الوجدانيات

وبالرغم من اتجاه خليل مطران العام نحو تنكير نفسه ومشاعره الخاصة وأفكاره السياسية والاجتماعية بحكم خصائصه النفسية وظروف حياته، فإن طبيعته العاطفية استطاعت — في بعض أطوار حياته الحادة — أن تتغلَّب فتبرز إلى وَضَح الشعر سافرة قوية، وإذا به ينطلق في شعر وجداني مؤثِّر يشتعل حرارةً وينتفض ألمًا. وحسبنا أن نشير هنا — على سبيل المثال — إلى ثلاثة مواقف لم تستطع فيها المعاودةُ وضبط النفس أن تمنع الشاعر من بثِّ شكواه والإفصاح عن لواعج نفسه.

أما الموقف الأول فنجده في قصيدة «المساء» (ج١، ص١٤٤) التي نَظَمها وهو عليل في مكس الإسكندرية — وهي من روائع قصائده — قال:

داءٌ ألمَّ فخِلت فيه شفائي
من صبوتي، فتضاعفت بُرَحائي
يا لَلضعيفَيْن! استبدَّا بي وما
في الظلم مثل تحكُّم الضعفاء
قلبٌ أذابته الصبابة والجوى
وغلالة رثَّت من الأدواء
والروح بينهما نسيم تنهُّد
في حالي التصويب والصعداء
والعقل كالمصباح يفشي نوره
كدري ويضعفه نضوب دمائي

وفيها يقول:

إني أقمت على التعلَّة بالمنى
في غربة قالوا: تكون دوائي
إن يشفِ هذا الجسمَ طيبُ هوائها
أيلطِّف النيرانَ طيبُ هواء؟
أو يُمسك الحوباء حسن مقامها
هل مسكة في البعد للحوباء؟
عبثٌ طوافي في البلاد وعلَّة
في علَّة منفاي لاستشفاء
متفرِّد بصبابتي، متفرِّد
بكآبتي، متفرِّد بعَنائي
شاكٍ إلى البحر اضطراب خواطري
فيجيبني برياحه الهوجاء
ثاوٍ على صخر أصمَّ وليت لي
قلبًا كهذي الصخرة الصماء
ينتابها موج كموج مكارهي
ويفتُّها كالسقم في أعضائي
والبحر خفَّاق الجوانب ضائق
كمدًا كصدري ساعة الإمساء
تغشى البرية كدرة وكأنها
صعدت إلى عينيَّ من أحشائي
والأفق معتكر قريحٌ جفنه
يُغضي على الغمرات والأقذاء
يا لَلغروبِ وما به من عبرة
للمستهام! وعبرة للرائي!
أوليس نزعًا للنهار وصرعة
للشمس بين مآتم الأضواء؟
أوليس طمسًا لليقين ومبعثًا
للشك بين غلائل الظلماء؟
أوليس محوًا للوجود إلى مدى
وإبادة لمعالم الأشياء؟
حتى يكون النور تجديدًا لها
ويكون شبه البعث عود ذكاء

•••

ولقد ذكرتُك والنهار مودِّع
والقلب بين مهابة ورجاء
وخواطري تبدو تجاه نواظري
كلمَى كدامية السحاب إزائي
والدمع من جفني يسيل مشعشعًا
بسنَى الشعاع الغارب المترائي
والشمس في شفق يسيل نضاره
فوق العقيق على ذُرى سوداء
مرَّت خلال غمامتين تحدُّرًا
وتقطَّرت كالدمعة الحمراء
فكأن آخر دمعة للكون قد
مُزِجت بآخر أدمعي لرثائي
وكأنني آنست يومي زائلًا
فرأيت في المرآة كيف مسائي

هذه قصيدة وجدانية قوية، ولكن وجدانية خليل مطران تُغايِر ما ألفه الشاعر العربي في وجدانياته؛ وذلك لأنها مركَّبة، لا تصدر عن عاطفة موحَّدة تنبثق من القلب مباشرةً، بل تمتزج بالخيال الشعري، ويسيطر الفكر على صياغتها.

والواقع أن طبيعة مطران الشعرية تستند إلى الخيال أكثر من استنادها إلى الإحساس المباشر؛ فالخيال هو الذي يثير عاطفته في قصائده القصصية والدراماتيكية التي تغلب في ديوانه؛ حيث نراه يتصوَّر المواقف والأحداث والشخصيات، ثم ينفعل بما تصوَّر، ولكنه لا يترك لخياله ولا لعاطفته العنان مطلقًا، بل يُخضِعها لعقله وتفكيره، ويظهر هذا المجهود الإرادي في الصياغة.

ففي هذه القصيدة نرى الشاعر مريضًا متفرِّدًا بكآبته، متفرِّدًا بعنائه، متفرِّدًا بصبابته. ومن المعلوم أن المرض يهدُّ الإرادة والتفكير، ويُضعِف المقاومة، ولا يستطيع الإنسان معه غير البكاء أو إرسال الزفرات حيث يفلت زمام النفس، وتنطلق العاطفة حزينة قاتمة. ومع ذلك لم يغيِّر المرض شيئًا من طبيعة خليل مطران، ولم يذهب بشيء من خصائص شاعريته المركَّبة، فخياله حي يدرك الطبيعة الخارجية، بل نستطيع أن نقول إن الشاعر يمتزج بهذه الطبيعة بفضل ذلك الخيال، حتى لَيرى نفسه في مرآة تلك الطبيعة، فكأنه يكون معها أصلًا وصورة؛ بحيث يمكن القول بأننا نستشفُّ في هذه القصيدة ما يصح أن نسميه ﺑ «الحلول الشعري» Pantheïsme Pretique؛ فالشاعر حالٌّ في الطبيعة أو الطبيعة حالَّةٌ فيه، فرياح البحر الهوجاء صدًى لاضطراب خواطره، والصخرة الصماء ينتابها موج كموج مكارهه، والبحر خفَّاق الجوانب ضائق كمدًا كصدر الشاعر ساعة الإمساء، وكدرَّة البرية صاعدة إلى عينيه من الأحشاء، والأفق معتكر قريحُ الجفن، وهو يرى خواطره بعينه كدامية السحاب، والدمع يسيل من جفنه مشعشعًا بسنا الشعاع الغارب، والشمس في انحدارها الأخير بين السحاب كأنها آخر دمعة للكون تمتزج بدموع الشاعر لترثيه. ومن كل هذا تتكوَّن المرآة التي يرى فيها الشاعر نفسه، أو تحلُّ الطبيعة في الشاعر كما يحلُّ فيها، وهذه خاصية تتميز بها وجدانية مطران المركَّبة التي تمتزج بالطبيعة، وتبادِلها المعاني والأحاسيس، وكأن الطبيعة عنده كائن حي يتمتع بكافة خصائص البشر من خوالج وأحاسيس.

•••

وأما الموقف الثاني فنجده في قصيدة «الأسد الباكي» (ج٢، ص١٧) التي يحدِّثنا فيها الشاعر نفسه أن أصل عنوانها كان «ساعة يأس»، ولكن إخوانه آثروا بعد نشرها أن يكون عنوانها «الأسد الباكي»؛ لأنهم — فيما يظهر — لم يقبلوا لشاعرهم أن ينحدر إلى اليأس. ومن الراجح أن الشاعر قد قالها حوالي سنة ١٩١٢ على أثر نكبة مالية فَقَدَ فيها ما كان قد جمعه من ثروة بسبب المضاربات المالية، فضاق بالحياة وضاق بالناس، وهَجَرَ القاهرة إلى مصر الجديدة، التي كانت لا تزال تسمَّى عندئذ ﺑ «عين شمس»، وفيها يبثُّ — كما يقول هو نفسه — حزنًا قويًّا كان قد انتابه، فقال:

دعوتك أستشفي إليك فوافني
على غير علم منك أنك لي آسي
فإن ترني والحزن ملء جوانحي
أداريه فليغررك بِشري وإيناسي
وكم في فؤادي من جراحٍ ثخينة
يحجِّبها بُرداي عن أعين الناس
إلى عين شمس قد لجأت وحاجتي
طلاقةُ جوٍّ لم يَدنَس بأرجاس
أُسرِّي همومي بانفرادي آمنًا
مكايد واشٍ أو نمائم دسَّاس
يخالون أني في متاع حيالها
وأي متاع في جوارٍ لديماس
أرى روضة لكنها روضة الردى
وأصغي وما في مسمعي غير وسواس
وأنظر من حولي مُشاة ورُكَّبا
على مزجيات من دخان وأفراس
كأني في رؤيا يزفُّ الأسى بها
طوائف جنٍّ في مواكب أعراس …

ففي هذه القصيدة أيضًا تلمَس ما لمسنا في القصيدة السابقة: خيالٌ يثير العاطفة ويخلع على الطبيعة الخارجية ما في نفس الشاعر من معانٍ وألوان عاطفية قاتمة، ثم فكٌّ وعَقْلٌ وإرادة تَكبَح جماح العاطفة، حتى ليعترف الشاعر نفسه بأنه يُظهِر غير ما يبطن؛ فالحزن ملء جوانحه ولكنه يداريه ببِشر وإيناس، وبالرغم من أن الخيال يصوِّر له الحياة من حوله رؤيا يزفُّ الأسى بها طوائف جنٍّ في مواكب أعراس.

•••

وأما الموقف الثالث فنأخذه من شعر الشاعر بعد أن امتدَّ به العمر وضعفت قواه وولَّى شبابه، وأحسَّ بذلك الحزن الرقيق الذي يصاحب الشيخوخة الفانية عندما تُولي ظهرها للحياة، وتتوقَّع الفناء الذي يتربَّص بكل حيٍّ. وهنا لن نجد خيال الشاعر يصاحب عاطفته، ولا قوة عقله أو إرادته تُقعِد من شاعريته، بل ينساب قوله في حزن رقيق كله شعور بسيط دافق، وبذلك يطالعنا وجدانه الصافي الذي كان يتعقَّد في عنفوان الشباب، عندما كان الخيال والعقل يلازمان كل خَلَجَة من خوالجه الوجدانية ويجعلان منها مركبًا شِعريًّا عميقًا. ولقد سمَّى الشاعر هذه القصيدة التي نقف عندها الآن باسم «الشاعر يوقِّع على وتره الأخير لحن الرضى وسكينة النفس»، قال:

ماذا يريد الشعر مني؟
أخنى عليه علو سني!
هل كان ما ذهبت به الـ
أيام من أدبي وفني؟
أحسنتُ ظني والليا
لي لم توافق حسن ظني
ورجعت من سوق عرضـ
ـت بضاعتي فيها بغبن
أفكان ذلك ذنبها
أم كان ذنبي؟ لا تسلني
خمدت بي النار التي
رفعت بعين العصر شأني
هي شعلة كانت تثيـ
ـر قريحتي وتنير ذهني
أيام لي طرب وقلـ
ـبي موقع السهم المرنِّ
لا تندبنِّي للعظا
ئم بعدها، لا تندبنِّي!
يا من يحمِّلني تكا
ليف الشباب ارفقْ بوهني
زمني تولَّى والأُلَى
عمروه من صحبي، فدعني
ولَّى الربيع وجفَّ عو
دي وانقضى عهد التغني
وعدمت لذَّات الرؤى
وعدمت لذات التمنِّي
إني ختمت العيش في
وادي المخيلة، أو كأني
فإذا بدت لك همة
من دائب يَشقى ويبني
فعذيره خوف التشبـ
ـه بالرحى من غير طحن
ويكد كد النحل وهـ
ـي لغيرها تسعى وتجني
أرضى بأن تُقضَى منى
للآخرين وإن عَدَتْني
أخلي مكاني للذي
يسمو إليه بغير حزن

ففي هذه القصيدة تلمس وجدان الشاعر صافيًا خاليًا من كل تعقيد، وذلك بعكس وجدانه أيام شبابه وفورة شاعريته وتفاعل مَلَكاته، ولا يظهر هذا الوجدان صافيًا في القصائد التي يتحدَّث فيها عن نفسه، ويتغنَّى بمشاعره الخاصة فحسب، بل وفي أغراضه الشعرية الأخرى، وبخاصة في المراثي العديدة التي قالها في الفترة الأخيرة من حياته. ونضرب لذلك مثلًا بالمقطوعة الأولى من رثائه للمرحوم جبرائيل تقلا باشا (ج٤، ص٣٠٩)، حيث يقول:

لا تُنكروا الأنَّات من أوتاري
لم يبقَ لي في العيش من أوطار
ذهب الأحبة بعضهم متعقِّب
بعضًا وكان السبق للأخيار
أرزاء دهر شفَّني تكرارها
أفما بها سأمٌ من التكرار؟
أنا في الحياة رهينة، مَن يفتدي؟
وأنا الأسير فمن يفكُّ إساري؟
ما طال عمري في مداه وإنني
لإخاله يعدو مدى الأعمار

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤