الفصل العاشر

الإسرائيليون والعرب قبل الإسلام وبعده

لئن كان الإسرائيليون من الأمم السامية، فإنهم ليسوا أقدمها، فقد وجدت قبلهم بآلاف السنين أمم سامية أخرى.

أما اللغة العبرية، فقد كانت — كما أوضحنا قبلًا — في مقدمة اللغات السامية، فقد كانت شائعة قبل نشوء الإسرائيليين؛ إذ كانت لغة فلسطين الكنعانية ولغة بعض قبائل طور سينا والأردن، ومنها بنو أدوم وعمون وموآب وقبائل عماليقية ومديانية وإسماعيلية. ومن هذه الأقوام ظهرت بطون الإسرائيلين في طور سينا وأطراف الحجاز كما أوضحه كتاب «العلاقة بين العرب والإسرائيليين قبل ظهور الإسلام»، بالإنجليزية، للمستشرق مارجوليوث.

ثم إن اللغة العبرية أخذت تضمحل على أثر الحوادث السياسية، فنهضت الآرامية، وهي إحدى اللهجات الكنعانية، وأصبحت أغلب بطون فلسطين وسوريا والعراق وطور سينا تتكلم الآرامية، التي أخذت في الانكماش منذ نحو ميلاد المسيح أمام نهضة اللغة العربية، مما كان من أثره اتجاه القبائل الآرامية والعبرية إلى الاندماج في العنصر العربي شيئًا فشيئًا.

هذا؛ ويؤخذ من مؤلفات المستشرقين أمثال مان جوليوث في كتابه سالف الذكر، ودوزي في كتابه «الإسرائيليون في مكة»، وبيرني في كتابه «إقامة إسرائيل في كنعان»، وجلازر في كتابه عن بلدان شبه جزيرة العرب، وبعض أسفار التوراة أن اليهود سكنوا منذ التاريخ البعيد أطرافًا في بلاد العرب، قال صاحب الأغاني في الجزء ١١ ص٩٤: «كان ساكنو المدينة في أول الدهر قبل بني إسرائيل، قومًا من الأمم الماضية يقال لهم العماليق، وكانوا قد تفرقوا في البلاد، وكانوا أهل غزو وبغي شديد، وكان ملك الحجاز منهم يقال له الأرقم ينزل ما بين تيماء إلى فدك، وكانوا قد ملئوا المدينة، ولهم بها نخل كثير وزرع، وكان موسى بن عمران قد بعث الجنود إلى الجبابرة من أهل القرى يغزونهم، فبعث موسى إلى العماليق جيشًا من بني إسرائيل، وأمرهم أن يقتلوهم جميعًا، إذا ظهروا عليهم، ولا يستبقوا منهم أحدًا، فقدم الجيش الحجاز …»

وفي التوراة ما يؤيد وجود العلاقة بين بلاد فلسطين الكنعانية وبين البلاد العربية.

وعند «إسرائيل ولفنسون» — مؤلف «تاريخ اليهود في بلاد العرب» — أن تاريخ الإسرائيليين مع العرب قسمان أو طوران؛ أولهما: يشمل حوادث لبطون إسرائيلية بائدة في بلاد العرب إلى بداية القرن الخامس قبل الميلاد. أما ثانيهما فيتناول أخبار جموع من اليهود كان لها شأن عظيم في تاريخ شبه جزيرة العرب، وهذا الطور ينتهي بإجلاء عمر بن الخطاب لآخر الطوائف اليهودية من الجزيرة العربية.

العبادة

ففي الطور الأول يبدو أن الإسرائيليين كانوا يعبدون الله مع تقديسهم لبعض الأصنام عدا الكهنة والأنبياء وبعض الأشراف والملوك والنقباء المؤمنين برسالة موسى، فقد كان هؤلاء جميعًا يعبدون الله وحده مخلصين له الدين، وكان الموحدون لله قليلين ثم كثروا قليلًا قليلًا.

أما الطور الثاني، فيبدأ من بعد رجوع اليهود من السبي البابلي سنة ٦٣٨ق.م. والمرجع في الوقوف على أخبارهم إلى يومئذ هو التوراة، فقد ذكرت صحف «أخبار الأيام» عن أول هجرة مشهورة لهم إلى بلاد العرب، بأن بطون شمعون سارت إلى طور سينا مع ماشيتها لتبحث عن مرعى لها إلى أن وصلت إلى أرض قبائل معان فقاتلتها وفازت بطون شمعون، وقد ذكر دوزي في كتابه عن الإسرائيليين في مكة أن هذه الهجرة قد حدثت قبل عصر الملك داود في نحو ألف سنة قبل الميلاد. وعند مارجوليوث في كتابه «علاقة العرب بالإسرائيليين قبل ظهور الإسلام» أنها لم تحصل إلا في عصر الملك حزقيا، الذي حكم بلاد يهوذا من سنة ٧١٧–٦٩٠ق.م. وهناك من يشك في صحة رواية هذه الهجرة وأغراضها.

هذا؛ ويقول الجغرافي سترابو: إن أول الجزيرة العربية كانت يومئذ هكذا: قبائل معان وعاصمتها قربا، وقبائل سبأ وعاصمتها مارن، ودولة ثمبا في باب المندب، ومملكة حضرموت وعاصمتها سيوة.

كانت فلسطين بمثابة الجسر الذي يربط البلاد العربية وسورية بمصر والعراق، وكان تجار اليهود يذهبون إلى سبأ في عهد سليمان وبعده كما جاء في الآية ٢٦ الفصل الأول من سفر الملوك الذي جاء فيه أيضًا أن أيلة «العقبة» كانت مستعمرة يهودية.

وقد اشتدت هجرة اليهود إلى الأرجاء العربية منذ القرنين الأول والثاني بعد الميلاد، لضيق فلسطين بكثرة سكانها، ومهاجمة الدولة الرومانية لها حول القرن الأول قبل الميلاد، وإلغاء الدولة اليهودية، وإخضاع فلسطين للحكم الروماني، وثورات اليهود عليه؛ مما كان من أثره خراب فلسطين وتدمير هيكل بيت المقدس وتشتيت اليهود. قال صاحب الأغاني: «إنه لما ظهرت الروم على بني إسرائيل جميعًا بالشام فوطئوهم وقتلوهم ونكحوا نساءهم، وخرج بنو النضير وبنو قريط وبنو نهدل «من القبائل اليهودية» هاربين منهم إلى من بالحجاز من بني إسرائيل، وكانت فلسطين يومئذ غنية بالصناعات والمتاجر وبالقمح والشعير والزيتون والتمر والعنب للاستهلاك والتصدير. على أن اليهود المهاجرين والمقيمين في البلاد العربية قد ضعف شأنهم وحضارتهم. قال العالم شير: «إن اليهودية في بلاد العرب كانت لها صبغة خاصة، كانت يهودية في أساسها ولكنها غير خاضعة لكل ما يعرف بالقانون التلمودي.»

وقد أقاموا هناك الحصون والآطام على قمم الجبال، ويؤخذ مما ذكره ابن هشام جزء ٢ و٣ وص٦٠ من فتوح البلدان للبلاذري وغيره: «أن اليهود قد حفروا في بلاد العرب الآبار وأخذوا الربا وربوا الماشية، وعنوا بالنسيج والصياغة وصنع الأسلحة، وأن العرب كانوا يرهنون عندهم الأمتعة ليستدينوا منهم ما يحتاجون إليه.» (ص١٦ و٤٥ و١١٦ البخاري). أما لغتهم هناك فكانت العربية مشوبة بالرطانة العبرية التي كانوا يستخدمونها في صلواتهم. وقد ذكر صاحب «فتوح البلدان» أن يهود يثرب كانوا أساتذة العرب في تعلم اللغة العربية.

وكان لليهود أحبار يتولون القضاء، وكانت قبلة اليهود بيت المقدس، ويؤدون الصلاة ثلاث مرات في اليوم، وفي ص٢٧ و٣١٤ من الجزء الأول «ابن هشام» أن سيدنا محمدًا كان يفد إلى مكة وقبلته إلى الشام، وفي ص١٨ من الجزء الأول «البخاري» أن رسول الله كان أول ما قدم المدينة يصلي قبل بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرًا، وكانت اليهود قد أعجبهم هذا، وفي ص٤٩٨ جزء ١ «البخاري» أنه لما قدم محمد على المدينة، ورأى اليهود يصومون في يوم عاشوراء قال: ما هذا؟ قالوا: هذا صالح، يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى. قال: فأنا أحق بموسى منكم. فصامه فأمر بصيامه، وكانت اليهود تعده عيدًا.

قال «الواقدي» ص١٧٠: إن اليهود كانوا يوقدون النيران في الليل ليرشدوا السائرين، وليدعوهم إلى الضيافة والإكرام كما كان يفعل العرب إعلاءً لشرفهم وصيانةً لمجدهم، كذلك قرض اليهود الشعر بالعربية.

كذلك يؤخذ مما رواه الواقدي ص٢٧٧ وابن هشام في الجزء الأول ص٦٨ أن أفرادًا من اليهود كانوا يجيئون إلى مكة للتجارة وغيرها، وأن المكيين أنفسهم كانوا يقصدون إلى خيبر ليجلبوا منها حلي آل أبي الحقيق، وأن كعب بن الأشرف قد جاء إلى مكة ليرثي قتلى بدر، وأن وفود يهود بني النضير جاءت إلى مكة لتحزب الأحزاب يوم الخندق بعد الهجرة، وأن رجال مكة كانوا يجلبون العبيد من اليهود. وفي فتوح البلدان للبلاذري (ص٦٣ طبع مكة) أن قليلًا من اليهود قد سكنوا مكة والطائف وغيرها، وفي ابن هشام جزء ١ ص٢٢ أن النبي محمدًا كان إذا صلَّى صلَّى بين الركنين البراني والأسود، وجعل الكعبة بينه وبين الشام.

قبيل ظهور الإسلام

وقد حدثت قبيل ظهور الإسلام، حروب عظيمة بين بطون يثرب، عرفت بيوم بعاث دامت سنين طويلة، كما ظهرت حركة سياسية قوية بين زعماء الحجاز، كل منهم طامع في الاستئثار بالحكم، وظهرت نهضة فكرية عظيمة كان من أثرها أن أصبحت القلوب صالحة لقبول دعوة دينية جديدة، وصارت الديانة الوثنية موضع السخرية جهرًا عند بعض المفكرين (راجع ص٩٠ «من تاريخ اليهود في بلاد العرب بقلم ولفنسون»، والأغاني في ص٤٠ جزء ١٤ وجزء ٣ ص١٧٩).

يهود خيبر

جاء في كتاب «تاريخ الإسلام: تأليف عبد الوهاب النجار» أن خيبر مدينة تبعد عن «المدينة المنورة» نحو ميل في شمالها الغربي. كان سكانها من أشجع اليهود وأقواهم شوكة، كما كانوا من أشد الناس إيذاءً لرسول الله، فكان سيدهم أبو رافع بن أبي الحقيق من ألد أعدائه ، وكان هو وكعب بن الأشراف في إيذاء رسول الله كفرسي رهان. فلما استشرى شره أرسل رسول الله، عبد الله بن عتيك الخزرجي، فاحتال له واقتحم عليه حصنه وقتله بين ولده وأهله ليكفي رسول الله شره. ولما قتل أبو رافع ألقى اليهود بمقاليد الرياسة فيهم لأسير بن رزام. وقد قتل أصحاب الرسول «أسيرًا» هذا لمحاولته الغدر: وكان ذلك في السنة السادسة من الهجرة.

ويقول الكتاب نفسه: «إن لليهود في كل زمان ومكان شهرة بالثروة ووفرة المال والكسب؛ لهذا رغب المخلفون من الأعراب الذين تخلفوا عن الحديبية أن يعرضوا أنفسهم على رسول الله يريدون الخروج معه لقتال أهل خيبر رجاء أن يصيبوا من متاع الحياة الدنيا ما يسد جشعهم، فقال رسول الله للمتخلفين: أن تخرجوا إلا رغبة في الجهاد. أما الغنيمة فلا أعطيكم منها شيئًا. ثم سار الجيش «الإسلامي» حتى نزل على خيبر، والقوم «اليهود» غارون لا يعلمون بنزوله، وحاصرهم المسلمون وافتتحوها حصنًا حصنًا إلا حصنين منها. وقد أبلى علي بن أبي طالب وغيره من المسلمين بلاءً حسنًا، وقتل من المسلمين خمسة عشر رجلًا، ومن اليهود ثلاثة وتسعون. وقد انتهى أمر من كانوا بالحصنين بالتسليم طالبين حقن دمائهم، وأن يخرجوا من أرض خيبر بذراريهم، ولا يصطحب الواحد منهم إلا ثوبًا واحدًا على ظهره، فأجابهم رسول الله إلى ذلك. وهذه عاقبة البغي الوبيل.

وبعد أن أتم الفتح رأى رسول الله أن يقر أهل خيبر في بلدهم ويترك الأرض في أيديهم يزرعونها بشطر ما يخرج منها؛ إذ قالوا: نحن أعلم بها منكم وأعمر لها، فصالحهم على ذلك وعلى أنه إذا شاء أخرجهم. وقد حدث أن بلالًا استبى، فيمن استبى المسلمون في خيبر، امرأتين هما صفية بنت حيي بن أخطب وأخرى معها، فلما مر بهما على قتلى يهود صرخت المرأة وأعولت وحثت التراب على وجهها، فقال رسول الله: أغربوا عني هذه الشيطانة، وأخذ «صفية» خلف ظهره، فكانت «صفية» من المغنم، ولام بلالًا على مروره بالمرأتين على قتلى قومهما وقال له: «نزعت منك الرحمة يا بلال؟ تمر بالمرأتين على قتلى قومهما!»»

نتائج غزوة خيبر

وقد استعقب فتح خيبر صلح يهود فدك وتيماء ووادي القرى، وانتهى الأمر ببقاء الأرض في أيدي سكانها بشطر ما يجتمع منها على نحو ما كان بخيبر، واختصاص رسول الله بملك أرض فنزلها، كما أن المسلمين قد أمنوا شر اليهود.

أي إنه كان من أثر غزوة خيبر القضاء على قوة اليهود الاقتصادية والسياسية والدينية في البلاد الحجازية، وانقطاع الخصومة بينهم وبين المسلمين. وبقي قليل من اليهود في مصر، وهم من بني قينقاع الحجاز، مطمئنين كما ورد في سيرة ابن هشام و«المغازي» للواقدي. ولعل مما ساعد على إقامتهم مهارتهم الصناعية والحسابية، وفي الجزء الثاني من تاريخ الخميس ص١٥٦، أنه لما توفي عبد الله بن أبيٍّ بكى عليه اليهود، ووقف النبي محمد على قبره وعزى ابنه وألبسه قميصه. ويقول البلاذري: إن الرسول صالح أهل مقنا اليهود وبني حبيبة «أو حنينة» على ربع عروكهم أخشبهم وغزولهم وربع كراعهم وثمارهم.

وعند الواقدي (ص٢٧١) أن عمر أجلى آل الحاراث أبي زينب المشهورين إلى أريحاء بأرض فلسطين. فأما الأسر التي كانت لها معاهدات مع الرسول فقد أقرها عمر وبقيت الأغلبية لليهود في وادي القرى إلى القرن الحادي عشر الميلادي، وبقيت منهم طوائف تيماء في القرن الثاني عشر الميلادي. ثم انعدم وجودهم في الحجاز بهجرتهم وإسلامهم أو اندماجهم في الأعراب.

أما في بلاد اليمن وفي جهات مختلفة من الجزيرة العربية فلا تزال لهم طوائف إلى اليوم.

اليهود في اليمن

لم تعتمد الدعوة اليهودية الدينية في اليمن على العصبية اليهودية التي ظهرت في البلاد العربية الحجازية. بل إن سكانًا في اليمن منهم ملوك حمير اتخذوا الموسوية دينًا ثم انضم إليهم مهاجرون من يهود شمالي شبه الجزيرة العربية، نافرين من الرهبان المسيحيين والنجرانيين والحبشيين؛ لأنهم جميعًا كانوا أداة في يد ملوك القسطنطينية لنشر النصرانية والقضاء على الموسوية، ويبدو أن الموسوية ظهرت في اليمن قليلًا قبل المسيحية والإسلام، ثم زادت تبعًا لانتشارها شيئًا فشيئًا في سوريا والبلاد العربية.

سيل العرم

يقول جلازر: إن منقوشات يمنية تدل على أن سيل العرم لم يحدث في مرة واحدة، بل في مرات عديدة، وأنه كان نتيجة إهمال شديد لهذا السد العظيم وليس نتيجة أحداث الطبيعة من الأمطار والسيول ونحوها، وهناك من ينكر وجود سيل العرم هذا.

أما سيل العرم الأول فقد حدث في ٤٤٧ ميلادية، واستمر إلى ٤٥٠، وكان من أثره هجرة الكثير من البطون الأزدية، وقبائل الأوس والخزرج إلى يثرب وحواليها.

يقول صاحب الأغاني في ص٩٦ جزء ١٩: «فلما توجه الأوس والخزرج نزلوا في حرار ثم تفرقوا …» ويقول السمهودي في خلاصة الوفاء ص٨٣: «وقد وجد الأوس والخزرج الأموال والآطام بأيدي اليهود والعدد والقوة معهم، فتحالفوا وتعاملوا معهم، ولم يزالوا كذلك زمانًا طويلًا، وأثرت الأوس والخزرج.»

وقد لبثت البطون العربية عصورًا طويلة على موالاة اليهود إلى أن أوعزت الدولة الرومانية إلى ملوك بني غسان بإثارة الفتن ضد اليهود، وعند العالمين فيلهاوزن وفوشتنفلد تعقيبًا على «السمهودي» أن الكفاح بين النصرانية واليهودية في بلاد الحجاز كان عنيفًا.

حروب اليهود قبل الإسلام

يشتهر بين اليهود، كاتب يهودي ملحوظ اسمه «فلافيوس جوزيفاس»، ولد في ٣٧م، وزار روما في سنة ٦٣م كمندوب إلى نيرو. وقد عين حاكمًا على الجليل حين نشبت الحرب مع روما، وبعد الهزيمة اعتقل ثم حارب مع الرومان عند القدس في عهد طيطوس في سنة ٧٠م، وبعد أن منحه فسبيان لقب مواطن روماني مات في القرن الثاني. وقد رماه الألمان والناقدون بالتناقض والذبذبة ووهن الخلق. غير أن مواهبه ككاتب مؤرخ معترف بها، ومنذ أخرج كتابه «حروب اليهود» طبعت منه طبعات عديدة في الكثير من اللغات. والكتاب في سبعة كتب استغرقت ٤٨٣ صفحة تحدث في الكتاب الأول عن ما حدث في المدة التي ابتدأت منذ استولى على القدس أنتيوكوس إيبيفانز إلى وفاة هيرود العظيم. وهي فترة من الزمن لبثت ١٦٠ سنة. أما الكتاب الثاني فيتحدث عن مدة التسع والستين سنة، التي تبدأ منذ وفاة هيرود إلى تولي فيسبيان، حين أوفده نيرو لإخضاع اليهود، أما الكتاب الثالث فيتناول مدة سنة تقريبًا؛ أي منذ حضور فيسبيان لإخضاع اليهود إلى الاستيلاء على جامالا. أما الكتاب الرابع فيعرض عن مدة سنة تقريبًا للفترة منذ حصار جامالا إلى حضور طيطوس لحصار القدس. أما الكتاب الخامس فيبسط ما حدث في فترة قدرها ستة أشهر؛ أي منذ حضور طيطوس إلى الحد الأدنى الذي أرغم عليه اليهود على النزول إليه، وأما الكتاب السادس فيتحدث عن شهر تقريبًا منذ النزول إلى استيلاء طيطوس على القدس. أما الكتاب السابع فيتحدث عن ثلاث سنوات منذ الاستيلاء إلى فتنة اليهود في سيرين.

في عهد الدولة الإسلامية

كان من أثر اضطهاد المسيحيين — خاصة الدولة الرومانية — لليهود أن رحبوا بقيام الدولة الإسلامية خاصة في إسبانيا، على مقربة من أوروبا المسيحية الطاغية؛ لأن الحكومات الإسلامية قد جنحت إلى التسامح مع غير المسلمين، بل إن هذه الحكومات قد استخدمت من اليهود والنصارى الكثيرين، وظفروا بالمناصب العالية والنفوذ الواسع.

غير أنه في الإمبراطورية الكارلوفيجينية وفي إنجلترا وبعض إسبانيا المسيحية، كان اليهود يعاملون بشيء من العدل نظرًا للحاجة إليهم في الشئون التجارية، التي وإن كانت تعد حرفة غير شريفة، غير أنها كانت أدعى إلى الكسب من مهنتي الجندية والدين، اللتين كانتا أشرف المهن يومئذ.

على أن تدهور الدولة الإسلامية في بغداد وقرطبة قد أفضى إلى اضطهاد الحكام الطغاة المسلمين خاصة غير العرب، لليهود وأمثالهم.

كذلك كان من أثر الحروب الصليبية، أن قام المسيحيون المتعصبون بالمذابح في أحياء اليهود؛ مما حملهم على وقف نشاطهم على الاشتغال بتسليف النقود والتجارة الصغيرة، خاصة حين شاع اتهام اليهود بأنهم يذبحون أولاد المسيحيين.

على أنه وسط الاضطهاد المشار إليه، كان هناك بين اليهود من يعدون أنفسهم أسمى وأرقى من جيرانهم من ناحية أنهم موحدون للإله، ومنكرون لكل عبادة للأصنام وما يماثلها، وأن دينهم يدعو إلى الأخوة والكرم والبر وإلغاء العبودية والتعليم العام والنظافة والطهر كغسل اليديد عند تناول الطعام، كما أنه كان بين الأمراء المسيحيين من لم يكن يعرف كتابة اسمه (راجع كتاب تاريخ اليهود تأليف بون جودمان ص١٠٥ وما قبلها وما بعدها).

وقد كان الكاهن أو القسيس اليهودي Rabbi يعلم الناس بالمجان، وكان المعبد اليهودي مدرسة، وهذا منذ كان واجبًا تعلم التوراة، وكان ما يتناوله المعوز اليهودي لا يعد صدقة بل حقًّا، وكان اليهودي — مهما حقر مركزه — يعد ضيفًا حين ينزل بدار يهودي آخر ليس بينهما تعارف، وكان اليهود يدفع بعضهم عن بعضهم الآخر الفدية إذا ما أسر أناس منهم.

وكان من جراء تقييد إقامة اليهود في حي واحد، أن أصبحوا داخل هذا الحي كالأسرة الواحدة، يعمل كل فرد منها لمصلحة أفرادها دون أن يحفلوا بالشئون العامة؛ إذ كان محرمًا عليهم التعرض لها والخوض فيها.

وكان لليهود داخل أحيائهم «فُهْر»، بضم فسكون، وهو موضع مدراس اليهود يجتمعون فيه للصلاة، قال أبو عبيد: هي كلمة نبطية أو عبرانية وأصلها بهر فعربت بالفاء.

وكان يهود الحبشة يسموَّنْ الفلاشة من كلمة فلاس الحبشية، ومعناها غريب، وعددهم بين ١٠٠ ألف و١٥٠ ألفًا سمر البشرة إلى سواد في عزلة في قرى خاصة، وكان عليهم ملك سقط ملكه في سنة ١٨٨٠م، وهم يدعون النسب إلى داود، ويحترفون الزراعة والنسيج والفخار والحدادة والبناء. وهم ذوو أنفة، لا يتزوجون من غير جنسهم، متدينون، يصومون يومين في الأسبوع وأربعين يومًا قبل عيد الفصح، ويحافظون على يوم السبت، والحكم عندهم بثبوت زنا المرأة حكم عليها بأن تمشي عارية على نار مشبوبة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤