قصتان من الدانمرك

شهدت المؤتمر البرلماني الذي انعقد هذا العام بهلسنكى؛ فأقنعني ما سمعته فيه بأن العالم لا تزال بينه وبين السلام مراحل عدة، وكنت قد اعتزمت حين قررت شهوده أن أعود من فنلندا إلى إنجلترا أقضي بها أيامًا مع ولدي الذي يدرس هناك، ثم أذهب منها إلى مدريد لزيارة ابنتي التي تدرس في جامعتها.

ورأيت أن أقطع الطريق بين هلسنكى ولندن في كوبنهاجن عاصمة الدانمركي، فأنا لم أرها من قبل قط، وقد سمعت عن جمالها ورقة أهلها الشيء الكثير، هذا إلى أنني زرت استوكهولم عاصمة السويد سنة ١٩٤٩، واشتركت في المؤتمر البرلماني الذي عقد بها، فلم تكن لي في هذا العام حاجة بالوقوف عندها، وبخاصة لأن توزيع الإجازة التي قررتها لنفسي لم يكن يتسع لزيارتها.

وأقلتني طائرة فنلندية من هلسنكى إلى كوبنهاجن، فقضيت بها ثلاثة أيام، زرت خلالها أهم ما يُزار في هذه العاصمة الجميلة، وتنقلت أثناءها خلال الدانمركي مما يحيط بالعاصمة، فلم يكن يشغلني بها مؤتمر برلماني ولا مؤتمر غير برلماني، ولم يكن مقصدي من زيارتها إلا الوقوف على ما بها، والاتصال في حدود هذه الإقامة القصيرة بحياتها.

ولم يكن لي بد من أن أجد دليلًا يرشدني إلى ما يجمل بي أن أقف عليه، وخصص هذا الدليل اليوم الأول للعاصمة، وخصص اليوم التالي لما حولها؛ لأن حولها قصورًا تاريخية تستحق الزيارة، ومن أهمها القصر الذي يقال: إن مكانه ألهم شيكسبير قصة (هملت) الخالدة.

ولست أريد أن أقص في هذا المقال مشاهداتي سائحًا في هذه البقعة من أرض الشمال الأوروبي، وإنما أريد أن أقف عند قصتين طريفتين تشهدان بما يترك الأدب، ويترك الفن في حياة الشعوب من أثر.

وأولى القصتين قصة (عروس البحر)، ولعلي أستطيع أن أُقدم لها بأن أُذكِّر القراء بفيلم سينمائي شهده أكثرهم في القاهرة وفي غيرها من مدن مصر، ذلك فيلم (هانس كريستيان أندرسن) الكاتب الدانمركي الكبير، وقد صور هذا الفيلم ذلك الكاتب بأن كان بدء حياته حذّاء يُصلح الأحذية أو يصنعها، ثم أصبح مدرس أطفال ثم صار كاتبًا، والفيلم معروض عرضًا رائعًا حتى لقد حضره بعضهم خمس مرات، وحضرته أنا مرتين مع أنني قلما أحضر أفلام السينما، والدانمركيون يضيقون بهذا الفيلم ويذكرون أن وقائعه غير صحيحة، فلم يكن أندرسن حذاء، لكنه كان شابًّا فقيرًا نشأ في قرية نائية عن العاصمة، فلما بلغ الخامسة عشرة أولع غرامًا بالقراءة، واقتصد بعض المال وذهب إلى كوبنهاجن وعرض بعض ما كتبه على رجالها، فأعجبوا بمقدرته وأدخلوه المدارس العليا، فأصبح من بعد ذلك (هـ، ك، أندرسن) أحد كبار الكُتَّاب العالميين في قصص الصبيان.

ولأندرسن مجموعة، بل مجاميع من القصص الخرافية البارعة التي ترجمت إلى جميع اللغات، والتي خلدت اسمه بين الكُتَّاب العالميين، وقصة (عروس البحر) تذكر أن ملك البحر كان له قصر تحت الماء، وأنه كانت له بنات خمس، وكان لا يؤذن لإحداهن أن تطفو على سطح الماء قبل أن تبلغ الخامسة عشرة من سنها، وكانت صغراهن بارعة الجمال، فلما بلغت هذه السن وطفت على سطح الماء رأت سفينة بها من الموسيقى وألوان المرح ما أطربها، ثم إن عاصفة عبثت بهذه السفينة فحطمتها، ومات أكثر من فيها، ورأت (عروس البحر) أميرًا بارع الجمال قد أعيته السباحة متعلقًا بخشبة من حطام سفينة حتى بلغ من الأعباء أن فقد صوابه، وأصبح موشكًا أن يموت غرقًا، وحدقت به (عروس البحر) فلم يهن عليها أن تدعه يموت، بل حملته بين ذراعيها، وسبحت به إلى الشاطئ، وأقامت إلى جواره حتى بدأ يفيق من إغماءته، ثم عادت إلى قصر أبيها تحت الماء وقد شغفها هذا الأمير حبًّا، وودت أن تكون حياتها معه.

لكنها لا تستطيع، فهي على مشابهتها عرائس الآدميين في وجهها وصدرها وذراعيها ليس لها ساقان تسير بهما، بل نصفها الأسفل سمكي تسبح به في الماء، وسألت أمها عما بينهم وبين الآدميين من فرق، فأخبرتها أن الآدميين يعيشون أطول عمرهم مئة عام، وأهل البحر يعيشون ثلاث مئة عام، وأن للآدميين روحًا باقية إلى الأبد، وأن أهل البحر ليس لهم هذه الروح، فذهبت (عروس البحر) إلى ساحرة، وطلبت إليها أن تحيل ذنبها قدمين، وأن تجعل منها آدمية، فرضت الساحرة على أن تأخذ لسان العروس، ومع أن صوت عروس البحر كان ساحرًا في عذوبته فقد رضيت هذه التضحية؛ لتكون إلى جانب حبيبها الآدمي، وذهبت إليه على قدميها فلما راها هام بها حبًّا، لكن صمتها حال بينه وبين التزوج منها، فتزوج من ابنة ملك يجاور ملكه مملكة أبيه، وأشفقت بنات الهواء على عروس البحر فاتخذتها واحدة منهن، ولهن على بنات البحر من الفضل أن أعمال الخير تجعل لهن خلال ثلاث مئة السنين التي يعشنها روحًا خالدة، وبذلك تستطيع العروس أن ترى الأمير في العالم الآخر.

هذه القصة التي كتبها هـ، ك، أندرسن للأطفال الصبيان بديعة في أسلوبها وفي تصويرها، وتستغرق نحو العشرين من الصفحات، وقد أعجب بها كارلسبرج إعجابه بكل ما كتبه أندرسن، وكارلسبرج صاحب مصانع كبرى للبيرة في كوبنهاجن، مع ذلك كان من أشد الناس حبًّا للفنون الجميلة وإعجابًا بها وتضحية بالمال في سبيلها، حتى لقد أوصى قبل موته بأن يخصص مبلغ طائل من أرباح مصانع البيرة التي يملكها لما تحتاج إليه الفنون الجميلة والقصور التي تحتوي آثارها من نفقة وإصلاح، وإلى اليوم لا تزال هذه الوصية نافذة، ولا يزال أرباب الفن يحظون بالإيراد الذي خصصته.

أعجب كارلسبرج إذن بقصة عروس البحر، وأراد أن يخلدها، ففكر في الأمر تفكيرًا جديًّا، ثم دعا إليه مثالًا ناشئًا تبدو عليه ملامح النبوغ، واتفق معه على صنع تمثال لعروس البحر فوق صخرة على شاطئ كوبنهاجن، واختار المثال الناشئ أجمل ممثلة في كوبنهاجن واتخذ منها (موديلًا) لتمثاله، فلما أتم صنعه أقيم فوق صخرة على شاطئ كوبنهاجن، فأصبح محط أنظار كل السائحين الذين يذهبون إلى العاصمة الدانمركية، ومحط أنظار من يمرون في السفن من هناك، وموضع التقدير من الجميع.

والحق أن التمثال جميل دقيق الصنع، جلست فيه (عروس البحر) جلسة من يقرأ التحيات في صلاته، وقد بدا على وجهها الأمل والألم ممتزجين، وبدت ملامحها مع ذلك جميلة بارعة الجمال، لا عجب وذلك شأنها أن تكون معشوقة السائحين وركاب البحر، وما أكثر من يركبون البحر من كوبنهاجن وإليها، فبينها وبين شاطئ النرويج مضيق تتخطاه الباخرة في أقل من نصف ساعة، ويمكنك أن تعبر هذا البوغاز وأنت بالقطار الذي يتخطاه على ظهر الباخرة.

•••

هذه قصة عروس البحر، أما القصة الدانمركية الثانية فقصة «هملت» وهي تتصل بقصر خارج كوبنهاجن، والرواة يذهبون في قصة هملت إلى أن شكسبير جاء مع فرقته التمثيلية من إنجلترا إلى المكان الذي يقوم هذا القصر عليه لتمثيل بعض مسرحياته في المدينة التي كانت زاهرة إذ ذاك، أو لعله جاء سائحًا منفردًا، فليس بين إنجلترا والدانمرك ما يقتضيك أكثر من عبور البحر، أيًّا كان الأمر فقد عرف شيكسبير أن قصة هملت ومغامرته في سبيل الملك وقتله دنكان حدثت في هذا المكان، فأعجبه ما سمع وكتب قصته الخالدة عن هملت.

لا يحسب القارئ أن ذلك ما أريد أن أحدثه به عن هملت وقصته، ولو أنه كان كذلك لما اقتضاني الأمر أن أذكره، لكن الدليل الذي كان يرشدني في تجوالي بالدانمرك روى لي في هذا الموضوع رواية طريفة هي التي أريد أن أقص حديثها، ذلك أن أمريكيًّا جاء إلى الدانمرك صحبه هذا الدليل كما صحبني، فلما بلغ هذا القصر، وذكر له الدليل ما يروى عن شيكسبير، وكيف كتب هملت؛ سأل الأمريكي: وفي أي غرفة من غرف القصر تبدى طيف هملت، فالقراء يذكرون أن شكيسبير جعل لهذا الطيف من مسرحيته مكانًا خاصًّا وحديثًا مستفيضًا، قال الدليل للأمريكي: لست أستطيع أن أجيب عن سؤالك، فهذا القصر القائم الآن إنما بُني بعد خمس مئة سنة من وفاة هملت، ويتعذر لذلك أن يعرف الإنسان أين بدا الطيف، وأية غرفة من غرف هذا القصر كانت مكان ظهوره.

قال الأمريكي بغضب: لكني تركت أمريكا وإعمالي وأموالي فيها وجئت إلى الدانمرك، وتكلفت في سبيل ذلك ما تكلفت من نفقة لغير شيء إلا أن أرى المكان الذي تبدى فيه طيف هملت، فإذا لم يكن الأدلاء في هذه البلاد يعرفون أين ظهر هذا الطيف، ولم يكن العلماء قد حددوا مكانه، فخير لهم أن يذيعوا ذلك على الناس حتى لا يُكلِّف رجل مثلي نفسه مشقة السفر ونفقته ليقال له عن المكان الذي بدا فيه هذا الطيف: غير معروف، عند ذلك قال الدليل: أعتقد يا سيدي أن الطيف بدأ في هذه الغرفة، بل أستطيع أن أؤكد ذلك، وسمع الأمريكي هذا الكلام فاغتبط وأطمأن وأعتقد أنا ما بذله من مشقة ونفقه لم يذهب سدى؛ لأنه عرف المكان الذي ظهر فيه طيف هملت، حتى لو أن هذا الطيف كان مما ابتدعه خيال شيكسبير.

•••

هاتان قصتان من الدانمرك أرويهما لأن أولاهما أثارت دهشتي، ولأن الثانية أثارت ابتسامتي، أما دهشتي للقصة الأولى، قصة عروس البحر، فلأن (كارلسبرج) صاحب مصانع البيرة هو الذي أقام هذا التمثال، وأنفق في إقامته ما أنفق، وليس مما يعهده الناس أن يغرم صانع البيرة بالفن الجميل هذا الغرام؛ فيجعل حظًّا موفورًا من ماله وقفًا عليه، وأما ابتسامتي للثانية فلأنها تشهد بسذاجة الأمريكيين على ما عُرف من مقدرتهم وحبهم العمل، كما تشهد بأن الأوروبيين لا يزالون ينظرون إلى هؤلاء الأمريكيين على أنهم أطفال كبار، وإن بلغوا من الثروة والعلم أعظم مبلغ.

على أن هاتين القصتين لم تثيرا من تفكيري فيما شهدته بالدانمرك ما أثارته مشاهد أخرى أحدث القراء بشيء منها في مقال آخر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤