الفصل الخامس

دخل حسن قهوة «النادي المصري» وطلب جريدة الحقائق، فأجابه الخادم قائلًا: «إننا لا نشتري هذه الجريدة يا سيدي.» فأخرج حسن من جيبه قرشًا وقال للخادم: «اذهب واشترِها لي.» فصدع الخادم لأمره وأتاه بها بعد حين.

أمسك حسن جريدة الحقائق بيده وبحث في الفهرست عن عنوان مقالته فلم يجده، فكذب الفهرست، وبحث في جميع الصفحات فلم يجد من مقالته حرفًا واحدًا، فأظلمت الدنيا في عينيه، وأقفل الجريدة وألقى بها على الخوان، وعافت نفسه قراءة الجرائد الأخرى، فأطلق لفكره العنان.

مكث حينًا يفكر في أشياء كثيرة إلى أن سئم التفكير، فقام يتمشى وهو مطرق برأسه. ثم أطلق من بين جوانحه زفرة ألفتت إليه أنظار المارة، ومشى غير عابئ بأحد.

لم يسلك حسن سبيله إلى المنزل؛ لأنه كان سائرًا على غير هدى، ولكنه كان يأمل الخير في الغد مع أن شواهد الحال كانت تنطق بغير ذلك. لقد مرت على مقالته ثلاثة أيام والأقدام تدوسها في الشارع، ولكنه كان يجهل ذلك فكان يقول لنفسه: «إن لم تنشر مقالتي في الغد فعلى آمالي السلام!» ويا ليته كان عالمًا بما حل بها حتى لا يفاجأ في الغد بما لم يهجس في ضميره قبل ثلاثة أيام.

ليس شيء أصعب على نفس الناشئ من حبوط أول أمل له، كما أن هذا الحبوط هو أكبر باعث له على إعادة الكرة لنيل أمنيته وتحقيق غرضه، وتكبر صعوبة حبوط المسعى على الناشئ إذا كان من خلقه الحياء وضعف الإرادة، وحسن أعظم مثال لهذا النوع من الناشئين؛ ولذا كان ألمه عظيمًا، ولم يبعث في قلبه داعي التأسي إلا أمله في الغد، وكان الغد آخر موعد لنشر مقالته، ففي الغد يفتح حسن صدره للبؤس أو للسعادة.

مشى حسن من شارع إلى شارع وهو لا يلوي على أحد إلى أن وصل إلى منزله بعد الغروب، فأنبته أمه فلم يجب عليها، وانتظرته حبيبته لتقرأه السلام كالعادة فذهب انتظارها سدى، ولم يعزِّه على مصابه في ذلك اليوم إلا كلبه «سحاب».

•••

أشرقت الشمس في الصباح، وخرجت الناس من منازلها والطيور من أعشاشها، وتكلمت ألسنة المدينة بعد أن سكتت طول الليل، ومشى حسن من بيته إلى المدرسة وهو غير عابئ بما حوله، ولما وصل إليها وقضى بها ساعتين وقف في الفناء مع إخوانه التلاميذ يتجاذب أطراف الحديث، وإذا إبراهيم يسري يقرئه السلام ويقول له: ما لك تفكر يا حسن. أحلت بك مصيبة؟

– أينبئك حالي بذلك؟

– نعم.

– إنك واهم يا عزيزي، لم تحل بي مصيبة كبرى، ولكن حياة الإنسان لا تخلو من المكدرات.

– صدقت. أقرأت أمس جريدة الحقائق؟

– وهل «الحقائق» جريدة تستحق المطالعة؟

– لقد أخبرني صديقي عبد العزيز أنك أرسلت لمديرها مقالة نفيسة.

أُرتج على حسن في هذه الساعة ولم يعلم ما يقول، واحمر وجهه خجلًا وسكت هنيهة وهو ينظر لأقدام من كان حوله، ثم رفع بصره لإبراهيم يسري وقال له: أأخبرك عبد العزيز بذلك؟

– وهل في ذلك بأس؟

– لقد كذب عليك عبد العزيز يا صديقي؛ لأني لم أغتر بعد بخدع الآمال حتى أكتب بالجرائد.

– أنت أبو الإنشاء.

– هذه نغمة من يهزأ بي يا إبراهيم، فإن كنت من هؤلاء فإني أسامحك.

– أنا لا أهزأ بك يا صديقي، ولا أرى داعيًا يدعوك لإخفاء الحقيقة عني.

– وأي حقيقة أخفيتها عنك؟

– وما الذي يدعو عبد العزيز للكذب؟ إنك بلا شك ممن لا يحبون التغني بمآثرهم.

– وأي مأثرة يحق لي أن أفتخر بها أيها الصديق؟

– ومن ذا الذي ينكر فضلك؟

سكت حسن، ولكن لم ينظر للأرض خجلًا كعادته، بل نظر إلى إبراهيم نظرة تجسمت فيها الأنفة من هزوه والاحتقار لشخصه، ولوى ظهره له وابتعد عنه وهو يسمع إبراهيم يناديه قائلًا: لا تغضب يا «رعمسيس الثاني». فقال لنفسه: «إنه يعرف أيضًا أني كتبتها تحت اسم مستعار، فإن لم تنشر المقالة اليوم، صغرتُ في عينه، وهو ممن يتطلعون لذلك. فأف منك يا عبد العزيز! لقد أخبرتك بأمر هذه المقالة ورجوتك كل الرجاء أن تخفي أمرها عن كل التلاميذ، ولكنك أخبرت به القاصي والداني، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.»

تجسمت في رأس حسن فكرة عدم نشر المقالة، وكان خوفه من فضيحته أمام إبراهيم يسري أكبر من خوفه من عدم نشر المقالة، وكل ذلك أتاه من حيائه وضعف إرادته.

قضى حسن في المدرسة يومًا عصيبًا، لم يفقه فيه لأقوال أساتذته إلى أن دق ناقوس الانصراف في عصر ذلك اليوم، فخرج مع من خرج من التلاميذ، ومشى مسرعًا إلى الترام وركب فيه، وود أن يسوقه بنفسه. فلما وصل الترام إلى باب الخلق، ازداد اضطراب قلبه، وتعددت أنفاسه، وظهر على وجهه القلق، وهمَّ واقفًا ثم جلس، ثم وقف ثم جلس، وأعاد ذلك مرارًا وقفز منه دفعة واحدة، وإذا به يسمع بائعي الجرائد يقولون: «اللواء، اللواء، المؤيد والأهرام»، فأخرج من كيسه قرشًا ومد يده لأحدهم صائحًا: «الحقائق. عليَّ بالحقائق.» فبحث البائع هنيهة في أعداد الجرائد التي كانت تحت إبطه، وقال له: «لم تظهر بعد.» فهمَّ حسن بضرب البائع ولم يستوقفه إلا الترام الذي كان يسير بجواره إلى العتبة الخضراء، والعتبة الخضراء محَط رحال كل الجرائد، فقفز فيه كمن به جنة.

وصل به الترام إلى العتبة الخضراء، واشترى حسن «الحقائق» وفتحها ليرى مقالته الشائقة، فاستلفتت نظره لأول وهلة لفظة «أم»، وكانت عنوانًا لإحدى المقالات، فظنها مقالته، فشعر بالدم يعلو إلى رأسه، وتلعثم لسانه وغص ريقه، ولكنه قرأ العنوان بإمعان فوجده «الأم العادلة» وكانت المقالة غير مقالته. فشرع في البحث عنها في كل جزء من أجزاء الجريدة؛ في باب الوفيات، في باب الإعلانات، في باب أخبار البورصة، حتى وفي العنوان نفسه، ولكنه رجع بخفي حنين، وكاد أن يصعق أمام الناس، فألقى بالجريدة على الأرض، ولكنه لم يلبث هنيهة حتى عاوده الأمل فالتقطها مرة ثانية، وابتدأ في مطالعة مقالة «الأم العادلة»، ثم حول بصره مرة ثانية لكل كلمة في الجريدة، وأخيرًا انقطع رجاؤه منها، فرمى بها على الأرض وداسها بقدمه، فاعلًا بها ما فعل رئيس التحرير بمقالته، ومشى إلى بيته مستمسكًا من الأمل بخيط باطل.

•••

في تلك الغرفة التي سمعت آذانها كل ما جرى بين حسن ولبيبة، وأمام هذا الشباك الذي استقبل النسيم يحمل للعاشقة قبلات حبيبها؛ جلست لبيبة تبكي وهي تنظر للفضاء، وما لبيبة إلا فتاة وديعة هادئة، طيبة السيرة والسريرة، لا تستحق من الحياة سهمها القاتل، ولا من الوجود سلاحه القاطع. لقد وقع على قلبها خبر السفر وقوع الصاعقة، فوضعت يدها على قلبها الخافق كأنها تبحث عنه، بل كأنها تبحث عن آمالها فيه، وما هي آمال الفتاة السجينة في الحياة بعد أن يتقلص ظل أمانيها فيمن تحب، فيمن عليه تعتمد وبه تسعد وبغيره لا تعرف غير الشقاء.

تعيش الفتاة المصرية في بيتها وهي لا تعرف عن الحياة إلا ما يقع في ذلك البيت، ولا تسمع من الأصوات إلا صوت أهلها، ولا ترى من الأشياء إلا جدران هذا البيت الضيق، وإذا لاح لها برق آمالها في طلعة شاب تراه عفوًا ويكون من أقربائها، تحكم عليها الظروف بالابتعاد عنه، فلا تجد تعزية إلا في الاستسلام للأسى والدموع.

تلك حال فتاتنا لبيبة وهي — كما قلنا — فتاة لا تستحق ذلك.

ذهبت للنافذة لتقص على حبيبها ذلك الخبر المؤلم، فوجدته بعد قليل داخلًا غرفته هو وكلبه، ثم وقف هنيهة يمسح دمعة تساقطت على خده، ثم أقفل باب الغرفة وأحكم إقفاله، وخلع معطفه، وارتمى على سريره؛ ليبكي وينتحب، فنادته بصوت يسمع السامع منه رنة الحزن والأسى، فهمَّ واقفًا وذهب للنافذة وهو يبكي، واندهش لما رأى حبيبته تبكي مثله.

ظنت لبيبة أن حسنًا واقف على جلية الأمر، فقالت له: سنسافر بعد أسبوع يا حسن.

– تسافرين! وإلى أين؟

– إلى أسيوط.

– وهل تحقق ذلك؟

وكف عن البكاء لاندهاشه العظيم فوقف واجمًا لا يعرف ما يقول.

فقالت له لبيبة: ظننتك واقفًا على الحقيقة. لقد نُقل أبي إلى أسيوط وسأفارقك بالرغم مني، ولكن ما الذي كان يبكيك؟

فأجهش حسن بالبكاء دفعة واحدة، وقال بعد قليل: تلك كبرى المصائب. لقد أراد الحظ الأسود أن لا تنشر مقالتي، وأن تسافر حبيبتي فوداعًا أيتها الآمال الكاذبة، ووداعًا يا أحاديث المنى، فما أنت إلا وساوس الأطماع وأضغاث الأحلام.

واسترسل في البكاء واسترسلت معه حبيبته، وظل العاشقان ردحًا من الوقت يتناجيان ويشكوان مصيبة أظلتهما على غير حسبان ولا انتظار.

وافترق العاشقان بعد أن تساقطت نفساهما غمًّا، وتقطعت أحشاؤهما حزنًا ولهفًا.

ورجع حسن إلى مقعده وارتمى عليه وهو كاسف البال، وقد ائتنس بوحدته وانفراده ليطلق لدمعه العنان، وانكب على البكاء انكباب من انفطرت مريرته، وتساقطت دموعه على الأرض فكان يلتقطها كلبه الأمين سحاب، وكان سحاب في عرفه أوفي من الإنسان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤