الحكاية

على ضفة النهر العظيم، الذي هطلت عليه منذ قليل أمطارٌ غزيرة ففاض الماء على شاطئَيه، رقد المراكبيُّ العجوز في كوخه الصغير مُضنًى من عناء النهار، واستسلم للنوم. في منتصف الليل، أيقظته أصواتٌ مُرتفعة، سمع مسافرين يُنادون عليه يريدون أن يعبُروا إلى الشاطئ الآخر. عندما دلف من باب الكوخ رأى نورَين عظيمين تائهين،١ يرفَّان فوق القارب المُوثَق، أكدا له أنهما في عجلةٍ شديدة، وأنهما يريدان أن يكونا على الشاطئ الآخر في أسرع وقت ممكن. لم يتردَّد العجوز، فدفع قاربه، وراح بمهارته المعهودة يشقُّ به عُرْض النهر، بينما طفق المسافران الغريبان يُوشوِشان معًا بلغةٍ مجهولةٍ سريعة الإيقاع، وينفجران من حين إلى حين ضاحكين بصوتٍ عالٍ، ويقفزان مرة على جدران القارب ومقاعده وأخرى على أرضه.

هتف العجوز: «القارب يترنح، وإذا لم تسكنا إلى الهدوء فقد ينقلب في الماء! اجلسا أيها النوران!»

انفجرا ضاحكَين بصوتٍ عالٍ من هذا المَطلب الجريء، وأخذا يسخران بالعجوز، وزادت ضوضاؤهما عمَّا قبل، وتحمَّل «النوتي» العجوز هذرهما صابرًا، وما هو إلا قليل حتى رسا بقاربه على الشاطئ الآخر.

«خُذ هذا أجرًا على تعبك!» بهذا ناداه المسافران، ونفضا أنفسهما فسقطت قِطعٌ ذهبيةٌ عديدةٌ لامعة على أرض القارب المُبتلَّة. وهتف العجوز:

«بحق السماء، ماذا تصنعان؟ إنكما تصبَّان عليَّ أعظم الشقاء. فلو أن قطعةً ذهبية سقطت في الماء، لارتفعت أمواج النهر الذي لا يُطيق هذا المعدن ارتفاعًا مُفزِعًا، فابتلعت السفينة وابتلعتني معها. ومن يدري عندئذٍ ماذا يمكن أن يقع لكما؟! أعِيدا نقودكما إلى مكانها!»

فأجابه النوران التائهان قائلَين: «لا نستطيع أن نردَّ شيئًا نفضناه عن أنفسنا.»

قال العجوز وهو ينحني ليجمع القِطع الذهبية في قبعته: «إذن فأْذَنا لي أن أُفتِّش عنها، وأحملها إلى الشاطئ، وأدفنها هناك.»

كانا النوران التائهان قد قفزا من القارب، وناداهما العجوز: «أين إذن أجري؟»

هتف به النوران: «من لا يقبَل ذهبًا فليعمل بلا أجر!»

– «فلتعلَما أن من الممكن دفع أجرتي من ثمار الأرض.»

– «من ثمار الأرض؟ إننا نزدريها، ولم نذُق لها طعمًا أبدًا.»

– «ومع ذلك فلا أستطيع أن أترككما حتى تعِدَاني بأن تُحضِرا لي ثلاثة رءوس قرنبيط، وثلاث خرشوفات، وثلاث بصلات كبيرة.»

أراد النوران التائهان أن يتسللا في مرحٍ مُبتعدين، غير أنهما أحسَّا وكأن شيئًا مجهولًا يُقيدهما بالأرض على نحوٍ عجيب. كان إحساسًا شديد الإيلام لم يشعرا به من قبل. وعدا العجوز بأن يُحقِّقا له طلبه في أقرب فرصة تسنح لهما، فتركهما ودفع قاربه في اليم. كان قد ابتعد عنهما بمسافةٍ كبيرة حين ناديا عليه: «أيها العجوز! اسمع، أيها العجوز! لقد نسينا أهم شيء!»

ولكنه كان قد ابتعد ولم يسمع شيئًا. كان قد ترك قاربه ينحدر بحذاء ضفة النهر نفسها، متَّجِهًا إلى ناحيةٍ جبلية لا يصل إليها الماء أبدًا؛ ليدفن الذهب الخطر فيها.

وهناك بين الصخور العالية عثر على حفرةٍ هائلة، ألقى بالقِطع الذهبية فيها، وقفل راجعًا إلى كوخه.

في هذه الحفرة كانت تسكن الحية الجميلة الخضراء التي استيقظت من نومها على رنين القِطع الذهبية، لم تكَد تقع عيناها على القِطع البرَّاقة، حتى هجمت عليها، فابتلعتها في نهمٍ عظيم، وراحت تُفتِّش بعناية عن كل قطعة تناثرت في الدغل أو بين شقوق الصخور.

لم تكَد القِطع الذهبية تستقرُّ في جوفها حتى شعرت شعورًا لذيذًا مُنعِشًا بالذهب يذوب في أحشائها، وينتشر في بقية جسدها، ولاحظت والبهجة العظيمة تغمرها كيف أنها أصبحت شفَّافة ولامعة. كانت طالما قد سمعت من يؤكِّد لها أن هذه الظاهرة ممكنة الحدوث، غير أن الشك كان يُساوِرها فيما إذا كان هذا النور سيبقى على لمعانه، فدفعها حب الاستطلاع والرغبة في تأمين مستقبلها إلى أن تخرج من الصخرة؛ لكي تُفتِّش عمَّن عساه أن يكون قد نثر الذهب الجميل في مسكنها. لم تجد أحدًا، وزاد من نشوتها أن تُعجَب بنفسها وهي تزحف بين الحشائش والأعشاب، وأن تزدهر بالنور الساحر الرقيق الذي ينتشر منها فيُضيء العشب اليانع. بدَت الأوراق كلها وكأنها من زُمرُّد، والورود جميعًا ظهرت صافيةً في أبدع صورة. عبثًا راحت تجُوب البرِّية المُوحِشة، ومع ذلك فقد ازداد رجاؤها حين وصلت إلى الأرض المستوية، وأبصرت نورًا شبيهًا بنورها يلمع من بعيد، وهتفت صائحةً وهي تتَّجه نحوه: «ها أنا أجد أخيرًا من يُشبِهني!» لم تكترث بالمَشقة التي تُعانيها من الزحف في المُستنقَع وبين أعواد الغاب الطويلة، فمع أنها كانت تعشق الحياة فوق أعشاب الجبل وبين شقوق الصخور العالية على كل حياة سواها، ومع أنها كانت تستطيب طعم الأعشاب ذات التوابل، وتروي عطشها في العادة من قطرات الندى الرقيق، ومن ماء النبع المُنعِش، فإنها لم تكن لتتردَّد عن الإقدام على أية مهمة تُلقى عليها من أجل الذهب الجميل، ومن أجل النور الباهر.

انتهى بها المطاف وقد أضناها التعب إلى مُستنقَع، وكان النوران التائهان يلعبان فوقه جيئة وذهابًا. اندفعت بسرعة نحوهما وحيَّتهما، وأسعدها أن تجد أمامها مثل هذَين السيدين اللطيفين من أقاربها. أخذ النوران يرفَّان حولها مُداعبين، ويقفزان فوقها، ويضحكان على طريقتهما. قالا لها: «يا عمة، إذا كنت من أصحاب الخط الأفقي، فلا يعني هذا شيئًا على الإطلاق، حقًّا إن قرابتنا من ناحية المظهر واحدة، انظري إلينا — وهنا ضحَّت الشعلتان بعرضهما كله فمدَّا في طولهما، وزادا من حدة أطرافهما بقدر طاقتهما — كم يُناسبنا هذا الطول الرشيق، نحن السادة أصحاب الخط العمودي! لا تعتبي علينا أيتها الصديقة، ولا تظنِّي بنا السوء، ولكن أية عائلة يُمكِنها أن تتباهى مثلنا بذلك؟ منذ أن وُجدت الأنوار التائهة لم يجلس من بينها نورٌ واحد، ولم يخلد إلى الرقاد.»

شعرت الحية بالضِّيق الشديد في حضور هؤلاء الأقرباء، فكلما حاولت أن ترفع رأسها إلى أقصى ما تريد، أحسَّت بأنها لا بد أن تعود فتحنيه إلى الأرض لكي تستطيع أن تتحرك من مكانها، وإذا كانت قد نعمت بالحياة وسعدت بها كل السعادة عندما كانت تعيش في الدغل المُظلِم، فقد بدا لها أن بريقها يخفُت في كل لحظة أمام أولاد العم هؤلاء، بل لقد خشيت أن ينطفئ في نهاية الأمر انطفاءً تامًّا.

وأسرعت في حيرتها هذه تسأل إن كان السيدان يستطيعان أن يُخبِراها من أين جاء الذهب البرَّاق الذي سقط منذ قليل في حفرة الصخر، وأضافت أنها تُخمِّن أنه مطرٌ ذهبي تساقط مباشرة من السماء. ضحك النوران التائهان، ونفضا نفسَيهما، فتساقط مقدارٌ عظيم من القِطع الذهبية راح يقفز حولهما.

أسرعت الحية نحوها تريد أن تبتلعها، فقال السادة المهذَّبون: «لتَهنَئي بطعمها يا عمة، في استطاعتنا أن نُقدِّم لك المزيد.»

وعاد النوران التائهان ينفضان نفسَيهما مراتٍ مُتواليةً وبسرعةٍ خاطفة، حتى كاد يتعذَّر على الحية أن تزدرد الطعام الثمين بنفس السرعة. بدأ نورها ينمو نموًّا ملحوظًا، فلمعت لمعانًا باهرًا حقًّا، بينما ذبل النوران التائهان، وتضاءل بريقهما بغير أن يفقدا شيئًا ولو قليلًا من مرحهما واعتدال مزاجهما.

«سأظل مُمتنَّة لكما إلى الأبد.» قالت الحية هذه الكلمات بعد أن استعادت أنفاسها إثر الأكلة الشهيَّة، واستطردت تقول: «اطلبا منِّي ما تشاءان! كل ما أملكه أريد أن أُقدِّمه لكما.» هتف النوران التائهان: «حسنٌ جدًّا! قولي؛ أين تسكن الزنبقة الحسناء؟ سِيري بنا بأسرع ما يمكن إلى قصر الزنبقة الحسناء وحديقتها. إن اشتياقنا إلى أن نُلقي بأنفسنا عند أقدامها يكاد يُهلِكنا.»

أجابت الحية بتنهيدةٍ عميقة: «لست أستطيع أن أُقدِّم لكما هذه الخدمة في الحال؛ إن الزنبقة الحسناء تسكن على الجانب الآخر من الماء.»

– «على الجانب الآخر من الماء؟ وندع العجوز يعبُر بنا النهر في هذه الليلة العاصفة؟

ما أفظع النهر الذي يُفرِّق الآن بيننا! أمَا من وسيلة لنُنادي بها العجوز من جديد؟»

ردَّت الحية قائلة: «سوف تُضيعان جهدكما سُدًى؛ إذ إنكما ولو قابلتماه على هذه الضفة، فلن يأخذكما معه؛ لقد سُمح له أن ينقل كل أحد إلى هذا الشاطئ، ولكن حُرِّم عليه أن ينقل أحدًا إلى الشاطئ الآخر.»

– «إذن فقد حبسْنا أنفُسنا بأيدينا! أمَا من وسيلة نعبُر بها الماء؟»

– «بل هناك وسائل كثيرة، ولكن ليس في هذه اللحظة. أنا نفسي أستطيع أن أنقل السادة إلى الضفة الأخرى، ولكنني لن أقدر على ذلك قبل حلول ساعة الظهيرة.»

– «هذا وقت لا نميل إلى السفر فيه.»

– «إذن ففي استطاعتكما إذا حل المساء أن تعبُرا النهر فوق ظل العملاق!»

– «كيف ذلك؟»

– «إن العملاق العظيم، الذي يسكن غير بعيد من هنا، لا يقدر بجسده على شيء. إن يدَيه لا تستطيعان أن ترفعا عود قش، وكتفَيه لا تقويان على حمل حزمة أرز، ولكن ظله يستطيع أن يفعل الكثير، بل يستطيع أن يفعل كل شيء؛ لذلك كان أشدَّ ما يكون قوة عند شروق الشمس وغروبها، وما على الإنسان إذا حل المساء إلا أن يجلس على رقبة ظله، وما هو إلا أن يتَّجه العملاق في رفقٍ ناحية الشاطئ؛ وبذلك ينقل الظل المسافر إلى الضفة الأخرى. أما إذا أردتما أن تحضرا في وقت الظهيرة عند ذلك الجانب من الغابة، حيث يلتحم الدغل بالشاطئ، فإنني أستطيع عندئذٍ أن أنقلكما إلى الشاطئ الآخر، وأن أُقدِّمكما إلى الزنبقة الحسناء. أما إذا كنتما تُشفِقان على أنفسكما من وهج الظهيرة، فما عليكما إلا أن تزورا العملاق في ذلك الخليج الصخري عندما يقترب المساء، ولا شك أنه سيُحسِن ضيافتكما.»

وبانحناءةٍ طفيفة ابتعد السيدان الشابان، وسرَّ الحيةَ أن تتخلص منهما؛ لكي يُتاح لها من ناحيةٍ أن تبتهج بنورها، وتُشبِع من ناحيةٍ أخرى رغبةً عذَّبتها منذ أمد طويل عذابًا غريبًا.

كانت قد اكتشفت اكتشافًا عجيبًا في موضع من الحُفَر الصخرية، التي اعتادت من حين لآخر أن تزحف فيها، فعلى الرغم من أنها كانت تضطرُّ إلى الزحف خلال هذه الحُفَر بغير نور يهديها، فقد كان في استطاعتها أن تُميز بإحساسها بين الأشياء التي تُقابلها. كان من عادتها ألا تجد حيثما ذهبت غير مُنتَجات طبيعية غير مُنتظمة، فحينًا تتلوَّى لتنفُذ بين أطراف بلورات عظيمة مُدبَّبة، وحينًا تشعر بزوايا الفضة المُترامية وشعراتها، فتأخذ معها هذا الحجر الثمين أو ذاك إلى النور. بيْدَ أنها كانت والدهشة العظيمة تستولي عليها قد أحسَّت في موضعٍ صخري مُغلَق من كل ناحية، بأشياء تشي بيدِ الإنسان المُصوِّرة؛ جدرانٌ ملساء لا تستطيع أن تتسلق عليها، حوافٌّ حادَّةٌ مُنتظمة، أعمدةٌ بديعة الصُّنع، وأشكالٌ بشرية أثارت فيها أشد العَجب، ولفَّت جسدها مرارًا حولها، واعتقدت أنها من نحاس أو مرمرٍ مصقولٍ بديع الصقل.

اشتهت أن تستجمع كل هذه التجارب مرةً أخرى بحاسة العين، فتتأكَّد ممَّا لم يتيسر لها أن تعرفه إلا بالتخمين. اعتقدت أنها تستطيع الآن بالضوء الذي يشعُّ منها أن تُنير هذا القبو السفلي العجيب، وداعَبها الأمل المُفاجئ في أن تتعرَّف على هذه الأشياء الغريبة تعرفًا تامًّا. انطلقت تزحف على طريقتها المألوفة، وسرعان ما عثرت على الشق الذي تعوَّدت أن تتسلل منه إلى المَعبد المقدَّس.

لما وصلت إلى المكان تلفَّتت حولها مدفوعةً بحب الاستطلاع. ومع أن الضوء المُنبعِث منها لم يكفِ لإنارة كل الأشياء المُنتشرة حولها، فقد استطاعت أن ترى الأشياء القريبة منها رؤيةً واضحة.

تطلَّعت في رهبة ودهشة إلى فجوةٍ تلمع فوقها، نُصِب فيها تمثال ملك جليل من الذهب الخالص.

كان التمثال يزيد في حجمه على حجم الإنسان الطبيعي، ولكن بدا لها من ناحية الشكل أقربَ إلى أن يكون لرجلٍ صغير السن منه لرجلٍ ضخمٍ عظيم. كان يلفع جسمَه المُتناسق مِعطفٌ بسيط، وتشدُّ شعرَه باقةٌ من ورق البلُّوط.

لم تكَد الحية تُبصِر هذا التمثال الجليل، حتى فتح الملك فمه بالكلام وسأل: «من أين تأتين؟»

أجابت الحية: «من الحُفَر التي يسكنها الذهب.»

سأل الملك: «أي شيء أروع من الذهب؟»

فأجابت الحية: «النور.»

عاد الملك يسأل: «أي شيء أعذب من النور؟»

فردَّت الحية: «الحوار.»

كانت في خلال هذا الحديث قد ألقَت نظرةً جانبية على الفجوة القريبة، فأبصرت صورةً أخرى رائعة. كان يجلس في هذه الفجوة ملكٌ فضيٌّ ذو قوام طويل أقرب إلى النحول، وكان يُغطي جسدَه رداءٌ مُزركَش وتاج وحزام وصولجان مُزيَّن بالأحجار الثمينة، وكان يظهر على وجهه مرح الكبرياء، وبدا عليه أنه يريد الكلام حين لمع على حين فجأة في الجدار المرمري عرقٌ كان يتخلَّله بلونٍ مُعتِم، وأرسل في المَعبد كله نورًا بهيجًا. أبصرت الحية الملك الثالث على هذا النور، وكان ملكًا من نحاس في هيئةٍ تدلُّ على البأس والسلطان، استند على عجُزه، وزيَّنت هامتَه باقةٌ من الغار، وبدا أشبه بصخر منه بإنسان. أرادت الحية أن تلتفت إلى الملك الرابع، وكان يبدو على مسافةٍ شديدة البُعد عنها، عندما انشقَّ الجدار، وانتفض العرق المُضيء كالبرق الخاطف ثم اختفى.

لفت انتباهَ الحية رجلٌ متوسِّط الحجم يخرج من الجدار.

كان يرتدي ملابس فلَّاح، ويحمل في يده مِصباحًا صغيرًا يَطيب للمرء أن يتطلَّع إلى شعلته الساكنة، التي تغمر بنورها على نحوٍ مُدهِش جوانبَ المَعبد الكنسي كله، دون أن تُلقي حولها ظلًّا واحدًا.

سأل الملك الذهبي: «لِمَ أتيتَ وعندنا نور؟»

– «تعلَمون أنه لا يجوز لي أن أُنِير المُعتِم!»

وسأل الملك الفضي: «هل تنتهي دولتي؟»

فردَّ العجوز: «في وقتٍ مُتأخر أو لن تنتهي أبدًا.»

وشرع الملك النحاسي يسأل في صوتٍ قوي: «متى أقف على قدمي؟»

أجاب العجوز: «قريبًا.»

عاد الملك يسأل: «مع من ينبغي عليَّ أن أتَّحد؟»

قال العجوز: «مع إخوتك الكبار.»

سأل الملك: «وماذا سيكون مصير الأخ الأصغر؟»

قال العجوز: «سوف يجلس.»

هتف الملك الرابع في صوتٍ خشن: «لست مُتعَبًا.»

بينما كان هؤلاء يتحدثون تسلَّلت الحية في رفق، وراحت تتجوَّل في جنَبات المَعبد، فتأمَّلت كل شيء، وأخذت تتطلَّع إلى الملك الرابع عن كثب. كان يقف مُستندًا إلى أحد الأعمدة، وكانت هيئته الشامخة أقرب إلى الفظاظة منها إلى الجمال، غير أنه كان عسيرًا على المرء أن يُميز المعدن الذي صُبَّ منه التمثال.

حتى إذا تأمَّلته العين تأملًا دقيقًا، تبيَّن أنه خليط من المعادن الثلاثة التي صُبَّ منها إخوته.

ولكن يبدو أن هذه المعادن الثلاثة لم تذُب مع بعضها تمامًا عندَ صبِّ التمثال، فتخلَّلت العروقَ الذهبية والفضية كتلةٌ من المعدن الخام على غير انتظام؛ ممَّا جعل منظر التمثال لا تستريح له العين.

عندئذٍ سأل الملك الذهبي الرجل: «كم من الأسرار تعرف؟»

فأجاب العجوز: «ثلاثة.»

سأله الملك الفضي: «وأيها أهمُّ؟»

فأجاب العجوز: «السر المكشوف.»

سأل الملك النحاسي: «وهل تكشف لنا نحن أيضًا عنه؟»

قال العجوز: «بمجرد أن أعرف الرابع.»

فدمدم الملك المركَّب من معادن مُختلطة كأنه يُكلِّم نفسه: «وما شأني أنا بهذا؟!»

قالت الحية: «أنا أعرف السر الرابع.»

واقتربت من العجوز، ووشوشت شيئًا في أُذنه. هتف العجوز بصوتٍ رهيب: «لقد آن الأوان.» وتردَّدت أصداء الصوت في المَعبد، ورنَّت التماثيل المعدنية، وفي لحظةٍ غاص العجوز ناحية الغرب، والحية ناحية الشرق، وأسرع كلاهما يعبُر الهاوية الصخرية لا يلوي على شيء.

امتلأت كل الدروب التي جابها العجوز في لمح البصر بالذهب؛ ذلك أن مِصباحه كان يمتلك خاصيةً عجيبة تجعله يُحوِّل كل الأحجار إلى ذهب، وكل خشب إلى فضة، والحيوانات الميتة إلى أحجارٍ ثمينة، كما تجعله يُحِيل جميع المعادن إلى تراب، وكان لا بد للمصباح، لكي يفعل فِعله هذا، من أن ينفرد وحده بالإنارة، فإذا اشتعل نورٌ آخر بجواره، لم يصدر عنه سوى ظل جميل لامع، فيُشيع البهجة والانتعاش دائمًا في كل حي.

دخل العجوز كوخه الذي بناه فوق الجبل، ووجد امرأته في همٍّ شديد. كانت تجلس باكيةً أمام المَوقد، عاجزةً عن أن تدخل الطمأنينة إلى نفسها. هتفت بزوجها: «ما أشقاني! ما كنتُ اليوم أريد أن أتركك تُغادر الكوخ!»

سألها العجوز في هدوءٍ تام: «ماذا جرى إذن؟»

قالت وهي تنشِج بالبكاء: «ما كدتَ تخرج حتى جاء سائحان شرِسا الطبع، فوقفا أمام الباب، وبغير حذر منِّي تركتُهما يدخلان؛ فقد بديا لي سيدَين مُهذَّبين لطيفين، وكانا يتلفَّعان بهالتَين خفيفتين؛ ممَّا يحمل على الظن بأنهما نوران تائهان، وما كادا يدخلان البيت حتى شرعا يتملَّقاني بألفاظٍ وقحة، ويُبالغان في إلحاحهما عليَّ حتى لأخجل من مجرد التفكير فيهما.»

قال الرجل وهو يبتسم: «لا شك أن السيدَين أرادا أن يمزحا معك؛ فقد كان عليهما مراعاةً لسنِّك أن يُعاملاك بأدب كما يقضي العُرف بذلك.»

هتفت المرأة قائلة: «ماذا أيها العجوز؟! أيها العجوز! هل عليَّ دائمًا أن أسمعك تتحدث عن عمري؟ وكم يبلغ عمري؟! ذلك الأدب الذي يقضي به العُرف! إنني أعرف ما أعرف. تلفَّتْ حولك فحسب؛ لترى كيف تبدو الجدران. تطلَّعْ إلى الأحجار القديمة، التي لم أرَها منذ مائة عام، كل ما كان عليها من ذهب قد لعقاه، ولا يُمكِنك أن تُصدِّق بأي سرعة خاطفة فعلا ذلك، وأكَّدا دائمًا أن طعمه ألذ بكثير من الذهب المعروف. وبعد أن مسحا ما على الجدران، بدَت عليهما الغِبطة الشديدة. والحق أنهما أصبحا في وقتٍ قصير أكبرَ بكثير ممَّا كانا عليه، وأعرضَ وأشدَّ بريقًا، ثم إذا بهما يعودان إلى مُداعبتي، فيتمسَّحان بي، ويُلقِّباني ملكتهما، وينفضان أنفُسهما، فيتساقط قدرٌ كبير من الذهب، وما زِلتَ ترى كيف يلتمع نورهما تحت الأريكة، ولكن وا أسفاه؛ الْتهَم كلبُنا الصغير السمين بعضَ قِطع الذهب، وها أنت تراه يرقد ميتًا عند المَوقد. يا للحيوان المسكين! ما أبعدَ السرورَ عني! إنني لم أتبيَّن ذلك إلا بعد انصرافهما، ولو عرفت لما وعدتهما بتسديد دينهما للمراكبي.»

سأل العجوز: «بأي شيء يَدينان له؟»

قالت المرأة: «بثلاثة رءوس قرنبيط، وثلاث خرشوفات، وثلاث بصلات. لقد وعدتُهما إذا أصبح الصباح أن أحملها جميعًا إلى النهر.»

قال العجوز: «تستطيعين أن تصنعي فيهما هذا الجميل؛ فسوف يردَّانه لنا في المستقبل.»

– «لا أدري إن كانا سيُقدِّمان لنا خدماتهما، ولكنني وعدتُهما وأقسمتُ أن أبرَّ بوعدي.»

كانت نار المَوقد في أثناء ذلك قد خمدت، فأهال عليها العجوز كثيرًا من الرماد، وجمع القِطع الذهبية جانبًا، وإذا بمصباحه الصغير يعود فيلمع من نفسه أجمل لمعان، والجدران تكسوها طبقة من الذهب، والكلب الصغير السمين يتحوَّل إلى أجمل حجر من العقيق، يستحيل أن يتصوَّره الإنسان، وتبدَّلت الألوان على الحجر الثمين بين اللون البُنِّي واللون الأسود، فجعلت منه تحفةً فنيةً نادرة الوجود.

قال العجوز: «خُذي سلَّتك، وضَعِي حجر العقيق فيها، ثم خُذي رءوس القرنبيط الثلاثة، والخرشوفات الثلاث، والبصلات الثلاث، فضَعِيها حولها، واحملي الجميع إلى النهر! فإذا جاء وقت الظهيرة، فاجعلي الحية تحملك إلى الشاطئ الآخر، وزُوري الزنبقة الحسناء، وأعطيها حجر العقيق! إنها ستُعيده حيًّا! مثلما تُميت بلمستها كلَّ حي! وسوف تجد فيه صاحبًا غاليًا. قُولي لها: إن عليها ألا تبتئس. إن يوم خلاصها قد اقترب، والشقاء العظيم تستطيع أن تعُدَّه سعادةً عظيمة؛ فقد آن الأوان.»

عند طلوع النهار تناولت العجوز سلَّتها، ومضت في طريقها. كانت الشمس المُشرِقة تسطع على صفحة النهر الذي كان يلمع من بعيد. مضت العجوز في خُطًا متَّئدة؛ فقد كانت السلة تضغط على رأسها ولو لم يكن حجر العقيق هو الذي يرزح بثقله عليها. لم تُحسَّ بما كانت تحمله من كائناتٍ ميتة، بل إن السلة كانت ترتفع إلى أعلى وتطير فوق رأسها، ولكن حمل خُضَر طازجة أو حيوان صغير حي كان ثقيلًا عليها ثقلًا شديدًا.

كانت قد مضَت في طريقها بعضَ الوقت وهي تشعر بالضِّيق والملل، وعلى حين فجأة وقفَت ساكنةً مفزوعة؛ فقد كادت تدوس على ظل العملاق، الذي كان يتمدَّد على الأرض، ويكاد يصل إليها.

ثم وقع بصرها على العملاق الجبار، الذي كان يخرج من الماء بعد أن استحمَّ في النهر، وتحيَّرت كيف تتحاشاه. لم يكَد يراها حتى بدأ يُحيِّيها في مرح، ثم امتدَّت يدا ظله على الفور إلى السلة، فأخرجتا في خفة ومهارة رأسَ قرنبيط وخرشوفةً وبصلة، وناولاها إلى فم العملاق الذي تابَع عندئذٍ رحلتَه النهرية، وأفسح للمرأة الطريق.

أخذت تسأل نفسها إن كان من الأفضل أن تعُود أدراجَها فتُحضِر بدل القِطع الناقصة من حديقتها، ومضَت بين هذه الشكوك التي تُساوِرها إلى الأمام، فسرعان ما بلغت ضفة النهر. لبِثَت طويلًا تنتظر المراكبي، حتى لمحته أخيرًا يعبُر النهر ومعه مسافرٌ عجيب، ونزل من المركب شابٌّ نبيلٌ جميل الطلعة، لم تكَد تُشبِع عينَيها من النظر إليه.

نادى المراكبي العجوز: «ماذا تُحضِرين معك؟» أجابت العجوز وهي تشير إلى بضاعتها: «إنها الخضراوات التي تدين لكم بها الأنوار التائهة.»

لما وجد العجوز من كل صنف قطعتَين فحسب، استولى عليه الضِّيق، وأكَّد لها أنه لا يستطيع أن يقبَلها. وراحت العجوز تتوسَّل إليه في حرارة، وتصف له كيف أنها لا تستطيع أن تعُود على الفور إلى البيت، وأنه يشقُّ عليها أن تقطع الطريق مرةً أخرى والحمل الثقيل يرزح فوق رأسها. بقي العجوز مُصرًّا على رفضه، وأخذ يؤكِّد لها أن الأمر ليس بيده قائلًا: «عليَّ أن أجمع نصيبي المُستحَقَّ لي وأتركه تسع ساعات، ولا يصحُّ لي أن أقبَل شيئًا حتى أُلقي للنهر بثلثه.» بعدَ أخذٍ وردٍّ طويلَين قال العجوز أخيرًا: «ما زالت هناك وسيلةٌ واحدة. إذا تعهَّدت للنهر، وقبِلتِ أن تعترفي له بدينك، فإني على استعداد لأن آخذ القِطع الستة، ولكن هذا لا يخلو من خطر.»

– «وإذا حافظت على كلمتي، فهل يمنع ذلك الخطر عني؟!»

استطرد العجوز قائلًا: «لن تتعرَّضي لأقل شيء. اغمسي يدك في النهر، واقطعي عهدًا بأن تُوفي دينك في خلال أربع وعشرين ساعة.»

فعلت العجوز بما أشار عليها، ولكن كم كانت دهشتها حين جذبت يدها في الماء فألفتها سوداء بلون الفحم! أخذت تُوبِّخ العجوز توبيخًا مرًّا، وتؤكِّد أن يدَيها كانتا دائمًا أجمل ما فيها، وأنها على الرغم من العمل الشاق قد عرفت دائمًا كيف تُحافظ على بياض هذَين العضوين النبيلين ورقتهما. تطلَّعت إلى اليد في ضِيقٍ شديد، وهتفت في يأسٍ مرير: «إن هذا لأسوأ! أرى أنها تقلصَّت. لقد صارت أصغر بكثير من اليد الأخرى.»

قال العجوز: «إنها الآن تبدو كذلك فحسب، ولكنك إذا لم تُحافظي على كلمتك، فقد يتحقَّق ما تخشين منه، وتتقلَّص اليد شيئًا فشيئًا حتى تختفي في النهاية تمامًا، بدون أن تُحرَمي من القدرة على استعمالها. سوف يكون في استطاعتك أن تقضي بها كل حوائجك، ولكن لن يراها أحد.» قالت العجوز: «وددتُ لو عجزتُ عن استعمالها ولم يلحظ أحد عليها شيئًا. ومع هذا فلا أهمية لذلك. سوف أُحافظ على عهدي لكي أتخلَّص سريعًا من هذا الجلد الأسود وهذا الهم الثقيل.» وأسرعت تتأمَّل السلة التي ارتفعت من تلقاء نفسها فوق قمة رأسها، وطارت حرة في الفضاء، وعجَّلت من سيرها لتلحق بالشاب الذي كان يمضي على الشاطئ وديعًا تائهًا في أفكاره. كانت هيئته الرائعة وحُلَّته العجيبة قد تركا في نفسها انطباعًا عميقًا.

كان يُغطِّي صدرَه درعٌ برَّاق تتحرك من خلاله كلُّ أجزاء جسده الجميل، ويلفع كتفَيه مِعطفٌ قرمزي، وعلى رأسه العاري تنمو خصلاتٌ جميلة من الشعر البُنِّي، وكانت أشعة الشمس تلفح وجهه النقي الصبوح، كما تلفح قدمَيه المُتناسقتين. مضى يسير في اتزان على الرمل الساخن بقدمَيه العاريتين، وبدا كأن ألمًا عميقًا يُقيِّد كل انطباعاته الظاهرة ويُخيِّم عليها.

حاولت العجوز الثرثارة أن تجذبه للحديث، غير أن كلماته القليلة كانت تصدُّها دائمًا عنه، حتى يئست أخيرًا، على الرغم من عينَيه الجميلتين، من محاولة الحديث بغير طائل، فودَّعته قائلة: «إنك يا سيدي تسير ببطءٍ شديد، ولا يجوز لي أن أترك هذه اللحظة تفلتُ منِّي حتى أعبُر النهر على ظهر الحية الخضراء، وأُقدِّم للزنبقة الحسناء الهدية الرائعة التي حمَّلني لها زوجي.»

ألقت هذه الكلمات وانطلقت مُسرِعة، ولم تكَد تصل إلى سمع الشاب الجميل حتى أسرع يُلاحقها وهو يهتف: «هل تذهبين إلى الزنبقة الحسناء؟ إذن فنحن نسير على دربٍ واحد. ما هذه الهدية التي تحملينها لها؟»

ردَّت المرأة قائلة: «لا يليق بك يا سيدي، بعدما رفضتَ الإجابة على أسئلتي رفضًا قاطعًا، أن تُحاول التعرف على أسراري بهذا الإصرار. فإن قبِلتَ أن تُبادلني سرًّا بسرٍّ، وكشفتَ لي عن أقدار حياتك، فلن أُخفي عليك قصتي وقصة هديتي.» وكان أن اتفقا سريعًا، فروَت له المرأة حكايتها، وأخبرته بحكاية الكلب، وتركته يتأمَّل الهدية الرائعة.

مد الشاب يده، فتناول التحفة الطبيعية من السلة، وأخذ الكلب الذي بدا كأنه استسلم لنومٍ هادئٍ وديع بين ذراعَيه، وهتف قائلًا: «أيها الحيوان السعيد! سوف تلمِسك يداها، وسوف تُعِيدان إليك الحياة. أما الأحياء فإنهم يهربون منها خشيةَ أن يُصيبهم قدرٌ حزين، ولكن أي حزن تراني أتحدَّث عنه؟ أليس أدْعَى للهم والحزن أن يُصاب الإنسان بالشلل إذا حضر أمامها، من أن يموت بلمسة من يدها؟» ثم التفت إلى العجوز قائلًا: «انظري إليَّ. أي تعاسة كُتِب عليَّ أن أحتملها وأنا في مثل هذه السن؟! هذا الدرع الذي كنت أحمله على صدري وأُحارِب به في شرف، وهذا المِعطف القرمزي الذي أردتُ بحُكمي الرشيد أن أكون جديرًا به، لقد تركهما لي القدر عبئًا ثقيلًا أحمله بغير داعٍ، وحليةً سخيفة لا يلتفت إليها أحد. التاج والصولجان والسيف ذهبتْ جميعًا، وأنا بعدُ عارٍ ومُحتاجٌ مثل سواي من أبناء الأرض. هكذا تصنع عيناها الجميلتان الزرقاوان، فتسلبان كل كائن حي طاقةَ الحياة، وتجعلان كل من لم تلمِسه يدها لمسة الموت يشعر كأنه استحال إلى شبحٍ حي.»

هكذا راح يُرسِل شكواه، فلم يُشبِع بحالٍ رغبةَ العجوز التي لم يكن يهمُّها أن تخبُر باطنه بقدر ما كانت تريد أن تعرف ظاهره. لم تعرف منه اسم أبيه ولا اسم مملكته. مسح بيده على الكلب المُتحجر، الذي بدا كأن أشعة الشمس وصدر الشاب الدافئ قد غمراه بالدفء، وبعثا فيه الحياة. أخذ يسأل ويُطيل في السؤال عن الرجل ذي المِصباح، وعن آثار النور المقدَّس، وبدا كأنه يعدُ نفسه من وراء ذلك كله خيرًا كثيرًا يستعين به على حاله البائسة.

وبينما هما مُسترسِلان في الحديث، إذا بهما يُبصِران الجسر من بعيد يصل بين الشاطئَين في هيئة قوس رائع الجمال، يلتمع في أبهى صورة في وهج الشمس. ملكتْهما الدهشة؛ فلم يسبق لهما رؤية هذا البناء على هذه الصورة من الحسن والروعة، وهتف الأمير قائلًا: «ماذا؟ ألم يكن على درجةٍ كافية من الجمال عندما مثل أمام أعيُننا كأنه بُني من حجر اليَشْب والحجر اليماني الأخضر؟ ألا يجفُل الإنسان خوفًا من أن يخطو بقدمَيه فوقه وهو يبدو كأنما رُكِّب من الزُّمرُّد والزبرجد والياقوت في تنوُّعٍ فتَّان؟»

لم يكُن أحد منهما يعلَم بما جرى للحية. لقد كانت هي التي تنصب نفسها في كل يوم عند الظهيرة فوق النهر، وتظهر في هيئة جسر جريء البُنيان. تقدَّم المسافران في إجلال ورهبة، فعبَراه صامتَين.

ما كادا يبلغان الشاطئ الآخر حتى بدأ الجسر يخفق ويتحرك، وما هي إلا برهةٌ قصيرة حتى لامس سطح الماء، وبرزت الحية الخضراء في هيئتها الأصلية زاحفةً على اليابسة لتلحق بالمسافرين. ما كادا ينتهيان من تقديم الشكر إليها على سماحها لهما بعبور النهر فوق ظهرها، حتى أحسَّا بأنه لا بد أن يكون في صحبة ثلاثتهم أشخاصٌ آخرون، وإن لم يستطيعوا أن يروهم رأيَ العين. تَناهى إلى سمعهم صوتُ فحيح، ردَّت الحية عليه بفحيحٍ مثله. أصغوا بانتباه، واستطاعوا أخيرًا أن يُميزوا هذه الكلمات التي راحت تتبادلها أصواتٌ مُشترِكة في الحديث: «سوف نبدأ بالتجوال خُفية في حديقة الزنبقة الحسناء فننظر فيها، ونرجوكما عند مطلع النهار بمجرد أن تلمحا صورتنا أن تُقدِّمانا إلى الجمال الكامل. سوف تجدانِنا عند حافَّة البحيرة العظيمة.» أجابت الحية قائلة: «ليكُن الأمر كذلك.» وضاع صوت فحيح في الهواء.

تشاوَر مسافرونا الثلاثة فيما بينهم حول النظام الذي يُمثِّلون به بين يدَي الجميلة، فمهما تعدَّد الأشخاص الذين يُمكِنهم أن يُحيطوا بها، فلم يكُن يجوز لهم إلا أن يأتوا وينصرفوا كلٌّ على حِدَة؛ حتى لا تُصيبهم آلامٌ حادَّة.

اقتربت المرأة التي تحمل الكلب الممسوخ في سلتها من الحديقة، وراحت تبحث عن ولية نعمتها التي كان من السهل عليها أن تجدها؛ فقد كانت تُغنِّي على القيثارة، والأنغام الحبيبة التي تنساب منها تبدو في شكل حلقات تطوف على سطح البحيرة الساكنة، وتُحرِّك العشب والأغصان كأنها نسماتٌ خفيفة. كانت تجلس في مكانٍ مُغلَقٍ مُخضرٍّ، في ظل مجموعة رائعة من أشجارٍ مختلفة الأشكال، يشعُّ السحر منها من جديد، فيفتنُّ بصر العجوز وسمعها وقلبها، فتدنو في نشوة منها، وتحلف بينها وبين نفسها أن الجميلة في فترة غيابها عنها لم تزِد إلا جمالًا! ولم تنتظر المرأة الطيبة، فنادت الحسناء الحبيبة من بعيدٍ مُحيِّيةً مادحة: «أي سعادة أن تراك عينا إنسان؟! أي سماء يبسطها وجودك من حولك؟! يا لسحر القيثارة في حجرك، وذراعاك تلتفَّان بها في حنان! ما أجملها وهي تبدو كأنها تشتاق إلى صدرك! وما أعذبَ رنينَها تحت لمسات أصابعك النحيلة! سعدتَ أيها الشاب ثلاث مرات، يا من قُدِّر لك أن تحتلَّ مكانها!» بهذه الكلمات ازدادت منها اقترابًا. فتحت الزنبقة الحسناء عينَيها، وتركت يدَيها تسقطان، وردَّت قائلة: «لا تُعكِّري صفوي بمديحٍ يأتي في غير أوانه، فما يزيدني قولُك إلا شعورًا بتعاستي. انظري عند قدمَيَّ ترَي طائر الكناريا المسكين يرقد ميتًا، وهو الذي طالما صاحَب أغانيَّ بأحلى النغم. كان من عادته أن يجلس على قيثارتي، وينصب قامته بحذر حتى لا يُلامِسني، واليوم وأنا أُدندِن بأغنية الصباح الهادئة، بعد أن صحوت مُنتعِشةً من النوم، وبينما مُغنِّيَّ الصغير يُرسِل ألحانه المُنسجِمة في مرح لم يُسبَق إليه، إذا بصقرٍ ينطلق من فوق رأسي، ويهرب الحيوان المسكين الصغير مفزوعًا إلى صدري، فأشعر في نفس اللحظة بالاختلاجات الأخيرة لحياته التي تُفارِقه. حقًّا لقد أصابت اللصَّ نظرتي، فترنَّح هناك وسقط صريعًا على الماء، ولكن ماذا يُفيدني الجزاء الذي لاقاه! حبيبي مات، وقبره لن يزيد إلا من ضراوة الدغل المُحزِن في حديقتي.»

هتفت المرأة وهي تُجفِّف دمعةً أثارتها حكاية الفتاة البائسة في عينَيها: «تشجَّعي أيتها الزنبقة الحسناء! تَماسَكي! زوجي العجوز كلَّفني أن أقول لك إن عليك أن تعتدلي في حزنك، وأن ترَي في الشقاء العظيم رسولًا يُنبِئ بسعادةٍ أعظم؛ ذلك أن الأوان قد آن.» واستطردت العجوز تقول: «حقًّا ما أعجبَ ما يحدث في العالم! انظري فحسب إلى يدَي؛ لترَي كيف أصبحت سوداء! حقًّا لقد صارت أصغر بكثير ممَّا كانت عليه. لا بد أن أُسرِع قبل أن تختفي تمامًا! لِمَ كان عليَّ أن أُحسِن إلى الأنوار التائهة؟ لِمَ كان عليَّ أن أُقابِل العملاق، وأن أغمس يدي في ماء النهر؟ ألا تستطيعين أن تُعطيني رأس قرنبيط وخرشوفة وبصلة؟ سوف أحملها إلى النهر، فترتدُّ يدي بيضاء كما كانت، حتى لأكاد أضعها إلى جانب يدك.»

– «قد تجدين القرنبيط والبصل، أما الخرشوف فسوف تبحثين عنه عبثًا؛ كل النباتات في بستاني الكبير لا تحمل زهرًا ولا ثمرًا، ولكن كل نبتة أقطفها وأضعها على قبر حبيب تخضرُّ على الفور وتترعرع.

كل هذه المجموعات من الأشجار، هذه الأعشاب البرِّية، هذه المروج، قد رأيتها للأسف وهي تنمو. مظلات أشجار الصنوبر هذه، سلات أشجار السرو، الكُتَل الضخمة من أشجار البلوط والزان، كلها كانت نبتاتٍ صغيرة، أثرًا مُحزِنًا غرستْه يدي في أرض كانت من قبلُ عقيمة.»

لم تنتبهِ العجوز كثيرًا لهذا الكلام؛ فقد كانت مشغولة بتأمُّل يدها التي كانت تزداد في وجود الزنبقة الجميلة سوادًا، فبدَت كأنها تتضاءل بين لحظة وأخرى. أرادت أن تتناول سلتها وتمضي مُسرِعةً حين تنبَّهتْ إلى أنها نسيت أعز شيء جاءت من أجله. مدَّت يدها فأخرجت الكلب الممسوخ من السلة، ووضعته على العشب غير بعيد من الحسناء، وخاطَبتها قائلة: «زوجي يُرسِل لك هذا التذكار. تعلَمين أنك تستطيعين أن تردِّي الحياة إلى هذا الحجر الثمين بلمسة منك. يقينًا سوف يُسعِدك الحيوان اللطيف الوفي، والهم الذي يُصيبني إذا تصوَّرت أنني سأفقده لن يُخفِّف منه إلا التفكير في أنك أنت التي ستملكينه.»

نظرت الزنبقة الحسناء إلى الحيوان اللطيف نظرةً مُبتهِجة لم تخلُ من الدهشة، وقالت: «إن علاماتٍ كثيرةً تأتي معًا، وتبعث في نفسي بعض الأمل، ولكن آهٍ! أليس ذلك مجردَ وهمٍ من أوهام طبيعتنا؛ أن نصوِّر لأنفسنا، حين يجتمع علينا الكثير من البؤس والشقاء، أن الخير قد اقترب؟

ماذا تُفيدني العلامات الكثيرة الطيِّبة؟

موت الطائر ويد الصديقة السوداء؟

والكلب الذي تحوَّل إلى حجرٍ ثمين، هل هناك ما يُشبِهه؟

ألمْ يبعث به المصباح إليَّ؟

ها أنا بعيدة عن كل متعة عذبة يحظى بها البشر.

لا أرى إلفًا لنفسي غير الحزن والاكتئاب.

آهٍ! لِمَ لا أرى المَعبد على ضفة النهر؟

آهٍ! لِمَ تأخَّر بناء الجسر؟»

استمعت المرأة الطيِّبة نافدة الصبر إلى هذا الغناء الذي صاحبته الزنبقة الحسناء بأعذب أنغام قيثارتها، وكان حريًّا أن يُرسِل النشوة إلى كل من يستمع إليه. أرادت أن تستأذن في الانصراف حين عطَّلها وصول الحية الخضراء.

كانت الحية قد سمعت الأسطُر الأخيرة من الأغنية، فأسرعت تبثُّ الثقة والاطمئنان في نفس الزنبقة الحسناء، وهتفت قائلة: «نبوءة الجسر قد تحقَّقت! ما عليك إلا أن تسألي هذه المرأة الطيِّبة، وستصف لك كيف يبدو القوس الآن في صورةٍ رائعة، ما كان من قبلُ حجرَ يشبٍ غيرَ شفَّاف، وما كان حجرًا يمانيًّا أخضر فحسب، لا ينفُذ فيه النور إلا عند الحوافي، قد صار الآن حجرًا ثمينًا شفَّافًا، ما من برلنتي بلغ هذا الصفاء، وما من زُمرُّد فاق هذه الألوان الجميلة.»

قالت الزنبقة: «أُهنِّئك على هذا، ولكن اعذريني إذا كنتُ أرى أن النبوءة لم تتحقَّق؛ فعَلى قوس الجسر المُرتفِع يستطيع المُشاة وحدهم أن يسيروا، بينما كان الوعد أن تتمكن الخيول والعربات والمسافرون من عبوره من الناحيتَين. ألمْ يرِد في النبوءة ذِكر الأعمدة العظيمة التي تنبثق من النهر نفسه؟» كانت العجوز تُثبت عينَيها على يدها، فقطعت هذا الحديث واستأذنت في الانصراف، فقالت الزنبقة الحسناء: «تريَّثي لحظةً واحدة، وخُذي طائر الكناريا المسكين معك! توسَّلي للمصباح أن يُحوِّله إلى حجر تروباس جميل. أريد أن أردَّ إليه الحياة بلمسة منِّي. أسرعي بقدر ما تستطيعين! فلن تغيب الشمس حتى يدبَّ الفساد إلى جثمان الحيوان المسكين، ويُمزَّق إلى الأبد التناسق الجميل في هيئته.» وضعت العجوز الجثمان الصغير بين أوراق الشجر الرقيقة في السلة، ومضت مُسرِعة.

استطردت الحية تصل الحديث المقطوع قائلة: «مهما يكن الأمر فقد تمَّ بناء المَعبد.»

فردَّت الحسناء قائلة: «ولكنه لا يُطلُّ على النهر.»

قالت الحية: «ما زال يسكن في أعماق الأرض. لقد رأيت الملوك وتحدَّثت معهم.»

– «ومتى يُبعَثون من رقادهم؟»

– سمعت الكلمات الكبيرة تتردَّد في المَعبد: «لقد آن الأوان.»

عمَّت السعادة الصافية وجه الحسناء، وقالت: «ها أنا أسمع اليوم الكلمات السعيدة للمرة الثانية. متى يأتي اليوم الذي أسمعها فيه للمرة الثالثة؟»

نهضت واقفةً، وإذا بغادةٍ ساحرة تدلف قادمةً من الدغل، وتأخذ القيثارة من يدها، وتبعتها غادةٌ أخرى ضمَّت الكرسي العاجي المنقوش الذي كانت تجلس عليه الحسناء، وتناولت المِخدَّة الفضية تحت ذراعَيها، ثم ظهرت ثالثةٌ كانت تحمل في يدها مِظلَّةً مُطرَّزة باللؤلؤ، وبدا عليها كأنها تنتظر إشارة من الحسناء لتعرف منها إن كانت تحتاج إليها لتُصاحبها في نزهةٍ قصيرة. كانت الغادات الثلاث من الحُسن والرقة بما يعجز عن وصفه كل تعبير، ومع ذلك فلم يزِدنَ الزنبقة إلا حسنًا فوق حسن؛ إذ كان على كل منهن أن تعترف بأنها لا تستطيع بحالٍ أن تُقارن نفسها بها.

كانت الزنبقة الحسناء في أثناء ذلك تتأمَّل الكلب العجيب مُنشرِحةَ الصدر. انحنت عليه ولمسته، فانطلق في نفس اللحظة يقفز أمامها! أخذ يتلفَّت حوله في مرح إلى ولية نعمته، ويُحيِّيها أصدق تحية.

تناولته بين يدَيها، وضمَّته إلى صدرها، وهتفت قائلة: «مرحبًا بك، مع أنك لا تزال بارد الأعضاء، ومع أن نصف حياة فحسب تختلج فيك، فإني أقول لك: سوف أمنحك الحب في حنان، وأمرح معك في وداعة، وأمسح عليك كما يفعل الصديق، وأشدُّك إلى صدري.» ثم أطلقته من بين يدَيها، وصرفته عنها، وعادت تُنادي عليه، وتُعابثه مُتلطفة، وتتسلى معه في مرح وبراءة على العشب مُرسِلةً النشوة في كل من يرى فرحتها ولا يملك إلا أن يُشاركها فيها، مثلما فاض حزنها من لحظاتٍ قليلة من كل قلب فشاطَرها فيها.

وصل الشاب الحزين، فقطع هذه البهجة وهذا المرح الخلَّاب. دخل كما عرفناه من قبل، ولكن بدا عليه كأن لفح الظهيرة قد زاده إجهادًا، كما بدا عليه في حضور المحبوبة كأنه يزداد شحوبًا في كل لحظة. كان يحمل الصقر على كفه وقد استراح عليها في هدوء، وترك جناحَيه يسقطان إلى جانبه.

بادرته الزنبقة هاتفة: «ليس من الود في شيءٍ أن تُحضِر معك هذا الحيوان الكريه وتضعه أمام عيني؛ هذا الوحش الذي قتل اليوم مُغنِّيَّ الصغير.»

أجابها الشاب قائلًا: «لا تعتبي على الطائر البائس، بل وجِّهي التهمة إلى نفسك وإلى القدر، وأْذَني لي أن أُصاحب رفيق تعاستي.»

لم يكُفَّ الكلب خلال ذلك عن مداعبة الجميلة، وراحت بدورها تُعامل المحبوب الشفَّاف معاملة الصديق للصديق؛ أخذت تصفعه بيدَيها لكي تُبعده عنها، ثم تجري نحوه لكي تعود فتجذبه إليها. كانت تُحاول أن تُمسِك به حين يفلت منها، وتطرده حين يحاول الإلحاح على مداعبتها. أخذ الشاب يتطلَّع إليها صامتًا وحنقه يزداد، حتى إذا مدَّت يدَيها أخيرًا فتناولت الحيوان المَقيت، الذي بدا له بشعًا غاية البشاعة، بين ذراعَيها، وضمَّته إلى صدرها الناصع البياض، ولثمَت شفتاها السماويَّتان خيشومه الأسود، نفد صبره كله، وصاح في يأسٍ مرير: «هل يتحتَّم عليَّ، أنا الذي حكم عليه القدر الحزين حكمًا قد يدوم إلى الأبد بفراقك، بينما أعيش إلى جوارك، أنا الذي فقدت بسببك كل شيء، لا بل فقدت نفسي، هل يتحتَّم علي أن أشهد بعينَيَّ كيف يُثير مثل هذا المسخ المشوَّه السعادة فيك، وكيف يأسر عاطفتك ويتمتَّع بضمِّك؟ هل حُكِم عليَّ أن أظل رائحًا غاديًا وأنا أقيس الدائرة المُحزنة، وأنا أعبُر النهر جيئة وذهابًا؟ لا! فلم تزَل تتَّقد في صدري شرارة من بسالتي القديمة! فلتشتعل في هذه اللحظة للمرة الأخيرة. إن كانت الأحجار يُباح لها أن تستريح على صدرك، فلأتحوَّل بدَوري إلى حجر، وإن كانت لمسة منك تُميت، فلأمُتْ بلمسة من يدَيك.»

لم يكَد يفرغ من هذه الكلمات حتى صدرت عنه حركةٌ عنيفة، فطار الصقر من يده، أما هو فاندفع يُلقي بنفسه على الجميلة، ومدَّت يدَيها تريد أن تُوقِفه، ولكن لمستها له كانت أسرع منها.

غاب عنه الوعي، وأحسَّت والفزع يستولي عليها بالحمل الجميل يستقرُّ على صدرها. أجفلت إلى الوراء صارخة، وسقط الشاب الطاهر من بين ذراعَيها على الأرض فاقد الحياة.

كانت الكارثة قد وقعت! وقفت الزنبقة الحلوة بلا حَراك تُحدِّق في جمود إلى الجثمان الذي فارقته الروح. شعرت كأن قلبها يتوقَّف في صدرها، وكانت عيناها بلا دموع. حاوَل الكلب عبثًا أن يستدرجها إلى مداعبته. كان العالم كله في عينَيها قد مات بموت صديقها. لم يتلفَّت يأسها الأخرس يطلب المساعدة؛ فلم تكن تدري كيف السبيل إليها.

غير أن الحية على العكس من ذلك زادت نشاطها. بدا عليها كأنها تُفكر في وسيلة للنجاة، وساعدت حركاتها العجيبة حقًّا في أن تُعطِّل النتائج المُفزِعة للكارثة لبعض الوقت على أقل تقدير. مدَّدت جسدها الطري المُتثني في دائرةٍ واسعةٍ حول الجثمان، وأمسكت طرف ذيلها بأنيابها، وبقيت راقدةً في هدوء.

لم يمضِ وقتٌ طويل حتى ظهرت إحدى خادمات الزنبقة الجميلات تحمل الكرسي العاجي، وأخذت تُلحُّ على الجميلة بإشارتها الودودة حتى جلست.

وجاءت الخادمة الثانية في أثرها تحمل قناعًا بلون النار، فزيَّنت به وجه سيدتها أكثر من أن تُغطيه به. أما الثالثة فناوَلتها القيثارة، ولم تكَد الزنبقة الحسناء تضغط الآلة الساحرة على صدرها، وتضرب على أوتارها بعض النغمات، حتى رجعت الخادمة الأولى تحمل في يدها مرآةً ناصعةً مُستديرة، جلست بها أمام الجميلة، وراحت تتلقَّف نظراتها، وتعرض عليها أعذب صورة في الطبيعة يُمكِن أن تقع عليها عين الإنسان. زاد الألم من جمالها، والقناع من سحرها، والقيثارة من رقتها، وبمثل ما تمنَّى كل إنسان أن تتبدَّل حالها الحزينة، فقد ود لو يتشبَّث إلى الأبد بصورتها كما تنعكس على المرآة.

راحت تتطلَّع في سكون إلى المرآة، وتنتزع من الأوتار أنغامًا مُؤثِّرة، ويزداد عليها الألم فتُردِّد الأوتار لوعتها في قوة، وفتحت فمها مرةً لتُغنِّي، ولكن صوتها لم يُطاوعها، ثم سرعان ما ذاب حزنها في دموعها، وأمسكت فتاتان بذراعَيها تُعِينانها، وسقطت القيثارة من حجرها، فتلقَّفتها الخادمة بسرعة، وحملتها جانبًا.

فحَّت الحية في صوتٍ خفيض ولكنه مسموع: «من يُحضِر لنا الرجل ذا المِصباح قبل أن تغيب الشمس؟»

تطلَّعت الفتَيات إلى بعضهن، وانهمرت دموع الزنبقة، وفي هذه اللحظة رجعت المرأة ذات السلة لاهثةَ الأنفاس، أخذت تصيح: «لقد ضِعتُ وشُوِّهتُ! انظُرنَ كيف أوشكت يدي أن تختفي. لا الملَّاح ولا العملاق قبِلَ أن يعبُرا بي النهر؛ لأنني ما زلت مَدينة له. عبثًا حاولتُ أن أُقدِّم لهما مائة رأس قرنبيط ومائة خرشوفة. إنهما لا يريدان أكثر من الثمار الثلاثة، وما من خرشوفة واحدة أستطيع العثور عليها في هذه الناحية.» قالت الحية: «انسَي ما أصابك من هم، وحاوِلي الآن أن تُعاونينا؛ فقد يكون في ذلك العون لك أيضًا. أسرعي بقدر ما تستطيعين ففتِّشي عن النورَين التائهين. ما زال ضوء النهار يحُول دون رؤيتهما، ولكنك ربما سمعتِهما يضحكان ويتداعبان. إنهما إن أسرعا فسوف يعبُر العملاق بهما النهر، وحينئذٍ يستطيعان أن يجدا الرجل ذا المصباح، ويُرسِلاه إلينا.»

أسرعت المرأة بقدر ما استطاعت، وبدا على الحية كما بدا على الزنبقة أنهما ينتظران عودة العجوز والمصباح بفارغ الصبر، غير أن شعاع الشمس الغاربة كان قد كسا للأسف أعلى قِمم الأشجار في الدغل الكثيف، كما تمدَّدت الظلال الطويلة فوق البحيرة والدغل. تململت الحية نافدةَ الصبر، وانهمرت دموع الزنبقة.

تلفَّتت الحية حولها في هذه المحنة؛ فقد خشيت أن تغيب الشمس بين لحظة وأخرى، وينفذ الفساد إلى الدائرة السحرية، فيُعاجل الشاب الجميل بغير إبطاء. وأخيرًا لمحت الصقر يخفق ريشه الأحمر القرمزي في الأعالي، ويتلقَّى بصدره أشعة الشمس الأخيرة. أخذت تُنعِش نفسها فرحةً بالفأل الطيب، ولم تخدع نفسها، فما هي إلا لحظاتٌ قصيرة حتى ظهر الرجل ذو المصباح يتقدَّم عابرًا البحيرة، وكأنه يتزحلق على الجليد.

لم تُغيِّر الحية من موضعها، ولكن الزنبقة نهضت واقفةً، ونادت عليه قائلة: «أي روح طيِّب بعث بك في هذه اللحظة التي نتلمَّسك فيها، ونحتاج إليك أشدَّ الاحتياج؟»

أجابها العجوز قائلًا: «إن روح مصباحي هو الذي يدفعني، والصقر هو الذي يسوقني إلى هذا المكان. حين يحتاجني أحدٌ يتلألأ المصباح، وأتلفَّت حولي أُفتِّش في الأجواء المُحيطة بي عن علامة، فإذا بطائر أو شهاب يدلُّني على الاتجاه الذي يكون عليَّ أن أسير فيه. اهدئي يا أجمل الفتيات! لستُ أدري إن كان في مقدوري أن أُساعدك. إن الإنسان بمفرده لا يملك العون، ولكن يملكه من يتَّحد مع غيره في الساعة المناسبة. لِنَدع الأمر يسير في مجراه، ولنتذرَّع بالرجاء. حافِظي على أن تبقى دائرتك مُغلَقة.» قال العجوز ذلك مُوجِّهًا كلامه إلى الحية، وجلس على مُرتفَع من الأرض بجانبها، وسلَّط نور مصباحه على الجسد الميت، ثم قال مُوجهًا حديثه للفتيات: «أحضرن كذلك طائر الكناريا وضعنه في الدائرة!»

فعلت الفتيات كما قال العجوز، فتناوَلنَ الجثمان الصغير من السلة التي تركتها العجوز في مكانها.

كانت الشمس في أثناء ذلك قد أفلت، وحين تراكَم الظلام لم تبدأ الحية ومصباح الرجل في إرسال ضوئهما كلٌّ على طريقته فحسب، بل إن قناع الزنبقة راح يشعُّ نورًا رقيقًا كأنه شفقٌ ناعمٌ لوَّن وجنتَيها الشاحبتين وثوبها الناصع بفتنةٍ ساحرة لا سبيل إلى وصفها. تأمَّل الحاضرون بعضهم في صمت، وهدَّأ الرجاء اليقين من الهم واللوعة.

من أجل ذلك كان ممَّا يدعو إلى السرور أن تظهر المرأة العجوز في صحبة الشعلتَين المُضيئتين، اللتين بدا عليهما أنهما قد بذَّرا من ضوئهما تبذيرًا شديدًا حقًّا؛ إذ ظهرتا نحيلتَين شديدتَي النحول، وإن لم يزِدهما ذلك إلا لطفًا في معاملة الأمير وبقية النساء. أخذا يتكلَّمان في ثقةٍ تامة، وبصوتٍ مُعبِّر عن أمورٍ عادية، وبدا عليهما بوجهٍ خاصٍّ أنهما مأخوذان بالسحر الذي كان ينشره القناع المُنير على الزنبقة وصاحباتها. خفضت النساء أبصارهن في تواضع، وزادهن إطراء الجمال جمالًا.

كان الجميع مُغتبِطِين هادئين ما خلا العجوز؛ فعَلى الرغم من تأكيد زوجها لها بأن يدها لا يمكن أن تتقلَّص أكثر ممَّا هي عليه طالما كان ضوء مصباحه يسطع عليها، فقد راحت تُكرِّر وتُعِيد زاعمةً أن الحال لو استمرَّ على ما هو عليه لاختفى هذا العضو النبيل قبل أن ينتصف الليل.

أنصت العجوز ذو المصباح إلى حديث النورَين التائهين في انتباه، وسرَّه أن شغل الزنبقة عن همِّها، وأعاد إليها مرحها. كان الليل قد انتصف حقًّا، ولم يدرِ أحد كيف. تطلَّع العجوز إلى النجوم، وشرع يقول: «ها هي الساعة السعيدة تجمَعنا، فليقُم كلٌّ بعمله، وليؤدِّ واجبه، وسوف تُذيب السعادة المُشتركة الآلام واحدًا واحدًا، كما يلتهم الشقاء المُشترك الأفراح كلًّا على حِدَة.»

بعد أن انتهى العجوز من إلقاء هذه الكلمات سمع خليطًا عجيبًا من الأصوات؛ فقد أخذ كل واحد من الحاضرين يُكلِّم نفسه، وينطق بصوت عالٍ بما عليه أن يفعل، ما خلا الفتيات الثلاث؛ فقد خيَّم عليهن الصمت. كانت إحداهن قد غلب عليها النوم بجانب القيثارة، والأخرى بجانب المِظلَّة، والثالثة بجوار الكرسي، ولم يكُن لأحدٍ أن يلومهن؛ فقد كان الوقت مُتأخرًا. أما الصبيَّان المُشتعلان، فبعد أن غمرا الجميع بمظاهر الأدب العابرة، التي لم يحرما الخادمات أيضًا منها، فقد انصرفا أخيرًا بكليَّتهما إلى الزنبقة وحدها التي كانت أروعهن جمالًا.

قال العجوز للصقر: «أمسِكْ بالمرآة وبشعاع الشمس الأول. أنِرِ النائمات وأيقِظْهن بنورٍ مُرتدٍّ من الأعالي!»

بدأت الحية تُحرِّك نفسها، ففكَّت الدائرة المُغلَقة، وراحت تزحف زحفًا بطيئًا في حلقاتٍ كبيرة نحو النهر. تبعها النوران التائهان في احتفال، حتى ليحسبهما الإنسان أكثر الشعلات جدًّا ووقارًا، وأمسكت العجوز وزوجها بالسلة التي لم يكَد أحد حتى الآن يُلاحظ النور الرقيق المُنبعث منها، وتناولاها من طرفَيها، وهي تزداد بين أيدَيهما بهاءً، وتكبَر شيئًا فشيئًا، ورفعا جثمان الشاب، ومدَّداه فيها، ووضعا طائر الكناريا على صدره. ارتفعت السلة في الفضاء، وأخذت ترفُّ فوق رأس العجوز التي سارت في أثر النورَين التائهين، فتناولت الزنبقة الحسناء الكلب، ووضعته على ذراعَيها، وتبعت العجوز. أما الرجل ذو المصباح، فسار في المُؤخرة من الموكب، وغمرت هذه الأضواء كلها الناحية، فنوَّرتها بنورٍ ساطعٍ غريب، ولكن لم يقلَّ عَجب هذه الجماعة من المسافرين عندما وصلت إلى النهر فأبصرت قوسًا رائعًا يمتدُّ، عبَّدت به الحية طريقًا مُضيئًا.

وإذا كانوا قد أُعجِبوا في مطلع النهار بالأحجار الثمينة الشفَّافة التي بدا كأن الجسر صُنِع منها، فقد تملَّكتهم الدهشة في الليل وهم يتأمَّلون روعتها الباهرة السناء.

حفَّ الجانب العلوي من الدائرة الساطعة بالسماء المُعتِمة، أما في ناحيتها السفلى فقد اختلجت أشعةٌ مُتدفقة بالحيوية في اتجاه المركز، فأوضحت الثبات المُتحرك للبناء.

عبَر الموكب في بطء على الجسر، وأطلَّ المراكبي من كوخه على البُعد يتأمَّل في دهشة الدائرة الساطعة والأنوار العجيبة التي تعبُرها.

لم يكَد الموكب يصل إلى الضفة الأخرى من النهر حتى بدأ القوس يتأرجح على طريقته، وينعطف انعطافَ الأمواج ناحية النهر، وسرعان ما زحفت الحية على اليابسة، وهبطت السلة على الأرض، فعادت الحية فطوَّقتها بدائرتها. انحنى العجوز أمامها وقال: «ماذا قرَّرتِ أن تصنعي؟» فأجابت الحية: «أن أُضحِّي بنفسي قبل أن يُضحَّى بي. عِدني بأنك لن تترك حجرًا واحدًا على اليابسة.»

وعد العجوز بما قالت، ثم خاطب الزنبقة الحسناء قائلًا: «الْمِسي الحية بيُسراك، وحبيبك بيُمناك.»

ركعت الزنبقة، ومدَّت يدها فلمست الحية والجثمان، الذي بدا عليه أنه ينتقل في نفس اللحظة إلى الحياة، ثم أخذ يتحرك في السلة، بل انتصب في جلسته وجلس. أرادت الزنبقة أن تُعانقه، ولكن العجوز منعها من ذلك، واتَّجه إلى الشاب يُعِينه على النهوض، وأخذ بيده فخرج به من السلة ومن الدائرة.

نهض الشاب واقفًا، ورفَّ طائر الكناريا فوق كتفه. كانت الحياة قد دبَّت فيهما، ولكن الروح لم يكُن قد عاد إليهما. كان الصديق الجميل مفتوح العينَين، ولكنه لم يكُن يرى شيئًا، أو كان يبدو عليه على الأقل كأنه ينظر حوله بغير أن يُشارك في شيء ممَّا يرى، ولم يكَد عَجب الحاضرين من ذلك يخفُّ قليلًا حتى لاحظوا التغير العجيب الذي طرأ على الحية. كان جسدها الجميل النحيل قد تفتَّت إلى آلاف وآلاف من الأحجار الثمينة المُضيئة. لم تحترس العجوز التي أرادت أن تمدَّ يدها إلى السلة فاصطدمت بها، ولم يعُد أحد يرى شيئًا من بقية الحية؛ فلم يبقَ منها غير دائرة جميلة من الأحجار البرَّاقة مُلقاةً بين الأعشاب.

شرع العجوز على الفور في جمع الأحجار في السلة، وكان على زوجته أن تُساعده في ذلك. حملا السلة إلى الشاطئ، فوضعاها في مكانٍ مرتفع، وأفرغ الرجل الحمل كله في النهر، ولم يبرأ من معارضة الزنبقة الحسناء وزوجته اللتَين ودَّتا لو تستطيعان اختيار شيء منها لأنفسهما. سبحت الأحجار مع الأمواج كأنها نجومٌ لامعةٌ برَّاقة، ولم يكُن أحد يستطيع أن يتبيَّن إن كانت قد ضاعت مع التيار أو سقطت في قاع النهر.

قال العجوز في خشوع مُوجهًا حديثه للنورَين التائهين: «سادتي! الآن أريد أن أُرِيكما الطريق وأفتح لكما الدرب، ولكنكما تُسديان إلينا خدمةً عظيمة إن فتحتما لنا بوابة المَعبد المقدَّس، التي يتحتَّم علينا الآن أن ندخل منها، والتي لا يستطيع أحد غيركما أن يفتحها.»

انحنى النوران التائهان انحناءةً مُهذَّبة، ولبثا في مكانهما، وتقدَّم العجوز ذو المصباح إلى الصخر فانفتح له. لحِقَ الشاب به على الفور في حركةٍ آلية، وبقيت الزنبقة على بُعدٍ قليل منه هادئةً غيرَ واثقة من نفسها. أما العجوز فلم تشَأ أن تتخلَّف، ومدَّت يدها لكي يتسنَّى للنور المُنبعث من مصباح زوجها أن يقع عليها. وسار النوران التائهان في مُؤخرة الموكب، ومالت أطراف شعلتَيهما إلى بعضها، فبدا عليهما كأنهما مُستغرِقان في الحديث.

لم يكُن قد طال بهم السير حين ألقى الموكب نفسه أمام باب عظيم صُنِع من الحديد، وأُغلِق جناحاه بقفلٍ ذهبي. نادى العجوز على النورَين التائهين، ولم يكونا في حاجة لمن يدعوهما إلى العمل؛ فقد أقبلا على القفل والمِزلاج يلتهمانهما بشعلتهما ذات الأطراف الحادَّة.

رنَّ صوت المعدن عاليًا حين انفتحت البوابات في سرعةٍ مُذهلة، وظهرت تماثيل الملوك ذات الجلال وقد غمرتها الأنوار التي سقطت عليها. أحنى الحاضرون رءوسهم أمام الملوك الأجِلَّاء، ولم يُقصِّر النوران التائهان أيضًا في تقديم انحناءاتهما العجيبة المُتثنية.

مرَّت فترة من السكون قبل أن يسأل الملك الذهبي: «من أين تأتون؟»

أجاب العجوز: «من العالم!»

سأل الملك الفضي: «وإلى أين تذهبون؟»

فقال العجوز: «إلى العالم!»

سأل الملك الحديدي: «ماذا تطلبون عندنا؟»

أجاب العجوز: «أن نكون في صحبتكم.»

أراد الملك المُختلط أن يبدأ الكلام حين سمع الملك الذهبي يقول للنورَين التائهين اللذين اقتربا منه اقترابًا شديدًا: «ابتعِدا عنِّي! إن ذهبي لم يُخلَق لحلوقكم!»

فما كان منهما إلا أن اتَّجها ناحية الملك الذهبي، والتصقا به، والتمع رداؤه بالنور الأصفر المُنعكس منهما التماعًا جميلًا، وقال: «مرحبًا بكما، وإن كنت لا أستطيع أن أُطعِمكما. أشبِعا بطونكما عند غيري، ثم أحضِرا لي نوركما!»

ابتعدا عنه وتسلَّلا مُختفيَين من جانب الملك الحديدي، الذي لم يبدُ عليه أنه انتبه إليهما، وذهبا إلى الملك المركَّب من معادن مُختلطة. هتف بهما الملك في صوتٍ مُتلعثِم: «مَن الذي سيحكم العالم؟»

فأجاب العجوز قائلًا: «الذي يقف على قدمَيه.»

قال الملك المختلط: «أنا هو الحاكم!»

قال العجوز: «سوف يتَّضح الأمر عمَّا قريب؛ لأن الأوان قد آن.»

ألقت الزنبقة الحسناء بنفسها على العجوز، فطوَّقت رقبته بذراعَيها، وقبَّلته قُبلةً صادقةً حارَّة. قالت له: «يا أبي المقدَّس، ألف مرة أشكرك، فها أنا أسمع الكلمة المُوحية للمرة الثالثة!»

ولم تكَد تنتهي من حديثها حتى وجدت نفسها تزداد تشبثًا بالعجوز؛ فقد بدأت الأرض تهتزُّ من تحتها، والتحم العجوز والشاب ببعضهما. أما النوران التائهان المُتدفقان حركةً فلم يفطنا إلى شيء.

أحسَّ الحاضرون إحساسًا واضحًا بأن المَعبد يتحرَّك كله كسفينةٍ تبتعد رويدًا رويدًا عن الميناء حين تُفَك مَراسيها، وبدا كأن أعماق الأرض تتفتَّح أمامه ليشقَّ طريقه فيها.

لم يصطدم بشيء. لم يقف شيء في طريقه.

مرَّت لحظاتٌ قليلة خُيِّل فيها للحاضرين كأن رذاذًا خفيفًا يتقطَّر من كوَّة في القبة. ضمَّ العجوز الزنبقة الحسناء إليه، وقال لها: «نحن الآن تحت النهر، ونُوشِك أن نبلغ الهدف.» انقضت لحظاتٌ حسبوا فيها أنهم ثابتون في مكانهم، ولكنهم كانوا مُخطئين؛ فقد كان المعبد يرتفع إلى أعلى.

سمعوا ضجةً غريبةً فوق رءوسهم، وراحت ألواح وعروق من الخشب تنهال على رءوسهم في صخب واختلاط من كوَّة القبة. قفزت الزنبقة والعجوز جانبًا، وتشبَّث الرجل ذو المصباح بالشاب ولم يبرح مكانه. سقط كوخ المراكبي الصغير — فقد كان هذا الكوخ هو ما اقتلعه المَعبد من الأرض، وحمله معه عند ارتفاعه — شيئًا فشيئَا، وغطَّى الشاب والعجوز.

تعالت صيحات النساء، وارتج المَعبد كالسفينة التي ترتطم باليابسة. أخذت النساء تَهيم في الغسق طائفاتٍ حول الكوخ. كان الباب مُغلقًا، ولم يستجب أحد لطرقاتهن. اشتد طَرقهن عنفًا، ولم يقلَّ عَجبهن حين انتهى إلى سمعهن رنينٌ ينبعث من الخشب. كان الكوخ قد تحوَّل بفضل المصباح المحبوس فيه إلى فضةٍ تتلألأ من الداخل إلى الخارج.

ولم يمضِ وقتٌ طويل حتى تحوَّل شكل الكوخ نفسه؛ فقد فارق المعدن الكريه الصور العارضة للألواح والأعمدة والقوائم الخشبية، وتمدَّد فصار مبنًى رائعًا من المعدن المطروق. وهكذا نشأ مَعبدٌ رائعٌ صغير في وسط المَعبد الكبير، أو إن شئنا فمَذبحٌ جدير بجلال المَعبد.

ارتقى الشاب النبيل درجاتِ سُلَّم يرتفع من الداخل، وأنار له الرجل ذو المصباح الطريق، وبدا كأن رجلًا آخر يُساعده على الصعود، ويرتدي ثوبًا ناصعًا قصيرًا، ويحمل في يده مِجدافًا من الفضة، عرف فيه الحاضرون المراكبي؛ ذلك الساكن القديم للكوخ المُتحوِّل.

صعدت الزنبقة الحسناء الدرجات المُتطرفة التي تؤدي من المَعبد إلى المذبح، وكان ما يزال عليها أن تظلَّ بعيدة عن حبيبها، وهتفت العجوز التي كانت يدها تتضاءل شيئًا فشيئًا ما بقي المصباح في مخبئه: «هل كُتِب عليَّ أن أبقى شقيَّة؟ أليست هناك معجزة من بين هذه المعجزات الكثيرة تُنقِذ يدي؟» أشار زوجها للباب المفتوح وقال: «انظري! إن النهار يطلع. أسرعي واستحمِّي في النهر!»

صاحت قائلة: «يا لها من نصيحة! إذن فقد قُدِّر لي أن أُصبح سوداء فاحمة السواد، وأن أختفي تمامًا من الوجود. إنني لم أقُم بسداد ديني!»

قال العجوز: «اذهبي واتبعيني. كل الديون قد سُدِّدت.»

هرولت العجوز مُسرِعة، ولاح نور الشمس المُشرِقة في نفس اللحظة يُجلِّل هامة القبة. تقدَّم العجوز فوقف بين الشاب والعذراء، ونادى بصوتٍ مرتفع: «ثلاثة يحكمون الأرض: الحكمة، والمظهر، والسلطان.»

انتصب الملك الذهبي عند سماعه الكلمة الأولى، والملك الفضي عند سماعه الثانية، وسمع الملك الحديدي الكلمة الثالثة فنهض يتحامل على نفسه في بطء.

بينما جلس الملك المختلط فجأةً بطريقةٍ خلَت من كل حِذق، حتى إن كل من رآه لم يملك أن يمنع نفسه من الضحك؛ ذلك أنه لم يكن يجلس، ولم يكن يرقد، ولم يكن يستند إلى شيء، بل انهار مُنكمشًا على نفسه.

تنحَّى النوران التائهان جانبًا، وكانا طوال الوقت عاكفَين عليه مشغولَين به.

وبالرغم من شحوبهما في ضوء المصباح، فقد بدَت شعلتهما ناضرةً حية. كانت ألسنتهما الحادَّة المُدبَّبة قد امتدَّت إلى العروق الذهبية المنتشرة في التمثال الهائل فلعقتها، وأوغلت في صميمها. بقيت الفراغات غير المُنتظمة الناتجة عن ذلك مفتوحةً بعض الوقت، كما بقي الشكل العام على هيئته السابقة، حتى إذا التهمت الألسنة الحادَّة العروق المُتناهية في الدقة، انهار التمثال كله مرةً واحدة، وكان انهياره مع الأسف في تلك المواضع التي تبقى عادةً على حالها عند الجلوس، أما المفاصل التي كان ينتظر أن تنثني، فقد بقيت على العكس من ذلك مُتصلِّبة. اضطرَّ كل من لم يقوَ على الضحك إلى أن يُحول عينَيه بعيدًا؛ فقد كان ممَّا يؤذي العين أن ترى شيئًا وسطًا بين الشكل المُنسَّق والكومة المُتكورة.

هبط الرجل ذو المصباح درجاتِ المَذبح، وتقدَّم الشاب الجميل الذي ما لبث يتطلَّع جامِدَ العينَين أمامه متَّجِهًا بها إلى الملك الحديدي.

كان هناك سيفٌ مُلقًى عند قدمَي الأمير الجبَّار في غِمده الحديدي، فمدَّ يده وتحزَّم به. صاح به الملك الجبَّار: «ضع السيف في يُسراك، ودع يُمناك حرةً طليقة!»

ثم ذهب إلى الملك الفضي الذي أدنى صولجانه من الشاب، فقبض عليه بيُسراه، وقال له الملك في صوتٍ عذب: «ارعَ الأغنام!»

فلما جاء إلى الملك الذهبي مدَّ هذا يده الأبوية يُبارك بها الشاب، ويضع على رأسه إكليلًا من أوراق شجر البلوط، وقال: «اعرف أعلى الموجودات!»

كان العجوز أثناء هذه الجولة يُراقب الشاب مُراقبةً دقيقة، فما إن تحزَّم بالسيف حتى ارتفع صدره، وتحرَّك ذراعاه، وازدادت خطواته صلابة، وما إن أمسك الصولجان بيده حتى بدا كأن قوَّته قد وهنت، وكأن سحرًا لا سبيل إلى وصفه قد زادها مع ذلك بأسًا وقوة، حتى إذا زان إكليل البلوط خصلات شعره، فاضت الحيوية على ملامح وجهه، ولمعت عيناه بروحانية لا يمكن التعبير عنها، وكانت أول كلمة نطق بها فمه: «زنبقة! يا حبيبتي الزنبقة!» هتف بهذه الكلمات وهو يصعد الدرجات الفضية مُسرِعًا إلى لقائها؛ فقد كانت قد تابعت رحلته من شرفة المَذبح: «أيتها الزنبقة يا حبيبتي! ماذا يستطيع الرجل الذي أنعمت عليه الطبيعة بكل شيء أن يشتهي لنفسه أعذب من البراءة والانعطاف الوديع اللذَين يحتويهما صدرك؟» ثم اتَّجه إلى العجوز، وتأمَّل التماثيل الثلاثة المقدَّسة، واستطرد يقول: «آهٍ يا صديقي! رائعة ومأمونة هي مملكة آبائنا، ولكنك نسيت القوة الرابعة، التي هي أسبق منها جميعًا في حكم العالم، وأعم وأبعد يقينًا؛ قوة الحب.» قال ذلك وألقى بنفسه على الحسناء فطوَّق رقبتها. كانت قد نزعت القناع وألقته بعيدًا عنها، ولوَّنت خدَّيها حُمرةً فاتنةً باقية الجمال.

أجاب العجوز مُبتسمًا: «الحب لا يحكم، بل يُربِّي، وهذا أكثر.»

لم ينتبه الحاضرون في غمرة الاحتفال والسعادة والنشوة إلى وضوح النهار، فإذا بأبصارهم تقع — عبر الباب المفتوح — على أشياء لم يتوقَّعوها. رأوا فناءً عظيمًا تُحيط به الأعمدة، وفي نهايته جسرٌ طويلٌ رائع البهاء يمتدُّ على النهر بأقواسه الكثيرة، وعلى جانبَيه ممرَّان مُصطفَّان بالأعمدة، أُعِدَّ لنزهة العابرين فوقه إعدادًا مُريحًا أخَّاذًا، وكم من ألوف منهم دأبوا على العبور عليه جيئة وذهابًا. كان الطريق الطويل في منتصفه يمتلئ بالقُطعان والبغال، بالخيالة والعربات التي ازدحمت على جانبَيه، وراحت تنساب انسياب النهر هنا وهناك بغير أن تعُوق بعضها البعض عن السير. كان يبدو عليهم جميعًا كأنهم مأخوذون بالروعة والنزق من حولهم، وأسعد الملكَ الجديد وزوجته رؤيةُ الحياة والنشاط تدبُّ في هذا الشعب العظيم، بمقدار ما أسعدهما حبهما المُتبادل.

قال الرجل ذو المصباح: «أكرِمْ ذكرى الحية! إنك مَدين لها بالحياة كما تدين شعوبك لها بالجسر، الذي جعل من هذَين الشاطئين المُتجاورين بلدَين تدبُّ فيهما الحياة، وربط بينهما. تلك الأحجار الثمينة التي تسبح برَّاقةً على النهر هي بقايا جسدها الذي ضحَّت به، وهي أعمدة هذا الجسر الرائع. لقد بُنِي عليها، وسيحتفظ ببنائه فوقها.»

أراد الحاضرون أن يسألوه أن يكشف لهم هذا السر العجيب حين دلفت أربع فتيات حِسان من باب المَعبد.

تعرَّف الحاضرون فيهن على رفيقات الزنبقة من القيثارة والمِظلَّة والكرسي، أما الحسناء الرابعة المجهولة التي فاقت الثلاث جمالًا، فقد دخلت من الباب بسرعة وهي تمرح بينهن مرحًا أخويًّا، ثم صعدت السلالم الفضية.

قال الرجل ذو المصباح للحسناء: «هل ستُصدِّقينني في المستقبل يا زوجتي العزيزة؟ طوبى لك ولكل مخلوق يستحمُّ هذا الصباح في ماء النهر!»

أقبلت العجوز التي ارتدَّ إليها شبابها وجمالها، والتي لم يبقَ لخلقتها السابقة أي أثر على الرجل ذي المصباح، فضمَّته بذراعَين شابَّتَين مُتدفقتين بالحياة، فتقبَّل عناقها مسرورًا، وقال لها وهو يبتسم: «إن رأيت أنني عجوز بالنسبة لك، ففي استطاعتك أن تختاري لك زوجًا آخر. لن يصحَّ بعد اليوم زواج إلا إذا انعقدت أواصره من جديد.»

أجابت قائلة: «ألا تدري أنك أصبحت شابًّا؟»

– «يسرُّني أن أبدو لعينَيك الشابَّتَين في مظهر الفتى المِقدام، وها أنا آخذ يدك من جديد سعيدًا بأن أعيش معك الألف عام المُقبِلة.»

رحَّبت الملكة بصديقتها الجديدة، وهبطت معها درجات المَذبح، تصحبها رفيقاتها الأُخَر، في حين راح الملك الذي توسَّط الرجلَين يتأمَّل مواكب الشعب المُصطخبة في انتباه.

ولكن سعادته لم تدُم طويلًا؛ فقد رأى ما بعث الضجر في نفسه. كان العملاق الكبير، الذي بدا عليه أنه لم يُفِق من نوم الصباح تمامًا، يتمايل قادمًا إلى الجسر، وينشر الاضطراب العظيم من حوله. كان قد نهض في سكرة النوم كعادته يريد أن يستحمَّ في خليج النهر الذي يعرفه، فلم يجد في مكانهما إلا اليابسة، ومضى يخبط على الرصيف العريض، ومع أنه مرق بين البشر والبهائم بلا حِذق أو تدبُّر، فقد أدهش الجميعَ وُجودُه وإن لم يشعر به أحد، فلما انعكست الشمس على عينَيه، ورفع يدَيه ليمسحهما بهما، أخذ ظلُّ قبضته الجبَّار يتقلَّب هنا وهناك في قوة واضطراب بين الجماهير، حتى تدافعت حشود الناس والحيوانات، فاصطدمت ببعضها البعض، وأصابها الأذى، وتعرَّضت لخطر السقوط في النهر.

عندما رأى الملك هذا الفعل البشِع، امتدَّت يده بحركةٍ غير مقصودة لتقبض على السيف، ثم ما لبث أن تروَّى وأخذ ينظر إلى صولجانه، ثم إلى المصباح والمِجداف في يد رفيقَيه. قال الرجل ذو المصباح: «إني أحدس بما يدور في خاطرك، ولكننا وكل ما في طاقتنا من قوة عاجزون عن مواجهة هذا العاجز. تذرَّعْ بالهدوء! فهذه هي المرة الأخيرة التي يُؤذينا فيها، ومن حسن الحظ أن ظله قد ارتدَّ عنا.»

اقترب العملاق في أثناء ذلك اقترابًا شديدًا، وأصابه الذهول ممَّا رآه بعينَين مفتوحتين، فترك يدَيه تسقطان، ولم يعُد يؤذي أحدًا، وسار مدهوشًا إلى الفناء الأمامي. اتَّجه مباشرةً نحو باب المَعبد، وإذا به يجمد فجأةً في منتصف الفناء، ويتصلَّب في مكانه تمثالًا ضخمًا هائلًا من الحجر الأحمر اللامع، يُشير ظله إلى الساعات التي رُصِّعت من حوله في دائرة على الأرض، لا في شكل أعداد، بل على هيئة صورٍ نبيلةٍ دالَّة المعاني.

لم تكُن فرحة الملك قليلة وهو يُشاهد ظل العملاق الهائل يتَّجه وجهةً نافعة، ولم يكُن عَجب الملكة قليلًا وهي تصعد في أبهى زينتها إلى المَذبح والعذارى في رفقتها؛ فإذا بها تلمح التمثال الغريب الذي كاد يحجب الرؤية من المَعبد إلى الجسر.

كان الشعب في أثناء ذلك قد تدافَع نحو العملاق الساكن في مكانه، فأحاط به من كل جانب، وأخذ يتطلَّع مدهوشًا إلى التحوُّل الذي طرأ عليه. ومن هناك اتجهت الجماهير بأبصارها إلى المَعبد الذي يبدو عليها كأنها تراه لأول مرة، وتدفَّقت مُندفعةً نحو الباب.

في هذه اللحظة رفَّ الصقر الذي يحمل المرآة عاليًا فوق المَعبد، والتقط نور الشمس، وألقى به فوق الجماعة الواقفة فوق المَذبح. ظهر الملك والملكة ورفاقهما في غبش الضوء المُنتشر في قبو المَعبد في هالة من النور السماوي، وخرَّ الشعب ساجدًا على وجهه. وحين أفاقت الجماهير ونهضت، كان الملك تتبعه حاشيته قد هبط درجات المَذبح في طريقه إلى قصره عابرًا ردهاتٍ خفيَّة، وتفرَّق الشعب في جنبات المَعبد لكي يُرضي شهوته إلى التطلع.

أخذ يتأمَّل الملوك الثلاثة المُنتصِبين في وقفتهم بعيونٍ ملؤها الدهشة والإجلال، ولكن حبه للاستطلاع جعله يتُوق إلى معرفة ذلك الشيء المتكوِّر تحت السجادة في الفجوة الرابعة. وأيًّا ما كان ذلك الشيء، فقد شاء التواضع العطوف أن يبسط على الملك المُنهار غطاءً باهِرَ الجمال، لا تملك عين أن تنفُذ منه، ولا تجسر يد أن تكشف عنه.

لم يكُن لتأمُّل الشعب أو لإعجابه أن يقف عند حد، ولا للجماهير المُتدفقة المُتزاحمة أن تنجو من الاختناق في المَعبد لو لم يتحوَّل انتباهها من جديد إلى الميدان الكبير.

رنَّت قِطعٌ ذهبية على الألواح المرمرية على غير انتظار، وكأنما سقطت من الهواء، واندفع المُتجوِّلون القريبون منها يتزاحمون عليها ليفوزوا بها، وتكرَّرت هذه المعجزة مرةً فمرة، هنا وهناك. ويفهم القارئ بلا شك أن النورَين التائهين قد سمحا لنفسَيهما قبل أن ينصرفا بشيء من المزاح، فراحا في مرح يُبدِّدان الذهب المُتناثر من أعضاء الملك المُنهار. انقطع سقوط الذهب، ولم ينقطع نهم الشعب، فظلَّ يجري هنا وهناك، ويتدافع، ويكاد يُمزِّق بعضه بعضًا. وفي نهاية المطاف تفرَّق شمله، ومضى في طريقه، ولم يزَل الجسر إلى يومنا هذا يعجُّ بالسائحين، ولم يزَل المَعبد أكثر الأماكن على وجه الأرض عُمرانًا بالزائرين.

١  Irrlichter أنوارٌ ضعيفة على هيئة شعلات ساكنة، تُرى فوق الأراضي التي تكثر فيها المُستنقَعات والأدغال والمراعي الرطبة، ويُظَن أنها تنشأ عن الالتهاب الذاتي لغاز الميثان الموجود في هذه الجهات. وقد كانت هذه الظاهرة سببًا في إطلاق الكلمة في الخرافات الشعبية على بعض الأرواح الصغيرة العابثة، التي تُضلل المسافرين، وتقفز فوق ظهورهم. (م)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤