الأقصوصة

كان ضباب الخريف الملبَّد في مطلع النهار لا يزال يُدثر القاعات الفسيحة في فناء قصر الأمير، عندما بدأت العين تُميز من خلال القناع الذي يشفُّ رويدًا رويدًا حملة الصيد كلها وهي تموج بالخيول والمُشاة في حركةٍ مختلطة. كان من السهل على المرء أن يتعرَّف على المَشاغل العاجلة للقريبين؛ فهذا يمدُّ الركاب، وهذا يقصره، وواحد يُناول صاحبه البنادق والمخلات، وآخر يُصلح من وضع حقائب الصيد، بينما الكلاب تنبح فارغةَ الصبر في قيودها، وتُهدد المُتباطئين بجرِّهم معها، كذلك لم يخْلُ الأمر هنا أو هناك من جوادٍ ينمُّ مسلكه عن الشجاعة، تدفعه طبيعته النارية أو يُنبهه مِهماز الفارس الذي لم يستطع في هذا الضوء المُعتم أن يُخفي قدرًا من صلفه واعتداده بنفسه. ومع ذلك فقد كان الجميع في انتظار الأمير الذي ذهب يُودع زوجته فتباطأ عليهم كثيرًا.

كان قد عُقِد قِرانهما منذ عهدٍ غير بعيد، فأحسَّا بالسعادة التي تُظلل وجدانَين مُتجانسين في طبيعتهما، وكان كلاهما ذا طبع فعَّال مُفعَم بالحياة يُشارك عن طِيب خاطر في ميول صاحبه ومطامحه. ولقد كُتِب لوالد الأمير أن يحيا تلك اللحظة وينتفع بها، حين أصبح من الأمور الواضحة أن على رجال الدولة جميعًا — بما يُوافق طبيعة كل واحد منهم — أن يقضوا أيامهم في العمل والإبداع، وأن يلتفتوا إلى ما يعود عليهم بالنفع قبل أن ينصرفوا إلى اللذة والاستمتاع.

كشفت هذه الأيام عن مدى نجاح هذا الرأي، حيث وافق ذلك انعقاد السوق الكبير الذي يستطيع الإنسان بغير مبالغة أن يُطلق عليه اسم المهرجان. ولقد صحب الأمير بالأمس زوجته مُتجولًا على صهوة جوادَيهما بين أكوام البضائع المُكدَّسة، وأراها كيف تتفاوت الطبيعة في هذه البقعة بالذات بين الجبل والسهل فيلتقيان التقاءً يسرُّ العين، كما عرف كيف يجذب انتباهها إلى مظاهر الحياة النشيطة في هذه المنطقة من البلاد.

وإذا كان الأمير قد انصرف في هذه الأيام الأخيرة انصرافًا تامًّا إلى تدبير هذه الأمور المُلحة مع رجال حكومته، وراح يعمل بوجهٍ خاص مع وزير ماليَّته عملًا لا ينقطع، فلم يتنازل ناظر الصيد مع ذلك عن حقه؛ إذ كان من رأيه أن من المستحيل على الإنسان أن يُقاوم الإغراء الذي يُحفزه في هذه الأيام المُواتية من فصل الخريف إلى أن يقوم برحلةِ صيدٍ سبق تأجيلها من قبل، وأن يُتيح بذلك لنفسه ولكثير من الأغراب الوافدين عيدًا فريدًا نادرًا.

تخلَّفت الأميرة عن المشاركة في رحلة الصيد؛ فقد كان في النية أن يتوغَّل الأمير وصحبه في الجبل؛ لكي يُقلقوا السكان المُسالمين في تلك الغابات بحملتهم التي لم تخطر لهم على بال.

لم ينسَ الأمير وهو يُودع زوجته أن يقترح عليها نزهةً تقوم بها في صحبة عمه «فريدريش»: «وكذلك أترك لك (كما قال لها) «هونوريو» سائس الإسطبل، ومعه حاجب القصر وخادم البلاط، الذي سيهتمُّ بكل شيء.» وبعد أن ختم هذه الكلمات أخذ يُلقي، وهو يهبط درجات السُّلم، بالتعليمات الضرورية إلى شابٍّ حسن البنيان، ثم سرعان ما اختفى مع ضيوفه وحاشيته.

اتَّجهت الأميرة، بعد أن لوَّحت بمنديلها لزوجها وهو يهبط إلى فناء القصر، إلى الغرفة الخلفية التي كانت تُطلُّ على الجبل، وتسمح للعين بإلقاء نظرة طليقة عليه، يزيد من حُسنها أن القصر نفسه كان يقع على مُرتفَع من النهر، ويُتيح للمتأمل رؤًى منوَّعة حافلة بالمعاني. وجدت المِنظار الرائع في موضعه الذي تركوه فيه بالأمس عندما كانوا يتجاذبون الحديث، ويتأملون الأطلال العالية الباقية من البرج العتيق من وراء الدغل والجبل وقِمم الأشجار في الغابة، يكسوها ضوء المساء بلونٍ عجيب، وتخلع عليها كتلٌ عظيمة من الأنوار والظلال أوضحَ صورة لأثرٍ مَهيب من آثار الأزمنة السالفة. كذلك أوضح لها صباح اليوم من خلال الزجاج المقرَّب على نحوٍ مُلفِت للانتباه تلك الأنواعَ المختلفة من الأشجار يكسوها الخريف بألوانه، وترتفع عاليةً من بين الأسوار لا يعوقها شيء، ولا ينالها بالتلف شيء. بيْدَ أن السيدة الجميلة أمالت المِنظار إلى مستوًى أعمق، ووجَّهته ناحية أرض مُسطحة خرِبة تكثر فيها الأحجار، كان لا بد لموكب الصيد أن يمرَّ بها في طريقه. أخذت تنتظر اللحظة صابرة، ولم يخُنها إحساسها؛ فإن وضوح الآلة وقدرتها على التكبير قد مكَّنت عينَيها الساطعتين من رؤية الأمير وناظر الإسطبل رؤيةً جلية، حتى إنها لم تملك نفسها من التلويح مرةً أخرى بمنديلها، حين خُيِّل إليها كأن الركب يتوقف لحظة عن المسير، وأن الأمير يلتفت وراءه، وإن كان ذلك أقرب إلى التخمين منه إلى الإدراك الواضح.

دلف عم الأمير، واسمه «فريدريش»، من الباب بعد أن أعلن الحاجب مَقدمه، ومعه رسَّامه يحمل حقيبةً كبيرة تحت إبطه. قال الرجل العجوز المَتين البنيان: «ها نحن نعرض عليك مَناظر قلعة العائلة مرسومةً من جوانب مختلفة؛ لتُبين كيف استطاع هذا البِناء الهائل الصامد الواقي من أقدم الأزمنة أن يتصدى للأعوام وتقلبات أجوائها، وكيف كان من المحتوم أن يتصدع السور المُحيط به هنا وهناك، وينهار في هذا الموضع أو ذاك، فيصبح أطلالًا بالية. لقد قمنا بما يجعل هذه الخرِبة المُوحِشة الأطلال ميسورةً لكل قدم تريد أن ترتادها؛ إذ لم تكن في حاجة إلى أكثر من ذلك لكي تتملك الدهشة كل سائح، وتستولي البهجة على كل زائر.»

استطرد الأمير يشرح اللوحات المرسومة واحدة بعد الأخرى: «هنا، حيث يصعد الإنسان مع النفق عبر الأسوار الخارجية المتحلقة فيبلغ القلعة، تُواجهنا صخرة من أشد صخور الجبل كله صلابة، يرتفع فوقها برجٌ مُحاط بالأسوار، ومع ذلك فما من أحد يستطيع أن يقول أين تتوقف الطبيعة، وأين يبدأ الفن والصنعة من يد الإنسان.

ثم تُبصر العين من الناحية الجانبية حوائط مُلتصقة به، وساحة تمتدُّ هابطةً على هيئة سلاملك. على أنني لا أُحسن التعبير تمامًا، فهي في حقيقة الأمر غابة تلك التي تلتفُّ حول القمة السحيقة القِدم. منذ مائة وخمسين عامًا لم تُسمع هنا دقة فأس، وفي كل مكان تسمق الجذوع الهائلة عاليةً في السماء، وحيثما اقتربت من الجدران واجَهتك أشجار الجميز الأملس، والبلوط الخشن، والصنوبر النحيل بسيقانها وجذورها. علينا أن نلتفَّ حول هذه الأشجار، ونتلمس دربنا على هدًى وبصيرة. انظري كيف عبَّر فنَّاننا البارع عن هذه الجوانب المُميزة على الورق فأحسن التعبير، وكيف بيَّن الأنواع المختلفة من السيقان والجذور وهي تتشابك بين الجدران، والأغصان القوية وهي تنساب بين الثغرات! إنها برِّيةٌ مُوحِشة لا نظير لها، محلٌّ شاءت الصدفة أن يكون فريدًا في نوعه، يتضح فيه كيف تشتبك أقدم آثار القوة الإنسانية التي عفا عليها الزمان، مع الطبيعة التي تُواصل حياتها وخلقها منذ الأزل في صراعٍ جادٍّ كل الجد.»

ثم استطرد قائلًا وهو يُقدم لها لوحةً أخرى: «ماذا تقولين الآن عن فناء القصر الذي لم يرتَدْه أحد منذ أن انهارت بوابة البرج، ولم تطأه قَدم من أعوام لا تعيها ذاكرة إنسان؟ لقد حاولنا أن نبلغه من الناحية الجانبية؛ خرقنا الجدران، وفجَّرنا الأقبية، وعبَّدنا بذلك طريقًا مُريحًا ولكنه سوي. لم نجد حاجة لإزاحة شيء من داخل الفناء عن مكانه، فهنا قمة صخرية مُسطحة سوَّتها الطبيعة، ولكن بعض الأشجار العظيمة قد وجدت الحظ والفرصة المُواتية لتضرب بجذورها هنا وهناك. لقد نمَت في وداعة، ولكن بشكلٍ ملحوظ، وهي الآن تمدُّ أغصانها حتى تصل إلى داخل الأروقة، التي كان الفُرسان فيما مضى من الزمان يقطعونها جيئة وذهابًا، بل إنها لتنفُذ من خلال الأبواب والنوافذ حتى تبلغ الردهات ذات الأسقف المُقوسة، التي لم نشأ أن نطردها منها، فقد أصبحت السيدة المسيطرة عليها، ومن حقِّها أن تبقى كذلك. لقد اكتشفنا، ونحن نكنس الأرض من أكوام ورق الشجر، أعجبَ مكانٍ مُستوقَد لا تقع العين على شبيه له في العالم كله.

على أن الجدير بالملاحظة بعد هذا كله، أن يرى المرء في نفس الموضع كيف ضرب جذر الجميز في الدرجات الصاعدة إلى البرج الرئيسي، وكيف ارتفع على هيئة شجرة شامخة عظيمة، حتى ليشقُّ على الإنسان أن ينفُذ منها ليعتلي شرفة البرج، ويُمتع بصره بمشهدٍ غير محدود.

لنشكر إذن الفنان البارع الذي جعلنا نقتنع بكل ما أبدعته يده من صورٍ مختلفة إبداعًا خليقًا بالحمد، حتى ليُخيَّل إلينا ونحن نُشاهدها كأننا ماثلون فيها بأشخاصنا. لقد كرَّس لذلك أجمل ساعات الأيام والفصول، وقضى أسابيع طويلة في الطواف حول هذه الموضوعات. جهَّزنا له وللحارس الذي عهِدنا إليه بمرافقته مَسكنًا صغيرًا مُريحًا في هذا الركن. إنك لا تستطيعين يا عزيزتي أن تتصوري مدى ما بلغته المَشاهد التي أعدَّها لنفسه هناك من جمال؛ لكي يُطلُّ منها على الطبيعة والفناء والأسوار. إنه بعد أن خطَّط كل شيء تخطيطًا صافيًا مُميزًا، سينصرف هنا إلى تنفيذها على راحته. نريد أن نُزين بهْوَ حديقتنا بهذه الصور، ولا نسمح لأحد بأن يُمتع عينَيه بحوض زهورنا وعرشنا وممرَّاتنا الظليلة المُمهدة، حتى نتأكد من رغبته في أن يعتلي هذا المُرتفَع الماثل هناك، ويتملى من رؤية القديم والجديد والجامد والصامد رؤيةً صادقة، ويتفكر في كل ما لا تنال منه يد الزمان، وما ينبض بنضارة الحياة، فيما يتثنى وينساب، وفيما لا سبيل إلى مقاومة سحره.»

دخل «هونوريو» وأعلن أن الجياد مُعَدة للركوب، فقالت الأميرة، مُلتفتة إلى عمها: «دَعنا ننطلق بخيولنا إلى أعلى؛ حتى تُريني في الواقع ما بيَّنته لي في الصورة. منذ أن حضرت إلى هذا المكان وأنا أسمع بهذا المشروع، وها أنا أُحس بالشوق الشديد يدفعني إلى أن أرى بعيني ما بدا لي في الرواية مستحيلًا، وما يظل في المحاكاة أمرًا لا يحتمل التصديق.» رد الأمير قائلًا: «لم يئنِ الأوان بعدُ يا حبيبتي. إن ما شاهدتِه هنا هو ما يمكن أن يكون وما سيكون، فلم تزَل هناك صعوبات لم يتم تذليلها. إن الفن ينبغي عليه أن يبلغ الكمال إذا أراد ألا يخجل من الطبيعة.»

– «لننطلق على الأقل في الطريق الصاعد، حتى ولو لم نصِل إلا إلى السفح. إنني أُحس اليوم بشوقٍ شديد إلى التوغل في العالم والتطلع إلى ما فيه.»

أجابها الأمير قائلًا: «ليكُن لك كل ما تشائين.» واستطردت السيدة قائلة: «ولكن دعنا نقُم بجولة خلال المدينة، فنعبُر السوق الكبير الذي احتشد بعدد لا حصر له من الدكاكين التي بدَت على هيئة مدينة صغيرة أو مُخيَّم عسكري. لَكأني بحاجات الأُسر جميعها في هذه البلاد وبمشاغلها قد انطلقت من مكانها، وتجمَّعت في هذا المركز، وبرَزت في ضوء النهار؛ ذلك أن المُلاحظ المُدقق يرى هنا كل ما يُنجزه الإنسان وكل ما يحتاج إليه، وقد يتوهَّم المرء لحظةً أن المال لم تعُد له ضرورة، وأن كل تجارة يمكن أن تتمَّ هنا عن طريق التبادل، وكذلك الأمر في الحقيقة. منذ أن أتاح لي الأمير بالأمس أن أُلقي نظرةً شاملة على هذا كله، وأنا أجد لذة في أن أُفكر كيف يستطيع سكان الجبال وسكان الريف — وهما يتلاقيان على حدود مشتركة — أن يُعبروا بمثل هذا الوضوح عما يحتاجون إليه وما يرغبون فيه. فكما يعرف ساكن المناطق المرتفعة كيف يُشكل خشب غاباته في مئات من الصور والأشكال، ويصنع من الحديد أنواعًا متعددة تُوافق كل طلب، فكذلك يُقابله ساكن الريف بألوانٍ مختلفة من البضائع، يكاد الإنسان يعجز عن تحديد المادة التي صُنعت منها، كما يعجز في أغلب الأحيان عن تبيُّن الهدف من ورائها.»

رد الأمير قائلًا: «أعلم أن ابن أخي يُوجه لهذه المسألة أوفى نصيب من عنايته؛ إذ إن من أهم الأمور في هذا الفصل من فصول السنة أن يأخذ الإنسان أكثر مما يُعطي، وإن تحقيق ذلك لهُو في نهاية الأمر غاية تدبير سياسة الدولة كلها، كما هو لب التدبير المنزلي في أصغر البيوت وأقلها شأنًا، لكنني ألتمس منك المعذرة يا عزيزتي؛ فإنني لا أتجوَّل أبدًا عن طِيب خاطر على صهوة جوادي في الأسواق والمهرجانات، ففي كل خطوة أجد من يعترض طريقي ويُوقِف سيري، وعندئذٍ يشبُّ لهب الكارثة الفظيعة مرةً أخرى في مُخيِّلتي؛ تلك الكارثة التي اشتعلت أمام عيني عندما رأيت النار تأكل مثل هذه الأكداس المُكدَّسة من البضائع. إنني لم أكد …»

قاطَعته الأميرة بقولها: «لا تدعنا نُضيع على أنفسنا هذه الساعات الجميلة؛ فقد سبق لهذا الشيخ الجليل أن أفزعها بالوصف المُفصَّل لتلك الكارثة؛ إذ كان في رحلةٍ طويلة، وقد لجأ إلى فراشه بعد أن أضناه التعب، في أفضل فندق في السوق الذي كان يضجُّ باحتفالات المهرجان الرئيسي، عندما هبَّ من نومه فزعًا على أصوات الصراخ وألسنة اللهب التي كانت تزحف على غرفته.»

أسرعت الأميرة تعتلي صهوة جوادها الأثير، وقادت صاحبها نحو الباب الأمامي مُنحدرة مع الطريق الهابط من الجبل، بدلًا من أن تسير به نحو الباب الخلفي على الطريق الصاعد إليه، والأمير على أثرها يتنازعه القبول والعصيان؛ إذ من ذا الذي لا يقبل عن طِيب خاطر أن يُرافقها، وأين من كان يتردد عن متابعتها راضيًا سعيدًا؟ وكذلك تأخَّر «هونوريو» بمحض اختياره عن اللحاق بموكب الصيد الذي كان دائمًا ينتظر موعده بفارغ الصبر؛ لكي يكون رهن إشارتها هي وحدها.

هكذا راحا يشقَّان طريقهما في السوق خطوةً خطوة كما كان مُنتظرًا لهما، ولكن الجميلة الجديرة بالحب كانت تُضفي على كل وقفة يقفانها روحًا من المرح بملاحظة من ملاحظاتها الذكية.

قالت: «إنني أستعيد الدرس الذي تلقيَّته بالأمس؛ إذ إن الضرورة تشاء على ما يبدو أن نمتحن صبرنا.» والواقع أن جموع الناس كانت تتدفق على الفارسَين تدفقًا جعلهما يُتابعان طريقهما في بطءٍ شديد. تطلَّع الشعب مُبتهجًا إلى السيدة الشابَّة، وتجلَّى على الوجوه العديدة المُبتسمة ارتياحٌ غامر، وهي ترى كيف أن السيدة الأولى في البلاد هي في نفس الوقت أجمل السيدات وأرقُّهنَّ.

كانت الجماهير المُحتشدة في السوق مزيجًا من سكان الجبال الذين يرعَون مساكنهم الهادئة بين الصخور وأشجار الصنوبر، ومن سكان السهول القادمين من التلال والمراعي والمروج، وأرباب الحِرف والصنائع من المدن الصغيرة وغيرهم ممَّن تجمَّعوا هناك. ألقت الأميرة نظرةً هادئة على الجموع المُتزاحمة قبل أن تُعبر لصاحبها عما لاحظته قائلة: «إن هؤلاء الناس جميعًا، على اختلاف مواطنهم، قد لبِسوا من الثياب أكثر من حاجتهم، ومن الأقمشة وأشرطة الزينة ما يفيض عليهم، وكأن النساء لا يَقنعْنَ بالتباهي، والرجال لا يشبعون من اللهو والفراغ.»

رد عليها الأمير قائلًا: «فلندَع لهم التصرف في ذلك كما يَحْلو لهم، فحيثما وجد الإنسان ما يفيض على حاجته الضرورية، كان أكثر ما يُرضيه ويُدخل السرور على قلبه أن يتزيَّن به ويَزْدان.» هزَّت السيدة الجميلة رأسها موافقةً على هذا الكلام.

وهكذا بلغا في مَسيرهما ساحةً خالية كانت تؤدي إلى مدخل المدينة، وتبيَّنا بوضوحٍ مبنًى عظيمًا نُصِب من القوائم والألواح، يقع في نهاية عدد كبير من الدكاكين ومحالِّ التجارة الصغيرة، ما كادا يلمحانه حتى سمعا صراخًا هائلًا يُمزق الآذان.

كان يبدو أن ساعة إطعام الحيوانات المُتوحشة التي تُعرَض هناك قد دنَت. أخذ الأسد يزأر بصوته الذي تعرفه الغابات والصحاري زئيرًا عاليًا، وراحت الجياد تنتفض، ولم يكن في وُسع المرء أن يمنع نفسه من أن يُلاحظ كيف يُعلن ملك القفار عن نفسه على هذا النحو المُخيف وسط العالم المُتحضر المُسالم بطبيعته وأفعاله. لم يكن في وُسعهما وهما يقتربان من صالة العرض أن يُغفلا اللوحاتِ الملوَّنة الهائلة التي تُصور بألوانٍ صارخة ورسومٍ قوية التأثير تلك الحيوانات الغريبة، التي لا بد أن المُواطن المُسالم يُحسُّ متعةً غلَّابة في التفرج عليها. كان هناك نمرٌ عابسٌ ضخم يقفز على زنجيٍّ أسود يريد أن يُمزقه إربًا، وأسدٌ يقفُ في جلال وقفةً مَهيبة، كأنه لا يرى أمامه فريسةً جديرة بأن يهجم عليها، وكانت هناك إلى جانب ذلك مخلوقاتٌ عجيبةٌ ملوَّنة لم تكُن تستحقُّ سوى نصيب ضئيل من الاهتمام.

قالت الأميرة: «نريد عند عودتنا أن نهبط من على ظهور جيادنا، ونتأمل الضيوف النادرة عن كثب.» رد الأمير قائلًا: «من العجيب حقًّا أن الإنسان يريد دائمًا أن يستثيره شيءٌ مُفزِع. إن النمر يرقد في قفصه في غاية الهدوء، أما في هذه الصورة فلا بد له أن يقفز في شراسة على زنجي؛ لكي يعتقد الناس أنهم سيرَون مثل هذا المشهد في الداخل، وكأن البشر لا يكفيهم ما في العالم من قتل واغتيال، ومن حريق ودمار، فيضطرُّ المُغنُّون في الشوارع أن يُكرِّروا عند كل زاوية أن الناس يريدون دائمًا أن يدخل نفوسهم الرعب؛ لكي يشعروا بعد ذلك كم هو جميلٌ أن يتنفس الإنسان في حرية، وكم هو شيءٌ خليق بالحمد والثناء.»

ومهما يكُن من الضِّيق الذي تركته هذه الصور المُفزِعة في النفوس، فقد زال كل أثر له على الفور عندما وصلا إلى الباب، ووجدا أنفسهما يدخلان منطقةً بهيجةً صافية الأديم. كان الطريق يُفضي إلى حافَّة النهر، الذي لم يزِد عن أن يكون مجرًى ضيقًا من الماء لا يحمل غير القوارب الخفيفة، وإن كان قد اشتهر اسمه على مر الأيام، فعُرِف بالنهر العظيم الذي يمرُّ ببلدانٍ عديدة فيُنعشها بالحياة. ثم واصل الرَّكب صعوده في هدوء ورفق بين بساتين فاكهة وحدائق زينة بُولِغ في العناية بها، وأخذوا يتطلعون حولهم إلى الناحية الطليقة الآهِلة بالسكان، حتى اعترضتهم أجمة شقُّوا طريقهم خلاله، ثم احتوتهم غابةٌ صغيرة، وزادت المناظر الخلَّابة نظرتهم حِدَّة، وأنعشتهم، وتلقَّاهم بالترحاب وادٍ من المراعي مائلٌ إلى الارتفاع، يُشبِه بساطًا من القطيفة اجتُثَّت أعشابه للمرة الثانية منذ عهد قريب، ترويه عينٌ ثرَّة تسيل في غزارة وحيوية من مرتفعٍ قائم فوقه. وهكذا تابعوا سيرهم متَّجِهين إلى موضعٍ أكثر ارتفاعًا ورحابة، بلغوه وهم في سبيلهم إلى الخروج من الغابة بعد أن بذلوا في الصعود إليه جهدًا شاقًّا، عندئذٍ أبصروا القلعة العتيقة، هدف رحلتهم، على مسافةٍ غير قليلة منهم، تسمق شامخةً خلف مجموعات جديدة من الأشجار، وكأنها قمةٌ صخرية أو ذؤابة شجر في الغابة. ولمحوا خلفهم — إذ إن من المستحيل على الإنسان أن يبلغ هذا المكان دون أن يتلفت وراءه — من خلال ثغرات اتفق وجودها بين الأشجار العالية، قصْرَ الأمير في الجهة اليسرى، تغمره أشعة شمس الصباح، والجزء العلوي من المدينة تلفُّه سُحبٌ خفيفة من الدخان، أما في الجانب الأيمن فقد لمحوا على الفور الجزء الأسفل من المدينة والنهر بتعرُّجاته ومراعيه وطواحينه، كما تبيَّنوا قِبالتَهم منطقةً شاسعةً حافلة بالزرع والثمر.

بعد أن أشبعوا عيونهم من رؤية هذا المشهد، أو بالأحرى بعد أن أحسُّوا بالشوق يدفعهم إلى رؤية مشهد آخر أبعد منه وأرحب، على نحو ما يحدث لنا عادةً حين نتلفت حولنا من مكانٍ شامخ كهذا، مضَوا بخيولهم نحو بقعة مُسطحة عريضة مملوءة بالأحجار، وهناك واجَههم الطَّلل العظيم كأنه قمةٌ يعلوها تاجٌ أخضر، وعند قدمَيه على عمقٍ كبير تنمو بعض الأشجار الهرمة. انطلقوا يعبُرون هذه المنطقة الصخرية، حتى وجدوا أنفسهم يقفون أمام أشد جوانبها انحدارًا وأكثرها وعورة. كان ثَمة صخورٌ هائلة تقف في مكانها من أقدم الأزمنة، لم تمسسها يد التحول، ثابتةٌ متينة البنيان، تتعالى على هيئة الأبراج. أما الأكوام المُنهارة بينها من الصفائح الضخمة والأنقاض المُتراكمة المختلطة، فقد بدَت عصيَّة على هجوم أشجع الشجعان، ولكن يظهر أن المُنحدَر يُوافق طبع الشباب؛ فالإقدام على قهره والمُخاطرة بغزوه والانقضاض عليه متعةٌ تلذُّ للأعضاء الشابَّة. أبدَت الأميرة رغبتها في المحاولة، ووقف «هونوريو» على أُهبة الاستعداد لمرافقتها. أما الأمير العم فقد تمهَّل قليلًا قبل أن يُبدي موافقته؛ إذ لم يشَأ أن يظهر في مظهر الضعيف عنهم. كان عليهم أن يُوثقوا الجياد في الأشجار القائمة عند السفح، وأن يبلغوا نقطةً تبرز عندها صخرةٌ هائلة، تنبسط فوقها بقعةٌ مستوية يمكن للعين أن ترى منها مشهدًا ربما اقترب من نظرة الطائر، ولكنه مع ذلك يمتدُّ في مَشاهد متعددة بهيجة الألوان.

كانت الشمس، وقد أوشكت أن تتبوَّأ سَمْتها الأعلى، تُرسِل ضوءًا باهرًا، وبدا قصر الأمير بأجزائه المختلفة، وأبنيته الرئيسية، وأجنحته وقِبابه وأبراجه فخمًا رائعًا، والجزء الأعلى من المدينة في كامل امتداده، وكان من السهل أن يتوغَّل الإنسان ببصره في جزئها الأسفل، بل لقد كان في وُسعه أن يُميز بين محالِّ التجارة المنتشرة في السوق من خلال المِنظار المُكبِّر. وكان من عادة «هونوريو» أن يُحكِم وضع مثل هذه الأداة النافعة، فاستطاع الناظرون من خلالها أن يروا النهر المُنحدر شمالًا وجنوبًا، وأن يتأملوا الأراضي الخصبة من الناحية القريبة على هيئة سلاسل من الجبال مُتدرجةً مُتقطعة، ومن الناحية البعيدة على شكل تلال مُعتدلة، وأن يلمحوا من القرى ما لا حصر له؛ فقد تعوَّد الناس من قديم الزمان أن يختلفوا على العدد الذي يمكن أن تراه العين منها من فوق هذا المكان المرتفع.

على مدى الأُفق الشاسع رقد سكونٌ صافٍ، على نحو ما هو مألوف في ساعات الظهيرة، حين كان العجائز يقولون إن «بان»١ ينام في مثل هذا الوقت، وإن الطبيعة تحبس أنفاسها لكيلا تُوقظه.

قالت الأميرة: «ليست هذه هي أول مرة أقف فيها على مثل هذا المرتفع الشاهق المُطلِّ على المدى البعيد، وأتأمل كيف تبدو الطبيعة الصافية نقيةً مُسالمة، وكيف توحي للإنسان كأنه لا يمكن أن يكون في العالم شيءٌ مُنغِّص على الإطلاق، حتى إذا عاد المرء إلى مساكن البشر، سواء أكانت عالية أم وطيئة، رحبة أم ضيقة، وجد دائمًا ما يُكافح من أجله ويتنازع، وما يُصحح وضعه أو يُصالح.»

هتف «هونوريو»، الذي كان يتطلَّع في هذه الأثناء من خلال المِنظار المُكبِّر، قائلًا: «انظروا إلى هناك! انظروا إلى هناك! لقد بدأ السوق يحترق! وتطلَّع الجميع إلى حيث أشار، فلاحَظوا الدخان يتصاعد، واللهب يُرسِل سحابة من البخار تحجب وجه النهار.» وهتف صوت كان صاحبه ما يزال يتطلَّع من خلال المِنظار: «إن النار تنتشر فيما حولها!» وظهرت الكارثة واضحة لعينَي الأميرة بغير حاجة إلى المِنظار، كانت الأعيُن ترى من حين إلى حين وهجًا ساطع الاحمرار، وتصاعد البخار إلى أعلى، وتكلَّم الأمير العم قائلًا: «هيَّا نعُد أدراجنا، ليس هذا حسنًا؛ لقد كنت أخشى دائمًا أن أحيا الكارثة للمرة الثانية.»

فلما هبطوا إلى السفح، وامتطَوا صهوة جيادهم، قالت الأميرة للسيد العجوز: «أسرِعْ أنت إلى هناك، ولا تنسَ أن تأخذ السائس معك. اترك لي «هونوريو»، وسوف نتبعكم في الحال.»

أحسَّ العم بما في هذه الكلمات من الحكمة، لا بل من الضرورة، وانطلق مُسرِعًا بجواده بقدر ما تسمح به الأرض، هابطًا على المُنحدَر الحجري الخرِب.

قال «هونوريو» بعد أن اعتدلت الأميرة في جِلستها على ظهر الجواد: «يا صاحبة السُّمو! أبتهل إليك أن تسيري ببطء! إن رجال الإطفاء في المدينة والقصر على أحسن نظام، ولن يُربِكهم مثل هذا الحادث المُفاجئ الفظيع. أما هنا فالأرض كثيرة المزالق، مملوءة بالأحجار الصغيرة والأعشاب القصيرة، والإسراع بالركوب لا يُؤتمَن، ولن نبلغ المدينة حتى تكون النار قد أُخمِدت.» لم تستطع الأميرة أن تُصدق ما قال؛ فقد رأت الدخان ينتشر، واعتقدت أنها لمحت برقًا مُتوهجًا، وسمعت رعدًا، وتحرَّكت في مُخيِّلتها كل الصور المُفزِعة، التي أفلحت للأسف حكايةُ العم المُبجَّل المُتكرِّرة عن حريق السوق الذي رآه ذات ليلة، في أن تحفرها فيها حفرًا عميقًا.

كانت تلك الحادثة مُخيفة حقًّا، مُباغِتة ومُؤثِّرة، بحيث تترك في النفس فكرةً مُفزِعة عن الكارثة المُتكرِّرة لا تزول عنها مدى الحياة. كان الوقت ليلًا عندما شبَّ في أرض السوق الواسعة، التي تغصُّ بالمحالِّ الصغيرة، حريقٌ مُفاجئ راح يأكلها واحدًا بعد الآخر، قبل أن يتمكن النائمون في هذه الأكواخ الهشَّة وحولها أن يجفُلوا من أحلامهم العميقة، وقفز الأمير نفسه إلى النافذة، وهو المسافر الغريب الذي وصل من سفره مُتعَبًا ولم يكَد يستسلم للنوم، ورأى كل ما أمامه يتوهَّج بنارٍ مُخيفة، وألسنة اللهب تقفز على اليمين والشمال، وتُوشِك أن تمتدَّ إليه.

انعكست ظلال النيران على البيوت المُنتشرة في السوق، فكسَتها بالحُمرة، وبدَت كأنها تتوهَّج بالفعل، وتُهدَّد بالاحتراق بين لحظة وأخرى. ثار العنصر في الأدوار السفلى ثورةً غاضبةً متَّصِلة، وقعقعَت الألواح الخشبية، وانشقَّت عوارض السقف، وتطايرت الثياب في الهواء، وتناثرت مِزَقُها المُهلهَلة المُلتهِبة التي اسودَّت من الدخان في الجو، وكأن الأرواح الشريرة التي تتقلب في عنصرها، وتتشكل أشكالًا مختلفة، تأكل بعضها بعضًا وهي ترقص جَذِلةٌ نَشْوانة، ثم تعود فتُحاول هنا وهناك أن تشرئبَّ برءوسها من بين أمواج اللهب. أنقذ كل ما وقعت عليه يده وهو يصرخ صراخًا مُفزعًا، وبذل الخدم والأتباع مع أسيادهم أقصى جهدهم ليجرُّوا معهم الأمتعة التي دهمَتها ألسنة اللهب، ويستخلصوا من الأطقُم المُشتعلة ما يستطيعون استخلاصه من بين براثن النيران؛ لكي يضعوها في الصناديق التي لم يجدوا في نهاية الأمر مَناصًا من أن يتركوها طعامًا للهب المُتدافع نحوهم. وكم من واحد منهم تمنَّى لو تسكن النار الزاحفة لحظةً واحدة؛ لكي يُلقي نظرةً مُتأملة على ما حوله، فإذا بالنيران المُشتعلة تتلقَّفه وتأكل متاعه، وما كان يحترق ويتوهَّج في ناحية، كان لا يزال في ناحيةٍ أخرى غارقًا في ليلٍ مُعتِم السواد. أصحاب طِباع عنيدة، أناسُ ذوو إرادة قوية وقفوا في ضراوة يُقاومون العدُو الضاري، واستطاعوا أن يُنقذوا بعض أشيائهم بعد أن خسروا حواجبهم وشعورهم. تجدَّدت للأسف صورة هذه البلبلة المُفزعة أمام روح الأميرة الجميل، فبدا الأفق المُتألق في ضوء الصباح وصفائه غائمًا مُتدثرًا بالضباب، وكست عينَيها سحابة حزن مُعتِمة، واكتسبت الغابة والمراعي مظهرًا غريبًا يخنق الأنفاس.

لم يكَد الركب يهبط إلى الوادي المُسالم الوديع، دون أن يلتفت إلى الرطوبة المُنعِشة المُنبعِثة منه، ويقطع بضع خطوات بعيدًا عن النبع المُتدفق في جدولٍ قريبٍ مُنساب، حتى لمحت الأميرة شيئًا عجيبًا يتحرك في دغلٍ يقع في وادي المراعي السفلى. عرفت على الفور أنه النمر، يقفز قادمًا نحوها كما رأته مرسومًا منذ حين، واجتمعت هذه الصورة إلى الصور المُفزعة التي كانت تشغل بالها في هذه اللحظة، فأثارت في نفسها أعجب الانطباعات. هتف «هونوريو»: «اهربي يا سيدتي الكريمة! اهربي بنفسك!» لوَت زمام الجواد، وسارت به ناحية الجبل الوعر، الذي هبط الرَّكب عليه منذ قليل. أما الشابُّ فواجَه الوحش، وانتزع مُسدسه، وأطلق عليه الرصاص عندما ظن أنه قريب منه بمسافةٍ كافية، غير أن الرصاصة أخطأته للأسف؛ فقد قفز النمر جانبًا، وتعثَّر الجواد، وتابع الحيوان العابس طريقه، وأخذ يصعد الجبل في أعقاب الأميرة مباشرة. راحت تحثُّ الجواد بأقصى سرعةٍ مُمكِنة، صاعدةً على الطريق الحجري الوعر، لا يكاد يُخالجها الخوف من أن يعجز المخلوق الرقيق الذي لم يتعود على مثل هذا المجهود الشاق عن احتمالها. انطلق الجواد بسرعةٍ تفوق طاقته، تُحفِّزه صاحبته المكروبة، فاصطدم بالصخور المُستديرة على المُنحدَر مرتَين، حتى سقط على الأرض فاقِدَ القوة بعدَ مجهودٍ شاقٍّ. لم يُعجِز السيدةَ الجميلةَ أن تقفَ على قدمَيها على الفور، مُصممةً خفيفة الحركة، وكذلك نهض الجواد، ولكن النمر كان يزداد اقترابًا، وإن كان قد كفكف من سرعته قليلًا؛ فقد بدا كأن الأرض الوعرة، والأحجار الناتئة، قد عطَّلت من اندفاعه، ولكن انطلاق «هونوريو» على أثره، وخُطاه المُعتدِلة التي كادت أن تُحاذيه، كان يبدو كأنها تستحثُّ قوَّته وتُحفِّزها من جديد.

بلغ المُتسابقان في نفس الوقت الموضعَ الذي كانت تقِفُ فيه الأميرة مُستنِدةً على جوادها. مال الفارس مُنحنيًا بجسده. أطلق الرصاص من بندقيته الثانية، وأصاب الوحش في رأسه، فسقط لساعته، وتمدَّد بطوله على الأرض، فاتضح للعين بأسه وضراوته المُرعِبة، التي لم يبقَ منها غير صورتها الجسدية.

كان «هونوريو» قد قفز من على جواده، وركع على ركبته أمام الحيوان، وراح يُسكن اختلاجاته الأخيرة، بينما أمسك في يده اليمنى ببندقيته. كان الشابُّ جميل الطَّلعة، وكان قد وثب مُندفعًا إلى الأمام كما اعتادت الأميرة أن تراه في ألعاب الرماية والمصارعة. كذلك كانت تُصيب رصاصاته في مسابقات الفروسية الرأس التركي المثبَّت فوق العمود، وتنفُذ إلى الجبهة تحت العمامة مباشرة، وكذلك كان يغرز بقفزةٍ خفيفة منه سيفَه الناصع في رأس العبد الأسود، فيلتقطه من الأرض. كان في جميع هذه الفنون بارعًا موفور الحظ، وقد اجتمعت كلها هنا على أحسن وجه.

قالت الأميرة: «أجهِزْ عليه؛ فإني أخاف أن يُؤذيك بمَخالبه.» فأجابها الشاب قائلًا: «معذرة، إنه قد شبع موتًا، ولست أُحبُّ أن أُفسِد جِلده، الذي يصلح لأن يُزيِّن لكم مركبة الجليد في الشتاء القادم.»

قالت الأميرة: «لا تُجدِّف! إن كل ما يكمن في أعماق القلب من التقوى والورع، يتفتَّق في هذه اللحظة.» هتف «هونوريو»: «أنا أيضًا لم أكُن في أي وقت مضى أتقى منِّي في هذه اللحظة؛ وأنا لذلك أُفكر فيما يُضفي البهجة على القلب حين أتطلَّع إلى هذا الجلد، وأتصوَّر أنه سيجلب لك المتعة في رحلاتك.» ردت الأميرة قائلة: «إنه سوف يُذكِّرني دائمًا بهذه اللحظة المُفزِعة.»

أجاب الشاب ووجنتاه تلتهبان: «وما هو في الحقيقة إلا علامة انتصار بريئة، كما تُعرَض أسلحة العدو المُنهزم أمام القائد المُظفَّر.» قالت الأميرة: «سوف أذكُر دائمًا جسارتك وبراعتك، ولا يجوز لي أن أُضيف أن في استطاعتك أن تثق مدى الحياة في امتناني لك، وتتأكد من عفو الأمير عنك.

ولكن قِف على قدمَيك، لقد زال من الحيوان كل أثر للحياة، لنتدبَّر ما بقي أمامنا. قِف على قدمَيك أولًا!»

أجابها الشاب قائلًا: «لما كنت أركع الآن أمامك، في وضع قد يُحرَّم عليَّ في كل مناسبة أخرى، فدعيني في هذه اللحظات التي أحظى فيها بالتِفاتك ألتمس اليقين من عطفك، والتأكد من عفوك ورحمتك. لقد طالما توسَّلت إلى زوجك النبيل أن يأذن لي بالسفر في رحلةٍ بعيدة. إن الواجب على من يُسعِده الحظ بالجلوس إلى مائدتكم، ومن تُشرِّفونه بمُسامرة جماعتكم أن يكون قد رأى العالم. إن المسافرين يتدفَّقون علينا من كل مكان، وعندما يدور الحديث عن مدينة من المدن، أو عن بقعة هامة في أي جزء من أجزاء العالم، يسأل الحاضرون زوجكم إن كان قد زارها بنفسه. ولا يُوصَف أحد بالفهم حتى يكون قد رأى ذلك كله، وكأن الإنسان لا يتعلم إلا ليُعلِّم غيره.»

عادت الأميرة تقول: «قِف على قدمَيك! إنني أكره أن أطلب شيئًا أو أتمنى شيئًا يخالف ما يقتنع به زوجي، ولكنني أعتقد، إن لم أكن مُخطئة، أن السبب الذي جعله يستبقيك حتى الآن سيزول قريبًا. لقد كان غرضه أن يراك وقد أصبحت نبيلًا ناضجًا مُستقلًّا، يُشرِّفه ويُشرِّف نفسه في خارج البلاد، كما شرَّفه في البلاط، وأحسب أن صنيعك هذا هو خير جواز سفر يمكن أن يحمله شابٌّ مِثلك ليجوب به أنحاء العالم.»

لم يكن لدى الأميرة متَّسَع من الوقت لتُلاحظ الحزن الذي كسا وجه الشاب بدلًا من فرحة الشباب، ولا كان لدى الشاب وقتٌ للتعبير عن إحساسه؛ فقد هرولت امرأة صاعدةً على الجبل وهي تُمسِك بصبي في يدها نحو الجماعة التي نعرفها، ولم يكَد «هونوريو» ينهض على قدمَيه ويُفيق إلى نفسه، حتى كانت تُلقي بنفسها فوق جثة النمر وهي تُولول وتصرخ. كان من السهل أن يُدرِك المرء على الفور من مسلكها، ومن ملابسها الملوَّنة الغريبة التي كانت مع ذلك نظيفةً مُحتشمة، أنها هي صاحبة هذا المخلوق الممدَّد على الأرض وحارسته. ركع الصبي إلى جانبها، وكان أسود العينَين، أسود خصلات الشعر، يحمل في يده نايًا، ويبكي بكاءَ أمه، في تأثُّرٍ عميق، وإن يكن أقل منها عنفًا.

تفجَّرت لوعة هذه المرأة الشقيَّة جيَّاشةً عارمة، ثم فاض منها نهر من الكلمات مُختنِقٌ مُتدافع، كما يتدفَّق الجدول مُنحدرًا من صخرة إلى صخرة، في لغةٍ فطرية، قصيرة ومُتقطعة، نفَّاذةٍ ومُؤثِّرة، عبثًا يُحاول المرء أن يُترجمها إلى لهجاتنا المألوفة، ولا يجوز لنا أن نتكتَّم عن القارئ مضمونها على وجه التقريب: «قتلوك أيها الحيوان المسكين! قتلوك بغير داعٍ! كنتَ أليفًا، وكان أحب شيء إليك أن ترقد في هدوء وتنتظر حتى نحضر إليك؛ فقد كانت أقدامك تُؤلِمك، ومخالبك زالت عنها القوة! وكنت تفتقد الشمس الدافئة التي تشدُّ بأسها. بين أشباهك كنتَ أجمل النمور. من قُدِّر له أن يرى نمرًا ملوكيًّا في هذه العظمة ممدَّدًا في نومه كما ترقد أنت الآن، ميتًا لا يستطيع أن يقف على قدمَيه؟ حين كنت تستيقظ في مطلع النهار، وتفتح حنكك، وتمدُّ لسانك المُحمرَّ، كنتَ تبدو وكأنك تبتسم لنا، وكنت، على الرغم من زئيرك، تتناول طعامك وأنت تمرح وتلعب من يدَي امرأة، من بين أصابع طفل! ما أكثر ما صحِبْناك في أسفارك، وما أكثر ما كانت صحبتك ضرورية لنا ومُثمِرة!»

لم تكن قد فرغت من شكواها حين لمح الحاضرون فوق المُرتفَع الأوسط من الجبل المُطل على القصر فُرسانًا يندفعون نحوهم، سرعان ما عرفوا فيهم الأتباع المُرافقين للأمير في رحلة الصيد، يتقدَّمهم الأمير نفسه، كانوا يصطادون في المناطق الجبلية الخلفية حين رأوا سحب الدخان تتصاعد من الحريق، فاجتازوا الوِديان والمَهاوي وكأنهم يُطارِدون صيدًا محمومًا، سالكين الطريق المستقيم المؤدِّي إلى هذه العلامة المُحزِنة. وما إن بلغ ركبهم القمة الحجرية العارية حتى توقفوا عن السير، وأخذوا يُبحلقون أمامهم؛ فقد لمحوا الجماعة التي نعرفها مُتميزة تميزًا عجيبًا على الأرض المُستوية الخالية، وبعد التعارف الأول عقدت الدهشة الألسنة، وبعد أن استراحوا بعض الشيء أخذوا يشرحون لهم بكلماتٍ قليلة ما غمض عليهم من المشهد الذي وجدوه أمامهم. وهكذا وقف الأمير أمام الحادث النادر العجيب، تُحيط به كوكبة من الفُرسان والأتباع الذين أسرعوا يلحقون به عند قدمَيه. لم يكن ثَمة مجالٌ للتردد فيما ينبغي فِعله؛ فقد أخذ الأمير يُصدِر أوامره، ويُشرِف على تنفيذها، حين اندفع إلى داخل الحلقة رجلٌ عظيم البُنيان، عليه ملابس ملوَّنة عجيبة تُشبِه ملابس المرأة والصبي. عبَّرت الأسرة مجتمعةً عن ألمها واستغرابها. أما الرجل فقد وقف في اتزانٍ أمام الأمير، تفصله عنه مسافة من البُعد يفرضها الخشوع والإجلال، وقال: «ليس هذا هو أوان الشكوى، آهٍ يا سيدي. يا أيها الصيَّاد العظيم، إن الأسد أيضًا قد أفلت من مكمنه، وانطلق نحو الجبل، ولكن ترفَّقوا به ولا تُؤذوه. كُونوا رحماء حتى لا يُقتَل كما قُتل هذا الحيوان الطيب.»

سأل الأمير: «الأسد؟ وهل تعلَم أثره؟»

– «أجل يا سيدي. إن فلاحًا يسكن هناك في الوادي، استطاع أن ينجو بنفسه فوق شجرة، قد دلَّني على الطريق الصاعد إلى اليسار، ولكنني أبصرت أمامي جماعةً كبيرة من الناس والجياد، فأسرعت إلى هنا يدفعني حب الاستطلاع والتماس المعونة.»

قال الأمير مُصدِرًا أوامره: «إذن فعَلى ركب الصيد أن يتَّجه إلى هذه الناحية. عليكم أن تُعمروا بنادقكم. انصرفوا إلى عملكم في رفق وأناة. لن يقع شر لو طاردتموه إلى مجاهل الغابات، ولكننا لن نستطيع في نهاية المطاف، أيها الرجل الطيب، أن نصون مخلوقكم من الأذى. ما الذي جعلك تُهمل في حراسته حتى أفلت منك؟»

أجاب الرجل قائلًا: «شبَّ الحريق. تمسَّكنا بالهدوء وأعصابنا مُتوفزة. انتشرت النار بسرعة، ولكنها بقيت بعيدة عنا. كان عندنا ما يكفينا من الماء للدفاع عن أنفسنا، ولكن شحنة من البارود طارت في الجو وقذفت بالنيران على مسافةٍ قريبة منا. أسرعنا بالفرار، وها نحن الآن قومٌ تُعساء.»

كان الأمير ما يزال مشغولًا بإصدار أوامره، ومضت لحظةٌ بدا فيها كأن كل شيء يتعثر، عندما رأى الحاضرون رجلًا يُهرول نحوهم من القلعة العتيقة، سرعان ما عرفوا فيه الخفير المُعيَّن لحراسة مرسم الفنان؛ فقد كان يُقِيم فيه، ويتولَّى الإشراف على العمال. أقبل يقفز نحوهم وهو لا يكاد يلتقط أنفاسه، ولم تمضِ لحظة حتى كان يُعلِن بكلماتٍ قليلة أن الأسد قد لجأ إلى السور العالي، وأنه يتمدد هناك في ضوء الشمس، ويرقد في غاية الهدوء عند أقدام شجرة من أشجار الزَّان. ثم أضاف الرجل في سخط: «لماذا حملت بندقيتي أمس إلى المدينة للتنظيف! لو أنها كانت الآن في يدي لما عاد إلى الوقوف على قدمَيه، ولأصبح جلده مِلكًا لي، واستطعت أن أتدثَّر به مدى الحياة.»

عندئذٍ قال الأمير، الذي نفعته تجاربه العسكرية السابقة في هذا الموقف أيضًا، حين كان يجد نفسه في حالاتٍ كثيرة في مواجهة شر لا مَحيد عنه يتهدَّده من نواحٍ كثيرة: «إذا صُنَّا أسدك فأي ضمان تُقدِّمه لي على ألا يؤذي أهل مملكتي؟» رد الوالد مُتعجلًا: «هذه المرأة هنا وهذا الصبي على استعداد لأن يُروِّضاه ويُحافظا على هدوئه، حتى أُحضِر الصندوق المُطعم، فنُعيده إلى مكانه دون أن يناله ضرر، أو يُصيب أحدًا بأذًى.»

بدا على الصبي أنه يريد أن يُجرِّب نايه، وكانت آلة من ذلك النوع الذي اعتاد الناس أن يُسمُّوه بالناي الناعم الحلو. كانت معقوفة كالغليون، ومن عرف كيف ينفخ فيها استطاع أن يُخرِج منها أعذب الأنغام. سأل الأمير الحارس: «كيف تمكَّن الأسد من الوصول إلى ذلك المُرتفَع؟» فردَّ هذا قائلًا: «عبر النفق الذي تُحيط به الأسوار من جانبَيه، وهو الذي كان دائمًا المدخل الوحيد، وينبغي أن يظل كذلك. لقد غيَّرنا معالم الدربَين الصاعدين، بحيث لا يستطيع أحد أن يصل إلى القلعة المسحورة حتى يسلك ذلك الطريق الأول الضيق، الذي يريد الأمير «فريدريش» أن يُنمِّقه بما يشاء له روحه وذوقه.»

تفكَّر الأمير قليلًا، وأخذ يتطلَّع إلى الصبي الذي كان لا يزال يُجرِّب نايه فيخرج منه نغمٌ هادئٌ رقيق، ثم التفت إلى «هونوريو» وقال: «لقد حقَّقتَ اليوم الكثير، فأتِمَّ عمل اليوم. قُم باحتلال الطريق الضيق، وجهِّز بنادقك في حالة استعداد، ولكن لا تُطلِق الرصاص إلا إذا لم تجد وسيلةً أخرى لتخويفه وردِّه على أعقابه مذعورًا. أشعلوا على كل الأحوال نارًا ليخاف منها إذا أراد أن ينزل من مكانه، وما بقي بعد ذلك فسيتعهَّد به الرجل وزوجته.» أسرع «هونوريو» يُنفِّذ ما أُلقي إليه من الأوامر.

أخذ الصبي يُتابع لحنه، الذي لم يكن في الحقيقة لحنًا، بل سلسلة من الأنغام لا تخضع لقانون، وربما كان هذا هو السبب الذي جعلها تأسر القلب. بدا على الواقفين حوله كأنهم مسحورون من وقْعِ هذا النغم الذي ينساب كالنشيد، عندما بدأ الوالد يتكلم في حماسٍ مُعتدل ويقول: «الرب وهب الأمير الحكمة، كما ألهمه المعرفة بأن جميع أعماله حكيمة، كلٌّ بحسب طبيعته؛ انظروا إلى الصخر كيف يقِفُ ثابتًا لا يتحرك، وكيف يتحدى تقلبات الجو وضوء الشمس، أشجارٌ سحيقة القِدم تُزيِّن هامته، يُطلُّ على ما حوله والتاج فوق رأسه، حتى إذا انهار جزء منه إلى المُنخفَض، لم يُرِد أن يبقى على حاله القديم، بل تساقط مُتفتتًا إلى قِطعٍ عديدة، وغطَّى جانب المُنحدَر، إلا أن هذه القِطع الصغيرة لا تريد أن تتلبَّث في مكانها. إنها تقفز مرِحةً إلى أسفل، الجدول يلتقطها، وإلى النهر يحملها. إنها لا تُقاوم ولا تُعاند، ولا هي حادَّة الأضلاع، بل ملساء مُستديرة، تشقُّ طريقها مُسرعةً، وتجري من نهر إلى نهر حتى تنتهي إلى المُحيط، هناك يخطر العمالقة جماعات، وفي الأعماق يتزاحم الأقزام.

ومع ذلك فمن ذا الذي يُمجِّد الرب الذي تُسبِّح النجوم بحمده من الأزل إلى الأبد؟ لماذا تتلفَّتون بعيدًا؟ تأمَّلوا هذه النحل! إنها تنشط في أواخر الخريف، فتجمع غذاءها، وتبني لها بيتًا ذا زوايا أُفقية وحادَّة، يشترك فيه ملكتها وعاملاتها. انظروا إلى هذه النملة! إنها تعرف طريقها ولا تُضلُّه، تبني مسكنها من الأعشاب والحصى وإبر الشوك، إنها تبنيه على ارتفاع وتُحكِم بِناءه، لكن تعبها قد ذهب هباءً؛ فالحِصان يضرب الأرض بحوافره، ويهدم كل ما بنَته. انظروا هناك! إنه يدوس على قوائم سقفها، ويُبعثِر ألواحها، ويلهث فارِغَ الصبر، ولا يريد أن يهدأ؛ ذلك أن الرب قد جعل الخيل رفيقًا للريح وخِدنًا للعاصفة؛ حتى يحمل الرجل إلى حيث يريد، والمرأة إلى حيث تشتهي. لكنه دخل غابة النخيل، الأسد دخل غابة النخيل، جادَّ الخُطا سار يتوغَّل في الصحراء، هناك يسُود جميع الحيوان، وما من أحد يقف في وجهه.

ومع ذلك، فالإنسان يعرف كيف يُروِّضه، وأشد المخلوقات ضراوةً يرهب صورة الرب التي جُبِل الملائكة أنفسهم على مثالها، أولئك الذين يُطيعون الله ويُطيعون من يُطيعه؛ ذلك أن دانيال لم يخشَ شيئًا حين وجد نفسه في مغارة الأسد، بقي مؤمنًا ثابِتَ الجنان، لم يقطع الزئير الوحشي صلاته الورِعة.»

صاحَب الصبيُّ هذه الخُطبةَ المُعبِّرة عن الحماس الفطري هنا وهناك بأنغامٍ ساحرة، فلما فرغ الأب منها بدأ الصبي يُغنِّي بحنجرةٍ نقية، وصوتٍ جليٍّ، وتوقيعاتٍ بارعة، وما لبث الأب أن أمسك بالناي، وأخذ يُصاحب ابنه الذي راح يُنشِد:

«من المغارات، في الحُفَر،
أسمع أنشودة النبي،
ترِفُّ من حوله الملائك،
تُنعِشه بالندى النقي
فأي شر، وأي ضر
يحدث للطيِّب التَّقِي؟
تطوف من حوله الأُسود،
تريد لو أشبعَته لثمًا،
لو زادها الحُب منه قُربًا.
سِحر الأناشيد والأغاني
تفيض من قلبه الوفي،
قد عطفت قلبها إليه.»

استمرَّ الأب في مُصاحبة هذا المقطع بصفارته، وشاركت الأم هنا وهناك بصوتها.

زاد من تأثير الغناء على الحاضرين أن الصبي راح يُعِيد سطور هذه المقطوعة بترتيبٍ آخر، وأنه، وإن لم يأتِ بمعنًى جديد، قد زاد العاطفة في ذاتها تأثرًا وانفعالًا:

«ملائكة الله في موكب
تُرفرف صاعدةً هابطة؛
لتُنعِش أرواحنا بالنغم،
وتُسعِدنا بغناء السماء!
بجوف المغارات، أو في الحُفَر،
أليس الصبي هنا في أمان؟
أغانٍ تفيض علينا التُّقى،
وتُنقِذنا من مَهاوي الشقاء.
ملائكة الله في موكب
تُرفرف صاعدةً هابطة،
وتلك مشيئته والقضاء!»

وهنا بدأ الثلاثة جميعًا يُنشِدون بصوتٍ قويٍّ مرتفع:

«الخالد يحكم في الأرض،
نظرته سادت في البحر.
الأُسد انقلبت حُملانًا،
والموج تَراجَع للخلف،
والسيف المصقول اللامع
أمسى يتجمَّد في الغِمد.
الأمل تحقَّق والدين،
وتجلَّت معجزة الحب
نورًا في صلوات المؤمن.»

وقف الجميع في سكون، يُرهِفون الأسماع ويُنصِتون، حتى إذا خفتَت الأنغام بدا أثرها عليهم واضحًا ملحوظًا. كانوا كأنما هبط عليهم السلام، وغلب التأثر كل واحد منهم، فظهر على وجهه في صورةٍ مختلفة. أما الأمير، الذي بدا عليه كأنه بدأ الآن يُدرِك الكارثة التي هدَّدته منذ قليل، فقد انحنى ينظر إلى زوجته التي استندت إليه، ولم تستطع أن تملك نفسها من إخراج المنديل المُطرَّز لتُغطي به عينَيها. شعرت بالارتياح إذ أحسَّت بصدرها الشاب يتخفَّف من عبءٍ أثقلته به اللحظات السابقة. خيَّم على الجميع سكونٌ شامل، وبدا كأنهم قد نسُوا الأخطار التي تتهدَّدهم؛ الحريق من تحتهم، ومن فوقهم الأسد الرابض في هدوءٍ مُريب.

أشار الأمير بإحضار الخيول، فأشاع الحركة في الجمع الساكن من جديد، ثم التفت إلى المرأة قائلًا: «هل تعتقدين إذن أنكم تستطيعون بغنائكم، وغناء هذا الصبي، وعلى رنين نغمات الناي، أن تُهدِّئوا روع الأسد الهارب حيثما لقيتموه، وأن تُعِيدوه إلى مكمنه دون أن يناله الضرر، أو يمسَّ أحدًا بشر؟»

ردوا بالإيجاب، وأمَّنوا على قولهم مؤكِّدين، وطلبوا أن يصحبهم الحاجب ليدلَّهم على الطريق، فأُجيبوا إلى طلبهم. ثم أسرع الأمير مُبتعدًا مع نفر من أتباعه، وتبعته الأميرة مُبطئةً مع بقية الحاشية. أما الأم وولدها فمضيا يصعدان الطريق الوعر المؤدي إلى الجبل، يُرافقهما الحارس الذي أحكم بندقيته على كتفه.

وقبل أن يضعوا أقدامهم على النفق المؤدي إلى مدخل القلعة، وجدوا الصيَّادين مشغولين بتكويم الحطب الجاف؛ لكي يتمكنوا من إشعال النار إذا دعت الحاجة إلى ذلك. قالت المرأة: «لا داعي لهذا؛ فسوف يتم كل شيء في سلام.»

لمحوا «هونوريو» من بعيد جالسًا على جانب من السور، واضعًا بندقيته ذات الفوهتَين في حجره، وكأنه يستعدُّ لمواجهة كل حادث طارئ، ولكن لم يبدُ عليه أنه انتبه إلى القادمين نحوه؛ فقد جلس في مكانه كأنه مُستغرِق في أفكاره، يتلفَّت حوله كما لو كان شارد البال. توسَّلت المرأة إليه ألا يأمر بإشعال النار، ولكن بدا عليه أنه لم يُعِرها غير قليل من الانتباه، وعادت المرأة تستعطفه في حرارة، وتهتف قائلة: «أيها الشاب الجميل، لقد قتلتَ نمري. أنا لا ألعنك، أبقِ على أسدي. أيها الشاب الطيب، إنني أُباركك.»

تطلَّع «هونوريو» أمامه، هنالك حيث كانت الشمس تميل للغروب. هتفت به المرأة: «أنت تتطلع للسماء. حسنًا تفعل. هناك يستطيع المرء أن يفعل الكثير. أسرع فحسب. لا تتردد. سوف تتغلَّب، ولكن تغلَّبْ على نفسك أولًا.»

هنالك بدا عليه كأنه يبتسم. مضَت المرأة صاعدةً على الطريق الوعر المُرتفِع، ولكنها لم تستطع أن تتمالك نفسها من الالتفات وراءها مرةً أخرى؛ لتُلقي نظرة على الشاب الذي تخلَّف وحده. كانت شمس الغروب تكسو وجهه بالاحمرار، وخُيِّل لها كأنها لم ترَ في حياتها شابًّا في مثل هذا الجمال.

قال الحارس المُرافق لها: «إذا استطاع طفلك، كما تعتقدين، أن يستدرج الأسد ويُهدِّئه بالغناء والعزف على الناي، فسوف نتمكن من السيطرة عليه في غاية السهولة؛ إذ إن الحيوان الضاري قد اتخذ له مأوًى قريبًا من القبو المفتوح، الذي أفلحنا في أن نُقِيم فيه مدخلًا يؤدي إلى القلعة بعد أن اندثرت البوابة الرئيسية، فإذا تمكَّن الصبي من استدراجه إلى الفناء، فسوف يكون من السهل عليَّ أن أُغلِق الفتحة بجهدٍ بسيط. أما الصبي فيستطيع عندئذٍ، إن راق له ذلك، أن يفلت من الوحش عن طريق أحد السلالم اللولبية الصغيرة التي يراها في الزاوية. نريد أن نتخفى، أما أنا فسأضع نفسي بحيث تكون رصاصتي على استعداد لنجدة الصبي في أية لحظة.»

قالت المرأة: «ليس هناك ضرورة لكل هذه الاحتياطات. إن الله والفن والتقوى والحظ ستُدبِّر حتمًا ما فيه الخير.»

أجاب الحارس: «ليكُن الأمر كما تقولين، ولكنني أعرف واجباتي. سأتقدَّمكما أولًا على طريقٍ صاعدٍ شاقٍّ، ونعتلي السور المُواجه للمدخل الذي ذكرته مباشرة، والذي يستطيع الصبي أن يهبط منه كما لو كان يهبط إلى ساحة الملعب، ويستدرج الحيوان إلى هناك بعد أن يُهدِّئه.»

تم بالفعل ما أشار به الحارس، وأخذ هو والأم ينظران من مَخبئهما فوق السور كيف ظهر الصبي في الفناء المكشوف بعد أن هبط السلالم اللولبية، وكيف اختفى في الركن المُعتِم المُواجه لهما، ثم سمعا في نفس الوقت نغمًا ينساب من الناي، أخذ يخفُت شيئًا فشيئًا حتى انقطع. مرَّت فترة من السكون مُفزِعة حقًّا، وبعث الموقف الإنساني النادر الخوف في قلب الصائد العجوز الذي جرَّب الأخطار.

قال في نفسه إن من الأفضل أن يتقدَّم لمواجهة الوحش الخطير بنفسه. أما الأم التي مالت على السور، وراحت تتصنَّت صافية الأسارير، فلم يبدُ عليها ما ينمُّ عن القلق.

وأخيرًا سُمع صوت الناي من جديد، وبرز الصبي من المغارة بعينَين لامعتين راضيتين، يتبعه الأسد بخطواتٍ بطيئة، ولكنها تكشف على ما يبدو عن ألمٍ يُعاني منه. كان يظهر عليه من حين إلى حين كأنه يريد أن يتمدَّد بجسده على الأرض، غير أن الصبي راح يسُوقه في نصف دائرة خلال الأشجار الزاهية التي تساقطت بعض أوراقها. فلما أرسلت الشمس أشِعَّتها الأخيرة من خلال كوَّة في الأطلال الخرِبة، جلس الصبي أخيرًا على الأرض، وكأنه قد تجلَّى واستحال نورًا خالصًا، وبدأ يُنشِد من جديدٍ أغنيته التي تبعث في النفس الطمأنينة والسلام، والتي لا يسعنا نحن أيضًا إلا أن نُعِيدها:

«من المغارات، في الحُفَر،
أسمع أنشودة النبي،
تطوف من حوله الملائك،
تُنعِشه بالندى النَّقِي
فأي شر، وأي ضر
يحدث للطيِّب التقيِّ؟
تطوف من حوله الأُسود،
تريد لو أشبعَته لثمًا،
لو زادها الحُب منه قُربًا.
سِحر الأناشيد والأغاني
تنساب من قلبه الوفي،
قد عطفت قلبها إليه.»

كان الأسد في هذه الأثناء قد تمدَّد على الأرض، وانعطف بكليَّته على الصبي، ورفع مِخلب يُمناه الأمامية الثقيل فوضعه على حجره، فراح الصبي يُربِّت عليه في رفق وهو ما يزال يُردِّد أغنيته، ولكنه سرعان ما لاحَظ شوكةً حادَّة قد نفَذت بين حنايا اللحم. مدَّ يده في حرص فاستلَّ الشوكة الجارحة، وتناول مُبتسمًا منديله الحريري الملوَّن الذي يلفُّه حول رقبته، وربط به مِخلب الوحش المُخيف، واشتدَّ الفرح بالأم التي مالت إلى الوراء مادةً ذراعَيها، ومن يدري؟ فلعلها كانت تهتف وتُصفِّق على مألوف عادتها، لو لم يُنبِّهها الحارس بلكزةٍ غليظة من قبضة يده إلى أن الخطر لم يزَل بعد.

انطلق الطفل يُغنِّي في نشوة الانتصار، بعد أن مهَّد لأنشودته ببعض الأنغام:

«الخالد يحكم في الأرض،
نظرته سادت في البحر.
الأُسد انقلبت حُملانًا،
والموج تَراجَع للخلف،
والسيف المصقول اللامع
أمسى يتجمَّد في الغِمد.
الأمل تحقَّق والدين،
وتجلَّت معجزة الحب
نورًا في صلوات المؤمن.»

لو أمكن للإنسان أن يتصوَّر في ملامح مثل هذا المخلوق الباطش، جبَّار الغابات، وطاغية مملكة الحيوان، تعبيرًا عن الود والامتنان، فله أن يتصوَّر أن ذلك هو ما حدث هنا. والحق أن الطفل قد بدا في صفائه كأنما هو غالبٌ قويٌّ مُنتصِر، أما الأسد فلم يبدُ كالمغلوب؛ لأن قوَّته ظلَّت كامنةً مستورة فيه، بل ظهر في صورة الوحش المروَّض الذي استسلم لإرادته المُسالمة. استمرَّ الصبي يُصفِّر في الناي ويُغنِّي، على عادته في إدماج السطور في بعضها البعض، وإضافة الجديد منها إليها:

«طوبى لأطفالٍ صغار
يهديهم الملكُ الرحيم.
الشرَّ يمنع عنهم،
ويُشجع الفعل الجميل.
واللحن والحس التقي،
يُقيدان ويأسران
بالسِّحر جبَّارَ الوحوش
لركبة الولد الحبيب.»
١  أحد آلهة الخصب والرعي في الأساطير الإغريقية، ويُصوَّر في هيئةٍ بشرية، ولكن بقدمَي عنزة وقرنَين. (م)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤