تفسير الأقصوصة

في الرابع من أكتوبر عام ١٨٢٦م، أمسك جوته بالقلم، ودوَّن في مذاكرته هذه العبارة: «موضوع الصيد العجيب من جديد.» كان عليه أن ينتظر ثلاثين عامًا كاملة قبل أن يبدأ في تحقيق المشروع الذي أراد أن يكتبه شعرًا ملحميًّا، بعد فراغه من قصيدته الكبرى «هرمان ودوروثيا» مباشرة، كما ذكر ذلك عدة مرات في رسائله المُتبادلة بينه وبين شيلر.

وفتَّش عن الملاحظات التي دوَّنها في عام ١٧٩٧م فلم يجدها تحت يدَيه، ولكنه بعد هذه المدة الطويلة التي انقضت بين الفكرة والتحقيق يشعر بالسعادة، فما كان للمشروع القديم إلا أن يُربِكه ويُحيِّره. إنه يقول الآن لإكرمان في أحد أحاديثه المشهورة معه:١ «حقًّا لقد بقي الفعل وتطوَّر الحدث على ما هما عليه، غير أنه أصبح يختلف عنه اختلافًا تامًّا في التفاصيل. لقد كان في نيَّتي أن أتناوله تناولًا ملحميًّا في أوزانٍ سداسية، وهكذا ما كان ليصلح على الإطلاق للاستفادة منه في هذا التصوير النثري.»

لم يتغيَّر إذن مجرى الأحداث كما خطَّطها قبل ثلاثين عامًا: عالم المدينة الصغيرة، جو الصيد المرِح، الوحش الكاسر يدخل في صورة النمر والأسد فيصرعه الصيَّاد البطل ببندقيته، أو يُروِّضه الطفل الوديع بمزماره. بقيت الحكاية ملحميةً كما كانت. الأسلوب وحده هو الذي تغيَّر. إنه الآن يكتبها نثرًا بعد أن كان يريد أن يجعل منها قصيدةً ملحمية، وبقي الختام كذلك على حاله. إن «هونوريو» ليس هو البطل الملحمي الذي يحمل الحدث على أكتافه إلى النهاية؛ إذ لا يكاد يتمُّ فِعله البطولي الذي يصرع به النمر، حتى يتخلَّى عن الساحة للطفل والوحش وحدهما.

في بداية الأقصوصة يعرض الأمير العم على الأمير لوحاتٍ مُصوَّرةً للقلعة العتيقة، فيتذكَّر قارئ جوته مَشاهد الطبيعة في روايته «الأنساب المختارة».٢ كانت الطبيعة هنا — إن جاز هذا التعبير — طبيعةً إنسانية، تعكس ما يضطرم في قلب الإنسان من عواطف، حتى تكاد هي نفسها أن تصبح طرفًا من أطراف المأساة. إن شارلوته وإدوارد والضابط يتدخَّلون في مجرى الطبيعة كما لو كانوا يُفصِّلونها على هواهم، ويد الإنسان تُزيِّن كل شيء، حتى القبور والحُفَر والهُوى السحيقة. والنهر يثور تحت سياط العاصفة ليُغرِق الطفل المسكين، والحديقة تمرُّ عليها يد شارلوته فتُزينها وترعاها، وتُثبت أن الإنسان يستطيع حين يعتصم بالأخلاق أن يُواجه ثورة الطبيعة، ويكبح جِماح عناصرها الشيطانية المُدمِّرة، وإن كُتِب عليه في نهاية الأمر أن يسقط صريعًا تحت أقدام قدرها الباطش المجنون، ولكن الطبيعة في الأقصوصة يسُودها روحٌ آخر؛ فالعم يعترف ﺑ «القوة الحية الفعَّالة أبدًا»، التي تبقى في حين يندثر ما تُشيِّده يد الإنسان. إن الأسوار تتهدَّم، والقلعة لا يبقى منها غير أطلال، ولكن الجذوع الضخمة والأغصان الممتدَّة لا تستطيع أن تلمسها يد الفناء. «لقد أصبحت «الطبيعة» سيدة، ومن حقها أن تبقى كذلك. غلبت الطبيعة فما استطاع الإنسان أن يشقَّ لنفسه غير طريق خفي يؤدي إلى ساحة الفناء الداخلي. هنالك مدَّت شجرة بلوط جذوعها في الدرجات المؤدية إلى البرج الرئيسي.» إنها «تسمو في الهواء مرتفعةً فوق كل شيء» رمزًا لانتصار الطبيعة، وعنوانًا على خلقها المتَّصِل وجلالها الأبدي. إنها تتحدَّث الآن بقوة لسكان القصر الجديد، وسوف تُزين الصور أبهاء الحديقة، فليس لأحدٍ «أن يُمتع عينَيه بحوض زهورنا، ولا بتكعيبتنا وممراتنا الظليلة الممهَّدة، ما لم تكن لديه الرغبة الأكيدة في أن يعتلي هذا المُرتفَع الماثل هناك، ويتملَّى من رؤية القديم والجديد، والجامد والصامد، رؤيةً صادقة، ويتفكَّر في كل ما لا تنال منه يد الزمان، وما ينبض بنضارة الحياة.» ذلك هو واجب «التأمل الورِع» الذي يفرضه القديم على الجديد، وتقتضيه الطبيعة العجوز الشابَّة أبدًا من بني الإنسان الفانين. هنالك لا تكون حادثة النمر والأسد مجرد مناسبة تُتيح للشاعر أن يُضفي على أرض الشمال جلال الروح الكلاسيكية العريقة. إن تأمُّل الطبيعة في حد ذاته يحمل السعادة للنفس، ويُلقي بالإنسان الزائل في أحضان الطبيعة الخالدة، ويردُّ الماضي المُشرِق إلى الحاضر الشاحب، كما يبعث الحياة في عالمٍ ما أشدَّ حاجتَه إلى التغيير والتجديد.٣

إن جماعة الصيد الغريبة تبقى على حالها، وكذلك سيدات البلاط وسادته، لكن العنصر الإنساني الخالد يُضيء بين هذه الجماعة وتلك، على بريق الألوان والمَشاهد المُتغيرة، في صورةٍ يعجز العقل عن إدراكها، والوجدان عن الحدس بها، ولكنها صورةٌ مقدَّسةٌ جيَّاشة بالحياة.

والطريق إلى هذا العنصر الخالد، على الرغم من قِصر الأقصوصة، طريقٌ طويل. إنه يقُودنا على دربٍ تألفه العين تارةً ويُفاجئها تارةً أخرى، ولكن النظرة الخبيرة تستطيع أن تستشفَّ من وراء ما تراه من مَشاهد الطبيعة المُتغيرة شيئًا ثابتًا لا يتغير، ومن وراء تعدُّد المظاهر قانونًا واحدًا خالدًا، كما يستشعر القلب من خلال الأسلوب الهادئ النبيل وِجدانًا نفسيًّا وأخلاقيًّا عميقًا.

إن العم والأميرة وهونوريو يعبُرون السوق على ظهور خيولهم، فتُوحي إليهم حركة البيع والشراء النشيطة «كأن المال لا ضرورة له، وكأن كل تجارة يمكن أن تتم عن طريق التبادل»؛ أي كأن هناك حالةً أصيلةً عريقة في القِدم، تُخفي وراء ما يرونه من أحوالٍ جديدةٍ علاقاتٍ أبديةً متَّصِلةً تربط الإنسان بالإنسان. ومع ذلك فليست هناك حادثة في ذاتها، ولا واقعةٌ مجردةٌ مُنعزلة، بل واقعٌ واحدٌ تُحدِّده نظرة الإنسان المُتأمل، كما تُحدِّده سائر الموضوعات المُحيطة به المُؤثِّرة عليه.

إن الشاعر يُمهِّد لكل مشهد نراه ولكل خطوة نخطوها، فلا يكاد يظهر أمامنا شيء إلا وقد ذُكِر من قبل، أو دار الحديث عنه، أو رأيناه في لوحة أو صورة؛ فالرسام قد أعدَّ لوحاتٍ تخطيطيةً تُعطينا فكرة عن القلعة قبل أن ندخلها، وصور الوحوش المُعلَّقة في مكان العرض في السوق تُمهِّد لحادث النمر والأسد، وتسلبه عنصر المفاجأة إلى حدٍّ كبير. حتى الحريق المُفزِع لم يعُد يُفزِعنا كثيرًا؛ إن العم قد وصفه من قبل وأفاض في وصفه، وكل ما يرُوعنا منه هو التذكر الأليم. والأميرة ترى النظام والفعل الدائب في كل ما تراه، والحارس يُمجِّد التناسق والكمال في الكون الكبير؛ كلاهما يرى الحالة الأصلية في الوجود، ويعرف أن المثال قائم وراء الظواهر، والثبات باقٍ وراء التغير، والنظام أسبق من الاضطراب. حتى الحادثة التي كان ينبغي أن تُفاجئنا لم تعُد تُثير فينا شيئًا من المفاجأة، فلا يكاد النمر يُفلت من قيده ويُهدِّد الأميرة وتابعَها «هونوريو»، حتى نجد جوته يُؤخر أثر المفاجأة ويقول: أبصراه يقفز نحوهما، على نحو ما رأياه منذ قليل. فلولا صورته التي أبصراها على اللوحة في الطريق لما شعرا بكل هذا الخوف نحوه، ولما «قتلاه بغير داعٍ»، ولكن حارسته هي التي ستُفجَع فيه، وسنعرف من بكائها أنه كان نمرًا أليفًا، لو تُرِك في حاله لتمدَّد على الأرض في سكون.

وتقترب الجماعة من القلعة، ونقرأ عن وقت الظهيرة هذه الكلمات: «على الأُفق الرحيب رقد سكون صافٍ، على نحو ما هو مألوف في ساعات الظهيرة، حين كان القدماء يقولون إن «بان» ينام، وإن الطبيعة كلها تحبس أنفاسها حتى لا تُوقِظه من نومه.» نظرة إلى الأمام والتفاتة إلى الخلف، فكرةٌ وهَّاجة ثم إذا بنا أمام الكمال التام، نُواجِه الوجود الساكن في ذاته، الطليق من كل زمان. إن جوته لا يقول كلمةً واحدة تتجاوز حدود الصورة المحدودة، ومع ذلك فنحن نُحسُّ كأننا عرقٌ ينبض في جسد الطبيعة الكبير، أو كأننا ننمو مع الكون الهادئ المُتجدد حتى نُدرِك القمة. ومع ذلك فهذه اللحظة التي نشعر فيها بالسر الخالد لحظةٌ مُنعزلة، كأنها جزيرةٌ وحيدة. إن الخطر يتهدَّدها من الخارج، وما نُسمِّيه بالعناصر يقف لها بالمِرصاد، ولا تكاد الشمس تُفارق سَمْتها الأعلى حتى يثور هذا الشيء المُوحش المُتوحش؛ فالحريق يندلع، والرعب يمدُّ ظله على الطبيعة المسالمة، ولكن الطبيعة لا تُفارق سلامها؛ فالنفس وحدها هي التي أصبحت عاجزة عن التجاوب معها، غارقةً في بحر السواد والاكتئاب. إن قُوى العناصر الشريرة تبدو كأنها اتَّحدت مع بعضها؛ فلا تكاد النار تشبُّ حتى تفزع الوحوش من أوكارها. إن النمر يقفز متَّجِهًا نحو الجماعة كأنه رسول النيران إليهم، ويُسرِع هونوريو على جواده يريد أن يلحق به، «فيُصيب الوحش في رأسه برصاصة من مسدسه، فيسقط صريعًا، ويتمدَّد بطوله على الأرض، ويكشف عن القوة والرعب التي لم يبقَ منها غير جانبها الجسدي.» إن اندلاع العناصر يردُّنا إلى عصر البطولة، فإذا بنا نسمع صدى الفارس الحديدي في هذه الكلمات القصيرة التي تصف هونوريو: «كان هونوريو قد قفز من على ظهر جواده، وركع أمام الحيوان، وراح يُسكن اختلاجاته الأخيرة، في حين أمسكت يده اليمنى ببندقيته. كان الشاب جميل الطَّلعة، وكان قد وثب مُندفعًا إلى الأمام كما اعتادت الأميرة أن تراه في ألعاب الرماية والمُصارعة.»

غير أن القصاص لا يقف عند هذا المشهد البطولي، ولا يريد أن يصف الصورة من أجل الصورة وحدها. وإذا كان في الأقصوصة كلها يقتصر على المَشاهد الخارجية، فهو لا شك يُحاول أن يكتم عنا الكثير من لواعج الباطن وأسراره. إن الحديث الغامض بين هونوريو والأميرة يتبع مباشرة، لا يكاد يُشير بغير التلميح إلى الحب المعذَّب الذي يُضمِره لها، والذي يُحاول بالسفر البعيد أن يُسيطر عليه مثلما سيطر على الوحش الكاسر منذ قليل. إن حديثه المُتحفِّظ المُستقيم معها يُخفي عذابه الدفين، والكلمة التي يقولها تُشير إلى الرغبة التي لا يملك الإفصاح عنها، والورع الذي يسُود هذا المشهد كله يجعل الفارس الجميل يُطبِق شفتَيه على حبه اليائس. إنه يظل راكعًا أمامها برغم إلحاحها عليه أن ينهض على قدمَيه، كما يُجيبها «مُلتهِب الوجنتَين»، ولا يفُوه بكلمة تزيد على ما يقتضيه واجب الاحتشام، ويمتدُّ ظل الاكتئاب على وجهه بدلًا من فرحة الشباب، «ثم يقف على قدمَيه وهو يتفكَّر».

إن هونوريو، الراكع أمام النمر، لا الواقف وقفةَ الظافر المُنتصر، قد روَّض العنصر الشرير في الحيوان، كما قيَّد اللهب المشبوب في صدره، ومع ذلك فإن المشهد البطولي يعجز عجز العاطفة المُحتدمة في قلب الشاب عن التعبير عن فكرة الكمال الأخلاقي عند جوته. لقد غلبت العاطفة حقًّا، ولكنها لم تسكن سكون السعادة والصفاء. إن على وجه الشاب ظل اكتئاب، ووجوده قد تمزَّق وانشقَّ على نفسه، ومع ذلك فسوف نلمح شبح ابتسامة على شفتَيه.

ويغيب عنا هونوريو بعد هذا المشهد أو يكاد، فلا نعرف ما يُحِس به عند رؤية المرأة الباكية فوق جثة النمر، ولكن لعله كان يُؤنِّب نفسه ويُحاسِبها على بطولة لم تكن هناك حاجة إليها. إن الخوف والإقدام هما اللذان خلقا الخطر الموهوم، فها نحن نعلم من شكوى المرأة أن الوحش الكاسر كان صديقًا للبشر، وأن صحبته لحُراسه ضرورية ونافعة: «لنا، لنا نحن جاء الطعام من الآكلين، والريُّ العذب من الأقوياء. لن يكون شيء من ذلك. وَيْلي! وَيْلي!» كلمات كأنها تُتلَى من العهد القديم، من سِفر أيوب أو سِفر القضاة، مفعمةٌ بالرهبة والخشوع، لا يُطلِقها واعظٌ على مِنبر، بل امرأةٌ مفجوعة تحت قبة السماء، في جو الشمال المُعتِم.

وتُبعَث عقيدة طواها النسيان، وتنبثق مقاييس تقادَم عليها الزمان. تدعو الإنسان إلى التأمل، لا في هذه الفكرة أو تلك، ولا في هذا الفعل أو ذاك، بل تضع الأصول التي تقوم عليها الحياة نفسها موضع السؤال.

وهكذا يأخذ جوته بأيدينا، في حذر وتدرُّج، إلى عالم الشرق القريب من المَنبع الأصيل. ثم يظهر الزوج على مسرح الأحداث، ويُعِيد الشاعر خطبته الشاعرية العالية التي تكاد تقترب من القصيدة، وفيها يُمجِّد الخالق ويُسبِّح بحكمته. وحين يتردَّد هذا الشعر — هذه الأم القديمة الطيِّبة للجنس البشري — في أسماعنا، نُدرِك كم تحتاج العصور الحديثة إلى أن تُجدِّد شبابها من إكسير الحياة؛ من نبع الشعر.

لكن بعث النثر من جديد هو في الحقيقة عَودٌ به إلى مبدئه القديم. إن الزوج يتحدَّث عن ملائكة وأنبياء وعمالقة وأقزام وأحجار ونباتات وحيوانات وبشر في صورٍ بدائيةٍ عريقة في القِدم، تُوقِظ في نفس الإنسان الأوروبي الحديث من الحيرة والخشوع ما تُوقِظه فيه آثار حضارات وثنية قديمة غامضة، لكن كلماته ترنُّ في الآذان التي لديها الاستعداد لسماعها وكأنها كلماتٌ مألوفة. إن الرجل يتحدث حديث العارف عن جبروت العناصر، وجلال الجرانيت، كما يتحدَّث عن القوة الخلَّاقة الكامنة في المثال الأول والنموذج الأصيل، الذي يطبع صورته على ما لا نهاية له من الظواهر والأشياء (لنذكُر هنا رأي جوته المشهور في الظاهرة الأولى Das Urphanomon التي تُقربه من أفلاطون في نظريةِ مُثُله، كما تُقربه من أفلوطين في نظرية الفَيض عن الواحد). إنه يُحيِّي النظام الذي يسُود الطبيعة مِثلما يسُود في جو البلاط والقصور. هكذا يُحوِّل حديثه تيار السخط أو الخوف إلى الخضوع والتأثر. إن خطبته تعُود بنا إلى النبع الأول الذي يغترف منه البشر من آلاف السنين. إنها تمنحنا ما كنَّا نملكه ثم نسيناه أو تنكَّرنا له أو جهلنا قيمته، بل إن صورة الرجل والمرأة تعُود بنا إلى عالم الشرق القديم، وكأنهما رسولان يُبشِّران بذلك الإنسان الفطري المُنتشي بخمر الحكمة، البعيد عن العقل والفكرة، القريب من القلب والإيمان. ونذكُر قول جوته في أُولى قصائد الديوان الشرقي، هجرة:
هنالك حيث الطُّهر والحق،
أريد أن أقود أجناس البشر
إلى أعماق المَنبع الأصيل،
حيث كانت لا تزال تتلقى من الله
وحي السماء بلغات الأرض،
ولا تُحطِّم الرأس بالتفكير؛
حيث كانت تُبجِّل الآباء،
وتتحاشى كل خدمة غريبة.
أريد أن أبتهج بحدود الشباب:
الإيمان رحب، والفكرة ضيِّقة،
حيث كان للكلمة شأنها الخطير؛
لأنها كانت كلمة تنطق بها الشفاه.

ويُصاحب الطفل كلمات أبيه على نايه الناعم العذب، بلحنٍ «ما هو في الحقيقة بلحن»، و«سلسلة من الأنغام لا تخضع لقانون». وبعد العنصر الشرير في الحريق وطلقات الرصاص، يأتي العنصر الصديق في الموسيقى، لا ليُفسِد أو يُدمِّر، بل ليُسعِد ويُحرِّر. وإذا بالأب ينتزع الناي من يد ولده الذي يصاحب عزفه بهذه الأبيات:

من المغارات، في الحُفَر،
أسمع أنشودة النبي.
الملائكة ترفُّ لتُنعِشه،
فهل يُحِس الطيِّب بضيق؟
الأسد واللبؤة يطوفان حوله يتمسحان فيه.
نعم، فالأغاني الناعمة التقية
قد أحدثت فيهما هذا الأثر!

وتدور هذه الأبيات حول حكاية النبي دانيال التي ذكرها الأب في خطبته. وكما يعُود بنا اللحن إلى النبع الأصيل، يعُود جوته كذلك ويغترف من نبع ذكرياته القديمة. ففي مذكراته المعروفة باسم «شعر وحقيقة»، نجد هذه العبارة: «دانيال في مغارة الكهف في موزر.» (وقد كان هذا هو عنوان ملحمة نثرية ظهرت في عام ١٧٦٣م، أثَّرت أعظم تأثير على وجدانه الشاب، وأثبت البحث الحديث على يد إرنست بويتلر في مقاله «أصل ومضمون أقصوصة جوته»، أن بعض تفاصيل مَشاهد الأقصوصة، بل بعض أجزاء أناشيدها، تُطابق صفحة العنوان في طبعة الملحمة التي أشرنا إليها، والتي وجدها أمامه وهو بعدُ صبيٌّ.)

ها هو الشيخ يعُود إلى طفولته الحالمة، حيث لا يعرف الزمن ولا التعب، ولا يسأل من أين ولا إلى أين. دانيال يُصلي في جبِّ الأُسود، والأسد راقد في القلعة. مسافة القرون تُمحى. ما يكون اليوم قد كان دائمًا. الأسد واللبؤة يطوفان رائحَين غاديين، ويتمسَّحان بالنبي الذي وجد في الله مأواه، واستغرق في الصلاة فأمِن شر الأسد. ومن الحب يُشرِق نور الإيمان والأمل. في مقطوعةٍ غنائية يصعب أن نجد أرق منها في أشعار جوته:

لأن الخالد يحكم فوق الأرض
على البحار تسُود نظرته،
على الأُسد أن تصير حُملانًا،
والموجة ترجع إلى الوراء.
السيف الناصع يجمد في الغِمد.
الإيمان والأمل يتحقَّقان.
معجزٌ هو الحب،
الذي يتكشَّف في الصلاة.

وبعد هذه المقطوعة تسُود سكينة تُذكرنا بساعة الظهيرة التي مرَّت منذ حين. إن العالم يبدو من جديد في غاية كماله، وكأن بركة هذه الأبيات الشهيرة في «الديوان الشرقي» قد حلَّت عليه:

الشرق لله،
والغرب لله.
أراضي الشمال وأراضي الجنوب
تستريح آمنةً في كف الرحمن.

لَكأن الهم والخوف قد زالا حين لفَّهما سرُّ الطمأنينة التي تغمر الأرض وما عليها: «بدا كأن الحاضرين قد نسُوا الأخطار المُحدِقة بهم؛ الحريق من تحتهم، ومن فوقهم الأسد الهادئ هدوءًا مُريبًا.»

الطفل يُنشِد أغنيته. إنها بالنسبة للأمير وصحبه من رجال البلاط لا تزيد على أن تكون شعرًا وموسيقى، ولكنهم لا يريدون ولا يستطيعون أن يستسلموا لسحرها.

لقد أنشد الطفل منذ قليل:

وهكذا تم الأمر.

فهل يكون في وُسع الشعر أن يصبح فعلًا؟ وهل تستطيع الأغنية أن تُحقِّق الخلاص الذي تُبشِّر به؟ إن الطفل يعيش في الزمن الحاضر وحده. المستقبل القريب بالنسبة له حاضر، مثله في ذلك مثل الماضي البعيد. وكل ما يتعلق بالزمن من انتظار وتصميم، ومن إقدام وحذر، يُواجهه الطفل بابتسامته. أما نحن، قُراءً وشهودًا، فدائرون مع الزمن، مُقيَّدون بقيده.

وهنا ينصرف الأمير وحاشيته في أثره، وقد يبدو انصرافه في هذه اللحظة الحاسمة أمرًا غريبًا، ولكن القصاص يقصد إلى ذلك قصدًا؛ لكي يُمهِّد للخاتمة الوديعة التي تبزغ كالوردة من بين الأوراق الخضراء (على حد قوله لإكرمان في ١٨ يناير ١٨٢٧م).

وتلتقي الأم وولدها في أثناء صعودهما إلى القلعة بهونوريو الذي راح يتطلَّع إلى الشمس في سكون: «أنت تتطلَّع إلى السماء. حسنًا تفعل. هنالك يستطيع الإنسان أن يفعل الكثير. أسرِعْ فحسب. لا تتردَّد، فسوف تتغلَّب، ولكن تغلَّبْ على نفسك أولًا.»

لقد ترك الصراع مع النمر وراءه، ولحظة البطولة لم يعُد لها الآن مكان. رأته الأميرة جميلًا وهو يثبُ على النمر ويصرعه، ولكن المرأة تراه الآن أشد جمالًا وهو يتطلَّع نحو الشمس الغاربة؛ ذلك أن جمالَ العازفِ الصادِّ أروعُ وأسمى من جمال البطل الفارس المكدود. وها هي نفسه تشعُّ بالخلاص والسلام، ويغمرها نورٌ غير مُتناهٍ.

إن أخطار العاطفة الجامحة في قلب هونوريو شبيهة بالأخطار التي تتهدَّد الطبيعة الآمنة من جانب القُوى الأولية المُدمِّرة. والجمع بين المرأة الحكيمة حكمة الشرق وبين الشاب الغارق في الحب اليائس المستحيل، إشارةٌ إلى أن التقوى وحدها هي التي تستطيع أن تقهر القُوى الأولية، سواء كانت تُهدِّد الإنسان من الداخل أو من الخارج. إن النفس الإنسانية هنا في حاجة إلى أن ترجع إلى حالتها الأصلية، أن تقترب من مَنبعها الأول، أن تتمسَّك بهذا الشيء الخالد الذي يبقى وراء التغير، ويصمد برغم التاريخ. إن وجه هونوريو الجميل يُعبِّر عن الزهادة والصدود التي تُطالعنا كثيرًا في أعمال جوته المُتأخرة، وبخاصة في «الأنساب المختارة»، وفي الجزء الثاني من روايته الكبرى «فيلهلم ميستر» المعروف ﺑ «سنوات التجوال». «ازهد وصُد. إن الصدود عليك واجب.» هو البيت الذي يُعبِّر به جوته عن حكمة شيخوخته، وليست الزهادة والصدود، ولا العزوف والإباء، من أفعال الإرادة، بل هي نتيجةٌ تأتي من مشاهدة الحقيقة، وتصل إليها النفس بغير مشيئتها، نتيجةُ رؤية الكل، سواء تمثَّل ذلك الكل في حياة الإنسان نفسه، أو في النظام الخالص الذي يسُود الكون؛ أي رؤية الله التي يُعبِّر عنها جوته بكلمة الورع.

ويبدأ سرُّ الأمر الذي «تم من قبل» في الظهور، ويحتفل به الصبي، ويُباركه بأغنيته البريئة السعيدة. إن أرقَّ المخلوقات ليس أضعفها، وجبَّار الوحوش ليس هو أقساها، ولولا أن كل موجود يستطيع أن يرتدَّ إلى حالة البراءة الأُولى لما استطاع الطفل أن يجرَّ الأسد وراءه! إن ترويض قُوى العناصر عن طريق الموسيقى قد سبق إليه «موتسارت» في أوبراه «الناي السحري»، التي كان جوته يُحبُّها ولا يملُّ من الثناء عليها:

نحن نتجوَّل تحت سلطانِ النغم
فرِحِين خلال ليل الموت المُعتِم
ويتردَّد صدى هذه الكلمات في السطور التي تتابع الطفل لدى خروجه من مغارة السر إلى النور، «بعينَين لامعتين راضيتين، يتبعه الأسد بخطواتٍ بطيئة، ولكنها تكشف فيما يبدو عن ألمٍ يُعاني منه.»٤

وتتكرَّر موسيقى الأنشودة الراقصة في الواقع، ويخطر الموكب الصغير بين الأشجار، كأنه حفل تكريم للروح الإلهية التي ترفُّ مُقبِلةً من الأعالي، مُعلِنةً الإيمان والأمل والمحبة.

الأسد يتبع الطفل، ولكنه يتبعه بمشقة. لقد دخلت شوكة في راحة قدمه اليمنى. إنه، وهو الوحش الكاسر، في حاجة إلى من يُساعده. ويملكنا التأثر، ونتذكَّر حكاية أندروكليس والأسد. ويعود الطفل إلى الغناء مُنتصرًا مُجيدًا كأنه بطل تم له النصر حتى على بطولته، واستمرَّ الطفل يُصفِّر في الناي ويُغنِّي حالمًا مضيئًا بلا هدف:

وهكذا يمضي الملاك المُبارَك
مع الأطفال الطيِّبين،
ويُسدِي إليهم النصيحة،
يمنع الشر عنهم،
ويُشجِّع على الفعل الجميل.
تفاوتت أحكام النُّقاد ومُؤرِّخي الأدب في شأن الأقصوصة تفاوتًا كبيرًا؛ فالناقد الكبير «فريدريش جوندلف»٥ يغضُّ من شأنها إلى أبعد حد. إنها في رأيه تنتمي إلى ذلك النوع من «الأشعار التربوية المُطلَقة»، التي تنبع من الفرحة الجمالية بالتعبير عن دافع من الدوافع بما يُطابِق أحد فنون الأدب، لا من رجفةٍ نفسية أو هدف من الأهداف. وحجته في هذا أن جوته اختار لقصته عنوانًا مجردًا، أضاف إليه أداة التعريف ليدلَّ بذلك صراحةً على أنه يريد أن يضع أمام القُراء والكُتاب الأنموذجَ الأصيل لفنٍّ أدبي بعينه، لا أن يُعبِّر عن تجربةٍ حيةٍ فاض بها وِجدانه.

ويُلاحظ الكاتب الفرنسي «أندريه جيد» في مذكراته (١٩٣٩–١٩٤٢م) أن الأقصوصة سخيفة سخفًا لا يُصدَّق!» فقد غلبت عليها الصنعة، مع أن العمل الفني لا يتم بمجرد تطبيق قواعد جيدة، يمكن في حالة الأقصوصة بالذات أن تُوضَع موضع الشك والنزاع. ثم يقول إن جوته لم يكن ليكتب مثل هذه الأقصوصة في أيامنا هذه.

وإلى جانب هذه الأحكام التي تُقلِّل من قيمة الأقصوصة، نجد أحكامًا أخرى يتفاوت حظها من التعمق والحماس؛ فالباحث الشهير المُتخصص في جوته، وأعني به إرنست بويتلر، يريد أن يصل بهذا العمل الصغير في حجمه، الكبير في قيمته، إلى جذوره الدينية، أو بتعبيرٍ أدقَّ إلى جذوره المسيحية: «إني أرى في الأقصوصة تعبيرًا عن مَسعى جوته، لا بل عن جهده في تحويل الإيمان المسيحي إلى ورعٍ طبيعي. إن الأمر هنا أمر تحوُّل في التدين نفسه، لا يُضحي فيه مع ذلك بالمحتوى الأصيل، ولا بقوة العقيدة أو قوة الخلق.» ويُجمِع هذا الناقد مع غيره (من أمثال إميل شتيجر، وباول شتوكلين، وكورت ماي) على ما في هذا العمل المُتأخر من أعمال جوته من تميُّز وعمق وطرافة.

أما جوته نفسه فقد أحب أقصوصته دائمًا. لقد صحبته زمنًا طويلًا من حياته، ولم ينسَها وهو على عتبة الموت في أحاديثه المشهورة مع صديقه الأمين إكرمان؛ فإكرمان يروي لنا حديثه مع جوته في ٢٩ يناير ١٨٢٧م، وكيف أخذا يُفتِّشان معًا عن عنوانٍ يصلح للأقصوصة، ويُورِد كلمته المشهورة عن جوهر الأقصوصة بوجهٍ عام: «عندئذٍ أخذنا نتحدَّث عن العنوان الذي ينبغي أن تحمله الأقصوصة، وأدْلَى كلٌّ منا باقتراحاته، فكان بعضها مُناسبًا للبداية، وبعضها الآخر للخاتمة، ولكننا لم نجد واحدًا منها يصلح للأقصوصة في مجموعها. قال جوته: هل تعرف؟ نريد أن نُسمِّيها «الأقصوصة»؛ إذ ما هي الأقصوصة إن لم تكن حادثة لم يُسمَع بها من قبل؟ هذا هو مفهومها الحقيقي، وأكثر ما يُنشَر في ألمانيا باسم الأقصوصة ليس في الواقع شيئًا من ذلك، بل مجرد حكاية أو ما تشاء له من أسماء. بهذا المعنى الأصلي للحادثة التي لم يُسمَع بها ترِد الأقصوصة كذلك في «فيلهلم ميستر (سنوات التجوال)».

كما نجد جوته في حديثٍ آخر مع هذا الصديق الوفي، في الثامن عشر من شهر يناير عام ١٨٢٧م، يُعبِّر عن الفكرة الرئيسية في الأقصوصة بقوله: «كانت مهمة هذه الأقصوصة أن تُبيِّن كيف أن الوحش الذي لا يُقهَر يمكن ترويضه في أغلب الأحيان عن طريق الحب والورع خيرًا من قهره بالعنف والقوة. وهذا الهدف الجميل، الذي يُعبِّر عنه في الطفل والأسد، هو الذي حفَّزني على كتابتها، هذا هو المثال، هذه هي الزهرة. إن نضارة العرض الواقعي الخالص موجودة لهذا السبب، وهي لهذا السبب أيضًا ذات قيمة؛ إذ ما هو الهدف من الواقع لِذاته؟ إننا نُحسُّ نحوه بالفرحة عندما يُصوَّر تصويرًا صادقًا، بل إنه يستطيع أيضًا أن يُعطينا عن بعض الأشياء معرفة أكثر وضوحًا، ولكن الكسب الحقيقي الذي تجنيه طبيعتنا العالية يكمن في المثال وحده، الذي انبثق من قلب الشاعر.»

جوهر الأقصوصة إذن هو هذه المثالية التي ليست مجرد فكرة ذهنية، بل عاطفة يُحِس بها القلب، وإن كان أسلوب جوته المُتحفظ الذي اتَّسمت به كتاباته في شيخوخته لا يُعبِّر عنها تعبيرًا مباشرًا، بل يُحوِّلها عن طريق الصور الشاعرية إلى رموزٍ مُوحية. هنا يكمن سحر هذا العمل الذي يتفتَّح من خُضرة الواقع الناضرة بضرورةٍ فنيةٍ قاهرة، فيُؤثِّر في نفس القارئ بما يرويه من أحداثٍ عجيبة تأثير الأساطير والخرافات. ليس فيه شيءٌ يُثير العَجب بمفرده؛ فكل شيء قد مهَّد له كما رأينا بعناية، حتى الرعب الذي يمكن أن نشعر به قد سبقته المخاوف التي تنسجها ملكة التخيل، فأعدَّتنا لتلقِّيه. كل صغيرة فيه قد حُدِّدت تحديدًا موضوعيًّا دقيقًا، ولكن الكل يُبهِج ويُدهِش كما تفعل المعجزة.

إن الباعث الرئيسي في الأقصوصة باعثٌ ديني بالمعنى الواسع لهذه الكلمة؛ إنه التغلب على القوة والبطش عن طريق المحبة والورع. الشخصيات المُعبِّرة عنه — الرجل والمرأة والطفل — تبدو كأنها قادمة من أرض الشرق، واللغة التي تتحدَّث بها لغة الطفولة والطبيعة والتوراة. إنها تظل في عالمنا التاريخي شخصياتٍ سابقةً على التاريخ. إن صلتها بالله والطبيعة صلةٌ مباشرة. لقد قيَّدت العناصر الأولية بالتقوى والغناء، فألِفَتها، ولم تعُد بالنسبة لها قُوًى شيطانيةً مُعادية: «ولكن الأسد دخل غابة النخيل، بخطوةٍ جادَّة راح يتوغَّل في الصحراء. هناك يسُود جميع الحيوان، وما من أحد يقِفُ في وجهه. ومع ذلك فالإنسان يعرف كيف يُروِّضه، وأشد المخلوقات ضراوةً يرهب صورة الرب التي جُبِل الملائكة أنفسهم على مثالها».

إن الورع هنا معناه التجاوب والانسجام مع كل ما هو حي، وليست المعجزة الحقيقية في ترويض الأسد، بل في نقاء القلب وطهارته، وفي سلطان الأغنية على الوحش الكاسر. إن القُوى الطبيعية العمياء تستسلم لسحر الشعر والغناء، حتى ليستطيع الطفل البريء أن يجرَّها وراءه في هدوء: «بدا الطفل في صفائه كأنه قاهرٌ مُنتصر. أما الأسد فلم يبدُ كالمغلوب؛ لأن قوَّته ظلَّت كامنةً مستورة فيه، بل ظهر في صورة الوحش المروَّض الذي استسلم لإرادته المُسالمة.»

إنه الاستسلام الذي ينبع من الإجلال للطبيعية، والخشوع أمام الله. ومن هنا كانت معجزة الأقصوصة، كما يقول بنو فون فيزه،٦ في أنها تُعِيد يومًا من أيام الخلق الأولى إلى عالمنا الحديث، وتُرينا العالم بعينَي آدم كما رآه لأول مرة. إنها تعكس القوة العالية التي تتحكَّم في ضمير الإنسان وتُوجِّه مصيره، كما تسُود الطبيعة الحرة العذراء. إن طاقتها الخلَّاقة تسري في كل موجود؛ في الصخرة والشجرة، وفي الحيوان والإنسان. هذه القوة الحقَّة الخالدة تجري في جميع مظاهرها على اختلاف صورها؛ في المجتمع والطبيعة، في عالم الصخور وعالم النبات. إن نظام التكوين يكمل درجةً درجة؛ من الصخرة إلى النبات، ومنها إلى الحيوان فالإنسان. كل مرحلة تتهدَّدها أخطار العناصر المُدمِّرة. وفوق الجميع يسبح الروح الخالد، ثابتًا وراء التغير، كاملًا وراء النقصان؛ ذلك لأن:
الخالد يحكم في الأرض،
وعلى البحار تسود نظرته.
على الأُسود أن تصير حُملانًا،
والموجة تتراجع إلى الوراء.
السيف الناصع يجمد في غِمده،
والعقيدة والأمل يتحقَّقان.
معجزة هو الحب،
الذي يتكشَّف في الصلاة.

إن عالم جوته كله حاضر في هذه الأقصوصة الصغيرة: الطبيعة والإنسان في علاقتهما الخالصة، العناصر الأولية والروح التي تُشكِّلها، العاطفة المُلتهِبة والصدود الأبي، تلاقي الأضداد من تغيُّر وثبات، وحياة وموت، ومظهر وحقيقة، وسماح وجبروت، وشباب وشيخوخة. كل هذا يُعبِّر عنه جوته المُربِّي — وذلك هو طابعه الأصيل — في أسلوبه الهادئ البسيط النبيل، بينما ينظر النَّسر الطيب من علٍ، فإذا بالعالم وكأنه كُرة نحملها بين أيدينا، ونتذكَّر أغنية لينكويس حارس البرج وهو يقول في الفصل الخامس من القسم الثاني من فاوست:

وُلدتُ لأرى،
خُلقتُ لأُشاهد
موكلًا بالبرج.
يُعجبني العالم،
أتطلَّع بعيدًا،
وأنظر قريبًا
للقمر والنجوم
والغابة والغزال،
وأرى في كل شيء
الزينة الأبدية.
أيتها العيون السعيدة،
كل ما رأيته،
وليكُن ما يشاء،
لقد كان جميلًا!
١  الحديث بتاريخ ١٥ يناير ١٨٢٧م.
٢  ترجمها إلى العربية الأستاذ الدكتور عبد الرحمن بدوي.
٣  راجع في هذا كله إميل شتيجر في كتابه جوته، الجزء الثالث، ص١٨٥ وما بعدها.
٤  راجع في هذا إميل شتيجر، نفائس اللغة الألمانية، زيورخ ١٩٤٨م، الطبعة الثانية، ص١٦١.
٥  في كتابه عن جوته، برلين ١٩١٨م، ص٧٤٣.
٦  في تعليقه على الأقصوصة، في أعمال جوته الكاملة، المجلد السادس، طبعة هامبورج، ص٧١٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤