغار والروس وأهل رُومية، ولكن هؤلاء كانوا في شُغلٍ بأنفسهم عن معونة غيرهم؛ وكان مسلمة قد خلَّف على جيش القسطنطينية بعض قادته، ودار دَورَةً على رأس بعض فِرق الجيش إلى ملك البلغار فحطَّمَ مقاومته وبدَّدَ شمله، ثم آب …

وأخذ الوهن يدبُّ في قوى الروم؛ فلم يجدوا بُدًّا من النزول على شرط العرب، فبعثوا إلى مسلمة في وقف القتال، وفكِّ الحصار على أنْ يؤَدُّوا إليه الجِزية؛ ولكن مسلمة أبى، فبعثوا إليه ثانيةً يطلبون أنْ يوفِد إليهم إليون الروميَّ ليفاوضوه في شروط التسليم؛ فأجابهم إلى ما طلبوا …

•••

ما أجدر هذا الروميَّ أنْ يهديه اللهُ فيكون أخًا مُعينًا ووزيرًا ناصحًا!

كذلك قال مسلمة لنفسه، وقد أوفد إليون إلى قومه ليفاوضهم في شروط التسليم، فبمعونة هذا الرومي يقرع مسلمةُ اليوم أبواب القسطنطينية، ويوشك أن يدخلها غدًا، فيطأ بلاط قيصر، فيجلس على عرش قسطنطين، فيجهر بالأذان على أسوارِها المنيعة، فيؤمَّ جُنده في الصلاة بأيا صوفيا، فينشر كلمة الله من ثمَّةَ في الأرض الكبيرة، فيمضِي قُدُمًا حتى يطأ رُومية، ويجوس في بلاد إفرنسة، وينفُذ إلى الأندلس من المشرِق، ويقِفُ على شاطيء الأقيانوس الأخضر مثل موقف عقبة بن نافع منذ سنين …

إنَّ في الروم لذوِي أعراقٍ طيبة، وإن كان آباؤهم من ذوي المهنة.

ردَّدَ مسلمة هذه العبارة كذلك فيما بينه وبين نفسه، وكأنما ذكر في هذه اللحظة أمه وَرْد ونسبها في بلاد الروم، فحنَّ عِرقٌ إلى عِرق!

واسترسل إليونُ في محادثاته مع القوم، وطالت غيبته، واسترسل مسلمة في أوهامه، وكان الجند في مضاربهم، أو في بيوتهم يُديرون بينهم ألوانًا من الحديث يتَّصِلُ أكثرُها من قريبٍ، أو من بعيد بهذه السِّفارة التي دعا إليها الرومُ، وخفَّ لها إليون، وهشَّ لها مسلمة.

قال ابنُ جُبير العبسي مُغتَبِطًا: أين نحن اليوم، وأين نكون غدًا؟

قال ابن هُبيرَة: وأين تكون إلا وراء مسلمة؟

قال العبسي: فذلك ما أردتُ يا ابن هبيرة!

– اسكت! فوالله ما تعلم ولا يعلم مسلمة ما يُخبِّئه — له ولكم — الغد!

– وتعلم أنت علمَ الغد يا ابن هبيرة، ولا يعلمه مسلمة؟

– قد كان له ذلك لو كان ابن حُرَّة.

هبَّ عتيبة بن النعمان واقفًا قد اخترط سيفه وهو يصيح: أمسِك عليك يا ابن هُبيرة، فإنه لأعرقُ نسبًا، وأعلى أرُومة من كلِّ بني مروان، فإلَّا تكن أمُّه من عبس ومخزوم وأمية فإنها إلى الذروة من بني الأصفر!

قال ابن هبيرة ولم يتحلحل عن موضعه: هوِّن عليك يا ابن أخي؛ فإنك لتقِفُ مني موقفًا يستحي منه أبوك — غفر الله له — وما أردت أن أتنقَّص مسلمة، ولكني أعيبُ عليه أن يركَن إلى رجلٍ من أهل الغدر والنفاق قد باع أمَّتَهُ للعدوَّ، فما أجدره أن يغدر بنا كما غدر بقومه!

– وترى ذلك يغيب عن فطنة مسلمة؟

– إنَّ لكلِّ فَطِنٍ غفلة تأتيه من قِبَل أبيه، أو من قِبَلِ أمه، قد تدسَّسَتْ في العِرق، وخالطَت الدم، وقد كان عبد الملك حازمًا أريبًا … فذلك ما عنيتُ يا ابن النعمان.

– ومن أين لك أنَّ مسلمة قد غفل عمَّا فطنتَ له؟

– لقد أتيتُه أُحدِّثه عن ذاك، فإذا هو قد تغدَّى وملأ بطنه ونام … وجلستُ إليه أحدِّثه، فما أراه قد سمع شيئًا مما قلتُ أو دَرَى بي!

– أفلستَ تعيب عليه يا ابن هبيرة إلا أنه قد أكل ونام؟

– إنَّ الأحمق يا ابن أخ مَنْ يملأ بطنه من كلِّ شئ يجده، وأحمقُ منه من ينام والحوادِث ترقُبُه بعيونٍ يقِظَة!

– غدًا ترى عاقبة أمره وأمرك يا ابن هبيرة.

– إنْ كان وعيدًا يا ابن النعمان فقد والله جاوزتَ قدرك، وإنْ كان أملًا تأمُلُه فإني والله لأرجو مثل ما ترجوه على حَذَرٍ وتخوُّف.

– ومِمَّ تحذر؟

– تدبير ذلك الكلب إليون، فما أظنه الساعة إلَّا يؤامِر الرومَ على الكيد لمسلمة وقد ملأ مسلمةُ بطنه ونام!

•••

ورجع إليون إلى مسلمة يعرضُ عليه ما انتهت إليه محادثاته، قال: إنَّ الروم أمةٌ محاربةٌ يا أمير منذ التاريخ البعيد، لم تضع سيفَهَا قَطُّ منذ كانت، ولا رضِيَت الدنِيَّة، وقد أدال الله لكم منها فغلبتم خلفاء قسطنطين على أرضهم وديارهم ورعاياهم في سائر فجاج الأرض، ثم جئتم تطلبون هذه الحاضرة فكأن قد دانت لكم كما دانت الممالِك وأسلمت مفاتيحها، فقد بلغ منهم الجَهد ما رأيتُ بعينيَّ — وما لا أظنُّهُ قد غاب عن فِطنةِ الأمير — فلولا أنهم أهل مُصابرةٍ لأسلموا إليكم منذ بعيد، ولكن عيونهم ما تزال تطَّلِعُ عليكم حينًا بعد حين فيرون ضخامة ما اختزنتم من الزاد والعتاد وما لا يزال يرِدُ إليكم من ذلك؛ فيقولون لولا أنكم ترون أجل الفتح بعيدًا وأنَّ دونه مصاعِبَ وأهوالًا لما أسرفتُم فيما تجمعون من هذه الأقوات، وإنهم إلى ذلك ليخشون — لو أسلموا إليكم — أن يقع عليهم حَيفٌ في المعاملة، كما يصفُ لهم بعضُ رواةُ الأخبار من فلولِ المنهزمين أمام جحافِل العرب في الأمصار المفتوحة.

– وبمَ يُرجِفُ هؤلاء يا إليون؟

– يزعمون أنَّ العرب لم يدخلوا بلدًا — عنوَةً أو صُلحًا — إلا استرَقُّوا الرجال، واسْتَبَوُا النساء، وهتكوا الستور، واستولوا على النفائِس، وأذلُّوا السادة، واحتملوا كلَّ ما في البلد من قُوت وزاد، فلا يجد أهله ما يحفظ عليهم أرماقهم.

– وترانا كما يصِفُون يا إليون؟

– إنَّ العرب ما علمتُ لَأَهلُ وفاء وذِمَّة وشرف ودين.

– فماذا يرون إذن؟ وماذا ترى أنت؟

– أرى الثمرَة قد دانت وحان قِطافها، ولكنكم إن تدخلوا القسطنطينية بالقهر والغلبة لا تجدوا فيها من السلام والطمأنينة ما يحبِّب إليكم الإقامة، فهلَّا دخلتم أصدقاء قد أمِنوا وأمِنتم وطابوا نفوسًا وطِبتُم!

– وأين لنا ذلك؟

– أنْ تَحمِلوهم بَدِيًّا على اليقين بأن المدينة طوعُ أيديكم، فتتخفَّفُوا من هذا الزاد الذي جمعتموه رُكامًا بعضهُ فوق بعض يوهِمُ من يراه أنكم على نية إقامة طويلة عجزًا عن اقتحام المدينة، فإنهم إنْ رأوا هذا الزاد قد أُزيل عن موضعه أيقنوا أنكم قد أزمعتُم الاقتحام، فتخُور عزائمهم ويفتحون الأبواب.

وأخرى أيها الأمير: أنْ يكون تخفُّفكم من هذا الزاد بابًا إلى اكتساب مودَّتهِم واطمئنانهم إليكم، فتَهَبُوا لهم منه ما يدفع عنهم الجوع ويحفظ عليهم الرمق، فإنهم حقيقون بأن يحفظوا لكم هذه اليد فيشكروها لكم، فتدخلوا المدينة — حين تدخلونها — قد أمِنوا وأمِنتم، وطابت نفوسهم وطِبتم!

– وآمَرْتَهم على كلِّ ذلك يا إليون؟

– ووافقوني على كلِّ ما عرضتُ عليهم باسمك من شروط التسليم، وآية بيننا أن يُنبئهم أصحابُ الأخبار أنكم قد تخفَّفتُم من الأزواد أو جُدتُم عليهم ببعضها.

– لك ما اشترطتَ يا إليون، فاحمِل إليهم ما شئتَ ودَعْنِي وأصحابي نُعِدُّ العُدَّةَ للنقلة إلى ما وراء هذه الأسوار!

١  يعني أنهم إما أنْ يفتحوها أو يموتوا فتُجاوِر قبورهم قبر أبي أيوب.
٢  النيب: الإبل، أعطانها: مواطنها.
٣  من عامة الناس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤