جراثيم التسمُّم الغذائي

أُدعى بالمطثية الوشيقية، واسمي العِلمي كلوستريديوم بوتولينوم. بكتيريا لا هوائية، موجبة الغرام. أتواجد بحالة مسالِمة في البيئة المحيطة بكم، في التربة، ومياه الأنهار، ورواسب البحار.

لا أحتاج إلى الأكسجين للنمو والتكاثر، بل على العكس أنمو وأُنتج سمومًا شديدة السمية عند حرماني من الهواء؛ ففي هذه الأوساط أنشط مولِّدةً جراثيم قادرةً على إنتاج سبعةِ أنواعٍ مختلفة من سمومي الفتَّاكة، أربعة منها تفتك بِكُم وتتسبَّب في تسمُّمكم، بينما تُسبب الأنواع الثلاثة الأخرى أمراضًا في الطيور والأسماك وغيرها من الثدييات. إلا أن سمومي هذه على الرغم من شدة فتكها ومقاومتها للحرارة سرعان ما تتلف ويتم تدميرها بالتسخين الحراري عدة دقائق على درجة ١٠٠ مئوية.

figure
كلوستريديوم بوتولينيوم.
figure
صورة مجهرية ملوَّنة إلكترونيًّا لأبواغ الكلوستريديوم.

فما إن أنتقل إلى وسط يتم فيه حرماني من الأكسجين كما هو الحال في أوعية المواد الغذائية المعلَّبة، أو المحفوظة، أو المخمرة والمجهَّزة في ظروف لا تراعى فيها شروط التعقيم والنظافة، حتى أصبح واحةً من أخطر الجراثيم التي تلوِّث غذاءكم وتسبِّب فساده.

تتواجد سمومي في مختلِف الأغذية المحفوظة والمعلَّبة حيث يغيب الأكسجين، ولا سيما في الخُضَر المحفوظة القليلة الحموضة مثل الفاصوليا الخضراء، والسبانخ، والفطر، والشمندر، والسمك المعلَّب، والسمك النيئ، والسمك المخمَّر والمملَّح والمدخَّن، ومنتجات اللحوم المملَّحة والسجق، وشراب العسل أو الذرة، ورقائق البطاطا، وعصير الجزر، والثوم المفروم في الزيت.

في مثل هذه الأغذية المحفوظة والمعلَّبة حيث يغيب الأكسجين وتقل الحموضة، أقوم بإنتاج تلك السموم بهدف تدمير أنسجة الغذاء المحيطة، ممَّا يسمح لي بالتغذية وبالتوسُّع واستعمار مناطق أخرى مجاورة.

وعندما يتناول الإنسان الغذاء الملوَّث بسمومي هذه يصاب بالتسمُّم الغذائي، فتظهر عليه الأعراض بعد بضع ساعات أو بضعة أيام من تناوله ذلك الغذاء، وتبدأ بتشنُّجات في المعدة، والإسهال أو الإمساك والجفاف، وفي نهاية المطاف يصاب بشلل ينتشر في الجسم من الرأس إلى الساقين مصحوبًا بأعراض تشمل تدلِّي الجفون، وازدواجية الرؤية، وضعف عضلات الوجه، وصعوبة في البلع، والكلام والتنفُّس الذي يصبح لدى المصاب صعبًا؛ فانتشار سمومي يوقف الرسائل التي يتم إرسالها إلى العضلات اللاإرادية التي تتحكَّم في التنفس، فيموت المصاب نتيجة الاختناق.

أما الأعراض عند الأطفال الرضع فتشمل الإمساك، وفقدان الشهية، والضعف العام، وتغيُّر صوت البكاء، وفقدان التحكم في حركة الرأس على نحو واضح، وصعوبة إطعامهم أو رضاعتهم بسبب صعوبة البلع.

وفي حالة الإصابة الشديدة تعرقل سمومي الوظائف العصبية عند هؤلاء الأطفال مسبِّبةً شللًا تنفسيًّا وعضليًّا قد تؤدِّي إلى الوفاة.

تشكِّل الجروح المفتوحة في جسم الإنسان طريقًا آخر لوصولي إليه؛ حيث تجد أبواغي بيئةً لا هوائية مناسبة في تلك الجروح، فتنمو فيها وتتكاثر منتجةً سمومًا تتشابه أعراضها مع أعراض التسمُّم المنقول بالغذاء. وتكثر حالات الإصابة بأبواغي بهذه الطريقة عند مُدمني المخدِّرات، وخاصةً أولئك الذين يستخدمون حقن الهيروين.

ونادرًا ما تحدث العدوى عن طريق الاستنشاق إلا في حالات الحروب البيولوجية التي يتم فيها نثر أبواغي بتراكيز كبيرة في بيئة الخصم؛ حيث تبدأ أعراض التسمُّم في الظهور في غضون من يوم إلى ٣ أيام في حالات الإصابة الشديدة. وتتطوَّر الأعراض بطريقة مشابهة لتطوُّرها عند ابتلاع سمومي عن طريق الغذاء، وتتمثَّل في ذروتها في الشلل العضلي والفشل التنفسي.

وأنتقل إلى أمعاء الأطفال الرُّضع الذين يتم تغذيتهم على العسل الملوَّث بأبواغي قبل بلوغهم سنةً واحدة من العمر؛ حيث تتحوَّل هذه الأبواغ إلى جراثيم تغزو الأمعاء وتنشر السموم نتيجة عدم تشكُّل وسائل دفاعية طبيعية في أمعائهم قادرةً على مقاومة سمومي في هذا العمر.

لا تناسبني أوساط الغذاء الحامضية التي تقل فيها درجة الحموضة عن «٤٫٦»؛ فلا أنمو ولا تتشكَّل سمومي فيها، غير أن سمومي التي تشكَّلت سابقًا في الوسط العادي لن تتفكَّك إذا تحوَّل إلى وسط حمضي.

إن نظافة الماء الذي تشربونه، أو تستخدمونه، ونظافة الغذاء، والطهي الجيد لأغذيتكم، وفصل الأغذية النيئة عن المطهوة، والحفاظ عليها في درجات حرارة مأمونة، هي شروط أساسية لمنع تشكُّل سمومي، وبالتالي الوقاية من التسمم الغذائي الذي أسبِّبه لكم.

يؤثِّر السم الذي أُنتجه على أعصابكم؛ فيوقف إطلاق الإشارات الكيميائية من النهايات العصبية. وهذا يعني أنه لا يمكن تمرير الإشارات العصبية إلى الخلايا المجاورة، سواء كانت خلايا عصبيةً أخرى أو خلايا عضلية، مسبِّبًا لشلل ارتخائي.

وقد استفاد الإنسان من هذه الخاصية على الرغم من خطورتها، واستطاع ترويض سمومي، وتخفيفها والسيطرة عليها، والاستفادة من خصائصها لأغراض طبية، أو لأغراض التجميل التي راحت تنتشر على نطاق واسع بين الرجال والنساء من بني البشر؛ فراحوا يستخدمون سموم جراثيمي من النمط الأول (آ) بعد تطهيرها وتخفيفها بقدر كبير لإنتاج مستحضر صيدلاني أطلقوا عليه اسم «البوتكس» أو توكسين البوتولينيوم (آ)، ويُستعمل في المقام الأول في الحَقن لأغراض طبية، أو لأغراض التجميل؛ حيث يعطى في أماكن الرعاية الطبية، ويُصمَّم خصوصًا وفقًا لاحتياجات المريض رغم وجود بعض الأعراض الجانبية والسمية التي يسبِّبها هذا المركب الناتج من تخفيف سمومي.

فالبوتكس هي مادة يتم استخراجها من سمومي، لاستعمالاتها الأساسية في طمس تجاعيد عضلات التعبير في الوجه حتى الصغيرة منها، بحيث يمكنها شل حركة هذه العضلات التي تُعاني من فرط النشاط، وهكذا يمكنها تقليل أو إخفاء هذه التجاعيد لفترة معيَّنة من الوقت. كما يتم استخدامها لعلاج التشنُّج غير الطوعي في الجفون واضطرابات الرموش، وتشنُّج العنق، وتصحيح أوضاع الحَوَل في العين، وتُستخدم أيضًا لعلاج تشوُّه كفة القدم الناتج عن تشنُّجات غير طوعية لدى الأطفال الذين يعانون من الشلل الدماغي في عمر السنتين فما فوق، كما يتم استخدامها في علاج فرط التعرُّق الشديد، فتعمل على إزالة مُسبِّباته الزائدة عن الحد.

إن حقن المجموعة العضلية المستهدفة في جزء محدَّد من جسمكم بجرعات مخفَّفة كثيرًا من المادة المستخرجة من سمومي؛ يؤدِّي بعد فترة تتراوح بين ٤ إلى ٧ أيام إلى شلل مؤقت في العضلات؛ ممَّا يؤدِّي إلى تسوية الجلد الكاسي لها وتنعيم الخطوط والتجاعيد الناجمة عن تقلُّصات العضلات في الوجه، ثم يتراجع الشلل بعد قرابة ٣ إلى ٦ أشهر.

وحديثًا بدأ التفكير باستخدام مركَّبي هذا في علاج حركات العضلات غير الطوعية لدى مرض باركينسون وعلاج الصداع النصفي، بهدف التقليل من آلامه والحدِّ من تكراره.

figure
أماكن حقن البوتوكس لعلاج الصداع النصفي.

يتم استخدام سمومي (توكسين البوتولينوم) عن طريق حقنها من خلال الجلد أو عن طريق العضل مرةً كل ٣–٤ شهور. ويمكن أن تسبِّب الجرعةُ الزائدة الموتَ نتيجةً لشلل عضلات الوجه والذي من شأنه أن يشل عضلات التنفس، مسبِّبًا ضيق النفس الشديد.

أنا جرثومة التسمُّم البوتوليني، لست ضارة، ولا تظهر أعراض الإصابة نتيجة تواجدي في الطبيعة بوجود الهواء، ولكنني أُنتج مادةً شديدة السمية عند حرماني من الأكسجين، كأن أكون مع الغذاء المحفوظ داخل العلب أو الزجاجات المغلقة، أو في التربة الراكدة أو الطين، أو في داخل جسم الإنسان أحيانًا، عندها أفرز سمًّا فتاكًّا، هو من أكثر المواد الموجودة في الطبيعة سُمية، ويمكنكم تجنُّب سمومي ومنعها من الوصول إلى جهازكم الهضمي بالابتعاد عن تناول الأطعمة الموجودة في العلب المنتفخة أو المتسرِّبة أو المشوَّهة، أو تلك التي تنطلق منها الغازات والأطعمة عند فتحها؛ فنشاطنا أنا والآلاف من أخواتي هو من يسبِّب هذه الغازات وانتفاخ العلب وانفجارها أحيانًا نتيجة إغلاقها المحكم وارتفاع الضغط الذي تُولده غازاتنا داخلها.

figure
انتفاخ المعلَّبات دليل على تلوُّث محتوياتها ووجود نشاط جرثومي في داخلها.

كما يمكنكم تسخين الطعام المعلَّب زيادةً في الأمان؛ فسمومنا التي ننتجها من أبواغنا تحت الظروف اللاهوائية يتم تدميرها بالغليان، ويفيدكم في ذلك نقع المعلَّبات قبل فتحها في الماء المغلي عدة دقائق.

أمَّا الأنواع الثلاثة الأخرى من سمومي التي أُنتجها فلها تأثيرها على صحة حيوانات المزرعة والطيور الداجنة التي تربُّونها؛ مثل الخيول والأبقار والأغنام والماعز والدجاج والبط والإوز وغيرها، فما إن تتناول هذه الحيوانات الأعلاف الملوَّثة بأبواغي وسمومي حتى تظهر عليها أعراض الشلل الرخوي بعد ساعات، فترتخي عضلات جسمها، وتنهار وتُصبح غير قادرة على الوقوف والمشي.

figure
الشلل الرخوي الذي يميِّز التسمُّم الغذائي في الماشية.

تؤثِّر سمومي على قطيع الأبقار في المزرعة من جميع الأعمار؛ حيث تتفشَّى علامات الإصابة بالتسمُّم بشكل مفاجئ في القطيع بعد تناول العلف الملوَّث في غضون ساعات وحتى عدة أيام، وذلك حسب كمية السموم المتناوَلة، فتظهر الأبقار منهارةً ضعيفة مشلولة، وتكون حركتها متعثِّرةً غير متناسقة، يبدأ الضعف والشلل في الساقَين الخلفيتين، ثم يتقدم نحو الرأس مؤديًا إلى شلل عضلات الوجه والفك واللسان، فتصبح الحيوانات غير قادرة على تناول الطعام أو الشراب، ويتدلَّى لسانها من الفم، وتتدلَّى جفونها نتيجة الشلل، ويضطرب تنفُّسها، ثم يعقبها الموت المفاجئ، مع ارتفاع معدَّل الوَفَيَات خلال الأسبوع الأول من تفشِّي الإصابة.

تؤثِّر سمومي أيضًا على الكلاب والقطط التي تربُّونها أو تلك الشاردة في البيئة المحيطة بكم؛ نتيجة أكلها الحيوانات الميتة، أو اللحوم النيئة الملوَّثة بجراثيمي التي تنمو وتتكاثر عليها وفي داخلها، منتِجةً الأبواغ والسموم التي يتم امتصاصها في أمعاء تلك الحيوانات، فتدخل مجرى الدم، ثم يتم حملها وتوزيعها إلى جميع أنحاء جسمها، فترتبط بالخلايا العصبية مسببةً شللها.

كما أن الطيور الداجنة في المزارع أو تلك الموجودة في الطبيعة هي الأخرى معرَّضة للإصابة بحالات التسمُّم وظهور أعراض الشلل والموت نتيجة تناولها الغذاء الملوَّث بأبواغي وسمومي.

أنا جرثومة التسمُّم الغذائي، الضارة النافعة. أُحب العيش في أوساط أغذيتكم المحفوظة بمعزل عن الهواء؛ ففيها أتكاثر وأُنتج أبواغي وسمومي. اسمي العلمي كلوستريديوم بوتولينوم، أنتمي إلى نوع المطثية الوشيقية، جنس المطثية، من الفصيلة المطثاوية، في رتبة الكلوستريدياليس، طائفة البكتريا المطثية، من شعبة متينات الجدار، مملكة البكتريا، وينتهي نسبي إلى نطاق الجراثيم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤