كان طفلًا فصار شابًّا

أحمد محجوب يبلغ من العمر عشرين عامًا، أقنى الأنف أسود العينين، مقرون الحاجبين وضاح الطلعة، جميل الصورة طويل القوام. إذا رأته النساء نظرت إليه بطرف خفي، وإذا رأى النساء مشى مشية التيه والدلال. أبوه من أغنياء القاهرة يملك ألف فدان من أجود أطيان الوجه البحري والقبلي، وأمه من عائلة عريقة في الحسب والنسب لا غبار عليها. ربَّاه أبوه تربية مصرية بحتة فنشأ يخاف أباه ويخشاه ولا يجسر على محادثته، واختلط بفئة وضيعة تعلم منها لعب الميسر وولع به ولوعًا أنساه كل لذة في العالم. وكانت له مربية تبلغ من العمر الخامسة والأربعين، ربته صغيرًا من يوم أن بلغ الخامسة، وكان عمرها في ذلك العهد خمسًا وعشرين عامًا، وكانت قد طُلقت من زوجها وهو رجل كان معاونًا في إحدى زراعات الدومين، ومحجوب يحب مربيته ولكنه لا يخشاها، يهزأ منها إذا أغضبته، ثم لا يلبث أن يسترضيها فتنسى إساءته وتقبله وتضمه لصدرها ضاحكة مستبشرة.

لقد بلغ محجوب العشرين، ولكنه لا ينسى أيام كانت تضربه مربيته وهو طفل إذا هفا هفوة أو ارتكب إثمًا.

أينسى يوم أن تسلق شجرة النبق في الحديقة وكاد أن يسقط على الأرض؟! لقد أمسكت به مربيته والعصا في يمناها تقرعه بها ناهية إياه أن يعود لما فعل. وهل ينسى يوم أن مكث في الفناء يلعب ويمرح، وكان الوقت ظهرًا، فنهاه السقا عم عبد الرازق عن ذلك، فشتمه ورفصه برجله الصغيرة؟! إنه لا ينسى ذلك اليوم وقد لطمته مربيته على وجهه وهي تؤنبه على ما فعل. وهل ينسى يوم أن التقط من الأرض بقية سيجارة كان يدخنها أبوه وأراد أن يستنشق الدخان، فرأته مربيته من النافذة ونادت به، فهمَّ بالهرب وأبى الدخول للمنزل إلى أن حمله الخصي وأتى به إليها لينال جزاءه؟! إنه لا ينسى كل ذلك. وإن للطفولة حوادث تبقى مرسومة في رءوس الشبان والرجال إلى الأبد.

وكان القصر الذي يسكن فيه محجوب وعائلته في حي من الأحياء الوطنية ذوات الشوارع الضيقة، وكانت تحوطه عدة بيوت صغيرة لأقوام من بيئة ليست بالغنية ولا بالفقيرة، وسكن أمام قصر محجوب رجل تاجر حسن السيرة، له زوجة وبنت تبلغ الخامسة عشرة وولد يبلغ العشرين يساعده في إدارة حانوته.

وكانت تشتغل زوجته طول نهارها في أعمالها المنزلية، وتساعدها ابنتها من وقت لآخر. وإذا ما خلت البنت بنفسها جلست أمام النافذة التي تطل على غرفة محجوب تنتظر إيابه من المدرسة، فكان إذا ما دخل غرفته أشارت إليه بالسلام ويبتدئان في المغازلة. ففي ذات يوم دخلت عليه مربيته فوجدته يشير بيمناه للفتاة، فنظرت إليه نظرة ريبة وامتعاض، ثم تركته وخرجت من الغرفة دون أن تنبس بكلمة، ولم يعر محجوب ذلك الحادث اهتمامًا وانقضى اليوم على صفاء، ولكنه لاحظ بعد ذلك أن مربيته تكثر من الدخول في غرفته ساعة إيابه من المدرسة كأنها تود أن تمنعه عن محادثة الفتاة، فساءه ذلك منها وود أن تكف عن مراقبته، فعمد إلى حيلة ناجعة؛ فكان إذا عاد من المدرسة أحكم إقفال باب غرفته بالمفتاح ليفعل ما يوحيه إليه هواه.

واهتدت مربيته لسر حيلته فدقت على بابه بيدها، ففتحه لها بعد أن أشار لفتاته أن تتوارى، ودخلت المربية ووجدت نافذة الفتاة خالية، فابتسمت ابتسامة الهازئ وقالت له: لقد طار العصفور من القفص!

– وماذا تقصدين من ذلك؟

– إنك يا ولدي تسيء لنفسك. أنسيت أن الحب يشغل المرء عن أداء واجباته.

– إني حريص على أدائها فدعي اللوم جانبًا.

– يا لك من غر أحمق!

– إني أكره أن يسبني أحد.

– ولكنك ترتكب المعاصي على مرأًى من الناس. ألا تخشى أن أخبر أباك بما تفعل؟

– أبي لم يخرج من غرفته بعد، فهل لك أن تذهبي وتقصي عليه ذلك.

– سأفعل.

وخرجت وهي غاضبة، وخاف محجوب أن تخبر أباه بهواه، فلما دنا وقت العشاء أبى أن يأكل مع أبيه، فادعى المرض ونام وهو جوعان.

ثم مضت أيام وهو يسأل نفسه عن سر مراقبة مربيته له فلا يهتدي إلى شيء. إنه لم يلاحظ شيئًا في حركاتها ولا في سكناتها، فعلام لا تتركه حرًّا يفعل ما يشاء، وليس فيما يفعل ما يدعو للخوف والحذر، وعلام تغار من هذه الفتاة التي لم تبلغ الخامسة عشرة وهي امرأة آربت على الخامسة والأربعين. هذا سر غامض يدعو للتفكير.

•••

خرج محجوب في يوم من أيام الجمعة وقابل رفقة من أصحابه، لعب معهم الميسر وخسر ما في جيبه، فرجع البيت وهو يعض بنان الندم، وسأل عن أبيه فقيل له إنه خرج، وعن والدته فقيل له إنها ستتناول طعام العشاء عند خالته. فدخل غرفته وجلس أمام نافذته وأمسك برواية من الروايات الحديثة ليقتل بها الوقت، وبعد هنيهة رأى حبيبته في النافذة تبتسم له، ولبث يحادثها ويشير لها إلى أن رأى خيال مربيته في الغرفة الأخرى؛ فكف عن محادثة حبيبته، وأشار لها أن تبتعد فابتعدت، وجلس وحيدًا ينتظر الرقيب.

فدخلت مربيته بعد عدة دقائق وقد استشاطت غضبًا، وقالت بصوت متهدج: هذه هي المرة الأخيرة، فإن عدتَ لفعلتك أخبرت والدك بكل ما فعلته.

– وأي باعث يستفز غضبك وأنا لم أجنِ ذنبًا يستحق اللوم؟

– أي باعث يستفز غضبي! إنك حقًّا ساذج لا تعرف إلى أي هوة أنت مسوق، وأخشى أن تدور الدائرة عليك.

– إني أكره هذا الحديث.

– أتأبى استماع نصائحي؟

– إنها لا تصلح الآن بعد أن كللتني الرجولة.

– يا لك من شاب أبله!

سمع محجوب هذه الكلمة فقام غاضبًا وهمَّ أن يغادر الغرفة، فأمسكت به مربيته ولفَّت ذراعها على خصره ومنعته من الخروج، فهمَّ بالإفلات منها فلمس جسمه جسمها، فلم يجد بأسًا في البقاء، فلف ساعده أيضًا على خصرها متظاهرًا بالهجوم ليدافع عن نفسه، ووقع نظره على وجهها، فإذا به يرى صورة غريبة شهوانية لم يرها من قبل في ذلك الوجه الذي عرفه من يوم أن كان «يحبو» على الوسائد. فوقف هنيهة ينظر إليها وتنظر إليه، وكانت لم تزل بضة البشرة عليها مسحة من الجمال بالرغم من الخمسة والأربعين عامًا التي قضتها، وكان محجوب شابًّا يهيج شهوته الخادرة أي باعث صغير، فأطال النظر إليها وأطالت النظر إليه، وسمع أنفاسها تتردد في صدرها وهي تنظر لخصلة شعره الأسود المسدلة على جبينه، ثم قبلته في فمه فقبلها في فمها وتعانقا وتلاصق جسمها بجسمه، وأحس بنهديها الذابلين تدلك بهما صدره …

ثم غابا عن الوجود.

•••

لقد كان طفلًا جميلًا فكانت تحبه مربيته كأم حنون، والآن صار شابًّا جميلًا فأحبته مربيته كعشيقة ضرم الحب أنفاسها.

فيا للعجب مما تراه العيون في ظلام هذه الحياة!

سنة ١٩١٧

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤