الفصل السادس

أظلم الليل وخيم السكون على أنحاء المدينة، وحسن ملقًى على مقعده يبكي وينتحب، وقد لَذَّ له البكاء، والبكاء أكبر تعزية للأنفس الحزينة، أتت أمه وطرقت الباب تسأله الخروج للعشاء، فأصلح من شأنه وفتح الباب، فقال لها وهو يتصنع الثبات في القول والعمل: لست بجوعان يا أماه هذه الليلة، وأود الخلوة لحفظ درس التاريخ؛ لأني أتوقع أن أكون غدًا ضمن الممتحنين.

– عبثًا تحاول يا ولدي إخفاء ما في نفسك؛ لأن شعور الأم يدلها على خفايا قلب ولدها. إنك بلا شك حزين، وتشهد بقايا دمعك بذلك، فما الذي أحزنك اليوم؟ أتشاجرت مع أحد أقرانك، أم خاصمك أستاذك؟ تكلم يا ولدي وبُحْ لي بالحقيقة حتى أشاطرك ما في نفسك من الأشجان.

– أنت واهمة يا أماه …

وأتم جملته والدموع تخنقه، وارتمى على صدر أمه ليسكب في أحضانها دموعه الحارة، وما أحسن صدر الأم على فؤاد الولد الحزين؛ ففي هذا الصدر ينشأ الرضيع ومنه يتغذى، وفي هذا الصدر يلعب الطفل هازئًا بالحياة وآلامها، وفي هذا الصدر تستذرف جفون الشاب آلام الخيبة واليأس! صدر الأم هو الغرفة الدافئة الصغيرة التي بنتْها يد الحب والحنان؛ ففيها يتلاقى السرور بالسعادة، وفيها يلتطم الأسى بالمصائب.

حملت الأم ابنها ووضعته في سريره، وجلست بجواره تلاعب شعوره الجميلة، وتقبله من آونة لأخرى، وهي تحاول الصبر حابسة دمعها وواضعة يدها على قلبها، كأنها تود أن لا يخفق فيسمع منه ولدها صوت الهم.

سألت الأم ابنها عن سبب أشجانه فذكره لها. فأكبرت عليه أن يبكي لأجل مقالة أخطأ رئيس التحرير في فهمها، وسألته أن يهون عليه وينسى ما مضى، ويهيئ للغد مقالًا آخر يرسله «للفاروق»؛ وهو أكبر جريدة مصرية كانت تظهر في ذلك العهد، وما رامت من كل ذلك إلا إزالة الهم عن فلذة كبدها، ولقد فازت بأمنيتها، وسرعان ما ينسى ضعيف الإرادة الماضي إذا وجد من المستقبل بارقة أمل، وإن كانت خلابة. تسيطرت فكرة الكتابة في «الفاروق» في فكره، وقام يتبع أمه ليتناول العشاء، وأكل هنيئًا وشرب مريئًا، ورجع إلى غرفته لينام بعد أن أقسم لأمه أنه لا يعود للبكاء.

دخل غرفته وأوصد الباب وأشعل مصباحه وجلس أمام خوائه ليكتب. أمسك في يده القلم وهيأ الدواة والورقة قبل أن يهتدي للموضوع، ولكنه ما لبث قليلًا على هذه الحالة المضحكة المبكية حتى اعتراه اليأس فألقى بالقلم، وكاد أن يهشم الدواة، ومزق الورقة، وألقى بنفسه على الأرض يلطم وجهه بكفيه، وتلك هي حال عصبي المزاج إذا كان ضعيف الإرادة لا يشكو همه إلا لنفسه، ولا ينتقم إلا من نفسه أيضًا.

سكن قليلًا فقام إلى سريره وارتمى عليه مستهزئًا بكل ما وافاه بل بالعالم أجمع. فسكنت ثائرة نفسه وحاول النوم متناسيًا نكبته الشديدة، والنوم لا يزور من في قلبه كمد باطن وحزن دفين، وتذكر فراق حبيبته في هذه الساعة التي أحس فيها بالراحة قليلًا، وجسم له مزاجه العصبي وضعف إرادته أن هذا الفراق أبديٌّ، فهمَّ من نومه جالسًا ونظر إلى النافذة، وكانت مقفلة، كأنه يسألها جلية الخبر، ثم قام إليها وفتحها ونظر لبيت حبيبته، وتناسى في تلك الساعة مقالته وما جرته عليه من الأوصاب والكروب، ومد يديه للسماء، وما أقسى قلب السماء على من تخالجه الهموم! ولبث هنيهة ساكنًا لا يتحرك، وكان لابسًا لباسًا أبيض اللون أصبح فيه كالتمثال في جوف الليل البهيم.

عبثًا حاول نسيان أشجانه، فأقفل النافذة ورجع إلى سريره يميد به شجوه، وارتمى عليه لينام بعد أن يئس من كل شيء، حتى من استرساله في الهموم، وأقفل جفونه؛ فكانت فكرة الكتابة في «الفاروق» وفكرة فراق حبيبته تتبادلان إزعاج رأسه المسكين، وأخيرًا استسلم للنوم فنام إلى الصباح.

•••

انقضت الحصة الرابعة، فنزل التلاميذ إلى فناء المدرسة، وخلت كل جماعة منهم بركن من أركان الفناء تتجاذب فيه أطراف الحديث؛ ومنهم من آثر اللعب والجري، ومنهم من ذهب إلى فناء الكرة ليريض نفسه، ولزمت جماعة إبراهيم يسري المقعد المجاور لسلم الفناء، وكان من بينهم عبد العزيز ومحمود، وقد سلف لنا ذكرهم، وابتدءوا بذكر حسنات الأساتذة وسيئاتهم، ولا يلذ للطلبة إلا التكلم في ذلك، ثم انتقلوا من ذلك الحديث إلى السخرية من بعض الطلبة الذين كانوا موضعًا لهزئهم وسخريتهم، ولذَّ لإبراهيم يسري أن يقص على جماعته خبر مقالة حسن أمين، وأغرب في الضحك لما حلَّ بها وشاركه إخوانه في ذلك، ولقبوا ذلك المسكين بلقب «رعمسيس الثاني»، ورأوه بعد آونة يسير الهوينا على السلم وهو مطرق للأرض، فنادوه بصوت واحد «يا رعمسيس الثاني!» فالتفت بالرغم منه، فرآهم يضحكون ويشيرون إليه بأصابعهم، فسار في طريقه وقد علت وجهه حمرة الخجل، وود أن يصعق في ساعته، وذهب بعد ذلك إلى الحديقة؛ ليخفي نفسه خلف أشجارها الكثة، وهناك جلس على مقعد خشبي ينظر للتلاميذ ولا يراه أحد، واستسلم لأشجانه، فمرت أمام فكره صور أحزانه تباعًا، فكأنه كان يستعرض شريطًا من شرائط الصور المتحركة، وهمَّ من مكانه ليتمشى في الحديقة راجيًا أن يخفف من حزنه، فإذا به يرى أمامه عبد العزيز، فابتسم له ابتسامة الحزين، وقال له والدمع يكاد ينطق بآلامه: أكنت تشاركهم في ضحكهم يا عبد العزيز؟

– بل كنت ألومهم على فعلتهم الشنعاء.

– أشكرك يا أخي على رقيق إحساسك.

وسكت الاثنان دفعة واحدة، فلم يجد أحدهما سبيلًا للتكلم، والتفت عبد العزيز بعد قليل إلى يمينه ثم إلى خلفه كأنه كان يخشى أن يسمع أحد ما أراد ذكره لحسن، ثم قال له وهو يتلعثم: أود أن أسر إليك شيئًا وأريد أن تصدقه.

– قل ما شئت.

– عدني أولًا أن تصدق ما أقوله لك.

– إني أثق بك أيها الأخ ثقة عمياء، فحدثني بما تريد.

– أتعلم السر في ضرب رئيس التحرير بمقالتك عرض الحائط؟

– وأنَّى لي أن أعرف سر ذلك؟ أظن أنها لم ترق في عينيه.

– حاشا أن يكون ذلك سر المسألة، وإني إخالك أكبر من أن تظن ذلك.

– وهل أنت واقف على الحقيقة؟

– كان يقصها علينا إبراهيم يسري بصوته الجهوري.

– وماذا قال لكم؟

– قال لنا إنه قبَّح لرئيس التحرير أن ينشر مقالتك، بل وعده بالتخاصم إن هو فعل ذلك، فألقى رئيس التحرير مقالتك على أديم الثرى بعد أن مزقها.

– ألقى مقالتي على الأرض؟ مزق مقالتي؟ أتدوس المارة كلامًا تعبت في إنشائه؟ يا للعار! وما الذي دفع إبراهيم لفعل ذلك؟ ولكني نسيت أن ألومك على خطأ فعلته ساءني فعله كثيرًا.

– أنا؟ وأي خطأ فعلت؟

– لقد استحلفتك أن لا تذكر لأحد خبر كتابتي تلك المقالة، فلماذا أسررت له بخبرها؟

– إني لم أفعل ذلك، وأشهد الله والنبي والإِخاء والود على ذلك، ولكني أعلم أن إبراهيم قابل رئيس التحرير عفوًا في العتبة الخضراء فقرأ عليه مقالتك، ففعل إبراهيم بها ما ذكرته لك.

وكذب عبد العزيز على الله والنبي والإِخاء والود؛ لأنه وإن صدق في مقابلة إبراهيم لرئيس التحرير، فقد كذب في تنصله من إخباره بشأن مقالة حسن. وعبد العزيز هذا — كما قلنا — يحب الإيقاع بين التلاميذ؛ لا لمال يكتسبه ولا لنصر يفوز به، ولكن لمرض في نفسه ابتلاه به المجتمع الإنساني.

نظر حسن لعبد العزيز نظرة الحائر ثم قال له: أعيد عليك سؤالي هذا «ما الذي دفع إبراهيم لفعل ذلك؟»

– إنك ما زلت صبيًّا صغيرًا لا تعرف من شئون الناس شيئًا. إن إبراهيم يخشاك كما يخشى الفأر القط. أتجهل ما يحل باسمه لو ظهر اسمك بين الكُتاب مكللًا بزهور الفصاحة والبلاغة؟ واعلم أن نفسه لا تود لك الخير؛ لأنه يخشى أن تكون كاتبًا عظيمًا.

– ولكن الوسيلة التي اتخذها لمنعي عن ذلك المقصد الشريف وسيلة تدل على دناءته وضعة نفسه، وما كان عهدي به كذلك.

– إنه عُرَّة قومه، وهل ظننته قبل اليوم من ذوي الشرف والحسب والنسب؟ أعوذ بالله من ذكر السوء عن الإخوان، ولكني مجبر على ذلك، وما دعاني إلى ذكر حقيقة هذا الشاب إلا حبي لك وشغفي بما يخطه بنانك.

– إني أشكرك يا عبد العزيز.

– لي كلمة أخرى.

– تكلم.

– أود أن تكتب مقالًا آخر تنشره في جريدة كبرى كالمؤيد أو الفاروق؛ لتكيد به هذا الوغد.

سكت حسن ونظر للأرض هنيهة ثم للسماء، وقال: لقد طلقت الإنشاء ثلاثًا، وحاشا لمثلي أن ينغمر في حمأة الكُتَّاب بعد اليوم.

– ماذا تقول؟! أظن بك جنة يا عزيزي!

– أنا سليم العقل، وأكره أن تناقشني في ذلك، ولا يغضبك قولي هذا …

– إني أسمع الناقوس يدق، فهيَّا بنا نتناول الغذاء.

وسار الاثنان جنبًا لجنب إلى غرفة الطعام.

•••

غادر حسن المدرسة قاصدًا منزله، فلما وصل سأل عن أمه، فقيل له إنها ذهبت لبيت أخيها؛ لتعد مع زوجته معدات السفر، فقصد منزل خاله وفيه قابل والدته وزوجة خالة، وجلس معهما يتكلم في شئون السفر ويتأسف على الفراق، وكانت تسمعه لبيبة من وراء السجف وهي تبكي لكلامه وتتوجع لآلامه، ودخل عليهم خاله فقام حسن من كرسيه وقبل يده، وقال له: كيف حال خالي اليوم؟ عسى أن تكون في خير وسلام.

– لا يؤلمني يا ولدي إلا فراقكم، ولقد حكم به القضاء، فعبثًا نحاول دفعه.

– هل من حيلة لرد هذا القدر؟

– إني أجد في السفر مأمنًا يقيني شر رئيسي.

– وهل ينوي لك الشر؟

– إنه يعمل على النكاية بي؛ لظنه أني أرميه في كل نادٍ بالرعونة والطيش والجهل التام.

– ومن صاحب هذه الوشاية؟

– كثيرون يا ولدي، ولقد صفحت عنهم ولله الأمر.

ثم التفت عبد الرءوف أفندي لزوجته وقال لها: سنسافر بعد باكر، فهل أعددت كل شيء؟

فأجابته أخته قائلة: كدنا أن نتم كل شيء، ولم يبق إلا عدة حقائب سنجهزها غدًا.

وأتت القطة «دلال» وتمسحت في أذيال سيدها، فأخذها على ركبتيه ولاعبها قليلًا، وقال: وكيف نأخذ دلال معنا؟ هل أعددتم لها قفصًا جميلًا؟ أود أن تضعوا فيه قطعة من القماش حتى لا يؤلم جريد القفص عظام هذا الحيوان الجميل.

فأجابته زوجته: لقد هيأت لبيبة لها القفص قبل أن تهيئ حقائبنا، فلا يشغل بالك أمرها.

– إني واثق من حب ابنتي لهذا الحيوان الصامت.

ثم التفت لابن أخته وقال: كيف حال كلبك سحاب؟

– لقد وجدته اليوم في ساحة محمد علي، ولا أدرى ماذا كان يصنع، فرافقني إلى الدار، ولقد تركته هناك.

– إن سحاب كلب أمين.

فقالت أخته: ولكنه نجس.

– يتهم الإنسان الكلب بالنجاسة؛ لأنه يغار من وفائه.

ثم قام إلى غرفته ليخلع ملابسه، ولما فارقها إلى الفسحة وجد الطعام مهيَّأً، فجلس مع زوجته وأخته وابن أخته يتناولون العشاء سويًّا. أما لبيبة فأكلت بعض ما تبقى منهم، وكانت تشعر بالسعادة والحزن في ساعة واحدة؛ سعادة قرب حبيبها منها، وحزن فراقها عنه بعد يومين.

فرغ القوم من العشاء، وودعت الأخت أخاها، وخرجت مع ابنها إلى منزلها، ومكثت معه هنيهة يتجاذبان أطراف الحديث، ثم قام حسن وقبل يدها، وأغلق باب غرفته بعد أن أشعل مصباحه وجلس أمام مكتبه يفكر. ثم أخذ القلم في يده وغمسه في الدواة وكتب في وسط السطر «الحاسد والمحسود»، ولبث بعدها عشر دقائق وهو بين عاملين يتجاذبانه؛ عامل الإقدام وعامل الإحجام، إلى أن تغلب العامل الأول على الثاني؛ فابتدأ في الكتابة وهو ممتقع اللون خافق القلب، وما زال يكتب سطرًا ويشطب آخر إلى أن أتم مقالته، ثم قرأها لنفسه مرتين، وهو يتمشى في غرفته بعد أن أعاد كتابتها على ورق جيد، ثم طواها ووضعها في ظرف أعده لذلك، وكتب عليه بالثلث:
إدارة جريدة الفاروق
بشارع خيرت
مصر
حضرة رئيس التحرير

ورمى بها على مكتبه، ووقف يتمطى في الغرفة، ثم هدَّد الفضاء بيده كأنه يكلم شخصًا خياليًّا، وقال بصوت خافت: «ستنشر هذه المقالة في الفاروق فيسعد المحسود ويشقى الحاسد.» ودخل إلى سريره وقد وثق بنفسه، واستغرق في نومه إلى أن أشرقت الشمس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤