الأنشودة الثانية

«… وتكلم الحلم السماوي قائلًا: أصغِ إليَّ يا ابن أتريوس، إنني موفدٌ إليك من قِبَل «زوس» وهو يأمرك بأن تسلِّح الآخيين ذوي الشعر المسترسل بأقصى سرعة؛ لأنه يمكنك الآن أن تستوليَ على مدينة الطرواديين الفسيحة الطرقات!»

كيف خدع «زوس» أجاممنون في الحلم! … وما تلا ذلك من احتشاد «الآخيين» ومضيهم إلى المعركة، وأسماء قادتهم وقادة الطرواديين وتعداد كِلا الجيشَين، إلخ.

الحلم!

نام جميع الآلهة الآخرين والمحاربين قادة العربات، طوال الليل كله، ولكن زوس لم يحظَ بالنوم الهنيء؛ لأنَّه كان مشغولًا بالتفكير في كيفيَّة الانتصار لأخيل وإنزال الهلاك بالكثيرين من الآخيين بجوار سفنهم، وأخيرًا هداه تفكيره إلى أن خير طريقة هي أن يرسل حلمًا خبيثًا إلى أجاممنون بن أتريوس؛ ومن ثم نادى الحلم وخاطَبَه بكلمات مجنحة قائلًا: «قم أيها الحلم الخبيث، وتوجه إلى سفن الآخيين السريعة، وعندما تبلغ خيمة أجاممنون بن أتريوس، أخبره بكل كلمةٍ من كلماتي بحق، وكما آمرك. مُره بأن يسلح الآخيين ذوي الشعر المسترسل بمنتهى السرعة، حيث إنه قد حانت فرصته لأن يستوليَ الآن على مدينة الطرواديين الفسيحة الطرقات؛ لأن الآلهة الخالدين، الذين يقطنون فوق أليمبوس، ما عادوا منقسمين في الرأي بعد الآن؛ حيث إن هيرا قد حوَّلَت آراء الجميع بتوسُّلها، وستحلُّ الكوارث فوق رءوس الطرواديين.»

وإذ قال ذلك، انطلق الحلم في طريقه بمجرد سماعه هذا الكلام، ووصل من فَوْره إلى سفن الآخيين السريعة، وهناك شقَّ طريقه إلى أجاممنون بن أتريوس، فوجده نائمًا في خيمته، مستغرقًا في النعاس الإلهي. فوقف فوق رأسه في صورة ابن «نيليوس Neleus»١ نسطور، الذي كان يحترمه أجاممنون احترامًا بالغًا، دون سائر الكهول. وبعد أن تقمص هيئته، تكلَّم الحلم السماوي قائلًا: «إنك تنام يا ابن أتريوس الحكيم القلب، ومروض الخيول، يبدو أن النوم طوال الليل ليس عمل رجل مثلك يشغل منصب المستشار، وفي عهدته جيش، وعليه تتوقف مصالح عديدة. أصغِ إليَّ، الآن، بسرعة، فإنني موفد إليك من قِبَل زوس، الذي رغم بعده، يوليك اهتمامًا بالغًا. إنه يأمرك بأن تسلح الآخيين ذوي الشعر المسترسل بأقصى سرعةٍ ممكنة؛ لأنه يمكنك الآن أن تستولي على مدينة الطرواديين الفسيحة الطرقات، حيث إن الآلهة الخالدين الساكنين فوق أوليمبوس، ما عادوا منقسمين في الرأي بعد الآن؛ لأن هيرا قد حوَّلت آراء الجميع بتوسلها، وفوق الطرواديين ستحل الكوارث بإرادة زوس. احتفظ بهذا الأمر في قلبك، ولا تدع النسيان يتملَّكك عندما يطلق النوم العذب سراحك!»

هكذا تكلم الحلم وانصرف، وتركه هناك، منشغلًا بالتفكير في أمورٍ ليس لها أن تخرج إلى حيز الوجود؛ لأنه ظن حقيقة أنه سيستولي على مدينة «بريام» في نفس ذلك اليوم، فما أحمقه! إنه لم يعلم ما يدبِّره زوس من أعمالٍ كفيلةٍ بأن تجلب الكوارث والأنين على كلٍّ من الطرواديين والدانيين على السواء، في قتالهم العنيد. ثم استيقظ من نومه، وكان الصوت السماوي لا يزال يرن في أذنيه. فاعتدل جالسًا، وارتدى عباءته الناعمة الجميلة الجديدة، وألقى حول جسمه معطفه الكبير، وربط صندله الجميل تحت قدميه البراقتين، وعلى كتفيه علق سيفه المطعم بالفضة، وأمسك صولجان آبائه، الذي لا يتحطم أبدًا، ثم شق طريقه بمحاذاة سفن الآخيين البرونزية الطلاء.

وصعدت ربة الفجر إلى جبل أوليمبوس الشاهق لتعلن مشرق النهار لزوس والخالدين الآخرين، غير أن أجاممنون أمر المنادين ذوي الصوت الجهوري بأن يدعوا الآخيين ذوي الشعر المسترسل إلى مكان الاجتماع. فقاموا بالدعوة، وسرعان ما تجمَّع سائر الرجال.

المحنة!

والتأم شمل الشيوخ ذوي النفوس الكبيرة بجانب سفينة «نسطور»، الملك المولود في «بولوس»، وبعد أن اكتمل جَمْعهم دبَّر أجاممنون خطةً حكيمة، فقال: «أصغوا إليَّ يا أصدقائي، لقد جاءني من السماء في نومي إبان الليلة القدسية، وكان الرسول شبيهًا جدًّا بنسطور العظيم، في الشكل والقوام والبنية، وقد اتخذ وقفته فوق رأسي، وتكلم إليَّ قائلًا: «إنك تنام، يا ابن أتريوس، الحكيم القلب، ومروض الخيول، لكن النوم طوال الليل ليس عمل رجل يشغل منصب المستشار، وفي عهدته جيش، وعليه تتوقف مصالح خطيرة، فأصغِ إليَّ الآن بسرعة؛ لأنني موفدٌ إليك من لدن زوس، الذي رغم بعده، يوليك اهتمامًا بالغًا، وشفقة زائدة. إنه يأمرك بأن تسلح الآخيين ذوي الشعر المسترسل بمنتهى السرعة، حيث إنه يمكنك الآن أن تستولي على مدينة الطرواديين الفسيحة الطرقات؛ لأن الخالدين الساكنين فوق أليمبوس ما عادوا منقسمين في الرأي؛ فقد حولت «هيرا» آراء الجميع بتوسلها، وستحل الكوارث فوق الطرواديين بإرادة زوس. فاحتفظ جيدًا بهذا الأمر في قلبك. قال هذا ثم ابتعد طائرًا واختفى، وإذا بالنوم العَذْب يهجرني. والآن هيا بنا، فلعلنا نستطيع تسليح أبناء الآخيين، ولكن هل لي أولًا أن أحاولَ التحدُّث إليهم — كي أجرِّبهم! — فآمرهم بالهروب في سفنهم ذات المجاذيف المتعدِّدة، وهل لكم أن تتحدَّثوا إليهم بعد ذلك من هذا الجانب وذاك حتى تردوهم على أعقابهم»؟»

figure
لوحة رائعة للفنان «جيدو ريني»، تمثل الإله «أبولو» يقود عربته التي تجرها الخيول الإلهية تتقدمه «أورورا» ربة الفجر، وحوله سبع حسان يمثلن الساعات التي انصرمت من الليل قبل شروق الفجر!

وبعد أن قال هذا استوى جالسًا، ثم نهض في وسطهم «نسطور»، الذي كان ملكًا على «بولوس» الرملية، وبحسن طوية خاطب حشدهم قائلًا: «أصدقائي، قادة وحكام «أرجوس»، لو قص علينا هذا الحلم شخص آخر من الآخيين، لحق لنا أن نرتاب في صدقه، ولازددنا ابتعادًا عنه، أما وقد رآه من يعلن عن نفسه أنه يفوق الآخيين بأسًا، فالأمر يختلف، والآن، هيا بنا نسلح أبناء الآخيين!»

قال هذا وشق طريقه منصرفًا من المجلس فورًا، ونهض الملوك الآخرون ذوو الصولجانات، في نفس اللحظة، فأطاعوا راعيَ القوم، وعندئذٍ هُرعت الجماهير نحوهم. وكما تتدفق أسراب النحل من بعض الصخور الجوفاء، مجددة تدفُّقها باستمرار، وتحط جماعات منها فوق أزهار الربيع، البعض هنا والبعض هناك هكذا سارت جحافلهم، متدفِّقة في زرافات عديدة من السفن والأكواخ، أمام ساحل البحر المنخفض، إلى الاجتماع. وكانت تتألَّق في وسطهم كالشعلة «رومور Rumour»، رسولة زوس، تحثهم على الذهاب. وإذا اجتمعوا، سادَت الفوضى مكان الاجتماع، واهتزَّت الأرض تحت أقدام المحاربين حين جلسوا، وعلا صخبهم. وقام تسعة منادين يصيحون، محاولين إسكاتهم، بقدر المستطاع، حتى يُصغوا بآذانهم إلى الملوك الذين أقامهم زوس. وفي النهاية، وبصعوبةٍ، جلس الناس ولبثوا في أماكنهم هادئين، وعندئذٍ قام أجاممنون في وسطهم، يحمل في يدَيْه الصولجان الذي أتقن «هيفايستوس» صنعه، والذي كان قد أعطاه لابن كرونوس، فأعطاه زوس للرسول «أرجايفونتيس» وأعطاه السيد «هيرميس»،٢ للفارس بيلوبس٣ فأعطاه بيلوبس بدوره إلى أتريوس، راعي القوم، وتركه أتريوس بعد موته إلى «ثويستيس Thyestes»،٤ الغني بقطعانه ثم تركه ثويستيس لأجاممنون ليحمله، حتى يمكنه بذلك أن يصير سيدًا على جزرٍ كثيرة وعلى جميع أرجوس، فاتكأ هذا عليه، وقال كلمته في أهل أرجوس: «يا أصدقائي، يا أيها المحاربون الدانيون، يا خدم «أريس»،٥ إن زوسَ العظيم ابنُ كرونوس، قد أوقعني في شرك أسى محزن، فما أقساه من رب! فقد وعدني منذ زمن طويل — وأحنى رأسه علامة الموافقة على ذلك — بأنني لن أعود إلى وطني قبل أن أنهب طروادة المحكمة التحصين، بيد أنه قد حاك خدعة قاسية؛ إذ يأمرني الآن بالهجوم دون تدبُّر؛ كي أعود إلى أرجوس محتقرًا ذليلًا، بعد أن أكون قد فقدت كثيرًا من رجالي. هذه، حسب اعتقادي، هي الخطة التي تُدخل السرور على قلب زوس الجبَّار، ذي البأس، الذي أذل كثيرًا من البلدان. نعم، ولا تزال بلدان أخرى تنتظر نفس المصير لأن قوته تفوق الجميع. إن هذا لَعار، حتى على سمع من سيأتي بعدنا من الأقوام؛ كيف أن جيشًا عظيمًا هكذا، وضخمًا بهذه الدرجة، يحارب عبثًا، في حرب لا طائل منها، ضد أعداء يقلون عنه عددًا، ومع ذلك فلا تبدو لهذه الحرب نهاية! نعم، فلو عقدنا النية، آخيين وطرواديين، وأقسمنا قسمًا لا حنث فيه، على أن نحصي أنفسنا، وجعلنا نحن الآخيين أنفسنا صفوفًا من عشرات، واختارت كل جماعةٍ منا رجلًا من الطرواديين ليسكب خمرها، إذن لاحتاجت عشرات كثيرة منا إلى حامل كأس! وهكذا، أعتقد أن أبناء الآخيين يفوقون الطرواديين الذين يقطنون في المدينة، عددًا. غير أن حلفاء كثيرين خفوا إليهم من عدة بلدان ورماحهم في أيديهم، وهم يعوقونني بشدَّةٍ عن تحقيق هدفي، ولا يدعونني أبلغ غايتي من تحطيم أسوار قلعة طروادة الآهلة بالسكان. لقد انصرمت تسع سنوات على وعد زوس العظيم، وإنا لنرى أخشاب سفننا يصيبها السوس، وحبالها قد تآكلت، وزوجاتنا وأطفالنا، على ما أظن، يجلسون في بيوتنا ينتظروننا، ومع ذلك فلم نُنجز المهمة التي من أجلها قدمنا إلى هنا! ولكن هيا نذعن جميعًا للنصيحة التي سأنصحكم بها: هلم بنا نهرب بسفننا إلى وطننا العزيز، لأنه لم يبقَ هناك أمل في استيلائنا على طروادة الفسيحة الطرقات!»
figure
«هيرميس» رسول الآلهة، كما صوَّره فنَّان مجهول في تمثالٍ رائع من البرونز، معروض الآن في المتحف الأهلي بمدينة «نابولي» بإيطاليا.
وإذ قال هذا أثار الحمية في صدور جميع الحشد، الكبير العدد، وكان الكثيرون منهم لم يحضروا المجلس. وأثير الجمع، كما تثير الريح الشرقية أو الجنوبية أمواج البحر الإيكاري٦ العالية وهي تهب عليها من سحب الأب زوس، أو كما تثير الريح الغربية، في هبوبها، حقل قمح غزير بقوتها العنيفة، فتحني السنابل تحتها، هكذا أيضًا أُثير جميع حشدهم، فهجموا على السفن وهم يصيحون صياحًا عاليًا، وارتفع الغبار من تحت أقدامهم إلى أعلى، وراح كل واحدٍ ينادي زميلَه كي يُمسك بالسفن ويجرها إلى البحر المتألق، وأخذوا يفسحون طرق إنزال السفن إلى البحر، وقد ارتفع صياحهم إلى عنان السماء، وكانوا شديدي الرغبة في العودة إلى وطنهم، وشرعوا ينزعون الدعامات من أسفل السفن.

إذن فقد كاد أهل أرجوس ينفِّذون عودتهم إلى وطنهم، رغم إرادة الأقدار، لولا أن هيرا قالت لأثينا: «عليك بهذا، يا ابنة زوس حامل الترس، يا من لا تتعبين! أحقًّا أن أهل أرجوس يعتزمون الفرار إلى وطنهم العزيز فوق سطح البحر العريض، وأنهم بذلك سيتركون فخرهم لبريام والطرواديين يتركون هيلينا الأرجوسية، التي من أجلها هلك كثيرٌ من الآخيين في طروادة، بعيدًا عن وطنهم المحبوب؟ اذهبي الآن وسط جيش الآخيين ذوي الحلل البرونزية، وبكلماتك الرقيقة حاولي أن توقفي كل رجل، ولا تحمليهم عناء جر سفنهم المقوسة إلى البحر.»

قالت ذلك، بينما لم تكفَّ الربة «أثينا»، ذات العينَين النجلاوَين، عن الإصغاء، ثم هبطت مندفعةً من قمم أوليمبوس، وسرعان ما بلغت سفن الآخيين السريعة. وهناك وجدت «أوديسيوس»، نظير زوس في رجاحة الرأي، واقفًا. ولم يكن قد وضع يده بعدُ على سفينته السوداء؛ إذ قد عصف ذلك الحزن بقلبه وروحه، فوقفت أثينا البراقة العينين بالقرب منه، وقالت: «أي ابن «لايرتيس Laertes»،٧ سليل زوس، أي «أوديسيوس» يا كثير الحيل، أحقًّا أنكم سوف تعتلون ظهور سفنكم ذات المجاذيف الكثيرة لتهربوا إلى وطنكم العزيز؟ وأنكم ستتركون لبريام والطرواديين «هيلينا» الأرجوسية، موضع فخرهم، التي هلك من أجلها كثيرٌ من الآخيين في طروادة، بعيدًا عن وطنهم المحبوب؟ ألَا اذهب الآن وسط جيش الآخيين، ولا تكبح جماح نفسك أكثر من هذا، وبكلماتك العذبة حاول أن تمنع كل رجل، ولا تحملهم عناء جر سفنهم المقوسة إلى البحر.»
figure
تمثال للربة «أثينا» ربة الحكمة، معروض بالمتحف الأهلي بمدينة «أثينا» وهو منقولٌ منذ زمن بعيد عن تمثال «الربة أثينا» للمثال الخالد «فيدياس».

وإذ قالت هذا، عرف هو صوت الربة وهي تكلمه فانطلق يجري، وخلع عنه عباءته فالتقطها سائقه «يوروباتيس الإيثاكي»، الذي كان يقوم بخدمته. وذهب هو بنفسه مباشرةً إلى أجاممنون بن أتريوس، فتسلَّم من يده صولجان آبائه، الذي لا يبلى قط، وشق به طريقه بمحاذاة سفن الآخيين ذوي الحلل البرونزية. وكان كلما قابل أحدًا — سواء أكان رئيسًا، أم صاحب مكانة — يذهب إلى جانبه ويحاول إيقافه بألفاظٍ رقيقة، قائلًا: «سيدي، يبدو أنه لا داعيَ لفزعك كما لو كنت جبانًا، فهل لك أن تجلس أنت نفسك وتدع باقي شعبك يجلس. فإنك لست تعرف بوضوحٍ ماذا يدور في عقل ابن أتريوس. إنه الآن يجرِّب فقط، وسرعان ما سيضرب أبناء الآخيين. ألم نسمع جميعًا ما قاله في المجلس؟ حذار، خشية أن يدبِّر في غضبه شرًّا لأبناء الآخيين، فإن قلب الملوك يزهو؛ لأن لهم حظوةً عند السماء، ومجدهم من لدن زوس. وزوس، رب المشورة، يحبهم!»

بيد أنه كان لا يرى أحدًا من الناس يُزمجر، إلا ويضربه بصولجانه، ويعنِّفه بقوله: «اجلس هادئًا، أيها الزميل، وأصغِ إلى كلام مَن هو أفضل منك إذ إنك جبان وضعيف، لا يُعتمد عليك في حربٍ أو مشورة، إننا لا نستطيع جميعًا أن نُصبح ملوكًا هنا، بأية حالٍ من الأحوال. فما كثرة السادة بالشيء الحسن، ولم يمنح ابن كرونوس، ذو المشورة الملتوية، الصولجان والأحكام إلا لملكٍ واحد، كي يستطيع أن يُسديَ النصح لقومه.»

هكذا طاف في أرجاء الجيش مسيطرًا، وأسرعوا هم عائدين من سفنهم وأكواخهم إلى مكان الاجتماع، مُحْدثين جلبةً كدوي موجة البحر الصاخب عندما ترتطم بالساحل الطويل، والبحر يُزمجر. وكان الآخرون قد جلسوا الآن واستقرُّوا في أماكنهم، ولم يمضِ في ثرثرته غير «ثيريستيس Theristes»٨ الذي لا ينتهي له كلام، والذي مُلئ عقله بذخيرةٍ كبيرةٍ من الكلمات السقيمة الترتيب؛ ولذا كان ينطق دائمًا بالسباب ضد الملوك في إهمال، وبلا ترتيب، بل بما يعتقد أنه يثير الضحك بين أهل أرجوس، وكان أقبح خلقةً من جميع الرجال الذين قدموا إلى طروادة: كان معوج الساق، يعرج بإحدى قدميه، وكانت كتفاه مقوستين، تنحدران معًا فوق صدره، ومن فوقهما يميل رأسه، وعليه ينمو قدر ضئيل من الشعر. كان أمقت الجميع لدى أخيل وأوديسيوس؛ لأنه كان دائم السباب لكليهما، ولكنه الآن كان يصيح بالشتائم ضد أجاممنون العظيم! … كان الآخيُّون غاضبين عليه أشدَّ الغضب، ويكنون له الاحتقار في قلوبهم. ومع ذلك فقد صاح بصوتٍ مرتفع، ينحي باللائمة على أجاممنون: «يا ابن أتريوس، ماذا يغضبك الآن، وماذا ينقصك؟ خيامك عامرة بالبرونز، وفي أكواخك نساء كثيرات، غنائم منتقاة نقدمها نحن الآخيين إليك — قبل أي شيء آخر — كلما استولينا على قلعة. أما زلت بعد ذلك تريد مزيدًا من الذهب الذي سوف يحضره لك أحد الطرواديين مروضي الجياد من طروادة، فدية عن ابنه الذي ربما أكون قد كبلته وأسرته، أنا أو أي شخص آخر من الآخيين؟ أم تريد أن يجلبوا إليك أسيرة حسناء كي تنعم بحبها، وتستأثر بها وحدك؟ ولكن كلا؛ إذ لا يعقل أن يكون قائد الآخيين هو الذي يجلب على أبنائهم الشر والكوارث بنفسه! أيها الحمقى! أيها الأنذال، يا مجلبة العار، يا نساء «آخيا»، يا مَن لم تعودوا رجالًا. هيا نعود إلى الوطن بسفننا ونترك هذا الزميل هنا في أرض طروادة ليجترَّ غنائمه ويكلل جبينه بأكاليل الغار؛ كي يعرف هل كنا نبغي مساعدته أم لا، إنه لم يحترم أخيل، ذلك الرجل الذي يفوقه بكثيرٍ؛ فقد أخذ منه غنيمتَه واستأثر بها، مقترفًا بنفسه هذا العمل المتعجرف. ومن المؤكد أنه لا توجد في قلب أخيل ذرة من الغضب، نعم، إنه لم يكترث قط، والآن يا ابن أتريوس، أتريد أن تقوم بوقاحةٍ أخرى لآخر مرة؟»

هكذا تكلَّم «ثيريستيس» زاجرًا أجاممنون، راعي الجيش. بيد أن «أوديسيوس» العظيم أسرع إلى أولهما، وإذ نظر إليه بغضب من تحت حاجبيه، زجره بقوله: «أي ثيريستيس، يا طائش الحديث — رغم أنك متكلم فصيح — صه ولا تحاول النضال وحدك ضد الملوك. لأنني أعتقد أنه لا يوجد شر منك بين سائر من جاءوا من أبناء أتريوس إلى طروادة؛ لذا أجد من الخير أن تمسك لسانك عن الملوك، ولا تنحي عليهم باللائمة أو تراقب الرحيل إلى الوطن. فلسنا نعلم بعدُ كيف ستكون هذه الأوضاع: أمن صالحنا أمن ضررنا أن نعود نحن أبناء الآخيين. إنك دائمُ التلفُّظ بالسباب ضد ابن أتريوس، أجاممنون، راعي الجيش؛ لأن المحاربين الدانيين يقدمون إليه كثيرًا من الهدايا، بينما تصب أنت عليه الشتائم باستمرار. غير أنني أنذرك، وسأنفذ كلامي: لو وجدتك هنا ثانيةً تتظاهر بالبلاهة، كما تفعل الآن، لحق لرأس أوديسيوس ألَّا يبقى بعد اليوم فوق كتفيه، ولما استحققت بعدئذٍ أن أدعى والدًا لتيليماخوس، إن لم أقبض عليك وأجردك من ثوبك وعباءتك، وردائك الذي يستر جسدك، ثم أرسلك إلى السفن السريعة، بعد أن أضربك في مكان الاجتماع ضربًا مخزيًا!»

قال أوديسيوس هذا، وضربه بعصاه على ظهره وكتفيه، فخر ثيريستيس، وانحدرت منه دمعة كبيرة، وبان أثر الدم على ظهره تحت العصا الذهبية. ثم جلس وقد تملكه الذعر، ومسح دمعته والألم يخزه وخزًا شديدًا والعجز يبدو في ملامحه، ولكن الآخيين، رغم حنقهم عليه في قلوبهم، انفجروا ضاحكين منه، وقال أحدهم وهو ينظر إلى جاره: «ويحي! حقًّا قام أوديسيوس قبل الآن بأعمالٍ جليلةٍ لا تُحصى، كقائد للرأي السديد وكمثير للهيجاء، غير أن هذا هو خير ما أتاه بين أهل أرجوس؛ إذ جعل هذا الثرثار السفيه يكف عن شتائمه. وإني لأعتقد أن روحه المتغطرسة لن تغريه بعد الآن على سب الملوك»!

سرت هذه العبارات بين الحشد، بيد أن أوديسيوس، فاتح المدن. قام والصولجان في يده، وإلى جانبه أثينا ذات العينين المتألقتين، في هيئة منادٍ، وأمر الجيش بأن يلزم الصمت، حتى يستطيع أبناء الآخيين، الداني منهم والقاصي، أن يسمعوا كلامه، ويحفظوا في قلوبهم مشورته. وبقصد حسن خاطب جمعهم قائلًا: «يا ابن أتريوس، الآن حقًّا ينوي الآخيون أن يجعلوك، أيها الملك، أبغض البشر طرًّا وأجدرهم بالازدراء، ولن يبروا بالوعد الذي عاهدوك عليه — عند سيرهم إلى هنا من أرجوس، مرعى الخيول — بألَّا تعود إلى الوطن قبل أن تقتحم طروادة المنيعة التحصين؛ لأنهم كالأطفال الصغار أو كالأرامل يولول بعضهم إلى بعض تواقين للعودة إلى الوطن. وإنها الخيبة المريرة والإرهاق الشديد، اللذان يدفعاننا إلى العودة؛ لأن من يمكث بعيدًا عن زوجته شهرًا واحدًا في سفينته ذات المجاذيف، يثور الغيظ في قلبه حين يرى نفسه سجينًا وسط البحر الصاخب بفعل عواصف الشتاء وأعاصيره، فما بالك وهذه هي السنة التاسعة، تحل بنا، ونحن هنا! ومن ثم فلا أعتبر من العار أن يحقد الآخيون في قلوبهم وهم بجانب سفنهم المدببة، ومع ذلك فإنه لمن المخجل أن نظل هنا طويلًا ونعود بخفي حنين. إذن فلتتحملوا، أيها الأصدقاء، ولتمكثوا بعض الوقت، حتى نعلم ما إذا كانت نبوءات كالخاس Calchas٩ صادقة، أم كاذبة؛ لأن هناك حقيقة نعرفها جيدًا في قلوبنا، وأنتم جميعًا شهود عليها، أنتم الذين لم تفتك بكم شياطين الموت: لقد كان بالأمس فقط، أو أول أمس، أن احتشدت سفن الآخيين في أوليس Aulis،١٠ كي تحمل الدمار لبريام والطرواديين، وكنا نحن مجتمعين حول نبع، نقدم الذبائح المئوية للآلهة فوق المذابح المقدسة، تحت شجرة دلب جميلة، والماء الصافي يتدفق رقراقًا من النبع، وإذا بعلامةٍ عظيمةٍ تتجلَّى؛ فقد زحف من تحت المذبح أفعوان، ظهره في حمرة الدم، مفزع، أرسله إله جبل أوليمبوس نفسه — زوس — إلى ضوء النهار. وقد اتجه صوب شجرة الدلب. وكانت على تلك الشجرة عندئذٍ أفراخ عصفور دوري، زغب الحواصل، فوق أعلى غصن، قابعة تحت الأوراق، عددها ثمانية، والأم التي أنجبتها هي التاسعة. فابتلعها الأفعوان وهي تزقزق بصوتٍ يثير الشفقة، ومن حولها كانت الأم ترفرف وهي تبكي صغارها الأعزاء! ثم استدار وأمسك بها من جناحها وهي تصيح مولولة، ولكنه بعد أن التهم الأفراخ والأم، إذا الرب الذي أخرجه إلى النور، يحوله إلى رمز، غير منظور، فإن ابن كرنوس — ذا المشورة الملتوية — قد مسخه حجرًا! فوقفنا هناك نتعجَّب مما حدث، من هذه الظاهرة الخارقة المثيرة للفزع، التي تخللت تقديم ذبائح الآلهة المئوية، وعندئذٍ أطلق «كالخاس» نبوءته في الحال؛ إذ خاطب جمعنا قائلًا: «لم هذا السكوت، أيها الآخيون ذوو الشعر المسترسل! لقد أبان لنا زوس المستشار هذه العلامة العظيمة، فجاءت متأخرة، وتأخر تحقيقها، ولكن لن يندثر صيتها بأية حال. فكما التهم هذا الثعبان أفراخ العصفور — وأمها كذلك — وكانت ثمانية والأم التاسعة، هكذا أيضًا سنحارب نحن هناك سنين عديدة، ولكننا في السنة العاشرة سنستولي على المدينة الفسيحة الطرقات! بهذا قالت النبوءة، فهيا تعالوا، امكثوا كلكم حيث أنتم، أيها الآخيون المدرعون جيدًا، إلى أن نستولي على مدينة بريام العظمى!»
وإذ قال هذا، صاح أهل أرجوس عاليًا، ومن حولهم رددت السفن الأصداء بصورةٍ عجيبةٍ من وراء صيحات الآخيين، وهم يمتدحون كلمات أوديسيوس شبيه الإله. ثم تكلم في حشدهم الفارس «نسطور» الجيريني Gerenian١١ قائلًا: «والآن انظروا إنكم في الحقيقة تعقدون اجتماعًا على طريقة الصبيان الحمقى، الذين لا يعيرون أعمال الحرب أقل اهتمام، ماذا ستكون نهاية عهودنا وأيماننا؟ إذن، هيا بنا نقذف إلى النار بجميع نصائح وخطط المحاربين، وتقدمات الشراب من الخمر الصافية، والمواثيق التي سجلناها بمصافحات الأيدي ووضعنا فيها ثقتنا؛ لأننا عبثًا نتقاذف بالألفاظ، ما دمنا عاجزين عن إيجاد أيَّة حيلة للفراغ من مهمتنا هنا. يا ابْن أتريوس، هل لك كسابق عهدك أن تحتفظ بهدفك الذي لا انثناء عنه، وتُصبح قائدًا لأهل أرجوس إبان المعارك الطاحنة؟ ولتدع الآخرين يهلكون، أولئك الواحد أو الاثنين من الآخيين الذين يتشاورون سرًّا فيما بينهم — تشاورًا عقيمًا — للعودة إلى أرجوس، قبل أن نعرف هل يصدق أم يخيب وعد زوس، حامل الترس! ذلك أن ابن كرونوس، الفائق القوة، قد بذل لنا وعدًا، بإيماءة من رأسه، في ذلك اليوم الذي اعتلى فيه أهل أرجوس ظهور سفنهم السريعة، كي يجلبوا على الطرواديين الموت والهلاك — فلقد أضاء يومئذٍ البرق عن يميننا مبديًا لنا بذلك علامات الخير — لذلك، ينبغي ألا يسرع أحد منكم في الرحيل إلى الوطن إلا بعد أن يضطجع كل واحد منا مع زوجة رجل من الطرواديين، فننتقم بذلك لأنفسنا مما أذاقوه لنا من مذلة وأنين من أجل هيلينا! ومع ذلك، فإن كان هناك من برح به الشوق للرحيل إلى الوطن، فليضع يده على سفينته السوداء، حتى يلقى الموت والهلاك قبل سواه! ولكن، هل لك، أيها الملك، أن تقبل المشورة الحسنة، وتُصغي إلى ما يقوله الآخرون، فمهما كانت كلماتي، فلا تطرحها جانبًا: فلتقسم رجالك، يا أجاممنون، إلى قبائل، وإلى عشائر، كي تساعد العشيرة زميلتها، والقبيلة جارتها. وسوف تريك مثل هذه التنسيقات، إذا تمسكت بها القوات، كم من الجبناء يوجد بين الضباط أو في صفوف الجنود، وكم من الأخيار؛ لأن كل رجلٍ سيُقاتل بجانب أخيه، وسرعان ما ستعلم إذا كانت إرادة الرب هي التي تقف حائلًا بينك وبين اجتياح طروادة، أم هو جبن جنودك وعدم كفاءتهم في الحرب!»

وردًّا عليه تكلم الملك أجاممنون، قائلًا: «حقيقة، مرة أخرى، أيها السيد العجوز، إنك لتفوق أبناء الآخيين وتبزهم في الخطابة. أي أبي زوس، ويا أثينا، ويا أبولو، ليت عندي عشرةً من أمثال هذا المستشار، آنئذٍ كانت مدينة الملك «بريام» تحني رأسها على الفور، وكنا نستولي عليها ونخربها بأيدينا، ولكن ابن كرونوس، حتى زوس حامل الترس، قد جلب عليَّ الأحزان، بأن ألقى بي في خضم من المخاصمات والمشاحنات غير المجدية؛ لأنني، والحق يقال، تقابلت و«أخيل» بقارس الألفاظ من أجل فتاة، وكنت أنا البادئ بإثارة الغضب، ولكن إذا قيض لنا أن نتحد في المشورة، فلن يؤجل مرة أخرى ما سيحيق بالطرواديين من شر، كلا، ولا لحظة واحدة! أما الآن، فهيا انصرفوا إلى طعامكم، حتى يمكننا أن نمضي إلى المعركة. ليشحذ كل رجل رمحه جيدًا، ويصلح درعه، ويعلف بسخاء خيوله السريعة الأقدام، ويفحص عربته من كل جانبٍ فحصًا دقيقًا، ويستعد للقتال؛ فقد نشغل طوال اليوم كله في حربٍ مقيتة. لن يكون هناك تسويف، أي تسويف البتة، إلى أن يفصل بيننا مجيء الليل ونحن في حمى القتال. ولسوف تتبلل سيور الدروع فوق صدوركم بالعرق، وتتعب أيديكم من القبض على الرماح، كما سوف تتبلل بالعرق الخيول المثبتة إلى عرباتكم اللامعة، ولكني إن رأيت أحدكم مبيتًا النية على التخلُّف عن القتال إلى جوار السفن المدببة، فلن يكون له أملٌ بعد ذلك في اجتناب نهش الكلاب والطيور!»

الاستعداد للمعركة!

هكذا تكلم القائد، فصاح أهل أرجوس عاليًا، كما لو كانوا موجة ترتطم بشاطئ مرتفع عندما تهب الريح الجنوبية وتقذف بالأمواج على ربوة صخرية لا تني المياه تلاطمها من كل جانب، مدفوعة بكل ريح. ثم قاموا مسرعين ينتشرون بين السفن، وأشعلوا النيران في الخيام، وتناولوا طعامهم. وقدموا الذبائح للآلهة واحدًا واحدًا، وسألوهم النجاة من الموت ومن ويلات الحرب. أما أجاممنون قائد الجيش، فقد نحر ثورًا سمينًا في الخامسة من عمره لابن كرونوس الفائق القوة، ثم استدعى الكهول، رؤساء الجيش الآخي، وعلى رأسهم «نسطور» والملك «أيدومينيوس».١٢ ثم أياس،١٣ وسيمه، وابن توديوس Tydeus،١٤ وسادسهم أوديسيوس، نظير زوس في الرأي والمشورة، ولم يكن في حاجة إلى استدعاء أخيه «مينيلاوس»، صاحب صيحة الحرب المدوية، الذي كان يعلم كم كان الحمل ثقيلًا على أجاممنون فجاء من تلقاء نفسه! ولما التفوا حول الذبيحة، والتقطوا حبَّات الشعير، قام الملك أجاممنون يصلي وسطهم قائلًا: «أي زوس، أيها الأمجد، أيها الأعظم، يا ملك السحب القاتمة، يا ساكن السماء، فلتمنَّ علينا بألَّا تغيب الشمس، ولا يخيم الظلام علينا، قبل أن أهدم قصر بريام — الذي صبغه الدخان باللون الأسود — وأضرم النيران في أبوابه، وأشق عباءة هكتور من فوق صدره برمحي البرونزي، ويتجندل حوله زملاؤه جماعات فيسقطون صرعى في التراب ويعضون الأرض بأسنانهم.»

هذا ما قاله، ولكن ابن كرونوس لم يكن راغبًا بعدُ في أن يمنحه ما تمنَّاه. حقًّا، لقد قبل ذبيحته، ولكنه في نظير ذلك بعث إليه بالكوارث مضاعفة؟ وبعد أن صلوا ونثروا حبَّات الشعير، سحبوا رءوس الضحايا إلى الوراء أولًا، ثم قطعوا رقابها، وسلخوها، ثم قطعوا أجزاء الأفخاذ وكسَوْها بطبقة مضاعفة من الدهن، ووضعوا فوقها لحمًا نيئًا. ثم أحرقوا هذه فوق قطع من أغصان الكروم نزعت أوراقها، أما الأجزاء الداخلية فقد وضعوها في السفافيد وحملوها فوق لهب هيفايستوس. وعندما تم احتراق قطع الأفخاذ وتذوقوا من الأجزاء الداخلية، قطعوا الباقي وسفدوه، وشووه بعناية، ثم نزعوا الجميع من السفافيد. وعندما كفوا عن العمل وانتهَوا من إعداد الطعام، أكلوا. ولم يشكُ أحدٌ من نصيبه من الوليمة العادلة. وعندما أطفئوا رغبتهم في الطعام والشراب، وقف في وسطهم الفارس «نسطور» الجيريني، وكان أول المتكلمين فقال: «يا ابن أتريوس الأمجد، يا أجاممنون، يا ملك البشر، هيا، فلا نظل محتشدين هنا بعد ذلك، ولا نسوِّف أكثر من ذلك في العمل الذي وهبنا الله إياه بحق. هيا، ودع منادي الآخيين ذوي الحلل البرونزية يعلنون على الملأ، ويجمعون الجيش داخل السفن. وهيا بنا ننقض هكذا في حشد واحد عبر معسكر الآخيين الفسيح، حتى يمكننا بسرعةٍ أكثر أن نشنَّ معركةً طاحنة!»

هكذا تكلم، ولم يفت ملك البشر، أجاممنون، أن يُصغي. ومن فوره أمر المنادين ذوي الأصوات الواضحة أن يستدعوا الآخيين ذوي الشعر المسترسل إلى المعركة. فأخذوا ينادون، وسرعان ما احتشد الجيش كله. وأسرع الملوك المنحدرون من زوس، الذين كانوا حول ابن أتريوس، يقودون الجيش، وفي وسطهم «أثينا» البراقة العينين، حاملة الترس الذي لا يقدر بثمن، والذي لا يعرف القدم ولا الموت، والذي يتدلى من مائة هدب من الذهب الخالص، منسوجة كلها بمهارة، وكل هدب منها قيمته مائة ثور. بهذه الصورة كانت الربة تعدو متأنقة وسط جيش الآخيين، تحثهم على المضي قدمًا إلى الأمام، وتُثير الحمية في قلب كل رجل إلى الحرب وإلى القتال دون هوادة، حتى أضحت الحرب بالنسبة إليهم خيرًا من العودة في سفنهم الجوفاء إلى وطنهم المحبوب!

وكما تشتعل النار الآكلة اللهب في غابةٍ مترامية الأطراف على قمَّة جبل، فيُرى وهجها من بعيد، هكذا أيضًا تألَّق البريق الذي يبهر الأنظار من أسلحتهم البرونزية التي لا حصر لها، وهم يسيرون إلى الأمام، حتى بلغ عنان السماء، مخترقًا الفضاء.

وكما تطير فصائل الطير المجنحة: الأوز البري، أو الكراكي، أو البجعات الطويلة الأعناق، فوق المروج الآسيوية بالقرب من مجاري كاوستريوس المائية، تارة هنا وطورًا هناك، مزهوَّة بقوة أجنحتها، تستقر على الأرض ولا يزال بعضها يتقدَّم إلى الأمام، وهي تصيح عاليًا، بينما المرح يدوي بالأصداء. هكذا أيضًا راحت قبائلهم العديدة تتدفَّق من السفن والأكواخ إلى سهل سكاماندر Scamander، فدوت الأرض دويًّا عجيبًا تحت أقدام الرجال والخيل. واتخذوا أماكنهم في مرج سكاماندر المزهر، في أعدادٍ لا تُحصى، بقدر عدد أوراق الأشجار وأزهارها في موسمها!

وكما تطنُّ أسراب الذباب الكثيرة المتجمعة هنا وهناك خلال حظيرة الراعي في فصل الربيع، عندما يبلل اللبن الدلاء، هكذا وقف الآخيون ذوو الشعر المسترسل، في أعداد غفيرة، فوق السهل في مواجهة رجال طروادة، يتحفَّزون إلى تمزيقهم إربًا!

وكما يفرق رُعاة الماعز، في سهولة، قطعان الماعز المنتشرة في مساحاتٍ واسعة، عندما تنزل إلى المرعى، هكذا وزَّعهم قادتهم في هذا الجانب أو ذاك ليدخلوا إلى المعركة، ومن بينهم الملك أجاممنون، الذي يشبه زوس قاذف الصواعق، في عينيه ورأسه، أما خصره فشبيه بخصر أريس، وصدره كصدر بوسايدون. وكما يقف الثور وسط القطيع كرئيس أكبر للجميع، لأنه أبرز ما في القطيع، كذلك جعل زوس أجاممنون في ذلك اليوم، أبرز الجميع، وأكبر زعيم بين المحاربين!

قائمة قوَّاد الآخيين

أي ربَّات الشعر، أخبرنني الآن، يا من لكُنَّ مساكن فوق جبل أوليمبوس — لأنكنَّ رباتٌ وحاضرات وتعرفن كل شيء، بينما لا نسمع نحن غير الشائعات ولا نعرف شيئًا! — من هم قادة الدانيين وسادتهم؟ أما القوم العاديون فلست قادرًا على إحصائهم أو تسميتهم، حتى ولو كانت لي عشرة ألسن وعشرة أفواه وصوت لا يكل، ولو كان القلب الذي في صدري من البرونز، إلا إذا أعادت ربات الشعر الأوليمبيات، بنات زوس حامل الترس، إلى ذاكرتي كل من قدموا إلى طروادة، والآن، اسمحن لي بذكر ربابنة السفن حسب ترتيبهم، وكذلك السفن: فمن البيوتيين كان «بينيلوس» و«لايتوس» ربانين. وكذا «أركيسيلاوس» و«وبروثونيور» و«كلونيوس»، وكان هؤلاء يعيشون في هوريا، وأوليس الصخرية، وسخوينوس وسكولوس وأيتيونوس بأخاديدها الكثيرة، وثيسبيا وجريا وموكاليسوس الفسيحة. وكان معهم مَن يعيشون حول هارما وهولي وبيتيون وأوكاليا وثيسبي موطن اليمام. وكان معهم مَن يقطنون في كورونيا وهاليارتوس المعشوشبة، ومَن احتلُّوا بلاتيا وعاشوا في جليساس، ومن احتلوا طيبة المنخفضة، القلعة الحصينة البناء، وأونخيستوس المقدسة، غيضة «بوسايدون» اللامعة، ومن احتلوا أرنى، الغنية بالكروم، وميديا ونيسا المقدَّسة وأنثيدون على شاطئ البحر، جاء كل هؤلاء في خمسين سفينة، وعلى ظهر كلٍّ منها صعد شبَّان يافعون من البيوتيين يبلغون مائةً وعشرين.

والذين كانوا يعيشون في أسبيليدون وأورخومينوس المينيوية، قادهم «أسكالافوس» و«أيالمينوس» ابنا «أريس»، اللذان أعدَّا ثلاثين سفينةً جوفاء مع «استيوخي» العذراء المبجلة، في قصر «أكتور»، ابن «أزيوس»، التي حملت من «أريس» العتيد، عندما دخلت حجرتها.

ومن بين «الفوكيين» كان القائدان «سخيديوس» و«أبيستروفوس» وهما ابنا «إيفاتوس» العظيم النفس، ابن «ناوبولوس» وهما اللذان احتلَّا كوباريسوس وأبوتو الصخرية، وكريسا المقدسة، وداوليس ويانوبيوس. وعاشا حول أنيموريا وهوامبوليس؛ واللذان سكنا بجانب نهر كيفيسوس العظيم، واللذان احتلَّا كذلك ليلايا القريبة من ينابيع كيفيسوس. وكان يتبع هؤلاء أربعون سفينةً سوداء. وقد شغل قادتها بالسيطرة على صفوف الفوكيين، والاستعداد للقتال المرير بالقرب من البيوتين على الميسرة.

وكان «أياس» الصغير ابن «أويليوس» قائدًا للوكريين Locrians ولم يكن بأية حالٍ في عظمة «أياس التيلاموني»، بل يقل عنه كثيرًا. لقد كان ضئيل الحجم، ذا درعٍ من الكتان، ولكنه، في استخدام الرمح، كان يفوق بمراحل جيش الهيلينيين والآخيين، وكان يعيش هؤلاء في كونوس وأوبوس وكالياروس وبيسا وسكارفي وأوجايا الجميلة وتارفي وثرونيوم حول مجاري بواجريوس المائية. وتبع أياس أربعون سفينة سوداء من سفن اللوكريين الذين يعيشون في مواجهة يوبويا المقدسة.

أمَّا «الأبانتيس» الذين يبثُّون الذعر في القلوب، والذين احتلوا يوبويا وخالكيس وأريتريا وهيستيايا، ذات الكروم الوفيرة، وكيرينثوس الساحلية وقلعة ديوس الشامخة، والذين كانوا يحتلون كاروستوس ويعيشون في ستيرا — فكان قائدهم «إيليفينور»، سليل «أريس»، وابن «خالكودون»، أي قائد الأبانتيس ذوي الهمم العالية. وقد تبعه الأبانتيس السريعو الحركة. بشعرهم الطويل المرسل على ظهورهم، وكانوا رماحين ماهرين يتوقون إلى تمزيق الدروع حول صدور أعدائهم برماحهم العالية ذات القناة البلوطية. وكانت مع هذا القائد أربعون سفينةً سوداء.

أما الذين احتلوا أثينا، القلعة المكينة التحصين، أرض «اليخثيوس» الجَسور، الذي أرضعته أثينا، ابنة زوس، في غابر الأزمنة، يوم أنجبته الأرض مانحة الحب، ثم جعلته يعيش في أثينا، في محرابها الفاخر، وكلما مضت السنون في انصرامها، كان شباب أثينا يسعَوْن لكَسْب رضاه بذبائح من الثيران والكباش، أما هؤلاء الذين احتلوا أثينا، فكان قائدهم «مينيسثيوس»، ابن «بيتيوس». وكان معدوم النظير في قيادة العربات، ولن يستطيع مواجهته أي محارب من حاملي الدروع، على وجه الأرض أبدًا! ولكن «نسطور» وحده هو الذي كان ندًّا له ويستطيع أن يتحداه؛ إذ يكبره سنًّا، وكانت تتبع هذا القائد خمسون سفينةً سواء.

وقاد «أياس» اثنتي عشرة سفينة من سالاميس وأرساها حيث كانت تقف كتائب الأثينيين.

وأما الذين كانوا يحتلُّون أرجوس وتيرونس ذات الأسوار المشهورة، وهيرميوني وأسيني، التي تحتضن الخليج العميق، وطرويزن وأيوناي وأبيداوروس المكسوة بالكروم، وشباب الآخيين الذين احتلوا أيجينا وماسيس، فكان قادتهم «ديوميديس»، البارع في صيحة الحرب، و«سثينيلوس» الابن العزيز لكابانيوس المجيد. وجاء قائد ثالث مع هذين، هو «يوروالوس»، المحارب الشبيه بالإله، ابن الملك «ميكيستيوس»، ابن «تالاوس». بيد أن «ديوميديس»، البارع في صيحة الحرب، كان قائد هؤلاء جميعًا. وتبعت هؤلاء ثمانون سفينةً سوداء.

وأولئك الذين يحتلُّون موكيناي، القلعة المنيعة، وكورنثة الغنية، وكليوناي المتينة التحصين، وكانوا يعيشون في أورناياي وأرايثوريا الجميلة وسيكيون التي كان ملكها «أدراستوس»، ومن احتلوا هوبيريسيا وجونويسا المنخفضة وبيليني، وعاشوا حول أيجيوم وفي جميع أنحاء أيجيالوس وحول هيليكي الفسيحة — فكان أجاممنون بن أتريوس قائدهم وتحت إمرته مائة سفينة. وتبعه معظم الأخيار من الناس وأكثرهم عددًا. فوقف وسط جموعهم في حلته البرونزية المتألقة ملكًا كامل المجد، بارزًا من بين جميع المحاربين؛ لأنه كان أكثر نبلًا، ويقود شعبًا غفيرًا.

كذلك من احتلوا أرض لاكيدايمون الجوفاء بوهادها العديدة، وفاريس وأسبرطة وميسي، موطن اليمام، ومَن عاشوا في بروساياي وأوجاياي الجميلة، والذين يحتلون أموكلاي وهيلوس، الحصن المشرف على البحر، والذين كانوا يحتلون لاس، ويعيشون حول أويثولوس، وكان يقود هؤلاء شقيق أجاممنون، «مينيلاوس» البارع في صيحة الحرب، ومعه ستون سفينة، وكان يقودهم بعيدًا ويتنقل وسطهم بنفسه، واثقًا من كفاءته. يحث رجاله على القتال، وكان قلبه — دون الجميع — تواقًا إلى نيل الجزاء لقاء نضاله وأناته من أجل زوجته المخطوفة هيلينا!

وأولئك الذين كانوا يعيشون في «بولوس» وأريني الجميلة وثريوم، مخاضة «ألفايوس»، وأيبي الجميلة المنبت، ومن كانت مساكنهم في كوباريساس وأمفيجينيا وبتيليوس وهيلوس ودوريوم. وفي الأخيرة قابلت ربات الشعر «ثاموريس» التراقي ووضعن خاتمة لغنائه، وهو في رحلته من أويخاليا، من بيت «يوروتوس» الأويخالي وكان قد تباهى مزهوًّا بأنه سيفوز حتى لو غنَّت أمامَه ربات الشعر أنفسهن، بنات زوس حامل الترس، وفي فورة غضبهنَّ شوهن خلقته، وسلبنه غناءه العجيب وجعلنه ينسى صناعة الغناء — كل هؤلاء كان يقودهم الفارس «نسطور» الجيريني، واصطفَّت معه تسعون سفينةً سوداء.

وكذلك من احتلُّوا أركارديا تحت جبل كوليني المنحدر، بجانب قبر «أيبوتوس» حيث يوجد محاربون ماهرون في القتال بالأيدي. وَمَن كانوا يعيشون في فينيوس وأورخومينوس الغنية بقطعان الأغنام وريبي وستراتيا وأنيسبي التي تكتسحها الرياح، وأولئك الذين يحتلون نيجيا ومانتينيا الجميلة، ومن يحتلون ستومفالوس ويعيشون في باراسيا — كل هؤلاء كان يقودهم ابن «أنكايوس» السيد «أجاممنون» ومعه ستون سفينة، على ظهر كل منها عدد كبير من المحاربين الأركاديين الماهرين في القتال؛ إذ أعطاهم ملك البشر، من تلقاء نفسه، سفنًا ذات مجاديف ليعبروا بها البحر القاتم بلون الخمر. فعل ذلك ابن أتريوس، لأنهم لم يكونوا على دراية بشئون البحر.

ومن كانوا يعيشون في بوبراسيوم وأليس العظيمة، وكل القطاع الذي تضمه هورميني ومورسينوس على ساحل البحر، صخرة أولين وأليسيوم. وكان لهؤلاء أربعة قواد، لكل منهم عشر سفن على ظهر كلٍّ منها كثير من الأيبيين: فكان يقود بعضهم «أمفيماخوس» و«ثالبيوس»، وقد ولدا من دم «أكتور»، أحدهما ابن «كتياتوس» والآخر ابن «يوروتوس». وكان يقود بعضًا آخر، «ديوريس» العتيد، ابن «أمارونكيوس». أما الفريق الرابع فكان يقوده «بولوكسانيوس» شبيه الإله، ابن الملك «أجاشينيس»، ابن «أوجياس».

ومن قدم من دوليخيوم وأخيناي، الجزيرتين المقدستين اللتين تقعان في عرض البحر، تجاه أليس، وكان يقود هؤلاء «فيجيس»، نظير «أريس»، وابن «فوليوس» الذي أنجبه الفارس «فيليوس»، حبيب زوس — وهو الذي غضب من أبيه قديمًا ورحل ليقيم في دوليخيوم — ومع «ميجيس» جاءت أربعون سفينة سوداء.

أما «أوديسيوس»، فقاد الكيفالينيين ذوي الهمم العالية، الذين كانوا يحتلون إيثاكا ونيريتوم التي تكسوها الغابات المائجة، ومن كانوا يسكنون في كروكولايا وإيجيليبس الوعرة والذين كانوا يحتلون زاكونثوس، ومن كانوا يقيمون حول ساموس، ويحتلون الأرض الرئيسية، ويعيشون فوق الشواطئ المواجهة للجزر. وكان قائد هؤلاء «أوديسيوس» نظير زوس في الرأي. وقدمت معه اثنتا عشرة سفينةً ذات حيزوم قرمزي اللون.

وكان «ثواس» بن «أندرايمون» يقود الأيتوليين، ومن يقطنون في بليورون وأولينوس وبوليني وخاليكس، المشرفة على البحر، وكالودون الصخرية؛ لأن أبناء «أوينيوس» القوي القلب كانوا في عداد الأموات، ولم يكن هو على قيد الحياة كذلك، كما كان «ميلياجر» الجميل الشعر ميتًا، وهو الذي صدرت إليه الأوامر بأن يتولى قيادة الأيتوليين، وكانت تتبع «ثواس» أربعون سفينة سوداء.

أما الكريتيون فكان قائدهم «أيدومينيوس» الشهير برمحه، كما كان قائد الذين يحتلون كنوسوس وجورتوس، ذات الحوائط الشهيرة، ولوكتوس وميليتوس ولوكاستوس، البيضاء بأرضها الطباشيرية، وفايستوس وروتيوم تلك المدن الآهلة بالسكان، بالإضافة إلى جزيرة كريت ذات المائة مدينة، كان يقود هؤلاء جميعًا «أيدومينيوس» الشهير برمحه، و«ميريونيس»، نظير «أنيواليوس»، قاتل الرجال، وجاءت مع هؤلاء ثمانون سفينةً سوداء.

figure
رسم لعملاق جبار، يرمز لقوة «هرقل» إله القوة، ابن «زوس».

أما «تيليبوليموس»، ابن «هرقل»، وهو بطل شجاع فارع الطول، فقاد من رودس تسع سفن من الرودسيين الأمجاد الذين عاشوا في رودس، وكانت منقسمة إلى ثلاثة أقسام: لندوس وأيالوسوس وكامايروس البيضاء بأديمها الطباشيري. وكان قائد هؤلاء — «تيليبوليموس»، الشهير برمحه — قد وُلد لهرقل العتيد من «أستيوخيا» التي سباها من أيفوري الواقعة على نهر سيليس بينما كان يخرب مدنًا كثيرة كان يدافع عنها محاربون يحتضنهم زوس. وعندما شبَّ «تليبوليموس» وبلغ مبلغ الرجال في القصر المنيع التحصين، قتل عمه «ليكومنيوس»، سليل «أريس»، وكان عندئذٍ شيخًا هرمًا؛ ومن ثم بنى له في الحال عدة سفن، وبعد أن جمع كثيرًا من الأتباع، هرب عبر البحر؛ لأن أبناء وأحفاد هرقل الآخرين هددوه. غير أنه وصل إلى رودس بعد رحلات عدة تكبد في أثنائها المشاق والمحن، وهناك أقام شعبه واستقروا في ثلاثة أقسام على هيئة قبائل، فأحبهم زوس ملك الآلهة والبشر، وأغدق عليهم ابن كرونوس ثروات طائلة.

figure
«هرقل» يحمل الوحش ليُلقي به من حالق.

وفضلًا عن ذلك فقد تولَّى «نيريوس» قيادة ثلاث سفن كبيرة من سومي. وكان «نيريوس» ابن «أجلايا» والملك «خاروبس» وقد امتاز باللباقة أكثر من جميع الدانيين القادمين إلى طروادة بعد ابن بيليوس المنقطع النظير. ومع ذلك فقد كان ضعيفًا؛ ولذا لم يتبعه سوى عدد قليل من الرجال.

أما الذين كانوا يحتلون نيسوروس وكراباتوس وكاسوس وكوس مدينة «يوروبولوس»، والجزر الكالودنية، فكان يقودهم «فايديبوس» و«أنتيفس»، ابنا الملك «ثيسالوس»، ابن هرقل. واصطفت مع هؤلاء ثلاثون سفينة واسعة.

كذلك جميع من كانوا يسكنون أرجوس البيلاسجية وألوس وألوبي وتراخيس، ومن كانوا يحتلون فثيا وهيلاس — أرض الغيد الفاتنات اللواتي أطلق عليهن اسم «المورميدون» و«الهيلينيس» و«الآخيين» — كان «أخيل» ربان الخمسين سفينة التي يمتلكها هؤلاء. وبالرغم من ذلك فقد كانوا يشعرون بعدم ميلٍ إلى القتال المرير، حيث لم يكن هناك من يقودهم إلى صفوف المحاربين. لأن أخيل العظيم، السريع القدمين، كان يقبع في تراخٍ وسط السفن، غاضبًا بسبب «بريسيس»، الفتاة ذات الشعر الجميل، التي سباها من لورنيسوس بعد عناء شاق، عندما خرب لورنيسوس وحوائط طيبة، وألحق العار ﺑ «مونيس» و«أبيستروفوس» المحاربين اللذين كانا يثوران بالرماح، ابني الملك «أيفينوس» بن «سيليبوس». ومن فرط حزن أخيل عليها، بقي فاتر الهمة، بيد أنه سرعان ما كان عليه أن ينهض من جديد.

والذين كانوا يحتلون فولاكي وبوراسوس المزهرة، محراب «ديميتير»، وأيتون، الكثيرة القطعان، وأنترون، المشرفة على البحر، وبتيليوس، المكسوة بالحشائش، كان قائدهم «بروتيسيلاوس» الشجاع، أيام أن كان في عداد الأحياء، غير أن التربة السوداء طوته بين أحضانها. وتركت زوجته، في فولاكي، وقد مزقت خديها بنحيبها، بينما كان بيته لم يتم غير نصف مراحل تأسيسه. وكان قد قتله رجل دارداني وهو يقفز من سفينته قبل جميع الآخيين. ومع ذلك فلم يبقَ رجاله بدون قائد، رغم أنهم كانوا يتوقون إلى قائدهم؛ لأن «بوداركيس» من نسل «أريس» صار يقودهم، وكان حفيد «فولاكوس» من ابنة «أفيكلوس»، الثري بأغنامه، شقيق «بروتيسيلاوس» العظيم النفس، والأصغر مولدًا. ولكن الآخر كان أكبر سنًّا وأكثر رجولة؛ لذلك لم يفتقر الجيش بحالٍ ما إلى قائد، رغم أنه كان يتوق إلى الرجل النبيل الذي فقده. وجاءت معه أربعون سفينةً سوداء.

ومن كانوا يقطنون في فيراي بالقرب من بُحيرة بويبيس، وفي بويبي وجلافوراي وأبولكوس المتينة البناء، كان يقودهم الابن العزيز لأدمينوس، وهو يوميلوس الذي أنجبته له «ألكيستيس»، الملكة بين النساء، وكانت أرق بنات بيلياس. وكانت مع «يوميلوس» إحدى عشرة سفينة.

ومن كانوا يسكنون ميثوني وثاوماكيا، ومن كانوا يحتلُّون ميليبويا وأوليزون الوعرة، كان يقودهم، وسفنهم السبع، «فيلوكتيتيس» البارع في فن الرماية. وقد اعتلى كل سفينةٍ خمسون مجذفًا محنكون جدًّا في القتال بالقوس. بيد أن «فيلوكتيتيس» كان يرقد بإحدى الجزر يعاني آلامًا مبرحة، في ليمونس المقدسة، حيث قد تركه أبناء الآخيين مصابًا بجرح خبيث من ثعبان مائي قاتل، بقي هناك يُعاني آلامه، بينما أسرع أهل أرجوس إلى جانب سفنهم يفكِّرون في الملك «فيلوكتيتيس». ومع ذلك فلم يكن أولئك القوم بلا قائد رغم أنهم كانوا يتوقون إلى قائدهم، فقادهم «ميدون» الابن السفاح لأويليوس، سلاب المدن، الذي أنجبته له «ريني».

ومن كانوا يحتلون تريكا وأيثومي ذات المرتفعات وأويخاليا، مدينة «يوروتوس» الأويخالي، كان يقودهم ابنا «إسكليبيوس»، الطبيبان النطاسيان، «بودالايروس» و«ماخاون» ومع هؤلاء انتظمت ثلاثون سفينة واسعة.

أما الذين كانوا يحتلون أورمينيوس والنافورة هوبيرايا، ومن يحتلون إستيرديوم ومرتفعات تيتانوس البيضاء، فكان يقودهم «يوروبولوس»، ابن «يوايمون» المجيد، وجاءت تتبعه أربعون سفينةً سوداء.

ومن كانوا يحتلون أرجيسا، ويعيشون في جورتوني وأورثي، وأيلوني ومدينة أولوسون البيضاء، كان يقودهم «بولوبويتيس»، الماهر في القتال، ابن «بابريثوس» الذي أنجبه زوس الخالد — وهو الذي حملت فيه «هيبوراميا» «بابريثوس» في اليوم الذي انتقم فيه من جماعة القنطور وطردهم من بيليوم، وساقهم إلى الإيثيكيس. ولم يكن وحده، بل كان معه «ليونتيوس»، من نسل «أريس»، حفيد «كانيوس»، من ابنه «كورونوس»، ذي الهمة العالية، وكانت تتبع هؤلاء أربعون سفينةً سوداء.

وقاد «جونيوس» من كوفوس اثنتين وعشرين سفينة، فتبعه «الأينينيس» و«البيرايبي»، البارعون في القتال، والذين أقاموا مساكنهم حول دودونا الشتوية، وعاشوا في الأراضي الزراعية حول نهر تيتاريسوس الجميل، الذي تصب مجاريه الهادئة الجريان في بينايوس، ومع ذلك فلا تختلط بدوامات بينايوس الفضية، ولكنها تطفو فوق مياهه كأنها زيت الزيتون؛ لأنه أحد فروع مياه ستوكس، نهر القسم المخيف.

وكان «بروتوس» بن «تينثريدون»، قائد «الماجينيتيس» الذين يقطنون حول بينايوس وبيليون المكسوَّة بالغابات المتموِّجة. وجاءت تتبعه أربعون سفينةً سوداء.

كان هؤلاء هم قادة الدانيين وسادتهم، ولكن خبريني، يا ربَّة الشعر، من كان يبز هؤلاء جميعًا؟ خبريني عن المحاربين والجياد التي جاءت تتبع أبناء أتريوس؟

أما الجياد، فكانت خيرها جياد ابن «فيريس»، تلك الجياد التي كان يسوقها «يوميلوس»، سريعة كالطير، متشابهة في اللون والسن، وظهورها مستوية كالخط المستقيم. وكان أبولو ذو القوس الفضية قد ربى هذه الجياد في بيرايا، ومن بينها فرسانِ تحملتا هول الحرب. أما من بين المحاربين، فقد كان «أياس التيلاموني» هو خيرهم، أثناء اغتصاب «أخيل» وانطوائه على غضبه؛ لأن أخيل يفوقه بمراحل في القوة، هو والجياد التي كانت تحمل ابن بيليوس المنقطع النظير. ومع ذلك فقد كان أخيل يمكث وسط سفنه العديدة المدببة، في غضبٍ شديدٍ من أجاممنون بن أتريوس، راعي الجيش، بينما يرتع شعبه ويلهو على طول شاطئ البحر، يقذفون الجلة والحراب والسهام، وتقف جيادهم، كل بجانب عربته، تأكل «البشنين» ومقدونس المستنقع، في كسل. وقد وضعت العربات، بعد أن أحكمت تغطيتها، في أكواخ أصحابها. أما الرجال، التوَّاقون إلى قائدهم، حبيب «أريس»، فراحوا يجولون هنا وهناك خلال المعسكر، دون أن يقاتلوا.

وهكذا تقدم الجيش، كما تستشري النيران في رقعة الأرض كلها. وأنَّت الأرض تحت أقدام الجنود، كما تئنُّ تحت زوس الذي يقذف بالصاعقة في ثورة غضبه، يوم ألهب الأرض بالسياط حول الوحش «توفويوس» في بلاد الأريمي، حيث يقول الناس إن عربة توفويوس توجد هناك. هكذا أنَّت الأرض أنينًا عاليًا، تحت وطأة أقدامهم وهم يسيرون بسرعةٍ خلال السهل.

قائمة قواد طروادة

وذهبت «أيريس» الربَّة ذات القدمَين السريعتَين كالريح، إلى الطرواديين، موفدة من لدن زوس، حامل الترس، تحمل رسالة محزنة. وكان هؤلاء يعقدون اجتماعًا عند باب قصر ملكهم «بريام» وقد احتشد الجميع في كتلة واحدة، شيوخًا وشبانًا على حدٍّ سواء. فوقفت أيريس السريعة القدمين بقربهم، وتحدثت إليهم، محاكية صوت «بوليتيس»، ابن بريام، الذي اعتاد الجلوس كحارس للطرواديين، مطمئنًّا إلى سرعة قدميه، فوق أعلى جزء من «أيسوبيتيس» العجوز ينتظر هجوم الآخرين من سفنهم، وقفت أيريس السريعة القدمين في صورته، وخاطبت بريام بقولها: «سيدي العجوز، إنك ما زلت شغوفًا بالكلام الكثير، كما كنت في زمن السلم، لكننا أمام حرب محتدمة لا هوادة فيها. ولقد خُضت قبل الآن غمار معارك مع المحاربين، بيد أنه لم يسبق لي أن رأيت جيشًا عظيمًا كهذا، حتى ليبدو في عداد أوراق الشجر، وحبات الرمال، وهو يسير خلال السهل ليقاتل ضد المدينة. إليك يا «هكتور»، دون غيرك أصدر أمري، لتفعل حسب أقوالي. فبقدر ما هنالك من حلفاء عديدين في شتى أنحاء مدينة «بريام» العظيمة، من بلاد مختلفة، ولغات مختلفة، ينبغي على كل قائد أن يعطي الأمر لمن هم تحت إمرته، ويقودهم إلى الأمام، فيكون بذلك قد قاد رجال مدينته.»

هكذا قالت. ولم يخف قط على أن يعرف صوت الربة. ففض الحشد في الحال، فانطلقوا إلى الأسلحة. وفُتحت جميع الأبواب على مصاريعها. فأسرعت الجموع قدمًا، المشاة وسائقو العربات، فارتفع ضجيج عظيم. وكانت هناك أمام المدينة أكمة عالية، على مسافة بعيدة في السهل، حولها رقعة من الخلاء على هذا الجانب وذاك، وهذه يسميها الناس باتيبا بينما تسميها الآلهة مثوى «ميريني» الخفيفة الخطى. فوزع الطرواديون وحلفاؤهم رجالَهم هناك في ذلك اليوم.

وكان يقود الطرواديين «هكتور» العظيم ذو الخوذة البراقة، ابن بريام، وكان يسير معه خير جيش بين الجيوش وأعظمها مهارة في أساليب القتال.

أما الدردانيون فكان يقودهم «أينياس» الشجاع، ابن «أنخسيس» وقد أنجبته له «أفروديت» الفاتنة، وسط منحدرات أيدا، وهي ربة اضطجع معها إنسان من البشر. ولم يكن «أينياس» بمفرده، بل كان ابنا «أنتينور»: «أرخيليوخوس» و«أكاماس»، البارعان في أفانين القتال.

أما مَن كانوا يعيشون في زيليا وراء السفح الأدنى لأيدا، أولئك الأثرياء الذين يشربون مياه أيسيبوس القاتمة، والترويس، فكان يقودهم «أنداروس» ابن «لوكادون» المجيد، وهو الذي حباه أبولو نفسه بالقوس.

ومن كانوا يحتلون أدراستيا وبلاد البايسوس، ومن احتلوا بيوتويا وأكمة تيريا الشاهقة، فكان يقودهم «أدراستوس» و«أمفيوس» ذو الدرع الكتانية، ابنا «ميرويس البيركوتي»، الذي كان يفضل الرجال جميعًا في العرافة، ولم يكن راغبًا في أن يحمل ولدَيْه مشقة الذهاب إلى الحرب، جالبة الخراب للبشر، ولكن الوالدين لم يصغيا قط إلى نصحه؛ لأن الموت الأسود كان يدفعهما إلى حتفهما دفعًا.

ومن كانوا يقطنون حول بيركوتي وبراكتيوس، ومن كانوا يحتلون سيستوس وأبودوس وأريسبي العظيمة، كان يقودهم ابن «هورتاكوس»؛ «أسيوس»، قائد البشر — «أسيوس» بن «هورتاكوس» الذي حملته جياده الأصيلة العالية من أريسبي، من نهر سيليس.

وقاد «هيبوثوس» قبائل «البيلاسجي» التي تقاتل برماحها، وأيضًا أولئك الذين كانوا يقيمون في لاريسا العميقة التربة. هؤلاء كان يقودهم «هيبوثوس» و«بيلايوس»، من نسل «أريس»، ابنا «ليثوس» البيلاسجي، ابن «تيوتاموس».

أما التراقيون فقادهم «أكاماس» و«بايروس»، المحارب، وكذلك جميع الذين يحتضنهم مجرى الهيليسبونت العتيد.

وكان «يوفيموس» قائدًا للرماحين الكيكونيين. وهو ابن الملك «ترويزينوس» بن «كياس»، وربيب زوس.

أما «بورايخميس»، فقاد البيونيين ذوي الأقواس المقوسة، من بعيد، خارج أمودون، من نهر أكسيوس المتدفق باتساع، أكسيوس الذي تتدفق فيه مياهه كأجمل ما يكون على وجه الأرض.

و«البافلاجونيون»، قادهم «بولايمينيس» الجريء القلب من بلاد الأينينتي التي هي موطن سلالة إناث البغال الوحشية. وكان هؤلاء يحتلون كوتوروس ويقيمون حول سيسامون، وكانت مساكنهم الذائعة الصيت حول نهر بارثينيوس وكرومنا وأليجيالوس وأروثيني السامقة.

ومن بين «الموسيين»، كان «خروميس» و«أنوموس» العراف، قائدين، ورغم عرافة هذا فإنها لم تدفع عنه القدر المشئوم؛ إذ قُتل بيد ابن «أياكوس»، السريع القدمين، بقرب النهر حيث كان أخيل يُنزل الخراب بالطرواديين وحلفائهم.

وقاد «ناستيس»، «الكاريين»، الغلاظ الألفاظ، الذين كانوا يحتلون ميليتوس وجبل فثيريس، الغزير الأوراق، ومجاري مياندر المائية، ومرتفعات موكالي الشاهقة. وكان يقود هؤلاء القائدان «أميفماخوس» و«ناستيس»، ابنا «نوميون» المجيدان. وجاء «ناستيس» إلى الحرب يتحلى كله بالذهب، كما لو كان فتاة، فيا له من أحمق! بيد أن ذهبه لم يغنه شيئًا، ولم يدفع عنه الحتف الأليم. فقد قُتل في النهر بيد ابن أياكوس، السريع الأقدام، وقام أخيل الحكيم القلب بتجريده من الذهب!

وكان «ساربيدون»، و«جلاوكوس» عديم النظير، قائدين على «اللوكيين» — من الجهات النائية من لوكيا — ومن كسانثوس الزاخرة بالدوامات.

١  كان «نيليوس» ابنَ «بوسايدون» ووالد اثني عشر ابنًا أشهرهم «نسطور».
٢  ابن زوس وأحد آلهة أوليمبوس العظام. تختلف وظائفه كثيرًا عن وظائف باقي الآلهة؛ فهو إله الريح ومنادي زوس والآلهة الآخرين.
٣  حفيد زوس.
٤  ابن «بيلوبس» وشقيق أتريوس ووالد أيجيسثوس من ابنته بيلوبيا.
٥  هو مارس، إله الحرب، وأحد آلهة أوليمبوس.
٦  سمِّي هذا البحر بهذا الاسم نسبة إلى أسطورة «إيكاروس» الذي لم يطع كلام أبيه الذي حذره من الطيران عاليًا بأجنحةٍ من الريش والشمع من صنع أبيه حتى لا تذيب الشمس الشمع ولكن «إيكاروس» لم يطع كلام أبيه فسقط في البحر الذي سُمِّي باسمه عقب هذا الحادث.
٧  كان «لايرتيس»، والد «أوديسيوس»، أحد الذين اشتركوا في حملة بحرية مشهورة.
٨  أحد المحاربين الإغريق أمام طروادة. كان يصوَّر في هيئة رجلٍ بشع الخلقة كسيحًا بعض الشيء.
٩  هو عراف أو منجم إغريقي إبان الحرب الطروادية، ومن نبوءاته الشهيرة أن طروادة لن تسقط إلا بمساعدة «أخيل»، وأن الحرب ستستغرق عشر سنين … إلخ.
١٠  ميناء في «بيوتيا» حيث كان الأسطول الإغريقي يحتشد قبل إبحاره ضد طروادة.
١١  نسبة إلى «جيرينيا» وهي في «ميسينيا» مسقط رأس «نسطور».
١٢  ملك «كريت». كان أحد المحاربين البواسل في طروادة. وقد أقسم لرب البحر أن يقدم له أول شيءٍ يقابله ذبيحة، إذا أعاده إلى وطنه سالمًا أثناء هبوب زوبعةٍ عاتية، فكان أول من التقى به ابنه، فلم يفِ بوعده وتلت ذلك مجاعة، فطرده الكريتيون، فعبر البحر إلى إيطاليا وعاش فيها.
١٣  هو «أجاكس» أحد المحاربين الإغريق عند طروادة.
١٤  ملك «كالودون». عندما بلغ سن الرشد قتل أخاه فاضطر أن يهجر وطنه. ووفق إلى مأوًى جديد مع ملك «أرجوس».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤