مقدمة

«حسنًا، لقد حسبتُها.»

تلك كانت إجابةَ إسحاق نيوتن على إدموند هالي حين سأله عن الكيفية التي عرف بها أنَّ قانون التربيع العكسي يعني أنَّ مدارات الكواكب إهليلجية الشكل. وقد اقتبس هربرت ويسترن تيرنبول هذه الإجابة في كتابه «الرياضيون العظام».

لو كان ثمَّة كائن فضائي ذكي يراقب النظام الشمسي في الثاني عشر من نوفمبر عام ٢٠١٤، لشهد حدثًا محيرًا. فعلى مدار شهورٍ، ظلت آلةٌ صغيرة للغاية تتبع مذنَّبًا في مساره حول الشمس، وهي خاملةٌ ساكنة. وفجأة تيقَّظت الآلة وتلفَّظت آلةً أصغر منها. انحدرت هذه الآلة الأصغر باتِّجاه السطح الأسود الفحمي للمذنَّب، وارتطمَت به، وارتدت. وحين توقَّفت أخيرًا، كانت مقلوبة على جانبها، وعالقة في جرف صخري.

ربما لم ينبهر الكائن الفضائي؛ إذ استنتج أنَّ الهبوط لم يجرِ على النحو المنشود، لكنَّ المهندسين المسئولين عن الآلتين كانوا قد حقَّقوا عملًا غيرَ مسبوق، وهو الهبوط بمسبار فضائي على مذنَّب. كانت الآلة الكبيرة هي «روزيتا»، والصغيرة «فايلي»، والمذنَّب هو «تشوريوموف-جيراسيمنكو/بي ٦٧». كانت المهمة من تنفيذ وكالة الفضاء الأوروبية، وقد استغرقت الرحلةُ وحدها ما يزيد عن ١٠ أعوام. وبالرغم من الهبوط المتخبِّط، حقَّقت «فايلي» معظمَ أهدافها العلمية، وأرسلت بيانات هامة. وتستمر «روزيتا» في أداء المهمة على النحو المخطَّط له.

لمَ الهبوط على مذنَّب؟ لأنَّ المذنَّبات مثيرة للاهتمام في حدِّ ذاتها، وأي شيء نكتشفه عنها يُعد إضافة مفيدة لأساس العلم. وعلى مستوًى عمليٍّ بدرجة أكبر، فالمذنَّبات تقترب من الأرض في بعض الأحيان وسيسبب الاصطدام بها ضررًا بالغًا؛ لذا فمن الحكمة أن نعرف ما تتكوَّن منه. ذلك أننا نستطيع تغيير مدار جسم صلب باستخدام صاروخ أو قذيفة نووية، لكنَّ جسمًا إسفنجيًّا لينًا قد ينكسر ويزيد الأمر سوءًا. وثمَّة سبب ثالث أيضًا، وهو أنَّ المذنَّبات تحتوي على موادَّ يعود تاريخها إلى أصول النظام الشمسي؛ ومن ثمَّ يمكنها أن تمدَّنا بمعلومات مفيدة عن كيفية نشأة عالمنا.

يعتقد علماء الفلك أنَّ المذنَّبات كرات ثلجية متسخة، جليد مغطًّى بطبقة رقيقة من الغبار. وقد تمكَّن المسبار «فايلي» من تأكيد هذا الاعتقاد فيما يتعلق بالمذنَّب «٦٧ بي» قبل أن تفرغ بطارياته ويصمت. إذا كانت الأرض قد تكوَّنت على مسافتها الحالية من الشمس، فإنها تحتوي على قدرٍ من المياه أكبرَ مما كان ينبغي أن تحتوي عليه. فمن أين أتى هذا القدر الإضافي من المياه؟ ثمَّة إجابة محتملة مثيرة للاهتمام تتمثَّل في انهيال ملايين المذنَّبات عند تكوُّن النظام الشمسي. ذاب الجليد ووُلِدت المحيطات. ربما يكون من المفاجئ أنه توجد طريقة لاختبار هذه النظرية. فالماء يتكوَّن من الهيدروجين والأكسجين. ويوجد الهيدروجين على ثلاثة أشكال ذرية متمايزة هي ما يُعرف بالنظائر، وهي تحتوي على العدد نفسه من البروتونات والإلكترونات (واحد من كلٍّ منها)، لكنها تختلف في عدد النيوترونات. لا تحتوي ذرة الهيدروجين العادية على أية نيوترونات، وتحتوي ذرة هيدروجين الديوتيريوم على نيوترون واحد، وتحتوي ذرة هيدرجين التريتيوم على اثنين من النيوترونات. إذا كانت محيطات الأرض من المذنَّبات، فيجب أن تكون نسب هذه النظائر الموجودة في المحيطات والقشرة الأرضية التي تحتوي صخورها أيضًا في تركيبها الكيميائي على كميات كبيرة من المياه، مشابهةً لنسب النظائر الموجودة في المذنَّبات.

يوضِّح تحليل «فايلي» أنَّ مذنَّب «٦٧ بي» يحتوي على نسبة من الديوتيريوم أكبر كثيرًا من تلك الموجودة في الأرض. ينبغي الحصول على بيانات أكثرَ من المزيد من المذنَّبات للتأكد من ذلك، لكن نظرية النشأة المذنَّبية للمحيطات بدأت تتزعزع. وتمثِّل الكويكبات احتمالًا أفضل.

figure
مذنَّب «٦٧ بي» «البطة المطاطية»، بتصوير «روزيتا».

ليست بعثة «روزيتا» سوى مثال على قدرة البشر المتزايدة على إرسال الآلات إلى الفضاء إما للاستكشاف العلمي أو للاستخدامات اليومية. وقد وسَّعت هذه التقنية الجديدة من طموحاتنا العلمية. فمسابير الفضاء التي ابتكرناها قد زارت الآن جميع الكواكب في النظام الشمسي وبعض الأجسام الأصغر، وأرسلت إلى الأرض صورًا لها.

حدث التقدُّم سريعًا. هبط رواد الفضاء الأمريكيون على القمر عام ١٩٦٩. وفي عام ١٩٧٢، انطلقت مركبة الفضاء «بايونير ١٠» وزارت المشتري، ثم تابعت طريقها خارج النظام الشمسي. تبعتها «بايونير ١١» عام ١٩٧٣، وزارت زحل أيضًا. وفي عام ١٩٧٧، انطلقت المركبتان «فوياجر ١» و«فوياجر ٢» لاستكشاف هذه العوالم وحتى الكواكب الأبعد: أورانوس ونبتون. ثمَّة مركبات أخرى قد أطلقها العديد من الدول المختلفة والمجموعات الدولية، وزارت عطارد والزهرة والمريخ. بل إنَّ بعضها «هبط» على الزهرة والمريخ، وأرسل إلى الأرض معلوماتٍ ثمينة. وبينما أكتب في ٢٠١٥، توجد خمسة مسبارات مدارية 1ومركبتان2 سطحيتان تستكشف المريخ؛ فالمركبة «كاسيني» في مدارٍ حول زحل، والمركبة الفضائية «ذا داون» تدور حول الكويكب السابق سيريس، الذي ترقَّى حديثًا في التصنيف إلى كوكب قزم، والمركبة الفضائية «نيو هورايزونز» قد مرَّت لتوها بالكوكب القزم الأشهر في النظام الشمسي: بلوتو، وأرسلت صورًا رائعة له. وسوف تساعد بياناتها في حل ألغاز هذا الجسم المحيِّر وأقماره الخمسة. لقد أوضحت بالفعل أنَّ بلوتو أكبر قليلًا من إريس، وهو كوكب قزم أبعد كان يُعتقد سابقًا أنه أكبرُ الكواكب القزمة. أُعيد تصنيف بلوتو في فئة الكواكب القزمة لاستبعاد إريس من رتبة الكواكب. ونحن نكتشف اليوم أنه ما كان عليهم أن يتجشموا هذا العناء.

لقد بدأنا أيضًا في استكشاف أجسامٍ أصغر لكنها على الدرجة نفسها من الروعة، مثل الأقمار والكويكبات والمذنَّبات. ربما لا يكون هذا الاكتشاف على مستوى «ستار تريك»، لكنَّ الأفق الأخير ينفتح.

إنَّ استكشاف الفضاء من العلوم الأساسية، وبالرغم من أنَّ الاستكشافات الجديدة عن الكواكب تثير اهتمام معظمنا، يفضِّل البعض أن تؤدي مساهماتهم الضريبية إلى فوائدَ عملية أكثر. وفما يتعلَّق بالحياة اليومية، فإنَّ قدرتنا على تشكيل نماذج رياضية دقيقة للأجسام التي تخضع لتأثير الجاذبية قدَّمت للعالم الكثير من العجائب التكنولوجية التي تعتمد على الأقمار الاصطناعية، مثل البث التليفزيوني بالأقمار الاصطناعية، وشبكة الهاتف الدولية التي تتمتَّع بالكفاءة، والأقمار الاصطناعية المخصصة للأرصاد الجوية، والأقمار الاصطناعية التي تتابع الشمس ترقبًا للعواصف المغناطيسية، والأقمار الاصطناعية التي تراقب البيئة وتضع خرائط الكرة الأرضية، وحتى أجهزة الملاحة في السيارات، وذلك باستخدام نظام تحديد المواقع العالمي.

figure
في الرابع عشر من يوليو ٢٠١٥، تمكَّن المسبار الفضائي التابع لناسا «نيو هواريزونز»، من إرسال هذه الصورة التاريخية لبلوتو إلى الأرض، وهي أول صورة تظهر فيها معالم واضحة للكوكب القزم.
إنَّ هذه الإنجازات كانت ستذهل أجيالًا سابقة. فحتى في ثلاثينيات القرن العشرين، كان معظم البشر يعتقدون أنه ما من إنسانٍ سيقف على القمر أبدًا. (واليوم لا يزال الكثيرون من السذَّج الذين يؤمنون بنظرية المؤامرة يعتقدون أنَّ أحدًا لم يفعل بالفعل، لكن لا أريد أن أتطرَّق إلى الحديث عن هذا). لقد جرت نقاشاتٌ محتدمةٌ بشأن احتمالية السفر في الفضاء أصلًا.3 أصرَّ البعض أنَّ الصواريخ لن تعمل في الفضاء لأنه «ما من شيء يدفعها»؛ وذلك لعدم معرفتهم بقانون نيوتن الثالث للحركة؛ لكلِّ فعل ردُّ فعل مساوٍ له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه.4

أصرَّ العلماء الجادون بقوة على أنَّ الصاروخ لن يعمل أبدًا لأنك ستحتاج إلى الكثير من الوقود لرفع الصاروخ، وستحتاج إلى وقود أكثر لرفع الوقود، ثم وقود أكثر وأكثر لرفع «ذاك» … وذلك حتى حين تجسِّد صورة في «هيو لونج جينج» الصيني (كتيب تنين النار) الذي ألَّفه جياو يو، أحدَ تنانين النار، الذي يُعرف أيضًا باسم الصاروخ المتعدد المراحل. كان هذا السلاح البحري الصيني يستخدم محركات صاروخية معزَّزة متساقطة لإطلاق مرحلة علوية على شكل رأس تنين محمَّلة بأسهم النيران التي كانت تنطلق من فمه. أجرى كونراد هاس أول تجربة أوروبية للصواريخ المتعددة المراحل عام ١٥٥١. لقد أوضح رواد علم الصواريخ في القرن العشرين أنَّ المرحلة الأولى من الصاروخ المتعدد المراحل ستكون قادرة على رفع المرحلة الثانية ووقودها، مع «طرح» كل الوزن الزائد للمرحلة الأولى التي استُنفِدت الآن. ونشر قسطنطين تسيولكوفسكي حسابات واقعية مفصلة بشأن استكشاف النظام الشمسي في عام ١٩١١.

حسنًا، لقد وصلنا إلى القمر برغم المنكرين، وباستخدام الأفكار ذاتها التي كانوا أضيقَ أفقًا من تأمُّلها. إننا لم نستكشف سوى إقليمنا المحلي في الفضاء حتى الآن، وهو لا يكاد يكون شيئًا على الإطلاق مقارنةً بمساحة الكون الشاسعة. لم نهبِط بالبشر على كوكب آخر حتى الآن، وحتى أقرب النجوم يبدو بعيد المنال تمامًا. وفي ضوء التكنولوجيا المتوفرة الآن، سيستغرق الأمر قرونًا كي نصل إلى هناك حتى إن تمكَّنا من بناء سفينة نجمية يُعوَّل عليها. غير أننا في طريقنا.

•••

إنَّ هذا التقدُّم في استكشاف الفضاء واستخدامه لا يعتمد على التقنيات البارعة فحسب؛ بل يعتمد أيضًا على سلسلة طويلة من الاكتشافات العلمية التي يعود تاريخها إلى البابليين القدماء على أقلِّ تقدير قبل ثلاثة آلاف عام. فالرياضيات تكمن في صميم هذا التقدُّم. والهندسة مهمة أيضًا دون شك، وكذلك كان من الضروري التوصُّل إلى اكتشافات في العديد من المجالات العلمية الأخرى قبل أن نتمكَّن من صناعة المواد اللازمة وتجميعها إلى مسبار فضائي يعمل، لكني سأركِّز على كيفية تحسين الرياضيات معرفتَنا بالكون.

إنَّ قصة استكشاف الفضاء تسير جنبًا إلى جنب مع قصة الرياضيات منذ أقدم العصور. فقد ثبت أنَّ الرياضيات أساسية لفهم الشمس والقمر والكواكب والنجوم، وتلك المجموعة الشاسعة من الأجسام الأخرى التي تشكِّل الكون على نطاقه الواسع. فعلى مدار آلاف الأعوام، ظلت الرياضيات هي أكثر الطرق فعاليةً في فَهْم الأحداث الكونية وتسجيلها والتنبؤ بها. لقد كانت الرياضيات في بعض الثقافات مثل ثقافة الهند القديمة قرابة العام ٥٠٠ ميلاديًّا، فرعًا من علم الفلك بالفعل. وبالمقابل، أثَّرت بعض الظواهر الفلكية في تطوُّر الرياضيات على مدار ثلاثة آلاف عام؛ إذ ألهمت كل شيء بداية من تنبؤات البابليين بالكسوف والخسوف وصولًا إلى حساب التفاضل والتكامل والفوضى وانحناء الزمكان.

في بادئ الأمر، كان الدور الفلكي الأساسي للرياضيات هو تسجيل الملاحظات وإجراء حسابات مفيدة بشأن بعض الظواهر مثل الكسوف الشمسي، حيث يحجب القمر الشمس مؤقتًا، أو الخسوف القمري حيث يحجب ظل الأرض القمر. ومن خلال التفكير في هندسة النظام الشمسي، أدرك رواد علم الفلك أنَّ الأرض تدور حول الشمس، حتى وإن كان يبدو لنا من الأرض أنَّ العكس هو ما يحدث. جمع القدماء أيضًا الملاحظات مع الهندسة لتقدير حجم الأرض والمسافة بينها وبين القمر والشمس.

بدأت الأنماط الفلكية الأعمق تتضح قرابة العام ١٦٠٠، حين اكتشف يوهانس كيبلر في مدارات الكواكب ثلاث صور رياضية منتظمة أو «قوانين». وفي عام ١٦٧٩، أعاد إسحاق نيوتن تأويل قوانين كيبلر لصياغة نظرية طموحة لا تكتفي بوصف حركة كواكب النظام الشمسي فحسب؛ بل تصف حركة «أي» نظام من الأجسام السماوية. كانت تلك هي نظرية الجاذبية، وهي أحد الاكتشافات الأساسية في كتابه الذي غيَّر العالم «الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية». إنَّ قوانين نيوتن للجاذبية تصف الكيفية التي يجذب بها أيُّ جسم في الكون أيَّ جسم آخر.

من خلال الجمع بين الجاذبية وبعض القوانين الرياضية الأخرى بشأن حركة الأجسام، والتي كان جاليليو قد مهَّد الطريق لها قبل قرن، فسَّر نيوتن العديد من الظواهر السماوية وتنبَّأ بها. وبصورة أعم، غيَّر نيوتن طريقةَ تفكيرنا عن العالم الطبيعي فشكَّل ثورةً علمية لا تزال تتقدَّم حتى اليوم. لقد أوضح نيوتن أنَّ الظواهر الطبيعية (غالبًا) ما تحكمها الأنماط الرياضية، ومن خلال فهمنا لهذه الأنماط، يمكن تحسين فهمنا للطبيعة. وفي عصر نيوتن، فسَّرت القوانين الرياضية ما كان يحدث في السماء، لكنها لم توفِّر استخدامات عملية مهمة إلا في مجال الملاحة.

•••

كل ذلك تغيَّر حين دار القمر الاصطناعي «سبوتنك» التابع للاتحاد السوفييتي السابق في المدار الأرضي المنخفض عام ١٩٥٧، مطلِقًا بذلك إشارة البدء لسباق الفضاء. إذا كنت تشاهد مباريات كرة القدم على محطات التلفاز الفضائية، أو تشاهد الأوبرا أو البرامج الكوميدية أو البرامج الوثائقية العلمية، فأنت تجني فائدة عملية من أفكار نيوتن.

في بادئ الأمر، أدَّت نجاحاته إلى رؤية الكون بصفته كونًا منتظمًا كالساعة، وكل شيء فيه يتبع بمهابة مسارًا قد وُضِع له في بداية الخلق. فكان يُعتقد على سبيل المثال بأنَّ النظام الشمسي قد خُلِق في الحالة التي هو عليها الآن، مع وجود الكواكب نفسها التي تتحرَّك في مداراتها شبه الدائرية ذاتها. لا شك بأنَّ كل شيء تغيَّر بعض الشيء؛ فقد أوضحت ذلك اكتشافات هذه الفترة فيما يتصل بالملاحظات الفلكية. بالرغم من ذلك، فقد كان ثمَّة اعتقاد شائع بأنَّ شيئًا لم يتغيَّر أو سيتغيَّر بدرجة كبيرة على مدار دهور عديدة. فوفقًا للعقيدة الأوروبية، لم يكن من الوارد قطُّ أنَّ الخلق المثالي للإله كان يمكن أن يكون مختلفًا في الماضي. واستمرت هذه الرؤية الميكانيكية لكونٍ منتظم يمكن التنبؤ به على مدار أكثر من ثلاثة قرون.

غير أنها لم تَعُد سائدة الآن. فالابتكارات الحديثة في الرياضيات مثل نظرية الفوضى، مع أجهزة الكمبيوتر القوية الموجودة لدينا اليوم، والتي تستطيع حساب الأعداد الوثيقة الصلة بسرعة غير مسبوقة، قد غيَّرت رؤيتنا للكون تغييرًا عظيمًا. يظل النموذج المنتظم للنظام الشمسي صالحًا على مدار فترات قصيرة من الوقت، وعادة ما تُعد المليون عام فترةً قصيرة في علم الفلك. لكنَّ فناءنا الخلفي الكوني قد اتضح الآن أنه مكان انتقلت فيه العوالم من مدار إلى آخر، وسوف تنتقل. أجل، توجد فترات طويلة من السلوك المنتظم، لكنها تُقطَع بين الحين والآخر بدفقات من النشاط الجامح. فالقوانين الثابتة التي أدَّت إلى ظهور مفهوم كون الساعة، يمكن أيضًا أن تتسبَّب في حدوث تغييرات مفاجئة وسلوك شديد الاضطراب.

إنَّ التصورات التي يتخيَّلها علماء الفلك اليوم غالبًا ما تكون درامية. فخلال تكوُّن النظام الشمسي على سبيل المثال، تصادمت عوالم بأكملها مخلِّفةً نتائج مروعة. وسوف تفعل ذلك مجددًا في المستقبل البعيد على الأرجح؛ فثمَّة احتمال صغير أن يهلك عطارد أو الزهرة، لكننا لا نعرف أيهما على وجه التحديد. ربما يهلك كلاهما، وربما يأخذان كوكبنا معهما. وتصادم مثل هذا قد أدَّى إلى تكوُّن القمر على الأرجح. يبدو الأمر كما لو أنه ضربٌ من ضروب الخيال العلمي، وهو كذلك بالفعل، لكنه من النوع الأفضل على الإطلاق؛ ذلك النوع «المحكم» من الخيال العلمي الذي لا يتجاوز العلوم المعروفة إلا فيما يتعلَّق بالاختراعات الجديدة المذهلة. غير أنه ما من اختراع مذهل هنا؛ بل اكتشاف رياضي غير متوقَّع فحسب.

أثْرَت الرياضيات فهمنا عن الكون على جميع النطاقات: منشأ القمر وحركته، وحركات الكواكب وتكوينها وأقمارها التابعة، وتعقيدات الكويكبات والمذنَّبات وأجسام حزام كايبر، وتلك الرقصة السماوية الرزينة التي يؤديها النظام الشمسي بأكمله. لقد علمتنا كيف أنَّ التفاعلات مع المشتري يمكن أن تلقي بالكويكبات في اتجاه المريخ، ومن ثمَّ الأرض، وعلمتنا أيضًا السبب في أنَّ زحل ليس وحيدًا في امتلاك الحلقات وكذلك كيفية تشكُّلها في الأساس، وكذلك السبب في تصرُّفها على النحو الذي تتصرَّف به، بضفائرها وموجاتها و«أحزمتها» الدوارة الغريبة. لقد أرتنا كيف يمكن لحلقات أحد الكواكب أن تلفظ أقمارًا، واحدًا تلو الآخر.

لقد تراجع نمط كون الساعة أمام نمط كون الألعاب النارية.

•••

من منظور كوني، ليس النظام الشمسي سوى مجموعة واحدة تافهة من الصخور من بين مليارات الملايين من المجموعات الأخرى. وحين نتأمَّل الكون على نطاق أكبر، تؤدي الرياضيات دورًا أكثر أهمية. فنادرًا ما يكون إجراء التجارب ممكنًا وتُعد المشاهدات المباشرة أمرًا صعبًا؛ لذا نضطر إلى استنتاج استدلالات غير مباشرة بدلًا من ذلك. وغالبًا ما يهاجم الأشخاص المناهضون للعلم هذه السمة باعتبارها موطنَ ضعف. وحقيقة الأمر أنَّ القدرة على استنتاج أشياءَ لا نستطيع ملاحظتها مباشرةً من أعظم مواطن القوة في العلم. لقد أُثبِت وجود الذرات بصورة حاسمة قبل أن تمكِّننا المجاهر الحاذقة من رؤيتها بفترة طويلة، وحتى بعد اختراع المجاهر، نجد أنَّ «رؤيتها» تعتمد على سلسلة من الاستدلالات بشأن كيفية تشكُّل الصور المعنية.

تمثِّل الرياضيات محركًا قويًّا للاستدلال؛ فهي تتيح لنا استنباط «نتائج» فرضيات بديلة من خلال تحري دلالاتها المنطقية. وعند دمجها مع الفيزياء النووية، والتي هي رياضية للغاية في حد ذاتها، فإنها تساعدنا على شرح ديناميكيات النجوم، بأنواعها الكثيرة، وتركيباتها الكيميائية والنووية المختلفة، ومجالاتها المغناطيسية المتموجة وبقعها الشمسية المظلمة. وهي تقدِّم معلومات عن نزعة النجوم لتشكيل مجموعات في المجرات الشاسعة، بينما تفصل بينها مساحات أضخم من الفراغ، وتفسِّر السبب في اتخاذ المجرات لمثل هذه الأشكال المثيرة للاهتمام. وتخبرنا أيضًا بسبب تجمُّع المجرات لتشكيل عناقيد مجرية تفصل بينها مساحات أضخم وأضخم من الفراغ.

ثمَّة نطاق أكبر حتى من ذلك، وهو نطاق الكون بأكمله. وهذا هو علم الكونيات. في هذا العلم نجد أنَّ مصدر الإنسانية للإلهام العقلي رياضي بالكامل تقريبًا. ذلك أننا نستطيع رصد ملاحظات لبعض جوانب الكون، لكننا لا نستطيع إجراء التجارب عليه ككل. وتساعدنا الرياضيات في تأويل الملاحظات؛ إذ تتيح لنا عقدَ مقارنات بصيغة «ماذا لو» بين النظريات البديلة. بالرغم من ذلك، فحتى هنا كانت نقطة البدء أقربَ إلى الوطن. فقد حلَّت نظرية النسبية التي وضعها ألبرت أينشتاين، واستُبدِل فيها منحنى الزمكان بالجاذبية، محل الفيزياء التي وضعها نيوتن. كان القدماء من علماء الهندسة والفلاسفة سيؤيدون ذلك؛ فقد اختُزِل علم الحركة إلى الهندسة. رأى أينشتاين تحقُّق نظرياته عن طريق اثنين من توقُّعاته: تغيُّرات معروفة في مدار عطارد لكنها محيرة، وانحناء الضوء بفعل الشمس الذي لوحِظ في كسوف شمسي عام ١٩١٩. غير أنه لم يكن ليدرك قطُّ أنَّ نظريته ستؤدي إلى اكتشاف بعضٍ من الأجسام الأكثر غرابة في الكون بأكمله، وهي الثقوب السوداء البالغة الضخامة حتى إنَّ الضوء لا يستطيع الهرب من قوة جاذبيتها.

ولا شك في أنه لم يدرك إحدى النتائج المحتملة لنظريته: الانفجار العظيم. إنَّ هذا هو الاقتراح القائل بأنَّ الكون نشأ من نقطة واحدة في وقتٍ ما في الماضي البعيد قبل ما يقرب من ١٣٫٨ مليار عام وفقًا للتقديرات الحالية، وذلك في انفجار ضخم. غير أنَّ الزمكان نفسه هو ما انفجر، ولم ينفجر شيء آخر بداخله. كان أول دليل على هذه النظرية هو اكتشاف إدوين هابل لتمدُّد الكون. إذا عُدتَ بالماضي إلى الوراء، فستجد أنَّ كل شيء ينهار إلى نقطة واحدة، ثم أعدْ بدء الزمن من جديد في الاتجاه المعتاد وستصل إلى هذا المكان وهذا الزمان.

عبَّر أينشتاين عن أسفه على أنه كان يمكن أن يتنبأ بهذا لو أنه صدَّق معادلاته. وهذا هو ما يجعلنا نثق بأنه لم يتنبأ به.

في العلوم، تفتح الإجابات الجديدة ألغازًا جديدة. وتُعد المادة المظلمة من أعظم هذه الألغاز، وهي نوع جديد تمامًا من المادة يبدو أنه ضروري كي تتوافق ملاحظاتنا عن كيفية دوران المجرات مع فهمنا للجاذبية. بالرغم من ذلك، فقد باءت جميع محاولات البحث عن المادة المظلمة بالفشل في الكشف عنها. علاوةً على ذلك، ثمَّة عاملان آخران تلزم إضافتهما إلى نظرية الانفجار العظيم الأصلية لفهم الكون. أحد هذين العاملين هو التضخم، وهو تأثير قد أدَّى إلى زيادة حجم الكون الأولي بمقدار هائل على مدار فترة زمنية في غاية الضآلة. ويُعد التضخم ضروريًّا لتفسير السبب في أنَّ توزيع المادة في كون اليوم منتظم إلى حدٍّ كبير، وإن لم يكن منتظمًا تمامًا. وأما العامل الآخر فهو الطاقة المظلمة، تلك القوة الغامضة التي تتسبَّب في تمدُّد الكون بمعدل أسرع.

تقبَّل غالبية علماء الكونيات نظرية الانفجار العظيم، بشرط دمج هذه العوامل الثلاثة الإضافية — المادة المظلمة، والتضخم، والطاقة المظلمة — في النظرية. غير أنَّ كلًّا من هذه الكيانات الغامضة الخارقة يأتي بمجموعته الخاصة من المشكلات المزعجة. لم يَعُد علم الكونيات الحديث آمنًا مثلما كان قبل عَقد من الزمان، وربما تكون ثمَّة ثورة في الطريق.

•••

لم يكن قانون الجاذبية الذي وضعه نيوتن أول نمط رياضي أمكن تمييزه في السماء، لكنه بلوَر النهج بأكمله وتجاوز كلَّ ما أتى قبله بدرجة كبيرة. وذلك من الموضوعات الأساسية والاكتشافات الرئيسة التي تكمن في صميم الكتاب الذي بين أيدينا. يتمثَّل هذا المحور الأساسي فيما يلي: توجد أنماط رياضية في حركات الأجسام السماوية والأرضية وبنيتها، بدايةً من أصغر جزيئات الغبار إلى الكون بأكمله. إنَّ فهم هذه الأنماط لا يمكِّننا من تفسير الكون فحسب؛ بل استكشافه أيضًا، والاستفادة منه، وحماية أنفسنا منه.

يمكن القول بأنَّ الإنجاز الأعظم هو إدراك «وجود» الأنماط. بعد ذلك، تعرف ما يجب أن تبحث عنه، وبالرغم من أنَّ تحديد الإجابات قد يكون صعبًا، تصبح المعضلات مسألةً تقنية فحسب. غالبًا ما يكون علينا ابتكار الأفكار الرياضية الجديدة تمامًا، ولست أزعم أنَّ ذلك بالأمر السهل أو المباشر. فتلك مباراة طويلة وهي لا تزال مستمرة حتى الآن.

حفَّز نهج نيوتن أيضًا استجابة قياسية. ففور أن يخرج أحدث الاكتشافات إلى النور، يبدأ علماء الرياضيات في التساؤل عمَّا إذا كان من الممكن لفكرةٍ مشابهة أن تحل مشكلات أخرى. فالرغبة الشديدة في جعل كل شيء أكثر تعميمًا، متعمقةٌ في الروح الرياضية. وليس من الصواب أن نحمِّل نيكولا بورباكي5 و«الرياضيات الجديدة» مسئولية ذلك؛ فهي تعود إلى عصر إقليدس وفيثاغورس. ومن هذه الاستجابة، وُلِدت الفيزياء الرياضية. طبَّق معاصرو نيوتن، لا سيما في أوروبا بصفة أساسية، المبادئ نفسها التي كانت قد سبرت أغوار الكون، لفهم الحرارة والضوء والمرونة، ثم الكهربية والمغناطيسية فيما بعد. ودوَّت الرسالة بوضوح أكبر:
«ثمَّة قوانين في الطبيعة.
وهي قوانين رياضية.
يمكن أن نجدها.
ويمكن أن نستخدمها.»

لم يكن الأمر بتلك السهولة بالطبع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤