تعال معي إلى مدريد

زرت مدريد وإسبانيا لأول مرة في حياتي صيف هذا العام، مع أنني زرت باريس وفرنسا أكثر من عشرين مرة، وفرنسا تجاور إسبانيا، أليس هذا عجيبًا؟

الحق أنه لا عجب فيه، فأنا لا أعرف اللغة الإسبانية، ولم يكن لي في إسبانيا من الأصدقاء من أستطيع الاعتماد على صحبتهم؛ لأقف على ما فيها إذا زرتها، أما هذا العام فابنتي في إسبانيا، وهي تتقن اللغة الإسبانية، ولي بمدريد أصدقاء فإذا زرتها لم أكن غريبًا عنها كما كان ذلك شأني من قبلُ، وفي إسبانيا بلاد الأندلس حيث تقوم آثار إسلامية تهوي إليها نفوسنا وتدفعنا لمشاهدتها، فإذا يسرت لنا الأحوال هذه الزيارة وكنا قادرين عليها فالعجب ألا ننتهز فرصتها، ولذلك انتهزت هذه الفرصة.

والعاصمة في كل أمة هي عنوان هذه الأمة، فطبيعي أن تكون مدريد عنوان إسبانيا، وطبيعي أن أنزلها لأول ما أذهب إلى إسبانيا ألتمس الوقوف فيها على لون من الحضارة ومن الحياة لم أقف عليه من قبل.

وهبطت بنا الطائرة في مطار مدريد، فألقيت ابنتي مع جماعة من إخواننا المصريين في انتظاري وشكرتهم، واجتزنا الجمرك واصطحبني مدير المعهد المصري للدراسات الإسلامية بمدريد في سيارته إلى فندق (بالاس)، واجتازت بنا السيارة طرقًا جميلة يبدو على بعضها القريب من المطار أنه حديث التخطيط والرصف؛ لأن الأشجار المغروسة على جانبيه لا تزال في بدء حياتها، فلما تخطينا هذه الطرق الخارجية إلى المدينة بدت مبانيها أشبه بما ترى في كل عاصمة أوروبية، وأشبه بمباني القاهرة واستأذنتني ابنتي لتذهب إلى بيت الطالبات الذي تقيم به تتناول غداءها، وكنا إذ ذاك قرابة الساعة الثانية بعد الظهر، وكنت قد تناولت غذائي بالطائرة، فسألتها عن موعد الغداء عندهم فأجابتني بأن الإسبان لا يتناولون طعام الغداء إلا بعد الساعة الثانية، ولا يتناولون طعام العشاء قبل الساعة العاشرة، وعجبت إذ كنت قادمًا من إنجلترا حيث يتناول الناس غداءهم ظهرًا، وعشاءهم في الساعة السابعة أو السابعة والنصف.

وأويت إلى غرفتي أستريح من مشقة السفر، فلما كان المساء رأيت في الميدان الذي أطل عليه فسقية بها نافورة حولها زرع، ويقوم فيها تمثال لإله من آلهة الإغريق الأقدمين، ورأيت أنوارًا في الفسقية تزيدها جمالًا، قالت ابنتي: خير أن تنزل لترى طريق (البرادو) فهو على خطوات من هنا وبه فسقية منظر التماثيل والماء فيها أروع مما تتصور، ولعلك حين ترى هذا الطريق تذكر (الشانزليزيه) طريق باريس الفخم.

ونزلنا إلى طريق (البرادو)، أنه ليس شارعًا تجري فيه السيارات، بل هو طريق فسيح بين شارعين، وهو مرتفع عنهما ولا تمر به سيارة ولا عربة، وهو مضاء إضاءة جميلة، والناس يسيرون فيه ذهابًا وجيئة يتنزهون تحت أشجاره ويستمتعون بمناظره، ويجلسون على المقاهي الكثيرة الموجودة فيه، وبه فسقية قامت فيها التماثيل وجرى فيها الماء تتلألأ تحته أنوار تزيد المنظر بهاء وروعة، وأكثر المتنزهين في طريق البرادو من الصبية بنين وبنات ممن تترواح أعمارهم بين السابعة والحادية عشرة، هم هناك يمرحون ويلعبون ما شاءت لهم سنهم التي تدفعهم لهذا المرح وهذا اللعب، وعجبت ما بال هؤلاء الأطفال لا يأوون إلى منازلهم، وقد تخطت الساعة التاسعة، قالت ابنتي: إنهم يذهبون إلى منازلهم في الساعة العاشرة ليتناولو طعامهم ثم يعودوا إلى هنا، ولا بأس بأن يبقوا بعد ذلك في طريق (البرادو) أو في غيره من طرق مدريد إلى منتصف الليل، وإلى ما بعد منتصف الليل.

هذا منظر لا أذكر أنني رأيت مثله في مدينة من المدن، فالصبية والأطفال يأوون عادة إلى منازلهم وإلى فراشهم قبل التاسعة، أما الإسبان فيذرون أطفالهم في الأماكن الآمنة إلى ساعة متأخرة من الليل، أفيكون هذا لأن جو الصيف عندهم شديد الحرارة، لكني قيل لي: إن ذلك شأنهم حتى في مدن الشمال حيث لا يرهق الصيف أحدًا، ولا ترتفع درجة الحرارة إلى أكثر من مثلها في باريس أو في لندن.

ومن طريق (البرادو) ذهبنا إلى سراي البريد الفخمة، وألقينا بصندوقها خطابات كتبناها، ثم ملنا إلى مقهى نستريح به، فالمقاهي في مدريد كثيرة مقصودة، ولعلها أكثر عددًا من مقاهي باريس وأكثر قصادًا منها.

واستهواني ما رأيت في هذه السيويعات من الليل فخرجت الغداة أجوس خلال المدينة راجلًا، وقد زادني ما شهدت حبًّا لها، فهي من خفة الروح بما لا يجده الإنسان في كثير من العواصم، وفيها إلى ذلك من مظاهر الفن الجميل، ومن إكبار أهلها هذه المظاهر ما يشهد للإسبان بذوقهم الجمال وتقديرهم له، ذهبت إلى ميدان إسبانيا وأجلت النظر فيه، وفيما غرس به من الأشجار وفي المقاهي القائمة على حوافه فأعجبني، لكن الإعجاب بلغ من نفسي حين وقفت أمام التمثال الذي أقيم (لسرفانتس) مؤلف قصة (دونكيشوت) أو (دونكيخوتى) كما ينطقها الإسبان، فلم يكن هذا التمثال قائمًا وحده، بل أقيم أمامه تمثال آخر (لدونكيشوت) على جواده وفي يده سيفه يلوح به في الهواء، وإلى جانبه (سانشو) على حماره، فكانت إقامة هذا التمثال تخليدًا لأدب (سوفانتس)، كما كان تمثال (سرفانتس) نفسه تخليدًا لاسمه، وأنها لعمري لفكرة موفقة أن يُخلد اسم الكاتب العظيم، وأن يُخلد في نفس المكان أدبه في تمثالين أو تماثيل تتحدث عن هذا وذاك.

والتماثيل في مدريد كثيرة يعيد بعضها إلى ذهنك ما رأيت من مثله في عواصم أخرى، ففي مدريد حديقة كبيرة جدًّا هي (الريتيرو)، وهي الرئة التي تتنفس منها المدينة العاصمة، والإسبان يقولون: إنها تفضل غابة بولونيا؛ لأنها تقع في وسط مدريد بينما يقع غاب بولونيا خارج باريس، وقد صنعت مجموعة من التماثيل لملوك إسبانيا لتوضع على أبراج القصر الملكي، ثم تبين أن سقفه لا يحتملها، فوضعت في طريق (البرادو) الرئيسي، وأصبحت أشبه بتماثيل أباطرة ألمانيا الموضوعة في حديقة (التيرجارتن) ببرلين، وصارت بذلك زينة لحدائق الريتيرو فوق زينتها بأشجارها الباسقة وبحيراتها الصغيرة، وبالتماثيل والمباني الأخرى القائمة فيها.

ولم يدهشني أن تقوم هذه التماثيل بمدريد بعد أن زرت متاحفها، وبعد أن رأيت فيها من آثار الفن في التصوير والنحت ما يضارع خير ما رأيت بأكبر العواصم الأوروبية، فمتحف (البرادو) الفسيح المترامي الأطراف لا يتواري عن أن يقارن باللوفر في باريس أو بالمتحف البريطاني في لندن، بل إن الإسبان يقولون: إنه يفوق اللوفر فيما يعرض من الصور، وإن فاقه اللوفر في التماثيل، وهم يدللون على قولهم هذا بأن متحف (البرادو) أدق في عرض اللوحات نظامًا، وأنه إلى ذلك يعرض آثار المصورين الإسبان أمثال جويا وفلاسيكيز ومن إليهما عرضًا دقيقًا يبين تطور فكرة المصور في الفن، والأحوال النفسية المختلفة التي مر المصور بها في حياته، وذلك أمر لا يُعنَى به اللوفر في باريس، ولا أريد أن أنضم إلى الإسبان في هذه المفاضلة ولا أريد أن أخالفهم فيها، ولكني أقرر أن متحف البرادو من أبدع المتاحف التي رأيت في حياتي، وأن الإسبان لا يبالغون حين يعتبرونه مجدًا من أمجاد عاصمتهم يستطيعون أن يفاخروا به الأمم في مضمار الفن الجميل.

وليس البرادو هو المتحف الوحيد الذي يستوقف النظر في العاصمة الإسبانية، وإن كان أعظم متاحفها وأبدعها، فقد زرت في مدريد القصر الملكي، وزرت متحف (ساروليا)، وساروليا مصور إسباني بارع يختلف اتجاهه عن اتجاه أكثر الفنانين، فالموضوعات التي يعالجها الفنانون في إيطاليا وفي إسبانيا، وفي أكثر البلاد المسيحية تستمد قوتها من الدين أو من التاريخ، فالمئات منها تصور العذراء والسيد المسيح في كل يوم وفي كل ساعة من ساعات حياتهما وحياة الحواريين حولهما، والمئات منها تصور وقائع التاريخ في عصوره المختلفة، وما جرى في الوقائع الحربية خاصة، وما جري في بلاط الملوك، هذا فضلًا عن صور الملوك أنفسهم، أما ساروليا فيستمد وحيه من أسرته؛ فأكثر صوره ترسم زوجته أو ابنته أو ابنه أو الأسرة كلها مجتمعة، وهو ينقش هذه الصور في أوضاع بارعة تدل على عمق حبه وإعجابه بهذه الأسرة التي عاش بها ولها، والتي وهبها كل قلبه وكل فنه، وإلي جانب هذه الصور يرى الإنسان في متحف ساروليا مجموعات من الأواني ومن العاج المنقوش كان المصور الماهر يحبها غاية الحب ويُعنََى بجمعها، وينفق في سبيل ذلك الأموال الطائلة.

فأما القصر الملكي الذي لم يصبح قصرًا ملكيًّا، وإن احتفظ بهذا الاسم فيفوق قصورًا كثيرة في البلاد الأوروبية، ويمتاز على ما أصبح تاريخيًّا منها بأنه رغم أنه أصبح تاريخيًّا كذلك لا يزال السفراء يستقبلون فيه ليقدموا أوراق اعتمادهم، وهو إلى ذلك متحف بديع بما حوى من الصور والتماثيل والنجف والأثاث النادر، وبه إلى جانب هذا كله مكتبة حوت، فيما ذكر لنا دليلها، سبعًا وعشرين ألف مجلد، وعددًا غير قليل من المخطوطات صفت كلها في رفوفها في نظام بديع، وقد استوقفتني هذه المكتبة كما استوقفني القصر، أو أكثر مما استوقفني القصر، بما فيها من الكتب القديمة المعروضة عرضًا رائعًا، أو المجلدة تجليدًا فاخرًا، ومن هذه الكتب نسخة من القرآن الكريم.

أفيجمل بي أن أفيض أكثر مما سبق في الحديث عن مدريد، لو أنني فعلت لوجد قلمي مادة غزيرة تعاونني على وصف ما شهدت خلال الأسبوعين اللذين أقمتهما بهذه المدينة الخفيفة الروح، لكني أجتزئ بما سبق الآن، ولعل الأقدار تتيح لي أن أعود لأستمتع مرة أخرى بمباهج مدريد أضعاف ما استمتعت المرة الأولى.

على أنني لا أستطيع مع ذلك أن لا أذكر ما لقيت من ظروف الإسبان الذين عرفت بمدريد، والذين أبدوا لي من حسن اللقيا ما لن أنساه، لقد استمتعت بصحبة المستشرق الكبير الأستاذ جارسيا جومز، ودارت بيني وبينه أحاديث كان لها عمق الأثر في نفسي، وقد زرت المثَّال الكبير الأستاذ كوماندادور، ثم صحبني غداة زيارته إلى متحف أكاديمية الفنون الجميلة بمدريد، وشرح لي الكثير من صوره، ووقف معي طويلًا أمام صورة (جويا) وقد رسمها الفنان العظيم نفسه، كذلك رأيت أخرين لا أنساهم، وأود لو استطعت أن رآهم هنا بالقاهرة أو هناك بمدريد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤