الأقليات الإسلامية

وما يجب لها على العالم الإسلامي

كتبت في هذا الموضوع من أسبوعين لمناسبة الحديث عن قبر (جل بابا) ببودابست عاصمة المجر، وقد عقب الأستاذ المحترم أمين الخولي على ما كتبت بكلمة نشرتها هذه الجريدة في العدد الماضي، تناول فيها حديث جل بابا (أبي الورد) أيام حكم الأتراك المجر؛ إذ توغلوا حتى بلغوا أسوار مدينة فيينا، وأنني لأشارك الأستاذ عواطفه من أعماق نفسي، وأشكر له ما جاء في كلمته مما اهتز له قلبي، ولا أشك في أن قلوب الألوف من المسلمين الذين قرءوه قد اهتزت له كذلك.

وإني لتدعوني كلمات الأستاذ أمين لأعود اليوم إلى الموضوع الذي بدأت بتناوله منذ أسبوعين، موضوع الأقليات الإسلامية في دول كثيرة، إن هذا الموضوع لجدير بكل عناية في تقديري، وليس يرجع ذلك إلى اعتبارات دينية محدودة الأفق كما يتخيل البعض، بل إلى اعتبارات إنسانية عليا تتصل بواجبنا لإخواننا بني الإنسان، وتتصل كذلك بسلام العالم وطمأنينته، فإذا قمنا بهذه الواجبات لم يقف قيامنا بها عند أدائنا ما علينا من حق لإخواننا المؤمنين ولكمال إيماننا؛ لأن إيمان المرء لا يكمل حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، بل تعدى هذا الاعتبار السامي إلى آفاق أكثر سعة وأبعد أثرًا في حياة العالم العلمية، تعدى إلى التوازن الديني توازنًا ينتهي إلى الشعور بضرورة التضامن في السعي لبلوغ الحقيقة، ولإدراك الغاية الصحيحة من حياتنا الإنسانية.

وإذا قلت: التوازن الديني؛ فإنما أقصد إلى معني كالذي يقصد إليه الساسة حين كلامهم عن التوازن الاقتصادي والتوازن السياسي، فنحن نعيش اليوم في عالم متأثر بالفكرة القومية إلى أبعد مدى، كل أمة تعمل لحسابها الخاص كي تتفوق على غيرها من الأمم في الأسواق المالية، وفي النشاط الاقتصادي، وفي النفوذ السياسي، وكل أمة فيه تنفق من الجهد ما تستطيع وفوق ما تستطيع لبلوغ هذا التفوق، تبهظ أبناءها بالضرائب، تقيم من الجيوش لضمان تفوقها القومي ما لا تدعو إليه حاجة لولا هذا الحرص على التفوق، تعقد مع غيرها الاتفاقات والمحالفات لترجح في التوازن الدولي كفتها، تعاون على إحداث الانقلابات السياسية في بلاد أخرى إذا كان في إحداث هذه الانقلابات ما يعاونها على غايتها، تعمل لتقوية عصبة الأمم بعد الذي أصابها من تصدع تأييدًا لسياستها وهلم جرًّا، والعامل الديني من العوامل التي تلجأ إليها الأمم القوية اليوم، فهي تحاول عقد الأحلاف على أساس الصداقة الدينية، كما تحاول عقدها على أساس الصداقة السياسية، قد يكون هذا العمل ضربًا من العبث لا يُؤدي إلى نتيجة سريعة الأثر في الحياة الدولية، لكنه عامل له قيمته في تقدير الساسة، ومن يصّرفون مصائر الشعوب، ويؤثرون في توجيه هذه الحياة الدولية.

وتأثر العالم بالفكرة القومية واضح اليوم وضوحًا جعل غير القومية من الصلات في المحل الثاني من اعتبار كثيرين، وقد أدى ذلك بالبعض إلى الظن بأن هذه الصلات قد اندثرت فلم يبقَ إلى بعثها في الحياة سبيل، وهذا في رأئي خطأ بالغ، فالفكرة القومية الشديدة اللمعان والبريق في الوقت الحاضر تحمل في أطوائها من أسباب الضعف ما يخفيه هذا التباهي بمظاهر القوة الحربية تباهيًّا هو الذي ينشر نذر الحرب في أنحاء العالم المختلفة، والصلات الإنسانية الأخرى لم تندثر كما يتوهم البعض، وإنما سترها هذا التباهي من ناحية، وسترها من ناحية ثانية خداع يقوم به الساسة؛ إذ يزعمون صداقة دولة بالذات لأبناء دين من الأديان، كما تقول إنجلترا بصداقة اليهود، أو إيطاليا بصداقة المسلمين، وبسترها من من ناحية ثالثة ضعف من عدا أبناء المسيحية من الأمم خلا اليابان ضعفًا يدعوهم إلى الاستكانة أو الاستجمام إن شئت تعبيرًا أرق.

والواقع أن هذه الصلات لا يمكن أن تندثر، فالناس إنما يجتمعون حول مثل أعلى يجاهدون في سبيله ويعملون لتحقيقه، والوطنية من المُثل العليا لا ريب، كذلك كانت وكذلك ستبقى، لكنها ليست المثل الأعلى للإنسان الكامل فهي محدودة بحدود الوطن، متأثرة بالعوامل الوقتية التي يتأثر بها، أما المثل الأعلى للإنسان الكامل، فالحقيقة التي ينشدها الجميع مؤمنين بأن بلوغها هو الكمال الحق للإنسان، وهو السعادة الكاملة لبني الإنسان جميعًا، وقد حاول العلم في العصور الأخيرة التي سبقت الحرب العامة أن يستأثر بالكشف عن الحقيقة مستعينًا بوسائله الحديثة، مستغنيًا بها عن الإلهام الذاتي وعن الدين فاستبان له، بعد أن قطع خطوات واسعة استكشف أثناءها كثيرًا من قوى الكون كانت خافية علينا، أنه لا غنى له عن الإلهام الذاتي وعن الدين، وأنه لن يستطيع أن يتقدم وحده تغنيه وسائله عن سواها، بذلك بقي المثل الأعلى رهينًا بتعاون العلم والإلهام والدين، وتضامنها جميعًا في الكشف عن الحقيقة، وبذلك تبين أن الدين يعاون أصحابه ما تحرروا من قيود الجمود معاونة كبري في بحثوهم العلمية من ناحية، وفي التماسهم سبيل الهدى إلى الحق من الناحية الأخرى.

وما بلغنا من العلم حتى اليوم ينبئنا بأن الإنسانية ستظل كذلك ما بقيت؛ لأنها ستظل محصورة في حدود ما تكشف عنه قوتها المحدودة في هذا الكون غير المحدود، وما بلغنا من العلم حتى اليوم ينبئنا بأن الدين بغير علم ينتهي إلى الجمود، وإلى ما ينشره الجمود في الحياة من أوهام وأخيلة خاطئة، وبأن العلم الذي لا يستهدي الإلهام ويلتمس المثل الأعلى في الإيمان الديني البريء من أوهام الجمود؛ أقصر من أن يبلغ بنا غاية الإنسانية في الحياة، وهذا الذي ينبئنا عنه العلم يفسر لنا كيف قامت الإنسانية على الإيمان بالمثل الأعلى، وكيف كان الإخاء الديني كالإخاء الوطني سببًا من أسباب دفع الجماعات في التماسها هذا المثل، وقوة تحرك هذه الجماعات إلى النشاط في التماسه كما تحركها أقوى العواطف وأشدها توثبًا، وهذا يفسر ما قدمت من أني إذ أتحدث عن موضوع الأقليات الإسلامية أتحدث عن موضوع جدير بكل عناية؛ لاعتبارات إنسانية سامية تتصل بسلام العالم، كما تتصل برضا نفوسنا، ولا تقف في دائرة الاعتبارات الدينية المحدودة الأفق مما أنف البعض أن يثيروا به تعصب الجماعات، وجعل الآخرون دأبهم أن يحاربوه محاربة لهذا التعصب حينًا، وحرصًا على التحكم في الجماعات بإحداث التحلل المعنوي فيها حينًا آخر.

والأكثرية الدينية في الأمم تقوم بعمل جليل حين تمد يد المعونة للأقليات التي تشاركها هذا الدين في الأمم الأخرى، فهذه الأقليات لا سبيل لها إلى أن تبلغ مكانة الاحترام من نفس الأكثرية في الأمم التي تعيش فيها إلا إذا كان لها من النشاط المثمر ما يوجب هذا الاحترام، والأقليات الحكيمة تأبى أن يتجه نشاطها إلى جهة الحكم والقيام بأعبائه؛ لأنها تعلم من أنباء التاريخ أن الأكثرية الدينية أو الجنسية وأن الأكثريات على اختلاف ألوانها لا ترضى تحكم الأقليات فيها، فإذا رضيته زمنًا فستثور بعد ذلك وتحطمه، وترد حق الحكم إلى نصابه الصحيح، ذلك ما حدث منذ القدم، وذلك ما حدث في هذه العهود الأخيرة في أمم لا يشك أحد في سبقها العلمي سبقًا يضعها في الصف الأول من هذه الناحية، ومن سائر نواحي الحضارة ومقوماتها، لذلك كانت الأقليات الحكيمة تسلك إلى احترام الكثرة إياها سبيلًا غير سبيل الحكم السياسي لهذه الكثرة، سبيل التفوق العقلي، والتفوق الفني، وتلتمس لذلك الأسباب التي تبلغ بها المراكز العليا في ميادين العلم والأدب والفن وغيرها من الميادين التي يزدهر فيها العقل والعاطفة.

ولقد دعوت منذ أسبوعين وأدعو اليوم إلى مد يد العون لهذه الأقليات الإسلامية في المجر، وإلي غيرها من الأقليات من بلاد العالم في الغرب وفي الشرق، وإلى تصوير هذا العون على النحو الذي يحتاج إليه أبناء هذه الأقليات، وأدعو اليوم فأكرر هذه الدعوة وألح فيها، لا يثنيني عن ذلك أن يكون مسلمو المجر جميعًا مئتين كما قال إمام المسجد للأستاذ أمين الخولي، أو أن يكون المئتان هم مسلمي بودابست، وأن يكون بالمجر ألفان أو ثلاثة آلاف كما قال لي مفتي المجر حسين حلمي، ولست أقف هذه الدعوة على مسلمي المجر،بل أرجو أن تتناول الأقليات الإسلامية في بلاد العالم جميعًا، ولكي تكون المعاونة على أساس سليم يجب أن تدرس أحوال هذه الأقليات الإسلامية درسًا دقيقًا، ولهذا الغرض أشارك الكاتب الشرقي في مطالبة ممثلي مصر السياسيين أو القنصليين في أي من البلاد وجدوا أن يجعلوا من الموضوعات التي يوجهون جهودهم إليها دراسة هذا الموضوع دراسة خاصة، ووضع التقارير المستفيضة عنه، وفي مطالبة الحكومة المصرية بنشر هذه التقارير، فمصر تتزعم النشاط الإسلامي اليوم، والعالم الإسلامي يتطلع كله إليها ويقر لها بهذه الزعامة، فمن واجباتها الأساسية لنفسها وللعالم الإسلامي وللسلام العام أن تفكر في مد يد المعونة لهذه الأقليات، وفي دعوة البلاد الإسلامية الأخرى لهذا الغرض، ولا يكون عون إلا إذا درست حالة هذه الأقليات الإسلامية؛ ليبذل لكل منها من العون ما هي بحاجة إليه.

إنني واثق كل الثقة من أن ما يُبذل لهذه الأقليات من العون سيدفعها إلى أن تنهض نهضة كبري، فالأقليات ضعيفة ما وجدت نفسها في عزلة لا تُؤيدها قوة ولا يُمدها سند، وهي كثيرًا ما يبلغ منها الضعف حتى لا يكاد يحس بها أحد، لكنها إذا وجدت سندًا نشطت أضعاف نشاط أبناء الأكثريات وانتجت، وكان منها الأفذاذ ذوو المواهب ما لم يطمعوا في الحكم، ونحن لا نريد أن ترمى الأقليات الإسلامية إلى أن تمسك بيدها زمام الحكم؛ لأننا لا نريد أن تثور بها الأكثريات يومًا فتحطمها أو تجليها عن البلاد، كما حدث أخيرًا في ألمانيا، لكننا نُريد لهذه الأقليات الإسلامية في بيئات الغرب والشرق أن تنبعث من مرقدها، وأن تفيق من سبات الجهل، وأن تنشط إلى الحياة الإنسانية، وأن تبث المبادئ التي أورثها إياها أسلافها المسلمون في البلاد التي تقيم بها لخير هذه البلاد ولخير العالم كله.

تحدثت منذ سنوات عن كتاب نشره طائفة من علماء الغرب عنوانه: وجهة الإسلام، وهذا الكتاب يبحث في مدى رغبة المسلمين في البلاد المختلفة في الابتعاد عن مثلهم العليا إلى مثل الغرب العليا في الوقت الحاضر، وهذا الكتاب ليس إلا صورة من تفكير الغرب في أمر المسلمين، وهو تفكير طبيعي، فأهل الحضارة الغالبة في كل عصر يحرصون على أن تدين لهم الأمم الأخرى أيًّا كانت الأديان التي تنتسب هذه الأمم إليها، لكن التاريخ قد شهد بأن إخضاع الأمم للغلب المادي لم يفن عناصر حياتها العقلية والروحية يومًا ما، وعندي أن تضامن العالم للعمل لسلامه خير ألف مرة من محاولة أخضاع أكثرة بالقوة وبوسائلها، وهذه الدعوة التي أوجهها في شأن الأقليات الإسلامية بعض مظاهر هذا التضامن، فلعلها تلقى سميعًا، ولعلها تلقى من المسلمين مجيبًا، ومن أهل الشرق والغرب مشجعًا عليها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤