الطريق من الأرض للسماء

سلمى لاجرلوف مؤلفة قصصية أسوجية لها شهرة أوروبية، وقد حازت جائزة نوبل في سنة ١٩٠٩، وأشهر قصصها قصة «أورشليم» التي وضعتها بعد أن زارت مصر وفلسطين، وقد رأينا أن نقدم للقارئ إحدى قصصها نموذجًا لأدبها، وقد ظهرت هذه القصة أول مرة في ستوكهولم سنة ١٩٢٢.

•••

لما كان لزوجة البكباشي دار مفتوحة كان الضابط برنكرتز يقطن أَكْبَى في ذلك الجزء الخاص بالخيالة من دارها، فلما ماتت وانتهت تلك المعيشة السعيدة التي كان يعيشها الخيالة معًا انتقل الضابط برنكرتز إلى قرية واقعة على شاطئ بحيرة لوفن.

وكان له غرفتان في الطابق الثاني من أحد المنازل إحداهما كبرى يجوزها الإنسان إلى صغرى، وكان بالطابق الأرضي فلاحون وعاش الضابط هنا إلى أن بلغ الخامسة والسبعين يعتمل لنفسه، وليس له من يخدمه. وكان يقول: إن اشتغاله بخدمة نفسه يساعده على قضاء الوقت، ولكن الحقيقة أنه كان من الفقر بحيث لا يمكنه استخدام خادم، وكان على الدوام مشتغلًا بشيء لا يجد مشقة في إتمام الأعمال المختلفة التي بين يديه.

وكان للضابط بساط كان يصنعه بنفسه وقد بسط خيوطه على حيطان الغرفة الكبرى وأرضها، وكان هذا البساط حديث أهل القرية، فإنه لم ينسجه على منوال كما هي العادة، وإنما مد خيوطه من حائط إلى حائط بحيث أن من كان يدخل إلى هذه الغرفة كان يشعر أنه قد اشتبك في نسيج عنكبوت عظيم، وبين هذه الخيوط كان الضابط يروح ويجيء بين الحيطان يعقد خيطًا أو يفرز لونًا خاصًّا، ولو كمل هذا البساط لنافس في جودة الصنعة السجاد المصنوع في قندهار أو بُخَارَى، ولكن طريقة الضابط التي اتبعها كانت بطيئة، بحيث إنه على طول ما اشتغل فيه لم يكمل سوى مربعين اثنين منه.

وكان ينام في الغرفة الصغيرة الأخرى على سرير من أَسِرَّة المعسكرات، وقد نام عليه في حروبه في ألمانيا عندما كان يقاتل جيوش نابليون، ولكن سائر الأثاث في الغرفة كان جيدًا.

وفي إحدى ليالي الصيف كان الضابط نائمًا، فاستيقظ على صوت شخص يصعد على الدرج المؤدي إلى غرفتيه، وكان في وقع أقدامه الثقيلة ما يشبه مشية الجندي القديم وفكر في الوقت فقرر أنه حوالي منتصف الليل.

فقال في نفسه: «العجب لهؤلاء الفلاحين كيف ينسون على الدوام إغلاق الباب الخارجي». وكان هو يحب النظام وكثيرًا ما عنَّف الفلاحين الساكنين تحته؛ لأنهم لا يقفلون الباب بالمزلاج، وترجح لديه أن هذا الغريب إنما يصعد على الدرج لوجود الباب مفتوحًا، وليس ثَمَّ مجال للظن بأنه لص فإن وقع أقدامه عالٍ، كذلك لا يمكن أن يكون سكران يبحث عن مأوى.

وكان الضابط ينتظر من هذا الغريب أن يستمر في صعوده حتى يصل إلى أعلى طابق في المنزل، ولكنه أخطأ فإن هذا الغريب وقف عند باب مسكن الضابط وسمع الضابط بأذنيه حركة المفتاح وهو يدور في القفل.

فقال في نفسه: «افعل ما تشاء فإنك لن تقدر على الدخول». فقد كان موقنًا بأنه قد أقفل الباب وأزلجه أيضًا قبل أن يذهب إلى فراشه، وكان يُعْنَى بهذا العمل كل ليلة لاعتقاده الإهمال في السكان الفلاحين الذين تحته، ولكنه سمع الآن هذا الغريب يمشي في الليل في الغرفة الكبرى، فإن خيوط البساط الذي يصنعه كانت منتشرة وممدودة في كل مكان.

وقال الضابط في نفسه: «هذا الوغد سيمشي الآن في وسط خيوط النسيج، ويشتبك فيها فتلتبس فلا أعرف كيف أخلصها في الصباح».

قال هذا وهَمَّ بالقيام يريد طرده وإخراجه، ولكنه سمع هذا الغريب يمشي نحو غرفة نومه كأنه جندي في عرض، وكأن خيوط النسيج لم تمسه فنظر الملازم إلى الباب فوجده مزلجًا، فقال في نفسه: «ولكنك الآن لن تعرف كيف تدخل».

وآخذ يلعن ويشتم ولكنه سكت فجأة؛ إذ رأى الباب قد فتح ثم أغلق باصطفاق، كأن الريح قد دفعته.

فنهض الضابط برنكرتز في فراشه قاعدًا، وقال بلهجة عالية اهتزت لها الحيطان: «فيردا» من أنت؟

فضم الغريب قدميه فحيا الملازم تحية الجندي، وقعقع أسلحته وقال: «أنا الموت».

وكان الصوت الذي خرجت به هذه الكلمات غير عادي؛ إذ لم يكن صوتًا إنسانيًّا ولكنه لم يكن ذلك مرعبًا، وشعر الضابط كأن الصوت قد خرج من آلة موسيقية كالأرغن، ولكن نغمته كانت حلوة مطربة حتى أحس كأنه في اشتياق لرؤية تلك البلاد التي جاء منها هذا الصوت الجميل.

فقال الضابط: «أسرع وانْتَهِ من عملك». ثم شق قميصه واستعد لأن يُطْعَنَ في قلبه.

ولكن الغريب الواقف أمامه لم يوافقه على ذلك بل قال: سأرجع قبل منتصف الليلة الآتية، ثم عاد وقع الأقدام وقعقعة الأسلحة عندما خرج الغريب، واصطفقت الأبواب بالثاني وردت المزاليج إلى مكانها.

وتهافت الملازم وقد ملكه الرعب في فراشه، فرقد ينصت لوقع الأقدام وهي تبعد وتخفت، وما هو أن خرج الغريب من المنزل وصار في الصحن الخارجي حيث الضوء أكثر نورًا حتى هرع الضابط إلى النافذة لكي يلمح وجهه، ولكنه مع قدرته على رؤية شوارع القرية لم ير أحدًا يسير فيها، وكان مع ذلك يسمع وقع أقدامه ويكاد يحدد المكان الآتي منه، ولكنه لم يكن يرى مع ذلك شيئًا.

وهز برنكرتز كتفيه، وكان قد وطن نفسه من مدة على حدوث هذا الحادث يومًا ما، ثم أخذ يوهم نفسه بأن لعبة لعبها عليه أحد الشباب الماكرين الذين يلذُّ لهم إلقاء الرعب في قلبه، ولكنه كان في قلبه يحس بالحقيقة، فإن الصوت الذي سمعه لم يكن صوت إنسان، ووضح أمامه تمام الوضوح ما سيحصل في الغد، ومع أنه كان ينظر إلى الحالة باطمئنان كما هو الشأن في جندي قديم مثله، فإنه مع ذلك لم يشعر بالرغبة في النوم ثانية، فهب من فراشه ولبس أحسن ملابسه، واحتلق ورتب شعره الذي كان يلمع كأنه الفضة، فقد تذكر أنه بعد يوم سيكلف أحد الناس بتهيئة جسمه للقبر، وعلى ذلك ينبغي أن يجد هذا الجسم في حالة حسنة.

ووضع الضابط كرسيًّا بجانب النافذة وقعد عليه، وعلى حجره الكتاب المقدس الذي تركته له أمه وصار ينتظر انتشار الضوء لكي يتمكن القراءة، وبعد هنيهة انتشر في الشرق سحاب أحمر ثم انقشع الظلام، ولكن الشمس لم تكن قد أشرقت بعد، فرفع رأسه وأخذ يتأمل ويفكر، ولم يكن ثَمَّ كاهن يساعده على إدراك موقفه هذا وعلى ذلك فهو مضطر إلى أن يتفاهم وحده مع الخالق.

وأخيرًا وقف الضابط وأقفل الكتاب وهو يقول: «لست أفهمك، ولكن أسهل أن نتفاهم في محكمة عليا من أن نتفاهم هنا في هذه المحكمة الدنيا».

وثابت إليه سكينة عقله فقعد إلى منضدته يكتب ترتيب المشهد، وشرط أن يُضْرَبَ جواده المسن بالرصاص، وأن من يطلق عليه النار يكافأ بكأس فضي، وجمع حساباته ودون ما له وما عليه، وأوصى بأثاثه وسائر أمتعته وأعطى معظمها لصبية صغيرة في القرية، وكانت هذه الصبية تحبه وتقضي الساعات الطوال في الجلوس في غرفته فأراد أن يكافئها، وقبل أن ينتهي من تسوية حساباته كانت الساعة ثمانية تقريبًا، فأدى واجباته الاعتيادية، وبعد ساعتين وجد نفسه حرًّا يمكنه أن يقضي سائر يومه الأخير كما يشاء، وكان قد قرر في نفسه أن يحتفل في هذا اليوم بعمل شيء غير عادي.

وخرج يمشي حتى انتهى إلى مقعد في حديقة وقعد يفكر، ثم قال لنفسه: «من المؤكد أني لا أشعر بالميل لنسج البساط اليوم، وعلى كل حال فإن هذا البساط لن يتم، فيجب إذن أن أركب العربة وأسير بها إلى أي مكان، هذا يومي الأخير، فليس من الرأي أن أقضيه في قرية لا يعرف أحد من سكانها ماضي حياتي».

وهنا ت«.نبه ذهنه كأنما قد اشتغل بذكرياته القديمة، وقرَّ رأيه على أن يكون هذا اليوم حافلًا بالمسرات، وكان في أشد الاشتياق لأن يدخل في العالم ويشترك للمرة الأخيرة في مسراته، ولم يكن من الممكن أن يتمتع بها كلها، ولكنه قد يتمكن من التمتع ببعضها أحبها إلى نفسه وأحسنها.

وهبَّ من مقعده مسارعًا إلى جواده فقرنه إلى العربة ووضع عباءته خلفه، وكانت هذه العباءة قد خدمته طول حياته العسكرية الماضية، ولكنها لم تبل بعد، ثم ساق الجواد إلى تقاطع خمس طرق، ووقف لكي يقر قراره على نوع المتعة التي يريد أن يتمتع بها هذا اليوم، وهو آخر أيامه على الأرض، فإن هذه الطرق الخمس كانت كلٌّ منها تؤدي إلى شيء يحبه، فقد كانت الطريق الرأسية تؤدي إلى كارلستاد، ولو اتخذها لبلغها بعد ساعات قليلة، فقد كان يقيم فيها بعض أصدقائه، فلو ذهب إليها لجمعهم وقضوا يومًا معًا، ثم يلعبون الورق بعد ذلك، ولقد كان يفكر في الورق اللامع ويده ترتعش من الحماسة والفرح.

أما إلى اليمين فكانت الطريق تؤدي إلى تروسناس حيث معسكر الجنود المشاة الذين يدربون هناك، وكان يعرف أنه إذا ذهب هناك فإن جميع الفرقة تقف أمامه صفوفًا وتحييه، وكان يخيل لنفسه الجنود الفتيان وهم في لباسهم الأزرق يبتسمون له، ويعرفون فيه الجندي القديم ذا الشهرة العظيمة، ثم تقرع الطبول ويرفرف علمهم القديم، ومرت ثانية شعَرَ الضابط برنكرتز فيها كأنه يرغب في اتخاذ هذه الطريق، ولكن عاد فتردد، فقد قامت في نفسه شهوة غامضة أجبرته علي يتخذ طريقًا أخرى.

وكان على يساره سكة قد قامت على جانبها الأشجار، وكانت تؤدي إلى قصر قديم تملكه سيدة عظيمة، كانت في شبابها من أجمل فتيات عصرها، وأجذبهن وأخفهن روحًا، وقد صارت في الشيخوخة كما صار هو فيها أيضًا، ولكنها كانت مع ذلك أصغر منه سنًّا ومهما بلغ عمرها فإن مثلها لا تفقد الجاذبية والفتنة، وكان يعرف أنه إذا زارها في ذلك اليوم على الرغم من الفراق الطويل، فإنها لن تبخل عليه بأن تجعل يومه الأخير يوم نعيم له، وخيل لنفسه كيف يجول معها في القصر من غرفة إلى أخرى كما كانا يفعلان أيام شبابهما، وكيف يحوطه البذخ والطرف فينسى أيام الوحدة والفقر التي عاشها.

وكان أمامه أيضًا طريق يتجه إلى الشمال الغربي وتؤدي إلى مصانع الحديد في أكبى، وهي بلدة كان يحبها ويذكرها بأيام الهناء التي قضاها مع الخيالة في دار زوجة البكباشي، ولم يكن بالدار أحد الآن ولكنه شعر أنه إذا ذهب إليها فإن الأبواب تفتح له هو آخر رجال الخيالة الذي لم يمت بعد والذي يعد بمثابة آخر حلقة الاتصال بينه وبين ذلك العهد الذي قضوه جميعًا في أكبى عهد الفرح والغناء والرقص والمجازفات…

فتحول إلى هذه الطريق، وكان يعرف أنه إذا سار عليها فإنه لن يصل إلى ضيعة لوفن إلا عند الغروب، وكان صاحب هذه الضيعة رجل يدعى ليلجيرونا، وكان بارعًا في الضرب على الكمنجة، وكانت الضيعة في ذاتها حقيرة، ولكن جذبته إليها موسيقى صاحبها، وما هو أن فكر فيها حتى رأى أنه لا محيص له عن الذهاب إليها.

ودهش الضابط لاختياره هذه الطريق ولكنه لم يتردد هذه المرة، ووصل عند المساء إلى لوفن؛ حيث سُرَّ بلقائه ليلجيرونا، وحياه أجمل تحية ودعاه إلى النزول عنده، وقد بدا السرور عليه للقائه رجلًا يذكره بالذكريات القديمة في أكبى، وكان إذا طرب ذهب وأخذ كمنجته وأخذ يضرب، ولكن ليلجيرونا كان قد أسن فلم يكن عزفه على ما عهده منه قديمًا الضابط برنكرتز، فقد كان في نغماته شيء يوهم أن اليد تتردد، كأنه يحاول أن يبلغ أشياء لا تعبر عنها الألفاظ، وكان البعض يقول: إن عزفه قد انحط وقد سمع الملازم هذه الإشاعات قبلًا، ولكنه وهو يسمع له الآن شعر كأنه سيسمع منه لحنًا حلوًا جذابًا، بل وضح في ذهنه وهو يوشك أن يموت بعد ساعات أن ليلجيرونا يمهد له الطريق، وهي طريق لا غاية لها؛ إذ هي تؤدي إلى الفضاء، وبينما وهو يسمع الموسيقى تتحسس أنغامها طريقها في الظلام إلى ما وراء فكر الإنسان، وخياله شعر بوقعها في نفسه شديدًا حتى باح رب البيت بأن هذا اليوم هو آخر أيام حياته.

فقال ليلجيرونا وهو في غاية الانفعال: «وهل هذا هو سبب مجيئك إليَّ اليوم؟».

وقال برنكرتز وكأن عينيه تنظران من بعيد: «لم أجئ من أجلك وحدك، إنما جئت أيضًا لكي أسمع ضربك على الكمنجة، والآن أشعر إني لم أرغب إلا في هذا اليوم، ألست ترى في الموسيقى شيئًا غريبًا».

فقال ليلجيرونا: إنك تقول حقًّا في الموسيقى أشياء غريبة. فقال برنكرتز: أجل لعلها كذلك؛ لأنها لا تتعلق بهذا العالم، يا للعجب! كلما تأملت في الموسيقى لا نعرف علتها ولا نرى فيها شيئًا محسوسًا نفهمها منه، ألستَ تظن يا أخي أن الموسيقى هي اللغة التي يتفاهمون بها فوق».

قال ذلك وأشار إلى السماء ثم استمر في حديثه قائلًا: ومع ذلك لا يصلنا نحن هنا على الأرض إلا الصدى الضعيف».

فقال ليلجيرونا: «تعني أن تقول …» ولكنه وقف هنا وشعر بعجزه عن التعبير عن أشياء لا تعبر عنها إلا نغمات الموسيقى.

فقال برنكرتز: «أعني أن أقول: إن الموسيقى تخص السماء والأرض معًا. وربما كان القصد منها أن تكون طريقًا بينهما، والآن يجب أن تعزف وتمهد لي هذه الطريق لكي أسير عليها إلى الأبدية».

وطفق ليلجيرونا يعزف بكل ما في نفسه وقلبه من قوة والضابط منصت في هدوء الليل، ثم تهافت فجأة ووقع على الأرض فقفز ليلجيرونا إليه ورفعه إلى الفراش فقال الضابط: «ما بي من بأس، إني أجوز الآن الطريق بين الأرض والسماء، أشكرك يا أخي». ولم ينطق بعدها بكلمة، وبعد ساعتين أسلم الروح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤