الفصل التاسع عشر

وفاء النذر

وعاد عتيبة إلى الرَّقَّة مُثقلًا بالغنائم، لم يكن معه رأس بطريق لمهرِ نوار؛ ولكن معه أباها …

ونَشَرَ على عينَي أمِّه ما عاد به من طرائِف الرحلة: هذه الدمية … وهذه السلة … وهذا الثوب …

– من أين لك هذا يا عُتيبة؟

– من أبيدوس.

– وما فعل أولئِك القوم؟

– ضيَّفُوا ولدَكِ فأكرموه وبَرُّوه.

– وعرفوا أمَّه؟

– وعرفهم ولدُها.

– وما فعل الله بأبي؟

– ما زال يحمِل السيف، ويلزم الثغر، ويتعرَّض للشهادة!

– وأين لقيته؟

– بين السيف والنِّطع!

– أسيرًا … يُقَدَّم للقتل؟

– ولكنني فككتُ سراحه وحقنتُ دمه.

– جُوزيتَ مِن ولدٍ بَر.

– ذاك جزاء معروفكِ وبِرِّك.

– ومن هذا الذي صَحِبَكَ إلى الدار؟ كأنني أعرفه!

– قد حَدَسْتُ ذلك … إنه عمي عتبة.

– عمك عُتبة؟ وأين لقيته؟

– في أبيدوس.

– قد ذكرتُه … كان أسيرًا في دار قسطنطين.

– وكنتِ تعرفين أنه هنالِك؟

– لم أكن أعرف أنه عمُّك!

– ولم يكن أبوكِ يعرفُ أنكِ امرأة أخيه.

– ثم عَرَف؟

– نعم … بعد أن افترقا.

– وعرف أنه أبو فتاتِك؟

– لم أنبئه بعد …

– وتأمُل أن تُنبئه؟

– نعم، إذا خرجنا كَرَةً أخرى لحرب الروم.

– وتطيبُ نفسك بحربهم، وقد عرفت أنَّ فيهم خئولتك؟

– قد كنتُ أعرف ذلك منذ بعيد.

– وكتمتَ عنِّي؟

– بِرًّا بكِ وإعظامًا لأمومتك؟

•••

وكان الاحتفال بزواج عتيبة ونوار حاشِدًا، قد ركِب له مسلمة من دمشق إلى الرَّقَّة في موكبٍ من مواكبه، فأفاض من برِّه ولطائفه على العروسين الشابَّين وأهليهما ما كان حديث المدينة، ولقى سبيكةَ فتحدَّثَ إليها طويلًا، لم تحتجِب منه إلا بنقابٍ شفيفٍ تجول من ورائه عيناها …

ثم أزمع السفر، فودَّعَها وودَّعَ أهلَ الدار جميعًا، وهو يقول لعتيبة: إنَّ بيننا نسبًا وصهرًا، فاذكر عمك مسلمة كلما ضاق بك أمر …

ثم ركب وركبت حاشيته، وودَّعَته المدينةُ كلها إلى حدود البادية، وارتسمت في ذهنه يومئذٍ صورةٌ لم تفارقه قط في سفرٍ ولا حضر، هي صورةُ سبيكة، أو لعلها صورة أمِّه وَرد، فلم يكن بين الصورتين كبيرُ فرق، ولكن شفتيه لم تلفِظا السرَّ الذي ضمَّ عليه أضلاعه حتى مات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤