الفصل الخامس

أمهات الملوك!

في غرفة من غرفات القصر الأمويِّ الشامخ بدمشق، اجتمع أربع نسوة لم يجتمعن من قبل على مودَّة:

ولَّادة بنت العباس العبسي، وعاتكةُ بنت يزيد بن معاوية، وعائشة بنتُ موسى بن طلحة التَّيمي، وأمُّ أيوب بنت عمرو بن عثمان بن عفَّان؛ زوجاتُ عبد الملك، لم يتخلَّف عن مجلسهن إلَّا مطلَّقته أُمُّ هشام المخزومية!

قالت ولَّادة — أُمُّ الوليد وسليمان — بعد صمت: بَلَى، قد أحلَّ الله له فراشَ جواريه فهنَّ له حلائِل، ليس لواحدة من زوجاته أنْ تمنعه أنْ يفيء إلى خَلَواتهن في أي وقتٍ شاء من ليل أو نهار، ولكن للحرائر من زوجاته العهدَ والأمومة، إنَّ الوليدَ وسليمان، وإنَّ يزيد وأبا بكر والحكم وهشامًا، لأولى بعهد أمير المؤمنين من عبد الله ومسلمة ومحمدٍ وسعيدٍ، ومن لا أذكر من أبناء جواريه وإمائه، فليطِبْ لهن فراشُ عبد الملك، أما عرشُ أمية فلن يكون لأحد من أبنائهن!

قالت عاتكةُ أم يزيد: أتَريْنَه يا وَلَّادة يغفُل عن ذلك الحق؟ إنه لأسدُّ رأيًا من ذاك، وقد سألتهُ أمس حين أوى إلى مقصورتي لبعض الراحة، حين مُنْصَرَفِه من حَلْبة السباق، عما حدَّثني به يزيدُ من إقباله على مسلمة دون إخوته، وتقبيله على ملأٍ من الخلق في رأسه وعينيه، واستنشاده إيَّاه شعرًا يُعرِّض فيه بأبناء الحرائر، فضحك عبد الملك وقال: أظننتِ يا عاتكة أنني أفعلها؟ إني لآمُلُ أنْ يكون يزيدُ على عرش بني أمية خلفًا من أبيه وجدِّه وجدِّ أمِّه.١

انقلبتْ سَحْنَةُ ولَّادة كأنما أصابها المَسْخ، ونسيت مجلسها من ضرائرها، وما دعتهنَّ إلى الحديث فيه، فقالت مُنكرة: أي شيء تقولين يا عاتكة؟ وهل أوى عبد الملك إلى غير مقصورتي حين منصرفه من حلبة السباق؟

قالت عائشة بنت موسى: نعم، وجلس إليَّ ساعة يُرقِّص أبا بكر ويُغنِّي له:

يا مَلِكًا مِن مَلِكٍ من مَلِكِ
تِه واسْتَطِلْ على الملا وامتلِكِ
وَلِدْ ملوكًا كنُجُوم الحَلَكِ
يستبقون للعُلا في فلك!
قالت أم أيوب العثمانية مُحنَقَة: أمَّا الحَكَمُ ابني فلم يرقِّصه أحدٌ أو يُغنِّ له؛ إذ كانت أمه — بنتُ عثمانَ الخليفة المظلوم٢ أقلَّ منزلة عند عبد الملك من بنات عَبْسٍ، وتيْمٍ، ويزيدَ بن معاوية!

ثم جمعت أطراف ثوبها، ونهضت مُعجَلة إلى مقصورتها، لم تُحيِّ أحدًا أو تستمع إلى تحيته، ونهض صواحبها كذلك فتفرَّقن في حجراتهن!

•••

ودخل مسلمة على أُمه «ورد»؛ ليشهد في عينيها دموعًا حائرة، فلا تكاد تراه مقبِلًا حتى تُرسِل دموعها وتُطرق في انكسار …

– ماذا بكِ يا أماه؟

– لا شيء يا مسلمة.

– ولكنكِ تبكين يا أماه!

– لا تصدِّق كلَّ ما ترى عيناك يا مسلمة.

– هل نالكِ أحد بمساءة؟

– ومن ذا ينالني بالمساءة وأنا أُمُّ مَسلمة، وحَظِيَّة عبد الملك أمير المؤمنين وسيد بني مروان!

– لعلَّ أمير المؤمنين نفسه …

– وكيف يسوءني أمير المؤمنين، وأنا ولدتُ له مَسلمة؟

– فلما إذن تبكين يا أُماه؟

– من أجلك يا مَسلمة.

– من أجلي؟

– نعم، فلو لم ألِدكَ، لكنتَ اليوم وليَّ عهدِ أمير المؤمنين.٣

– لو لم تلديني يا أماه لم يلدني غيرُكِ، وما تطيبُ نفسي بغيركِ أمًّا ولو كانت …

– صه! حَسْبُك ما أَوغَرْتَ من صدورهن عليك.

– وماذا يُوغِرُ صدورهنَّ على مسلمة، وإنه ليحملُ العبءَ كلَّه عن أبنائهن، فهو المدعوُّ لكلِّ كريهة، وعليه أعباؤها دون غيره من أبناء عبد الملك، فما تزال تتقاذفه الفلواتُ وأمواج البحر من مفازةٍ مُهلكة إلى ثغرٍ مخوف؛ ليُمكِّن لعرشٍ يتنازعه من لم يَسُلَّ سيفًا من غمده للدفاع أو يحمل راية!

– من أجل ذلك بكيتُ لك يا مسلمة.

– ولكني سعيد يا أماه بما أبذل، ولست أطمع — ولا أريد — أنْ أحمل أوزارها٤ فليحملوا منها ما قَدَرُوا عليه، وليدَعُوا لي سيفي وفَرسي ورايتي أجاهدْ في سبيل الله.

– تخادعُني يا مسلمة!

– لا والله يا أم، وإني ليسعدني أنكِ وَلَدْتيني، أكثرَ مما يُسعدني أنَّ أبي هو أمير المؤمنين عبد الملك.

– صدق حَدْسُكَ٥ يا مسلمة …

– ماذا؟

– لا شئ.

– بل قلتِ شيئًا!

– دع هذه يا مسلمة ولا تُلحِف.

– تريدين أنْ تطوي عني سرًّا …

– نعم.

– أيُّ سر؟

– السرُّ لا يُسأل عنه يا مسلمة.

– هو إذن سرٌّ يَشِين.

– أخطأتَ وأسأتَ يا مسلمة؟

– وهل يَكْتُمُ المرء من سرِّه إلَّا ما يَشين؟

– نعم، وما يَضُرُّ.

– يضرُّني أو يضرُّكِ يا أم؟

– يضرُّني ويضرُّك يا مسلمة.

– لم أفهم بعد!

– خيرٌ لك ألَّا تفهم.

– ولكن سرًّا تطوينه عني وفيه مَضَرَّة … يثقُلُ على ضميري ويُبلبل خاطري.

– ليتني لم أبدأ حديثًا معك يا مسلمة.

– ولكنكِ بدأتِ.

– ولكني بدأتُ.

– ووقفتِ عند كلمة السر، فطويتيها عني وتركتِنِي في بَلْبلة!

– اسمع يا مسلمة.

– هيه!

– أنت يا بُنَيَّ صاحبُ اللواء في هذه الدولة، ما تزال تقود الجندَ لحرب الروم، فتثخن فيهم قتلًا وتجريحًا وأسرًا، حتى أرهقتَ الرومَ من أمرهم عُسرًا، فهل تجدُ يا بُنيَّ راحة نفس فيما تفعلُ من ذلك؟

– نعم يا أم.

– فكيف تصنع يا بني إذا عرفت أنَّ في هؤلاء الروم خُئولتك؟

– قد عرفتُ ذلك منذ بعيد … أفهذا هو السرُّ الذي تطوينه عني؟

– نعم يا مسلمة.

– ليس ذاك …

– تريد أنْ أزيدك يا مسلمة؟

– نعم.

– فاعلم — وعليك وحدك تَبِعَةُ هذا العلم — أنك تركب من الأمر عظيمًا في حرب الروم.

– ماذا تعنين؟

– أنت تَطْلُبُ رأسَ جدِّك!

– جدِّي؟

– نعم، أبي …

– وما تزالين تذكرين أباكِ يا أم؟ …

– نعم، كأنه بِعَيْني منذ ساعات.

– واسمه؟

– قُسطنطين …

– كلُّ رومي قُسطنطين!

– ليس مثلَ أبي قسطنطين أحدٌ من الروم.

– أهو قَيْصَر؟

– كأن قد بَلَغَ هذه المنزلة.

– ولم يبلُغْ بعد؟

– لستُ أدري! فقد انقطع ما بيني وبين بَنِي أبي، منذ صِرتُ إلى عبد الملك.

– وكان أبوكِ يومئذٍ …

– بَطْرِيقًا يؤهِّله نسبُه وجاهُهُ إلى العرش!

•••

أطبق الفتى شفتيه، وحدَّق فيما أمامه، وأمال رأسه إلى جانب، وسبح في أوهامه، وجلست أمه بإزائه صامتة، ترمقه بعينين فيهما حُبٌّ وإشفاق ووَجَل.

وطال صمت الفتى حتى قلقت أمه، فقالت في حنان وعطف: لقد طَوَّفْتَ بعيدًا في أوهامك يا مسلمة.

– نعم.

– وهل عُدت؟

– نعم.

– وماذا رأيتَ في سَرْحَتك يا بُني؟

– رأيتُ أباكِ.

– جدَّك؟

– نعم.

– وقلتَ له … وقال لك …

– لم أستمِع إلى قولٍ منه أو يستمع إلى قولٍ مني …

– تغاضبتما إذن؟

– نحن متغاضبان منذ كُنَّا … إنني أنا مسلمة بن عبد الملك، وهو قسطنطينُ وحَسْب!

– ولكنه أبو أمِّك!

– قد كان ذلك يومًا، أما اليوم فلستُ منه وليس مني.

– وإذن فلم يُغيِّر من رأيك شيئًا أنْ عَرَفتَ هذا السر؟

– بل قد أجدَّ لي عزمًا جديدًا …

– وما ذاك؟

– أنَّ لمسلمة حقًّا في عرش القياصرة، فسأحارب الروم منذ اليوم على عرش قسطنطين؛ لأستخلصه لنفسي غير غاصب … بحقِّ أمومتكِ.

– الآن طابت نفسي يا مسلمة.

– طابت نفسكِ بتقويض عرش القياصرة من آبائكِ وآلك؟

– ذلك شيء آخر.

– فماذا تعنين إذن؟

– لقد كنت أخشى يا مسلمة — لو عرفتَ سر أمِّك — أنْ تطفأ في قلبك جذوةُ الحماسة لحرب الروم، وهي كلُّ ما تملك يا بُني من أسباب المجد حين يتفاخر أبناء عبد الملك، فالآن قد أمِنتُ وطابت نفسي.

– الحمد لله.

– وسرٌّ آخر لم يزل يحيك في صدر أمك يا مسلمة …

– ماذا يا أم؟

– ولا تَغْضَب؟

– لن أغضب لما يُرضيكِ يا أماه …

– تُنازعني نفسي إلى القسطنطينية حيث نشأت.

– تريدين أنْ أرُدَّكِ إليها؟

– بل تردَّها إليَّ …

– لستُ أفهم!

– إنني آمُل أنْ أجد ولدي مسلمة يجلس منها على عرش القياصرة، ذلك حُلمي القديم منذ كنتُ فتاة لم تُدرِك، فقد علِمتُ يا مسلمة أنْ بنات الروم — كبنات العرب — لا يَحْلُمْنَ حُلْمًا أمجد ولا أسعد من أنْ تكون إحداهن أُمًّا لقيصر، وقد حسبتُ أني وجدتُ تعبير رؤياي هذه حين ولدتُكَ لعبد الملك، أما وإخوتُك — كما ترى — يتسابقون دونك إلى ولاية عرش أمية، فإني أرجو لرؤياي تعبيرًا آخر رُوميًّا لا يعرف من الملوك غير قيصر.

– بل عرش قيصر وعرش أميَّة.

– صه.

– ماذا؟

– أخاف عليك كيدَ بني مروان يا مسلمة.

– ولكن مسلمةَ لا يخاف يا أماه.

١  انظر الفصل الرابع.
٢  كان أبوها عثمان بن عفان — الخليفة الثالث — وقد مات قتيلًا، وقامت الدولة الأموية على أساس المطالبة بثأره، فما أجدر ابنته أنْ تكون في مكان الحظوة العالي.
٣  تعني: لو لم تكن أمك جارية، لكنت أحق بالعهد من كل إخوتك …
٤  لا أريد أنْ أحمل أثقال الخلافة وتبعاتها.
٥  الحدس: التخمين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤