تفسير الحكاية

سجَّل صيف عام ١٧٩٥م حادثًا نادرًا في تاريخ الأدب الألماني، بل لعله من أندرها في تاريخ الآداب العالمية بوجهٍ عام، ونعني به انعقاد أواصر الصداقة الوطيدة بين الشاعرَين العظيمين جوته وشيلر.١ كان شيلر في ذلك الحين قد شرع في إعداد مجلته الشهرية المعروفة باسم «الهورن»،٢ وكان من الطبيعي أن يطلب من جوته أن يُساهم في تحريرها، فلم يتردَّد الصديق. وكان في نية شيلر أن ينشر في أعدادها الأولى بعض مقالاته الفلسفية، ومقالات صديقه فيلهلم فون همبولت، ولكن كان على المجلة التي تتَّجه إلى دائرةٍ متَّسِعة من المُثقَّفين ألا تقتصر على هذا اللون الجاف من ألوان الكتابة، وأن تُقدِّم من القصص ما يضمن لها الذيوع والانتشار. ووعد جوته في أول الأمر أن يُقدِّم قصةً قصيرة، ما لبثت أن تحوَّلت إلى مجموعة من القصص، في إطارٍ روائيٍّ طويل.

كان جوته في ذلك الحين مشغولًا بإعداد الجزء الأول من روايته الكبرى فيلهلم ميستر، وهو المعروف ﺑ «سنوات التعلم»، كما كان في الوقت نفسه مُنكبًّا على إتمام دراساته عن «نظرية الألوان»، ووضع الخطوط الرئيسية في أبحاثه عن العظام، وكان إشرافه على مسرح فيمار يُكلِّفه الكثير من وقته وجهده، فلم يكن هناك مفرٌّ من أن تظل الحكايات القصيرة التي وعد بتقديمها لمجلة «الهورن» عملًا جانبيًّا إلى جانب الأعمال الأخرى التي تشغله، وإن لم ينفِ هذا أنه أقبل على كتابتها في شغف ولذة هما طابع كل قصاص أصيل. وكان أن تجمَّعت كل هذه الأقاصيص في شكل رواية قصيرة على هيئة مُسامرات، سمَّاها بالفعل «مسامرات مهاجرين ألمان»، ووضع الحكاية التي نعرفها في نهايتها.

والمسامرات٣ — إن جوته لا يترفَّع عن المشاركة في أدب التسلية الذي كان مُنتشرًا في عصره، بل يجد في ممارسة القصة والارتفاع بشكلها والسمو بغايتها واجبًا من أمتع الواجبات — مجموعةٌ من الأحاديث تدور حول أسرة من الأُسَر النبيلة، هاجرت من أحد أملاكها النائية فرارًا من جيوش نابليون الزاحفة. ولسنا هنا بصدد الحديث عن هذه المسامرات،٤ فلهذا موضعٌ آخر، ويكفي أن نُشير إلى أنها تبدأ بمناقشاتٍ حادَّة حول الثورة الفرنسية، تدور بين مُتعصب لها وساخط عليها، فيُحاول القسيس العجوز الذي يُرافق العائلة، مدفوعًا من البارونة الحكيمة ربَّة الأسرة، أن يُعيد الاتزان والبهجة إلى الحاضرين بحكاياته، وأن يبعد بهم عن القضايا الوقتية ليُوجِّههم إلى قضايا الإنسان الخالدة. إن العجوز يُسلِّي الحاضرين، وبخاصةٍ الشباب منهم، بحكاياته، لا بالمعنى الشائع لكلمة التسلية، من تشتيت البال وصرف الانتباه عن قضايا الساعة المُلِحة، ولكن ليصرفهم عن المُنازعات السياسية العقيمة، والمسائل السطحية العابرة؛ ليعدَّهم لما هو أعمق من مسائل الفكر والشعور. إنه يضرب لهم المثل — وبخاصة في أقصوصة فرديناند الشاب الذي يُكفِّر عن جريمة اختلاس أموال أبيه بالوفاء والتضحية، وأقصوصة التاجر الإيطالي العجوز وزوجته الشابَّة التي يطول غيابه عنها، فتبحث عن الحبيب والصديق في شخصِ مُحامٍ شابٍّ يدفعها بالصوم والصلاة (أي إلى حد كبير بإماته الجسد ومجاهدته كما يقول المتصوفة) إلى أن تقهر نزواتها وتنتصر على ذاتها — أقول إنه بهذه الأقاصيص، التي أخذ بعضها عن بوكاتشيو، يضرب لهم المثل على الإنسان الذي لا تقوى كارثة من الخارج ولا عاطفة من الداخل على أن تُفقِده توازُنه؛ الإنسان الذي يُحافظ دائمًا على المسلك الهادئ، ويجد نفسه على الدوام مدفوعًا إلى أن يعيش لغيره، ويُضحِّي بنفسه في سبيل الآخرين.

وفي الحكاية التي يختم بها القسيس العجوز مسامراته، نجده يصفُ لنا تلك الحالة التي تفيض بالنعمة والسعادة، والتي ما كان لهذه الشخصيات العجيبة أن تصل إليها لو لم تتغلَّب واحدة منها (الحية) على نفسها، وتُضحِّي بذاتها في سبيل المجموع. إنها تبني من جسدها جسرًا مسحورًا يصل الواقع بالمثال، والحياة بالفن، كما يربط عالم الشاب المُلتهِب بالحب والعذاب، بعالم الزنبقة الفيَّاض بالسعادة والتجانس والكمال. والقسيس بهذا يُحاول أن يكشف عن جوهر الإنسان، كما يُطالبه في الوقت نفسه بأن يكبح جِماح غرائزه، ويعرف حدوده فلا يتعدَّاها.

في أقصوصتَي فرديناند والتاجر العجوز، يحرص الراوي على التزام الشكل، أما في الحكاية فتصبح طريقته في القصة، وقد تحرَّرت من قيود الواقع، لعبًا خالصًا وصورةً خالصة، شيئًا يتعذَّر أن نجد له نظيرًا في فنون الكتابة؛ إذ هو أقرب ما يكون إلى جوهر الموسيقى.

لقد كان جوته في ذلك الحين يقرأ كتابات شيلر الفلسفية، ويرى كيف يُحاوِل الصديق أن يتغلَّب على اختلاط الغرائز وفساد العصر عن طريق الفن والجمال. ولعله قد تذكَّر كلمة صديقه المشهورة التي وردت في رسائله الفلسفية عن التربية الجمالية للإنسان٥ (الرسالة الخامسة عشرة): «لا يكون الإنسان بكليَّته إلا حين يلعب.» ولكنه رأى كذلك كيف ترك الصديق أرض الواقع، وحلَّق بجناحَيه في مملكة المثال العالية، وكلما ازداد تحليقه تعرَّض لأخطار الحماس والخطابة. ولعله أيضًا قد عرف مِصداق التفرقة التي أقامها شيلر بين الشاعر العاطفي الذي يبدأ من الفكرة والمثل الأعلى، وقد يعود أو لا يعود إلى الواقع — وقد قصد بذلك نفسه — وبين الشاعر الساذج الذي يبدأ من المُشاهد والمحسوس ليصعد درجةً درجة إلى الفكرة والمثال، وقد قصد بذلك صاحبه ومُنافسه جوته.

لقد رفرف هذا بجناحَيه في مملكة الخيال الحرة السعيدة، ولكن حكايته بقيت مغزولة من نسيج الواقع، ضاربةً في جذور المحسوس.

•••

ظلَّت الحكاية بالنسبة لمُعاصري جوته وللأجيال التالية لغزًا مستورًا، وتتابعت تفسيرات المُفسِّرين تُحاول أن تتغلغل في أسرارها، ولكنه هو نفسه لزم الصمت وآثر الكتمان، فلم يُحاول أن يُفسِّر رموزها بكلمةٍ واحدة. ولم تكد تظهر في مجلة «الهورن» في شهر أكتوبر عام ١٧٩٥م، حتى بدأت محاولات المُفسِّرين، ولم تزَل مُستمرة إلى اليوم.

حاوَل نُقاد القرن التاسع عشر أن يُفسِّروها تفسيراتٍ مجازية، وأن يجدوا في إشاراتها دلالاتٍ سياسيةً تقترن بالثورة الفرنسية وبشخصية نابليون. ورأى نُقاد القرن العشرين فيها رموزًا حاوَلوا في حذرٍ أن يربطوها برموزٍ أخرى تتكرَّر كثيرًا في بقية أعمال جوته، وفي فاوست الثانية بوجهٍ خاص، مثل النور والأرض والماء والفضة والذهب … إلخ. وصرَّح جوته مرةً لصديقه همبولت (في ٢٧ / ٥ / ١٧٩٦م) بأن الحكاية ينبغي أن تُؤخَذ مأخذ الرموز، لا مأخذ الاستعارة أو المجاز، غير أنه لم يبُح بشيء عن طبيعة هذا الرمز.

والحقيقة أن كلمات القسيس العجوز الذي يروي الحكاية للأسرة المُهاجرة، تُعبِّر عن هذا الرأي نفسه حين يقول: «إنها تُذكِّر بلا شيء وبكل شيء.» فالرمز هنا غنيٌّ بالعلاقات التي تربطه بما يرمز إليه، ولكن العقل لا يستطيع أن يستنفد كنوزه. وربما كان جوته يحمل جزءًا من المسئولية عن الحيرة التي يجد المُفسِّر فيها نفسه بإزاء هذا العمل.

إنه يقول للأمير أوجست فون جوتا ٢١ ديسمبر ١٧٩٥م: «إنني أجد في العمل الذي تمدحونه، والذي لا يستطيع عصرٌ آخر غير العصر الذي نعيش فيه أن يُطلِق عليه اسم الحكاية، كلَّ دلائل التنبؤ … ذلك لأن المرء يرى بوضوحٍ أنها تتعلَّق بالماضي والحاضر والمستقبل … على نحو ما سوف ترونه سُموُّكم من تفسيري لها، الذي لا يخطر لي مع ذلك أن أُقدِّمه قبل أن أرى تسعة وتسعين مُفسِّرًا سبقوني إليه!» ولقد حاول ما يزيد عن هذا العدد، وفي مقدمتهم شيلر، أن يستوضحوه سرَّها، ولكنه بقي صامتًا. ومضى على موت شيلر أكثر من ربع قرن، وحاوَل كارلايل أن يستفسر من جوته عن الحكاية التي أُعجِب، بها واعتبرها من أعمق أعماله وأكثرها شاعرية. وما من شك في أن جوته كان يودُّ لو استطاع أن يُجيب على سؤال الأديب الإنجليزي الكبير الذي يُحِس أنه يدين له بالكثير، ولكنه لم يجد أكثر من قوله: «إنها قطعةٌ فنيةٌ يندر أن تتكرَّر مرتَين.»

لقد سبق لجوته أن تحدَّث بنفسه عن بعض أعماله، وبخاصةٍ قصائده الغنائية، فكان يذكُر بعض مُلابسات حياته التي ارتبطت بإنشائها، أو يُعِيد مضمونها بعباراتٍ نثرية، أو يُحاول شرحها شرحًا موضوعيًّا، ولكنه كان يحرص دائمًا على ألا يمسَّ سر العمل الفني، وألا «يُفسِّره» بالمعنى التحليلي المعروف من هذه الكلمة. فكل تحليل يُفسِد العمل الفني الذي ينبغي أن يُنظَر إليه دائمًا ككُلٍّ، وإلا كان الناقد كالطبيب الذي يريد أن يشرح الجسد ليضع يده على سرِّ الحياة فيه، مع أن التشريح لا يكون إلا لميت، بينما القصيدة أو العمل الفني كائنٌ عضوي يفيض بالحياة!

وإذن فليس عجيبًا أن نراه يرفض تفسير الحكاية، ومن يدري؟ فلعله لم يكُن ليستطيع أن يُقدِّم مثل هذا التفسير على الإطلاق.

إن الحكاية تُروى بطريقةٍ موضوعيةٍ جادَّة، وتنتهي بخاتمةٍ لا تخلو من الاحتفال. كلماتها الأولى تنقلنا إلى عالمٍ غريب، يصفه لنا الراوية وكأننا نعرفه: هناك النهر، والمراكبي، والحية … إلخ. هذا العالم الغريب يبدو كأنه عالم الأحلام. ليست هناك حدودٌ تفصل بين الأرواح والبشر والحيوانات والكائنات العضوية وغير العضوية، إن كل شيء يتداخل في كل شيء، ولكن هذا العالم غير المحدود لا يخلو مع ذلك من القوانين والقيود؛ فهناك قانونٌ يتحكَّم في النهر فلا يقبَل ذهبًا، وفي المراكبي فيعبُر بالمسافرين في اتجاهٍ واحد فحسب، وفي العملاق فلا تكمن قوَّته إلا في ظله، وفي المصباح فيُذيب كل جامد، وفي الزنبقة فتُميت بلمستها كل حي … إلخ. تُقابل ذلك مثل هذه العبارات التي تسُود الحكاية بأكملها: لقد آن الأوان، إن الخلاص قريب، الشقاء رسولٌ يسبق السعادة، النبوءة قد تحقَّقت. ثم يأتي التحوُّل العظيم في النهاية، فيتَّحد المُتفرق، ويطمئنُّ اليائس، ويتحرَّر المغلول، وتنشأ حياةٌ جديدة بعد أن تلتئم القُوى المختلفة في تجانُس وانسجام.

كل المَشاهد والأحداث تؤدي إلى هذا التحول السعيد، في بناءٍ واضحٍ شديد الوضوح، يظلُّ يتعقد إلى أن يصل إلى هاوية الشقاء (عندما تلمس الزنبقة حبيبها لمسة الموت، ويُفتش الجميع عن وسيلة للخلاص)، ثم يبلغ ذروة السعادة (عندما يتَّحد الحبيبان، وتتحوَّل الحية إلى جسرٍ مُتألق يُفضي إلى المَعبد الخالد). ثلاثة دوافع تخلق التوتر، وتُحرِّك الحدث، وتمضي به إلى الأمام: ما هو نوع الخلاص القريب؟ ما هو مصير اليد التي أصبحت في سواد الفحم؟ ماذا ستفعل الحية؟

أما اليد السوداء فهي أظهر عناصر التوتر. إن العجوز قلِقة على يدها، تخشى أن يحلَّ المَوعد المضروب قبل أن يحمل لها الشفاء. أما الحية فهي تتوارى وراء الأحداث فترة من الزمن، ثم تظهر على مسرحها في شكل دائرة مسحورة تُحيط بالجميع في انسجام ووئام، وتحمل لهم النجاة والخلاص. إنها تجعل من نفسها جسرًا يربط بين الشاطئَين البعيدين، وما أشد افتخارها بذلك! ولكنها سرعان ما تُدرِك أن فِعلها هذا لا يكفي. إنها تُواجه الآن صراعًا باطنًا يُطالبها بأن تتَّخذ موقفًا قد يكون فيه فناؤها؛ فهي لا تستطيع أن تُوحِّد بين المُتفرقين وأن تبقى مع ذلك على حالها. ليس أمامها إذن إلا أن تُضحِّي بنفسها، وأن تصبح شيئًا آخر لا حياة فيه، فهل هي مُقدِمة على هذه التضحية؟

إن الحكاية البهيجة، ابنة الخيال الخالص، تنسج الجمال لموقفٍ أخلاقي قد يكون من الصعب علينا أن نتوقَّعه في هذا المقام، ولكننا سنتبيَّن في النهاية أن تضحية الحية ما هي إلا عنصر من عناصر الخلاص الشامل، وأن مشكلة اليد المُهدَّدة بالزوال ستجد الحل الطبيعي لها من خلال التحول الإجمالي الذي يُبشِّر الجميع بالنجاة. وهكذا يجد كل شيء مكانَه المرسوم، ويرتبط أصغر الأشياء بأعظمها شأنًا، في وحدةٍ مُنسجمةٍ رائعة الانسجام. ما من عنصر يمكن الاستغناء عنه، ولا من حدثٍ يمكن إغفاله؛ فلا بد للحية من أن تُضيء المَعبد وأن تلتهم الذهب؛ لكي تتمكَّن الزنبقة من الاجتماع بالملوك في مَعبدهم المقدس، ولكن لا بد لها في سبيل ذلك من الأنوار التائهة التي تتولَّى عنها التهام الذهب، ولا بد لهذه الأنوار التائهة بدورها من عبور النهر. فكل حدث يفترض الحدث الذي يليه، حتى إذا قام كلٌّ بدَوره — حتى الأنوار العابثة ظهر أنها لا تخلو من طيبة القلب! — واتَّحد الجميع في نهاية الأمر، زال القانون القديم، وغمرت الجميعَ حالةٌ من السعادة الخالصة، لا وجود لها إلا في الحكايات والأحلام والأساطير.

كل الأحداث التي تصفها الحكاية تظهر في صورٍ حيةٍ بهيجة الألوان؛ فالصقر الذي يرفُّ في الهواء تنعكس عليه أشعة الشمس الغاربة فتكسوه بلونٍ قرمزي، والجسر يشعُّ في ظلمة الليل كأنه عقدٌ مُتألق من النجوم، وحركة المَعبد والشخصيات تتمُّ في مكانٍ شفَّافٍ منسوج بخيوط الأحلام. هذه الصور والشخصيات جميعًا يغمرها «النور المقدَّس»، كما يُحدِّد اتجاهها ومصيرها، أما الذهب فينعكس في رمز الفاكهة. وكل هذه موضوعاتٌ رمزيةٌ ترِد في صورةٍ مشابهة في «فاوست الثانية»، وفي سواها من أعمال جوته.

فالسر المكشوف الذي يتحدَّث عنه العجوز تعبيرٌ يتردَّد في كتابات جوته، فتتناوله إحدى قصائده الفلسفية التي تحمل عنوان «أبيريما»،٦ وتُلخِّص تأملاته في الطبيعة والحياة:
عليك عندما تتأمَّل الطبيعة
أن تنتبه إلى الواحد كما تنتبه إلى الكل.
لا شيء في الداخل، لا شيء في الخارج؛
لأن ما هو في الداخل فهو كذلك في الخارج.
فضَعْ يدك بغير ما تردُّد
على السر المقدَّس المكشوف.
ابتهِجوا بالمظهر الحق
وباللعب الجاد.
ما من حي في واحد،
إنه على الدوام كثير.

كما يقول في الديوان الشرقي على لسان حافظ:

سرٌّ مكشوف

سُموُّك، يا حافظ المقدَّس،
اللسان الصوفي،
ولم يعرفوا، وهم علماء الكلام،
قيمةَ الكلمة.
أنت عندهم مُتصوف؛
لأنهم يحسبون أن الطيش عندك،
ويشربون على اسمك
خمرهم العكرة،
لكنك مُتصوفٌ نقي؛
لأنهم لا يفهمونك.
أنت الإنسان المُبارَك
وإن لم تكن تقيًّا!
وذلك ما لا يريدون
أن يعترفوا لك به.

ويقول في «الحِكم والتأملات»: إن من تبدأ الطبيعة في إماطة اللثام عن سرِّها الظاهر المكشوف له، يُحِس بشوقٍ غلَّاب إلى الفن أنبلِ مُفسِّريها.

ومطالعة وجه الله ورؤية ما وراء العالم في كل ما هو أرضي مباشر، هو فعلٌ صوفي أو سرٌّ مكشوف لا يتفتَّح إلا بالدهشة؛٧ فالدهشة هي الطريق الوحيد الذي يُمكِّننا من أن نرى الوجود الحق فيما يُعطى لنا كل يوم، وأن نعرف السر الذي يربط الشيء الصغير بالروح الكوني الكبير. والدهشة التي تهزُّ كياننا نوعٌ من الارتعاش، يُعبِّر عنه فاوست في الجزء الثاني من المأساة فيقول:
على أنني لا أُفتِّش عن نجاتي في الجمود،
الارتعاش هو خير ما في وجود الإنسان.
(فاوست الثانية، البيت ٦٢٧٢)

ولكن أمثال هذه الصور الرمزية تتكشَّف فتصبح استعارات، كما نرى في الحية عندما تتكوَّر على نفسها، وهي استعارةٌ قديمة تدلُّ على الصحة والحياة والخلود. والاستعارة ظاهرة كذلك في وصف الملوك الثلاثة الذين تُقابِل معادنهم (الذهب والفضة والمعدن الخام) الحكمةَ والمظهر والسلطان، أو العقل والفتنة والقوة، أو المعرفة والشعور والإرادة، كما هي ظاهرة في العلاقة بين مملكة الحسيات (التي تُمثلها الحية الخضراء) وبين مملكة الحرية أو مملكة ما فوق المحسوس (التي تُمثلها الزنبقة).

ولكننا نُخطئ إذا تصوَّرنا أن بقية الصور التي تتتابع في كثرةٍ مُذهِلة يمكن أن تُحدِّد دلالاتها هذا التحديد، فلو فعلنا هذا لكنَّا كمَن يُحاول معرفة السر بالعقل والاستدلال، بينما الأمر فيه متروك للشعور والوجدان. ونخطئ كذلك لو حاولنا أن نُعطي بعض الجمل التي تجري مجرى الحكم دلالاتٍ ثابتة؛ فحين يسأل الملك: «أي شيء أروع من الذهب؟» فتُجيب الحية: «النور.» ثم يعود فيسألها: «وأي شيء أعذب من النور؟» فتُجيب: «الحديث.» أو حين يسألها العجوز: «علامَ صمَّمت؟» فتُجيبه قائلة: «على أن أُضحِّي بنفسي قبل أن يُضحَّى بي.» أو حين يقول العجوز ذو المصباح للفارس الجميل: «إن الحب لا يتسلط، ولكن يربِّي، وهذا أكثر.» سنجد أنفسنا في حيرة من هذه العبارات جميعًا، فلا ندري كيف نُفسِّر علاقتها بالحكاية في مجموعها. إن الحديث الذي تُشير إليه الحية هو هنا نوع من التفاهم والتجاوب بين السائل والمُجيب، ولون من الالتقاء بين من يتحدث ومن يستمع إليه. إنه يصل إلى ذروته في الحب، وهذا يؤدي إلى التضحية والفداء، وتضحية الحية بنفسها هي التي تُتوِّج الحكاية، وتخلق روح التجانس التي ستُرفرِف على الجميع. وكذلك لا يخرج الضد إلا عن ضده، ولا تُولَد السعادة إلا من أعماق الشقاء.

مزيجٌ عجيب من جميل ونادر، ومُضحِك ومُدهِش، تُروى كلها في مستوًى واحد وعلى وتيرةٍ واحدة؛ فالضحك لا يُضحِكنا بالمعنى المألوف لنا في حياتنا اليومية، والمُدهِش لا يُثير دهشتنا، وكل ما هو جميل أو نادر فهو شيء نتوقَّعه سلفًا في عالم الأحلام. هنا ينطلق الخيال فيلعب في حرية وبراءة، وينثر صورةً سحرية وراء أخرى، خالصًا من قيود الواقع وقوانينه (وإن لم يخلص من قوانين الأفكار)، حتى يُشبِه أن يكون لحنًا موسيقيًّا أو تأليفًا غريبًا من يد رسَّامي الرموز والأحلام، هي إذن مملكة أحلام، وهي في الوقت نفسه صورةٌ عقليةٌ عالية لا تعليم فيها ولا عظات، بل لعبٌ خالص من كل هدف، يُحاول أن يربط الكائن المحدود بالعالم غير المحدود.

لقد نُسجت الحكاية من رموزٍ عاشت في ضمير الإنسانية من آلاف السنين، وردَّدتها الشعوب في أساطيرها وحكاياتها وخرافاتها وأشعارها وفنون سحرها؛ فالحية والنهر واللهب والذهب … إلخ، تنبع من هذا النبع الحي القديم، ولكن الحكاية تُحاول إلى جانب ذلك أن تُجيب على السؤال الخالد عن جوهر الإنسان ومصيره، وعن موقفه من هذا العالم وواجبه فيه. فالإنسان خالق الحضارة هو الكائن الوسط الذي يقف بين شاطئَين، ويعيش بين طرفَين، ويتأرجح بين لامُتناهيَين (كما عرف اليونان، وكما قال باسكال في عبارته المشهورة)؛ بين الهوَّة والقِمة، والحيوان والإله، والضعة والكمال. والحكمة كلها في إقامة الجسر الذي يربط بين شاطئَي نهر الحياة؛ بين الطبيعة والفن، والأرض والسماء، والليل والنهار، والواقع والمثال، ولكنه لن يُقيم هذا الجسر حتى يدفع الثمن من حياته ودمه، ولقد ضربت الحية له المثل الرائع الأليم، فعرفت «حين آن الأوان» كيف تُضحِّي بنفسها في سبيل غيرها، وتبني من جسدها تلك الدائرة المسحورة التي تضمُّ السعادة والتجانس والكمال.

١  راجع في هذا الموضوع مقالًا لكاتب السطور بعنوان «الشاعر العاطفي والشاعر الساذج»، نُشر في مجلة الشعر، عدد يوليو ١٩٦٤م.
٢  Die Horen.
٣  Unterhaltungen Deutscher Ausgewanderten.
٤  تُعَد مسامرات المهاجرين الألمان التي ظهرت في مجلة «الهورن» في عام ١٧٩٥م، بدايةَ فن القصة الألمانية القصيرة في القرن التاسع عشر. وليست أقاصيص جوته التالية هي وحدها التي تبدأ من هنا، بل كذلك أقاصيص الرومانتيكيين، إنهم يقتفون أثره، وإذا بنا نرى فيلاند ينشر قصته «هيكسا ميرون» روزنهيم (١٨٠٥م)، وأرنيم «حديقة الشتاء» (١٨٠٩م)، وتيك «فانتازوس»، وكثيرون غيرهم. وأحب الناس الأقصوصة، وعرفوا أهمية هذا الشكل الفني، وأصبحت الحكاية التي سبق إليها «موزايوس»، وجرى فيها على أسلوب عصر التنوير الذي ساد فيه سلطان العقل، عملًا من أعمال الخيال الخالص عند جوته. ومن هذا النبع الصافي اغترف شاعر الرومانتيكية الكبير نوفاليس «فريدرش فون هاردنبرج».
٥  Die asthetische Erziehung des Menschen.
٦  راجع أعمال جوته، طبعة هامبورج، المجلد الأول، ص٣٥٨.
٧  راجع لكاتب السطور مقالًا من «الدهشة أصل الفلسفة»، نُشر في مجلة «المجلة»، أغسطس ١٩٦٣م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤