نشأة السؤال الهوميري

وهكذا تأكَّد لنا أن هوميروس كتب الأوديسة وأنه هو الذي كتبها. لم يتزعزع أبدًا اعتقاد العصور القديمة في حقيقة التأليف التاريخية. ومن هذه النقطة لا بد أن جميع المجادلات حول المسألة الهوميرية، قد نشأت. والحكم هو أنه لم تكن هناك مؤلَّفاتٌ مكتوبة في بلاد الإغريق، يُعرف أنها أقدم من منظومتَيْ هوميروس. كما ثبت أيضًا أنه لم يترك الشعر خلفه مكتوبًا، وإنما تركه في صورةٍ ملائمةٍ للحفظ عن ظهر قلب. وقد ضمت أجزاء الأوديسة بعضها إلى بعض، فيما بعد، عندما جمع مختلف الأناشيد؛ ومن ثم نشأ بها عدة تناقضات، تأثرت بها.

هذا هو رأي المؤرخ اليهودي جوزيفوس Josephus، الذي كتب في العصر الأول الميلادي، ولكن هذا كان قد ثبت من قبل في القرن الأول ق.م. حيث قال شيشيرون Cicero: إن الأناشيد ضمت معًا في عهد الطاغية الإغريقي بيزيستراتوس Pisistratus، تتفق مع الملاحظات التي أخذت من لونجينوس، مع وجهة النظر هذه، وهي: أن الشيخوخة أو الانتقال شفويًّا، يمكن أن تحدث تلك التناقضات. وليست هذه فكرة كاهن فرنسي من القرن السابع عشر — «لم يوجد هوميروس أبدًا» — هي النتيجة المنطقية التي يمكن استخلاصها من تلك التناقضات طالما كان للناس عيون لَمَا ذهب الشعر الهوميري ذاك. وماذا تهم الاختلافات البسيطة التي لاحظها علماء الإسكندرية من قبل، ثم زالت إلى حدٍّ ما؟ صاغ هوراس Horaçe هذه هكذا: «وحتى «هوميروس» الطيب، يطأطئ رأسه أحيانًا. ما أغرب تلك الفكرة، أن تشك في وجوده لأنه كان يتنفَّس أحيانًا!»
قد يسجل المرء، ويذكر السبب في وجود تلك الاختلافات في النص، ولكن العلماء ذهبوا إلى أبعد من هذا، وإما أنهم خدعوا هوميروس، أو نسبوا الإلياذة والأوديسة إلى مؤلفين آخرين، أو أنهم وجدوا عدة مؤلفين وناشرين وجامعيين يعملون على شتى أجزاء القصيدتين، ولكن ما من أحد من هذه الحلول الجانبية، كان هو نتيجة الاكتشافات التاريخية الحديثة. كان العصر التاريخي الجديد الوحيد نوعًا من الخسوف. هل كانت صفة هوميروس ضعيفةً لدرجة أن يُصيبه الخسوف، أم هي الاستجابة لصفات هوميروس السامية التي أخفقت؟ هل فقدت أعمال الفن الهندسي الأثيني قيمتها لمجرد أن أول شخصٍ حفر وجدها متناقضةً فحكم خطأ؟ أم أن الأذواق فقط هي التي تغيرت، مثلما حدث في بلاد الإغريق نفسها في القرن التالي بالنسبة إلى الفن الهندسي — وليس بالنسبة إلى هوميروس، حتى بعد ثمانية قرون لاحقة؟ يتميز القرن السابع عشر، وهو العصر الكلاسيكي الفرنسي، بتغير مماثل في الذوق جعله أقرب إلى فرجيل Virgil منه إلى هوميروس، اشتهر فرجيل بأنه أشهر شعراء البطولة. وبالطبع، لو اعتقد أن فرجيل نال بريق الذهب، فإن هوميروس يبدو من معدن أدنى.
يؤكدون لنا في ألمانيا أن هوميروس كان في القرن الثامن عشر «إله الأدب الكلاسيكي»، وأن إنكار وجوده الذي ذاع بصورةٍ خطيرة، كما ظهر في طبعة علمية من الإلياذة، وكما كان فيما بعد موضع نقد الأناجيل، لا بد أن إنكاره ذاك كان أشبه بالتجديف على المقدسات. غير أن ما نبذ أخيرًا هو إله نمق بدقة ليتخذ صورته ويصور تبعًا للنماذج الكلاسيكيَّة الكاذبة. كانت الصورة عرفية ولذا أثارت إحساسًا من الشك ونوعًا من الوعي المذنب لا سيما وأن العقول لم تستقر بعد بالمناظر الجديدة وبمؤلَّفات جوهان جوتفريد هيردر Johann Gottfried Herder، وبموجة الميل إلى «أصوات الشعب». وقد انفتحت الاتصالات بالشرق الأدنى وبآراء الممكنات إن لم تكن بآراء حقيقة أناشيد شعر البطولة الأصيل. انفتحت هذه بواسطة كتاب روبرت وود Robert Wood عن «العبقرية الأصلية» لهوميروس، الذي كان نفوذه في ألمانيا أقوى منه في إنجلترا. ومن ناحية أخرى، أصدر جون فلاكسمان John Flaxman كتابًا صوَّر فيه الإلياذة والأوديسة، كان ذا نفوذٍ على الشعب المتعلم في إنجلترا وفي كل مكان. كان تصوير فلاكسمان هذا شيئًا أشبه بتصوير جوتيه Goethe في مؤلفه «إيفيجينيا Iphigenia» وقد حاكى جوتيه فجعل الأغارقة مثلًا عاليًا. هذا، ويجب أن يتذكر المرء أن آخر تاريخ ممكن لهوميروس هو عصر الفن الهندسي في القرن التاسع إلى القرن الثامن ق.م. ولكن العلماء الكلاسيكيين عقدوا اجتماعًا لمناقشة موضوع وجود تعليم أدبي في عصرَيْ جوتيه وفلاكسمان.
ليس أسلوب هوميروس هندسيًّا ولكن عمله أضاف اتساعًا لعالم بسطه الفن الهندسي. وأضاف إلى عالم الحرب اللاإنساني، إمكان الشفقة الإنسانية، كما أضاف إلى عالم الآلهة المتعجرف والمتكبر، رحمة الآلهة، ونصيبًا في معاناة الإنسان. وقدم إلى حقيقة وجود الإنسان إمكان أن تأخذ الآلهة نصيبًا منه. لقد أُزِيحَت الحواجز وحُرِّكت الأشياء غير المتحركة، ويمكن قياس مدى أعماله ونفوذها المحرر، بمقارنتها التناقضية بالفن الهندسي، وليس بمقدور فن فلاكسمان أن يتخذ كمعيار للحكم عليها، وإذ تأثر جوتيه بالتأكيد الصحيح لعالم كلاسيكي ذي شهرة علمية، لم يخالجه أي شك في كل هذا. وإذ خلص نفسه من شبح «هوميروس المقدس»، بقراءة ذلك الكلام العلني رغم كونه غير أصلي، فإنه، وهو الخبير، قنع بأن يكون آخر أتباع «هوميروس Homerids»، بمؤلفه «هيرمان ودوروثيا Hermann und Dorothea» ومن المحتمل أن يكون قد عرف أخيرًا، عن طريق مؤلف عن أخيلياته Achilleis، عرف مؤلف الإلياذة بصورة أحسن، واقتنع، أكثر مما كان في أي وقتٍ مضى، بوحدة تلك القصيدة وعدم قابليتها للتجزئة. لم يحاول أن يصدر حكمًا موضوعيًّا على المسألة الهومرية؛ إذ سيطرت عليه بقوةٍ انفعالاته الموضوعية. وذات مرة، ذهب إلى ما هو أبعد من المسرح. تذكر «الشعور بالألم» الذي عمَّ كل أصدقاء الشعر وأفسد بهجته. وعندما دُعيت شخصية هوميروس، ووحدة مؤلف أشعاره البطولية ذي الشهرة العالمية، فبرهنت على الجرأة والكفاءة، حدث هذا في سنة ١٨٢١م، واستمر الجدل أكثر من عشرين سنة. اعتقد أنه من الضروري حدوث انقلاب تام في «الرأي العالمي» — وإنه ليقصد، دون أقل شك، ميول القارئ المثقف، أن تؤمن بهوميروس — ليسمح للمدافعين عن وجهة النظر القديمة بفسحةٍ من الحرية مرة أخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤