الفصل الثامن

لم يلاحظ أحد التغير الطفيف الذي طرأ على فاطمة هانم، ولم يعر أحد التفاتًا إلى التليفون الذي يطلبها الآن باستمرار في كل يوم تقريبًا! … وفي عصر ذات يوم خرجت فاطمة وركبت سيارة أجرة أوصلتها إلى مقهى «الجميزة» على شاطئ النيل، دخلت ووقفت لحظة بالعتبة، وإذا شعبان الجالس إلى إحدى الموائد قد نهض وأشار إليها فأقبلت نحوه وجلست، وأمر لها بعصير الليمون الذي طلبته، ثم أخذ يرحب بها بعبارات ناعمة مهذبة … كان في مكالماته التليفونية المتلاحقة يحاول إظهار اهتمامه بأمرها وصحتها ومزاجها، ثم يدس بضع كلمات متحفظة توحي بالإعجاب، وهي لا تظهر له أنها فهمت، وأخيرًا رجا منها أن تسمح له بلقاء على انفراد في مكان آخر غير المكتب، وصدته في أول الأمر بلطف، لكنها مع إلحاحه قبلت، لا لشيء إلا لتطلعه على ما قد يجهل من وضعها.

وكان هذا اللقاء الذي اتُّفِقَ عليه في هذا المقهى المنعزل … رشفت رشفة من عصير الليمون، وتشاغلت بالنظر إلى قارب صيد يقترب من الشط، حتى لا تقابل عينها عينه التي أحست أنها مصوبة إلى وجهها وشعرها ونحرها، وتدافعت في رأسها الأفكار، وتماسكت وتحفزت كالمقبل على هجوم، ثم التفتت إليه فجأة وقالت بلهجة حاسمة: «اسمع يا أستاذ شعبان … لا تحاول أن تقنعني أن شخصي وحده هو الذي يهمك، أنا لست صغيرة ولا ساذجة حتى أصدق ذلك، وأنا ما جئت هنا اليوم إلا لأوضح لك كل شيء حتى تكون على علم تام.» لقد كانت طول الأيام الماضية تقلب الأمر على وجوهه، وتسأل نفسها في حيدة دقيقة عما يدفع هذا الرجل الذي يصغرها بسنوات إلى أن يهتم بها هذا الاهتمام ويلاحقها هذه الملاحقة؟ ما من سبب في نظرها إلا اعتقاده أنها غنية، وأنها فرصة سانحة لمثله أن يتزوج امرأة ثرية، ولتكن أكبر منه سنًّا، أو على الأقل إن لم يكن في نيته زواج أن يغريها ويبتز منها الأموال، ما من باعث غير هذا. فإذا عرف الحقيقة … إذا عرف أنها لا تملك شيئًا، إلا مصروف يد، لا يعدو جنيهات قليلة … تتقاضاه من مرفت لحوائجها العادية، علاوة على الكسوة السنوية البسيطة التي تتكفل بها مرفت أيضًا — وهي لا تتعدى بضعة فساتين تُفصَّل لها على هامش فساتين مرفت العديدة عند خَيَّاطتها — إذا عرف أنها ليست أكثر من شبه مربية وحاضنة ممتازة لبنت شقيقتها، وأنه ليس لها مركز في الحياة غير هذا … إذا عرف ذلك عنها فما هو الشيء المغري فيها؟

واجهته بصراحة بكل هذه المعلومات، وأطلعته على تاريخ أسرتها المتواضعة في الريف، وأكدت له أن ما تملكه هي من نقود ربما كان أقل مما يملكه هو … كان يصغي إلى كل هذا وهو يبتسم، ولم يحدث أي تغيير في أساريره، وظلت نظراته إليها نفس النظرات، وعندما أرادت أن تنهض وتنصرف، بعد أن ألقت إليه بكل ما عندها، استبقاها وتوسل إليها أن تجلس، وقال لها بصوت يسيل عذوبة: «كل ما قلت لي لا دخل له في الموضوع.» فبدا عليها شيء من الدهشة وقالت له: «ما هو دافعك الآن إذن؟» فاستجمع شعبان كل شجاعته وكل قوة تجاريبه المختزنة، وهجم عليها بكلمة صريحة واحدة، كأنها طلقة مسدس واحدة في الصميم: «السكس، الجنس!» … فبُهتت لحظة، ثم حملقت فيه، وقد تورد وجهها، ثم انتفضت ونهضت وتركته وخرجت من المقهى مسرعة دون أن تلفظ حرفًا.

ولبث شعبان وحده لحظة، وقد أشعل سيجارة وأخذ منها نفسًا بمنتهى الارتياح، شخص آخر غيره لا تجربة له كان يتملكه اليأس، ولكنه الصياد الماهر الذي لا يفزعه هرب السمكة، إنها إنما هربت والطعم في جوفها، فليترك لها الوقت الكافي قبل أن يحرك طرف الخيط الذي في أصبعه … وكان قارِب الصيد في النيل قد دنا وأصبح مَن فيه على مرمى بصره … قارِب لا يبلغ طوله مترين يعيش داخله سبعة أشخاص، حول حلة صغيرة فوق موقد نار: الصياد وامرأته وأربعة أطفال وخامسٌ رضيع متعلق بثديها، فضلًا عن سادس في الطريق يبشر به بطنها المملوء … أسرة على سطح الماء ذات عددٍ عديد، دُودٌ على عُود، هي في وادٍ وراديو ترانزستور في وادٍ آخر فوق مائدة قريبة يجلس إليها رجل منفرد يقرأ رواية بوليسية تاركًا الراديو مفتوحًا يدش ويدش بكلام كثير عن النسل وتنظيم الحمل!

وقد يكون لهؤلاء عذرهم، لكن ما عذر تلك الأسرة الأخرى المشابهة في العدد المرتفعة في المستوى المجتمعة حول مائدة أخرى بقربه: سيدة بدينة حبلى هي الأخرى وحولها أطفال عديدون في يد كل منهم كعكة سميط، وأمامهم زجاجات كوكاكولا، وهم يتصايحون في طلب بائع اللب والفول السوداني. وهذه الأم الأرنبة قد صدع دماغها فيما يظهر حديث النسل والحمل وزيادة الاستهلاك، فأدارت مفتاح الراديو الذي في يدها على موجة أخرى، وجعلت تهز رأسها طربًا على نغمة: «حبك نار … نار يا حبيبي نار.»

ولم يجد شعبان ما يفعله بعد ذلك فدفع الحساب ونهض منصرفًا، وهو يتخيل ما يمكن أن يقع الآن في نفس فاطمة، لقد بدا عليها فعلًا أنها فوجئت بصدمة، لقد انصرفت وهي أقرب إلى أن تكون غاضبة غضبًا لا يمكن إصلاحه. والواقع أنها خرجت من المقهى وهي في شبه ذهول، لم تشعر إلا وهي تقفز إلى سيارة تاكسي وتعود إلى البيت، ودخلت توًّا إلى حجرتها وارتمت على مقعد وهي تردد هامسة: «قلة أدب، وقاحة!» ثم هدأت قليلًا وقامت تخلع ملابسها، وعندما انكشف بعض جسمها عاريًا، تطلعت على الرغم منها في شبه حركة غريزية إلى المرآة أمامها، وتفحصت أعضاءها بنظرة لم تحدث منها قبل ذلك، ثم فطنت سريعًا إلى نفسها، وابتعدت عن المرآة، وبادرت تغطي جسمها وترتدي ثيابها المنزلية.

وتركت حجرتها وذهبت إلى مرفت، فوجدتها مشغولة بصبغ أظافرها بأحدث لون، ولم تسألها مرفت أين كانت ولا متى عادت. لم يكن من عادة إحداهما سؤال الأخرى مثل هذه الأسئلة … فقد لاحظت مرفت منذ وفاة أمها أن خالتها تتغيب أحيانًا ليلة من ليالي الأسبوع، على الأخص من مساء الخميس إلى مساء الجمعة، ولا تدري سر ذلك. سألتها ذات مرة فأجابتها إجابة غامضة أنها تزور إحدى قريباتها، ولم تسألها بعد ذلك أبدًا، في أي شأن من شئونها الخاصة، واكتفت مرفت في ذلك اليوم بأن مدت أصابعها إلى خالتها قائلة: «ما رأيك في هذا اللون؟» … فأجابتها وهي ساهمة: «حلو». ورن جرس التليفون، فبادرت فاطمة إلى السماعة باهتمام ظاهر، لكنها وجدت غير ما توقعت، صوت آخر لرجل يطلب مرفت، ولم تتحرك مرفت، قالت لها بغير مبالاة وهي تنظر إلى أصابعها التي ما زالت رطبة من الصبغة: «قولي له يطلبني بعد ساعة». ثم استطردت قائلة: «شاب لطيف عرفناه أخيرًا في الشلة».

وأرادت فاطمة أن تقول لها: «هل هذا حب جديد … علاقة جديدة … وإلى متى؟» لكن السؤال انحبس في ذهنها ثم انقلب سؤالًا موجهًا إليها هي ذاتها: «لماذا القلق على مرفت؟ ولماذا أسمي هذا ضياعًا؟! وما الضرر أن تستمتع بحياتها كما تشاء، ما دامت فرصة الاستمتاع قد واتتها، أكان يجب عليها أن ترفض؟ … وماذا بعد الرفض؟!»

مر يومان، وهي تهرع إلى كل رنة تليفون، وفي اليوم الثالث كان المتكلم شعبان، تحدث بصوت أتقن تمثيل تهدجه واضطرابه، قال إنه يأسف ويعتذر، ويتوسل إليها أن تتيح له فرصة لقائها مرة أخرى في نفس المكان والموعد، ليشرح لها حقيقة موقفه، وأجابته بصوت حاولت هي أيضًا أن تتقن فيه الاتزان: إنها لا ترى ضرورة لأسف أو اعتذار، وكذلك لا ترى نفس الضرورة للقاء آخر، لكنه أخذ يلح، وكانت في قرارة نفسها تنتظر منه هذا الإلحاح، لتزداد اقتناعًا، أكد لها أنه لم ينم منذ ذلك اليوم، لاعتقاده أنه جرح شعورها، وهو لن يستريح حتى يطالع الصلح بنفسه على محياها … وأخيرًا قبلت ووعدت.

وفي الموعد المحدد ذهبت، لكن بفستانها الجديد، وبشيء من أحمر خفيف على الشفتين، وتوضيبة شعر أجهدتها أمام المرآة لتبدو فيها كما تشتهي … وإلى نفس المائدة جلسا معًا، وهو يزحزح مقعده قليلًا قليلًا ليقترب منها، ولاحظت هي ولم تمانع، وقد أراد أن يسحب كلمته التي صدمتها، وأن يفسرها تفسيرًا مهذبًا بريئًا، لكنها في أعماقها كانت تريد العكس، كانت تريد منه تفسيرًا يزيدها اقتناعًا، هل الجنس أو «السكس» وصف لعلاقة يمكن حقًّا أن تقوم بينهما؟ أما زال فيها شيء يُشتهى؟ … ولم يفته بإحساسه المدرب مرماها الخفي، فقال لها: ليس هناك أصفى لهبًا ولا أشهى منظرًا من خفقة شمعة يظنون أنها ذبلت! … وأنه لا بد من خبير أو بصير ليقتنص هذه اللحظة الفريدة ويستمتع بها … لكن ليس من السهل على امرأة عاشت حياة طويلة بهذه الصرامة أن تتبذل دفعة واحدة، حتى وإن اشتهت.

وأدرك شعبان هذه العقبة، فطن تمامًا إلى موقفها وإلى ما يعتمل في نفسها، إنها تريد ولا تجرؤ، يجب أن يعالج الأمور بدقة وحذر مع مثل هذه السيدة المحترمة. لقد فهم الآن كل منهما الآخر وما يريده الآخر، بقيت الخطوة التالية، وهل يقترح عليها كأسًا تفرفشها وتحل عقدة وقارها؟ فليحاول … وهم بأن يصفق للجرسون، لكنها منعته، قالت إنها فهمت مراده، ولا حاجة معها لمثل هذه الوسائل، إنها الآن ليست طفلة، وعندما تقتنع بشيء فإنها تفعله … على أن هذا المكان ليس بالمكان المناسب للقائهما.

وأدرك شعبان صواب الملاحظة، حقًّا أين يجتمع بها إذا أرادا الخلوة؟ لا بد إذن من البحث عن مكان لائق … ولعنة الله على معارفه الحثالة، ومستواهم الواطي، ليس فيهم واحد من أولئك الذين يملكون السيارة والجارسونيِيرة، وتلفتت فاطمة حولها كمن أزعجه تيار بارد في الظهر، من نظرات الجالسين على الموائد … وفهم شعبان فقال مؤيدًا لما لم تقله: «فعلا … مكان مكشوف غير مناسب» … فهزت رأسها بالإيجاب، وتحركت للانصراف وهي تقول له بابتسامة مشجعة: «اتصل بي غدًا بالتليفون!»

المنظر الثامن

(شعبان يدخل على أدهم في مكتبه دخول الظافرين.)

شعبان (هاتفًا) : وصلنا.
أدهم : وصلنا! وصلنا إلى ماذا؟
شعبان : إلى الهدف.
أدهم : أي هدف؟
شعبان : فاطمة هانم … خالتها … أنا الآن على عتبة النجاح، غدًا بإذن الله يبدأ الهجوم الكبير.
أدهم : لعنة الله عليك!
شعبان : الله يسامحك! … كنت أنتظر منك التهنئة!
أدهم : اسمح لي أقول لك … أنت مقرف!
شعبان : أنا؟!
أدهم : أهدافك في الحياة صغيرة وحقيرة!
شعبان : لا أرجوك … إهانات لا … لا أقبل أبدًا … ومع ذلك قل لي … ما هي أهداف سيادتك العظيمة النبيلة؟!
أدهم : مع الأسف.
شعبان : إذن اسكت واتلهي، الحال من بعضه! … أنا على الأقل عندي هدف … صغير حقير … هدف والسلام … لكن أنت؟
أدهم : أنا في الحقيقة …
شعبان : أنت في الحقيقة غير مفهوم … أنا عاشرتك هذه المدة ولا أعرف ماذا تريد؟
أدهم : أريد أن أعمل أي شيء نافع.
شعبان : نافع لمن؟
أدهم : للناس جميعًا، وللأمة كلها؟
شعبان : للأمة كلها؟! وهل أنت مسئول عن الأمة كلها؟
أدهم : بالتأكيد … مسئول.
شعبان : ومن الذي سألك وكلفك؟
أدهم : لا أحد … أنا نفسي.
شعبان : ولماذا تتعب نفسك؟
أدهم : أنا حر يا أخي.
شعبان : أصحاب العقول في راحة!
أدهم : بالعكس، أصحاب السخافة في راحة!
شعبان : إياك تشتم … أو تطيل لسانك … أحذرك!
أدهم : وما شأنك أنت؟ … هل أنت سخيف؟ … أنا أشتم السخفاء … أصحاب الحياة السخيفة … ومع ذلك حتى هؤلاء ليسوا في راحة، حتى السخافة أصبحت لها متاعبها ومطالبها.
شعبان : متاعبها ومطالبها؟ … السخافة؟!
أدهم : ككل شيء آخر.
شعبان : ما هذا الهذيان؟! أنا ألاحظ عليك هذه الأيام حالات غريبة … ربما كانت أعراض مرض غير معروف!
أدهم : ربما.
شعبان : فتحنا البنك لنعالج الناس فإذا أنت أول من يستعصي علاجه! … كمدير مستشفى المجاذيب الذي انقلب مجنونًا بحق وحقيق!
أدهم : نحن كنا مرضى قبل أن نفتح المستشفى أو البنك … ولم نزل مرضى مثل غيرنا.
شعبان : تكلم عن نفسك وحدك من فضلك … أنا لم أكن مريضًا في يوم من الأيام … ولله الحمد!
أدهم : بالطبع أنا أتكلم عن نفسي وحدي … لأني أستطيع أن أدرك العلة.
شعبان : وما هي العلة؟!
أدهم : هذا شيء لا يمكن أن تفهمه أنت … إلا عندما تفيق.
شعبان : أفيق؟!
أدهم : أنت وأمثالك.
شعبان : أمثالي؟!
أدهم : نعم وربما لا يحدث ذلك قريبًا.
شعبان : حضرتك خرفت! … والكلام معك مضيعة للوقت … سلام عليكم! (ويتحرك للانصراف ثم يقف فجأة) أنت يلزمك علاج سريع … أتعرف ما هو؟
أدهم : لا.
شعبان : هو أن تذهب في الحال وتلقي بنفسك في النيل … وهناك صياد في قارب صغير يمكن أن ينتشلك … فإذا انتشلك تبدأ حياتك من جديد.
أدهم : وإذا لم ينتشلني؟
شعبان : تغرق، ويكون هذا من حظ البشرية!
أدهم : صدقت.
شعبان : اعمل بنصيحتي! … سلام عليكم.

(ينصرف.)

(يظهر بالباب الزبون الثامن، أو على الأصح الزبونة، لأنها سيدة فوق الخمسين.)

أدهم : أهلًا وسهلًا … تفضلي.
الزبونة ٨ : هنا البنك؟ … أنا قرأت على الباب …
أدهم : تفضلي … (يشير إلى المقعد) استريحي!
الزبونة ٨ : أنا متأسفة … أنا في حالة … أنا في شدة الحيرة والقلق، كنت هنا في العمارة … وأنا خارجة قرأت اللافتة، وكلمة القلق … وبدون أن أشعر أو أفكر دخلت عندكم … والله بدون شعور.
أدهم : هدئي نفسك … كلنا في خدمتك … ما هو الموضوع؟
الزبونة ٨ : كنت هنا في العمارة … أنا وبنتي وخطيبها … قالوا لنا هنا شقة بخلو رجل … تعرف حضرتك كم الخلو؟ … ألف جنيه! … تصدق؟ أربع حجرات وصالة … بنتي مخطوبة ونحن نجهز لها، وقبل الجهاز لا بد طبعًا من إيجاد الشقة، والجهاز نفسه يا سيدي يلزم له الآن مبلغ وقدره، حجرة النوم التي كانت من سنة بمائتي جنيه الآن بستمائة، قل لي وحياتك: ماذا أعمل؟ … كل المبلغ الذي قعدنا ندخره لزواج البنت حوالي ألف وخمسمائة جنيه.
أدهم : نعمة من الله!
الزبونة ٨ : ما هي النعمة يا سيدي؟
أدهم : ألف وخمسمائة جنيه لفرش مسكن … أهذا لا يكفي؟
الزبونة ٨ : يكفي؟ … هذا لا يكفي لفرش حجرتين … انزل السوق وأنت تعرف!
أدهم : ربما كنت حضرتك تطالبين بمستوى فرش معين.
الزبونة ٨ : المستوى الذي يليق بنا … هل تدخل بنتي بجهاز أقل من جهاز بنات خالتها وبنات عمتها؟!
أدهم : لا طبعًا.
الزبونة ٨ : كيف أحل هذا المشكل؟ دماغي سينفجر!
أدهم : والآنسة بنتك، المخطوبة … ما رأيها؟
الزبونة ٨ : ماذا تعمل المسكينة؟ يكفي أنها تكد وتتعب وتوفر من مرتبها لتساعد في الجهاز.
أدهم : أهي تشتغل؟
الزبونة ٨ : طبعًا، هي بسلامتها خريجة تجارة وتعمل في شركة …
أدهم : وخطيبها؟
الزبونة ٨ : موظف معها في الشركة، يبقى رئيسها … عنده دكتوراه.
أدهم : ما شاء الله! شيء عظيم.
الزبونة ٨ : وعنده سيارته … اسم الله عليه! … سبقني هو وبنتي إلى السيارة … وخطفت أنا رجلي ودخلت عندكم هنا … قولوا كيف أتصرف؟
أدهم : إذا اتفق الخطيبان على جهاز في حدود المبلغ الموجود …
الزبونة ٨ : المبلغ الموجود لا يأتي بجهاز عليه القيمة.
أدهم : وماذا يهم؟ … ما دام الخطيبان سعيدين!
الزبونة ٨ : وكلام الناس يا حضرة؟! … كيف تستطيع بنتي أن تواجه صديقاتها وبنات خالتها وعمتها؟! كل واحدة دخلت بجهاز فخم … فكيف تنزل بنتي إلى المستوى الذي لا يليق بها؟!
أدهم : نحن الآن في مجتمع اشتراكي.
الزبونة ٨ : مجتمع إيه؟!

(تظهر بالباب الخطيبة وخلفها الخطيب.)

الخطيبة : أنت هنا يا ماما؟
الزبونة ٨ : تعالي يا بنتي … تعالَ يا دكتور!
أدهم : تفضلوا … أهلًا وسهلًا!

(يشير إلى مقعدين.)

الخطيبة : التفتنا فلم نجدك خلفنا، سألنا البواب قال إنه رآك تدخلين هنا.
الزبونة ٨ : هنا يا بنتي يعالجون القلق … وأنت عارفة أنا دماغي انفجر.
الخطيبة : لكن هذه مسائل خاصة يا ماما.
الزبونة ٨ : إنهم لا يعرفون من نكون … لم أذكر أسماء … نحن مجرد ناس نشكو من الحالة … وربما كان غيرنا كثيرين مثلنا.
أدهم : اطمئنوا … نحن هنا لا نتدخل في خصوصيات … ولكننا بقدر الإمكان نحاول التخفيف من متاعب الناس.
الخطيب : اسمح لي أسأل … ما هي طريقتكم في ذلك؟
أدهم : ليس لنا طريقة … هذا مكان يأتي إليه من يريد أن يتكلم … مجرد الكلام فيه أحيانًا راحة وتفريج.
الخطيب (للسيدة) : ولكنك يا تيزة كنت تستطيعين الكلام معنا نحن في البيت!
الزبونة ٨ : هذا ما حصل … وجدت أمامي لافتة عليها كلمة القلق، رحت داخلة.
أدهم : حصل خير على كل حال، ولنعتبر أنفسنا هنا الآن جميعًا أفراد أسرة واحدة … ما هو الضرر في أن نتحدث عن متاعبنا؟
الخطيب : لا توجد متاعب بالمرة، خلاف غلاء الأسعار المطرد … وهذه ظاهرة عامة في الدنيا كلها، وتعليلها معروف.
أدهم : طبعًا سيادتك أدرى منا … الست قالت إنك تحمل دكتوراه.
الخطيب : نعم، في الاقتصاد.
أدهم : وفي الاقتصاد بالذات!
الخطيبة : وله مؤلفات في الاشتراكية.
أدهم : أيضًا؟! الدكتور إذن اشتراكي صميم.
الخطيبة : طبعًا، وأنا مثله، أليس كذلك يا شكري؟
الخطيب : بالفعل.
أدهم : عظيم … عظيم.
الزبونة ٨ : كان كل أملي أراهما في عش الزوجية هذا الشهر … لكن الشقة والجهاز …
أدهم : يظهر أن الست الكبيرة تريد الشقة والجهاز من مستوى لائق.
الزبونة ٨ : طبعًا يا سيدي … أنا قلت لك الظروف.
الخطيبة : أي ظروف يا ماما؟
الزبونة ٨ : مستواك العائلي يا سميرة … بنت خالتك تحية … أنت عارفة بأي جهاز دخلت السنة الماضية … أول شيء ستفعله عندما تزورك في مسكن الزوجية هو أن تنظر إلى جهازك حجرة حجرة وتقارن.
الخطيبة : فعلًا، هذا أول شيء ستفعله تحية.
الزبونة ٨ : ليست تحية وحدها، الجميع.
أدهم : الجميع؟! لا … أنا أظن الدكتور لا يهمه مستوى الجهاز.
الزبونة ٨ : كيف لا يهمه … الدكتور قام بدفع مهر محترم … علاوة على عُلب الملبَّس التي سيقدمها … من أفخر نوع حسب المتفق عليه.
أدهم : وهل من الضروري عُلب الملبَّس؟
الزبونة ٨ : ما هذا الكلام الذي تقوله يا حضرة؟! هذا أهم شيء! علب الملبَّس … لأنها هي التي في عيون الناس … بعد الشبكة … والشبكة والحمد لله كانت تشرف.
أدهم : ورأي الآنسة؟
الخطيبة : رأيي أن خطيبي قام ويقوم بكل الواجب.
أدهم : ورأي الدكتور أن عُلب الملبَّس والشبكة حاجات ضرورية الآن؟! … في هذا المجتمع الجديد؟!
الخطيب : والله هذه … عادات.
أدهم : عادات بُرجوازية!
الزبونة ٨ : ماذا تقول حضرتك؟ طبعًا ضرورية … حضرتك غرضك تحرض الدكتور على عدم إحضار علب الملبَّس؟!
أدهم : أستغفر الله … أنا حرضته؟!
الزبونة ٨ : اسمع يا حضرة أنت! علب الملبَّس أهم شيء … ولا بد تكون من أحسن صنف … عيب نضحك علينا الناس على الأواخر … أنت لا تعرف من حولنا … ولسانهم الطويل.
أدهم : أنا سحبت كلامي … أرجوك يا دكتور أحضر الملبَّس من أحسن وأفخر صنف! … هذا مجتمع بُرجوازي داخل قِماط اشتراكي! اشتراكية قوانين ولوائح، وليست بعدُ اشتراكية روح! … أحضر الملبَّس والعُلب من أغلى نوع!
الزبونة ٨ : هذا ما كان سيفعله بالطبع، أليس كذلك يا دكتور؟
الخطيب : طبعًا، طبعًا يا تيزة، لكن …
الزبونة ٨ : لكن إيه؟! … أنت نويت ترجع في كلامك؟!
الخطيب : لا أبدًا يا تيزة … أنا فقط أردت أن أقول إن هذه تفصيلات لا تثار هنا.
الزبونة ٨ : لك حق … أنا غلطانة ألف مرة … غلطانة أني دخلت هنا … أنا حضرت أبحث عن واحد يحل لي إشكالي … أو على الأقل من يسمعني الكلام الذي يريح أعصابي … وإذا بحضرته لا حل ولا ربط … وأسمعنا الكلام الماسخ الذي كنا في غنى عنه … قوموا بنا!

(تنهض منصرفة بدون سلام، ويتبعها الخطيب والخطيبة بعد أن يحيِّيا برأسيهما.)

أدهم : سبحان الله!

(يظهر بالباب الزبون التاسع، وهو كهل في الخامسة والخمسين.)

الزبون ٩ : تسمح لي أدخل.
أدهم : تفضل!
الزبون ٩ (يجلس على مقعد) : أنا في الواقع …
أدهم : أفندم؟
الزبون ٩ : المسألة تتعلق بأولادي.
أدهم : خير إن شاء الله!
الزبون ٩ : بالعكس لا يوجد خير بالمرة، أنا لا أريد أن أطيل عليك …
أدهم : تفضل تكلم على راحتك.
الزبون ٩ : أنا يا سيدي الفاضل عندي ثلاثة أولاد … سببوا لي وجع الدماغ؛ الأصغر في التاسعة عشرة يظهر أنه انحرف … ليس عنده غير السجاير والمكيفات والبنات والسينمات وحب المغامرات أيًّا كانت … يظهر أنه يريد أن يعيش حياة أبطال الأفلام السينمائية المنحطة. أما الولدان الكبيران فقد تخرَّجا بنجاح وتوظفا، لكن الخناقة بينهما لا تنتهي؛ أولهما يقول عن الثاني إنه يساري، والثاني يقول عن الأول إنه يميني. وأنا بينهم جميعًا لا أدري ماذا أفعل ولا كيف أتصرف؟
أدهم : وأنت ما الذي حشرك بينهم؟
الزبون ٩ : أنا معهم في معيشة واحدة، أنا وأمهم طبعًا، وهي أشد مني انزعاجًا، ولا يمكن أن تتصور هذا الجحيم الذي نعيش فيه كل يوم.
أدهم : ما الذي يحدث منهم بالضبط؟
الزبون ٩ : الولد الأصغر نكاد لا نراه … يرجع لنا كل يوم مع الفجر … أين كان طول الليل؟ … مع من كان؟ ماذا كان يفعل؟ … لا ندري، وكلما سألناه أو نصحناه أو حاولنا التفاهم معه شوح لنا بذراعيه ورفع صوته علينا بألفاظ نابية وتركنا وانصرف … هل أطرده؟ … والدته تبكي وتستعطفني بقلب الأم، وتقول: اصبر عليه ربما يعقل.
أدهم : هذا واحد، والثاني؟
الزبون ٩ : الثاني والثالث، كما قلت لك، موظفان، ولا بأس بهما في عملهما الخارجي، لكنهما متى عادا من العمل قلَبا علينا البيت بمناقشات تصل إلى حد الخناق والتراشق بعبارات واتهامات خطيرة … وأنا وأمهما في حيرة … هل نتركهما يقطِّع أحدهما الآخر تقطيعًا كل ساعة بهذه الصورة؟!
أدهم : هل استُعمِلَت مسدسات أو سكاكين؟
الزبون ٩ : ما هذا الكلام؟!
أدهم : هذا فقط لمجرد المباسطة! … الظاهر أن الشجار بينهما عبارة عن خلافات في الرأي … ليس إلا؟
الزبون ٩ : أكثر من هذا بكثير، إنها اتهامات متبادلة … لا أحب أن أذكرها … تصور حضرتك … والد في مثل سني يريد الهدوء فيجد ولديه من حوله يصيحان طول الوقت، ويقول كل منهما عن الآخر إنه كارثة على البلد؟!
أدهم : وأنت … ماذا قلت لهما؟
الزبون ٩ : قلت لهما إني لا أستطيع أن أنام طول الليل على جنب واحد، وإني أحيانًا أنام على جنبي الأيمن وأحيانًا أنام على جنبي الأيسر.
أدهم : وماذا كان جوابهما؟
الزبون ٩ : سخر الاثنان مني وقالا لي: هذا في النوم.
أدهم : طبعًا، هذا في النوم.
الزبون ٩ : أنت أيضًا تقول ذلك؟
أدهم : أنا أقرر الواقع، أنت تقول إنك تتقلب في النوم … طبعًا في اليقظة أنت لا تلازم الفراش … وإذن لا تنام ولا تتقلب.
الزبون ٩ : في اليقظة … أقعد على كرسي مريح.
أدهم : هذا إذا قعدت، لكن عندما تسير … في الشارع؟!
الزبون ٩ : عندي سيارة صغيرة … أقودها بنفسي … طبعًا عندما أجدها، لأنها في أغلب الأحيان يكون قد لطشها الولد الأصغر وذهب بها إلى حيث لا ندري.
أدهم : تقود سيارتك بنفسك هذا شيء جميل!
الزبون ٩ : وشيء متعب ومزعج، خصوصًا في الشوارع المزدحمة.
أدهم : حقًّا … الشوارع المزدحمة أصبحت شيئًا مزعجًا!
الزبون ٩ : هذا إلى جانب مخالفات المرور.
أدهم : كان الله في عون من عنده سيارة!
الزبون ٩ : حقًّا، إن لم يكن الإنسان عنده نظر سليم وأعصاب متينة فيحسن به ألَّا يقود سيارة، خصوصًا الأعصاب … أي أعصاب لا تهتز وأنت ترى أمامك في كل خطوة شوارع في اتجاه واحد … وشوارع عليها لافتات «ممنوع الدخول»، وشوارع تأخذ فيها اليمين فقط، وشوارع تأخذ فيها يمينك ويسارك حسب ما تريد، وشوارع ممنوع فيها الوقوف، وشوارع يمكن أن تقف فيها على اليمين فقط، أو على اليسار فقط … شيء يلخبط العقل يا أستاذ!
أدهم : وسيارتك لا تزال عندك؟
الزبون ٩ : عندي، وهي معي تحت في الشارع منتظرة … وعلى الله لا يأتي عسكري المرور ويحرر لي مخالفة انتظار!
أدهم : من ضمن المتاعب!
الزبون ٩ : ماذا أفعل؟ … شيء لا بد منه! … محتاج لها في تنقلاتي وتحركاتي … المهم أن تسير ولا تقف … وألَّا أدوس بها أحدًا.
أدهم : ربنا يستر!
الزبون ٩ : وأنت يا أستاذ؟
أدهم : أنا يا سيدي ليس عندي سيارة.
الزبون ٩ : دعنا الآن من السيارة والسيارات … أنت لم تقل لي رأيك؟ نحن خرجنا عن الموضوع … فلنعد إلى مسألة الأولاد.
أدهم : وليس عندي أولاد.
الزبون ٩ : أنت لم تحل لي مشكلتي حتى الآن.
أدهم : والله … في الواقع … مشكلتك هذه …

(جرس التليفون يرن يرن.)

أدهم (يرفع السماعة) : آلو … نعم؟ تريد أولاده؟ … سأقول له … تحب أرسله إليك؟ … وهو كذلك …؟ (يضع السماعة ويلتفت إلى الزبون) مشكلتك من اختصاص الحجرة رقم ثلاثة.
الزبون ٩ : الحجرة رقم ثلاثة؟
أدهم : نعم، الحجرة الثالثة هناك، وسيطلب منك إحضار أولادك … أو على الأقل إحضار الاثنين الموظفين اليميني واليساري.
الزبون ٩ : في وقت واحد؟
أدهم : إذا أمكن.
الزبون ٩ : أعتقد من الصعب إقناعهما بالحضور معًا.
أدهم : إذن أحضر كل واحد على انفراد.
الزبون ٩ : هذا أسهل.
أدهم : على كل حال هذه مسألة تفصيلية يمكنك الاتفاق عليها مع الحجرة ثلاثة … والآن تسمح تشرف هناك!
الزبون ٩ (ينهض) : وهو كذلك … شكرًا …

(يخرج.)

أدهم : أف!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤