مقدمة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

والحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد، فإنَّ الباحث في شئون العمران، والمنقِّبَ عن أسباب سعادة الإنسان، لا يكادُ يُمعن بصره في شيءٍ يُذكَرُ، أو يُجيلُ فكره في أيِّ عملٍ من الأعمالِ الجليلةِ النَّافعةِ، إلَّا رأى فيه يدًا ظَاهرةً للأُدَبَاءِ والشُّعراء، وأصحاب الهيمنة على المشاعر والقلوب؛ ذلك بما لهم من السَّعي المحمود، والقصد المشهود؛ فهم قادة الأفكار، وأُمراءُ الأقلام.

أجل، بل هم رُسُلُ التَّعارُفِ بين الأمم، وألسنة الوداد بين الشُّعوب، بما يُؤلِّفُون به بين القلوبِ من نفثات أقلامهم، وما يُودعون الألباب من حِكم منظومهم، ومُحكَم منثورهم.

ولمَّا كان الإنسان مدنيًّا بطبعه، مُحتاجًا لأخيه في شدِّ أزره، وتقوية عضده؛ فكَّر في تنظيم الاجتماع والتعاوُن، وبثِّ العُلومِ والمعارفِ؛ لتقوى الجامعة الإنسانية، وترسخ دعائم حضارات الأمم. فأخذت كل أمة على عاتقها القيام بشيءٍ من هذه المنافع على قدر استعدادها، والعمل على ما يصلُ إليه جهدها. والمرء إذا رجع إلى تاريخ الاجتماع وجده حافلًا بما للأُمَمِ الشَّرقية من الأيادي البيضاء على الإنسانية جمعاء، بما نشرت من معارفها، وأتقنت من صناعتها، وأكملت من مدنيتها، وأوسعت في حضارتها، وأبقت على الدهر من آثار قوتها.

نعم، قد كان أولئك الآباء والأجداد رُوَّاد حكمةٍ، وناشري فضيلةٍ، لا يكتفون بنشر العلم فيما بينهم، بل كان الواحد منهم إذا ظهرت له الحكمة، أو واتته المعرفة بشيءٍ يَخشَى فوات نشره لتعميم فائدته؛ سابَق الأجلَ فرسمه على الصَّخر والحجر، ليبقى عِبرة أو تَذْكِرة لمن شاء أن يتذكَّر فيفعل، ومثالًا يُحتذى في إكمال كلِّ عمل.

أولئك الآباء الشرقيون أصحابُ الهِمَمِ العالية، والمقامات السَّامية، قد جعلوا الشرق بهمتهم العلياء، وعِزَّتهم القعساء، جنَّات زاهية، قطوفها دانية، بما أودعوه من بديع المدنيات، وجليل المآثر والعادات، حتَّى تمنَّى كثيرٌ من رجالات الغرب وفلاسفته أن يكون مُستقبل أُمَمِهِم كماضي أولئك الأمجاد:

أُولئِكَ آبائِي فجِئنِي بمثلهم
إذا جمعتنا يا جريرُ المجامعُ
يقول لويس جاكوليو:

آه، ما أسعدني إذا صار ماضي الهند مستقبل فرنسا!

ويقول فولتير الفيلسوف الفرنسي:
قد كان للصين إسطرلابات «مراصد للفلك» قبل أن نعرف الكتابة والقراءة.١

وقِس على مدنيتي الهند والصين ما يُماثلهما أو يفوقهما من المدنية البابلية والفينيقية والمصرية، وما خُتِمَ به كل مدنيات الشرق من المدنية العربية، فقد غَشِي سيلُها الأرضَ الغربية فأحياها بعد موتها، فاهتزَّت وَرَبَتْ وأنبتتْ من كل زوجٍ بهيجٍ.

أجل، قد بعث العرب بمدنيتهم أمم الغرب من أجداثها، وسيئ مراقدها، وطول سُباتها.

نعم، أخذت أمم الغرب عن العرب مدنيتها، واسترشدت بإرشادها، واهتدت بهديها؛ فسرعان ما برزت في ميادين الحضارة، وحازت قصب السبق من يد أساتذتها.٢ وهذا نتيجة جدها في العمل، وإقبالها على نافع العلم. فالشرقيون الآن على بَكْرَة أبيهم أعقُّ خَلَفٍ لأكرم سَلَفٍ؛ لما أَضَاعُوا من تُراثِ الآباء، ومَا زالوا ينحدرون من مكانتهم، وينزلون عن رفعتهم حتى غُلِبوا على أمرهم، وأصبحوا نهبًا مُقسَّمًا فيما بينها، فاستبدَّت بهم، ومنعتهم ثمرة جد آبائهم، وجهد أجدادهم، بما ألقت بينهم من تفريق الكلمة، وإيقاع الفتن والدسائس.

عندئذٍ أخذ اليأسُ يتسرَّبُ إلى أفئدتهم، والقنوطُ يحطُّ رِحاله بين ربوعهم، ويغشى مجامعهم ودور سمرهم.

لولا أنَّ الله — جلَت حكمته — قد تداركهم في حيرتهم، فأراهم بصيصًا من نور الأجداد، ووميضًا من برق الآمال، فأخذوا يبحثون عن ذاك التراث القديم، ويُنقِّبُون عن أسباب الوصول إليه، فكان في طليعتهم أدباء الكُتاب والشعراء على جاري عادتهم، فرأوا أنَّ خير سبيلٍ مُوصِّلٍ إلى الغايةِ المنشودةِ إنَّما هو تعارُف الأمم الشرقية بعضها ببعضٍ، وإحكام الصِّلاتِ بين شُعوبِها، وإذاعة فضلها بين رجال الغرب؛ فكان لعملهم هذا فائدةٌ تُذكَرُ فتُشكَرُ، وآثارٌ تُعرَفُ فلا تُنكَرُ.

وليس بِدعًا أن كان في مُقدِّمَةِ الأمم الشرقية في هذه الحلبة: الأُمَّتانِ السُّورية والمصرية؛ فقد عرفتا حقَّ الجوارِ وواجب الأُخوة في اللسان، فأخذتا تتقاربان، وتضعُ كلتاهما يدها في يدِ الأُخرى، حتَّى نطق شاعرهم بما في مكنونِ ضمائرهم فقال:

لمِصْرَ أَم لِرُبوعِ الشَّامِ تَنتَسِبُ
هُنَا العُلَى وهُناكَ المَجدُ والحَسَبُ

إلى أن قال:

هذي يدي عن بني مصرَ تُصافِحُكُم
فَصَافِحُوهَا تُصافِح نَفسها العربُ

فتعاونتا على البِرِّ والتقوى، وتصادقتا على تكريم رجال العلم والحكمة في أشخاص رجال الأدب والهمة.

وأنت إذا أبصرت ما يحصل من أبناء أحد القُطرين الشقيقين، والبلدين التَّوءمين، من التَّجِلَّة ومآدب الحفاوة والإكرام إذ نزل دار الضيافة أميرٌ من الأُمراءِ في القُطرين، أو أديبٌ من الأُدَبَاءِ في البلدين، للسِّياحة وترويح الخاطر؛ ملكك العجبُ، وعَلِمتَ هِمَّةَ العربِ، وأيقنتَ أنَّ هذا الشبل من ذاك الأسد.

فقد زار نيويورك منذ أمدٍ غير بعيدٍ صاحب السمو، الأمير محمد علي، فقابلته الجالية السورية في مهجرها بما يليقُ بمكانته السَّامية من التَّجِلَّة والإكبار، ومن الإجلال والإعظام، وكذلك فعل المصريون مثل هذا عند زيارة الأمير شكيب أرسلان لمصر، ثمَّ احتفل السوريون بحافظ إبراهيم، والمصريون بخليل مطران. وآخر ما شهدنا من هذا القبيل ما قامت به الجاليات السورية وكِرام المصريين يوم قَدِمَ هذا القُطر الفيلسوف الفذ أمين الريحاني؛ فقد كرموا العلم في شخصه، وقووا رابطة الإخاء بين السوريين والمصريين بما سارعوا إليه من الاعتراف بفضله، وتقديره حقَّ قدره.

ولا عجبَ في هذا؛ فالشرقيون عامَّةً، والسوريون والمصريون خاصةً، أولى بمعرفة الريحاني وفضله، وأحقُّ بإيفائه الشكر على عمله؛ فهو ناشر لواء أدب الشرق في الغرب، ومُظهر فضل فلسفة المعرِّي وغيره من فلاسفة الشرق أمام فلاسفة الغرب، وهو من عقد على رأسه الغربيون أكاليل المجد، ورفعوا له لواء الحمد، فقَومُه بهذا أولى، وعشيرته به أحقُّ وأجدرُ.

فهو رجلُ الأَدبِ وإتقان العمل، وفضله على العلم فضله، ومنزلته في خدمته منزلته.

على أنك واجد في هذا الكتاب من سيرته، وكيفية نشأته، وبليغ حِكَمه، وفصيح خُطبه، ورِقَّةِ أُسلوبه، ما يثلج له صدرك، وتقرُّ به عينك، فيقفك على مكانة الرجل بين لِداته وأترابه، ويُعرِّفك كيف تنشأ همم الرجال، وتتكوَّن مَلَكَاتُ العلم.

هذا وإنَّنا نرى أنَّ ما حصل في هاتيك الحفلات من أفضل مساعي التعاون التي تربط الأمم بعضها ببعض، لا سيما أنَّ أمم الشرق في دور تكوينها الحديث، وتعارفها السياسي والأدبي، وتوثيق المعاهدات، وإِحكام الصلات.

نسألُ اللهَ تعالى أن يُنيلها الأمل، ويُنجح لها العمل. إنَّه حسبي وعليه المُتَّكلُ.

توفيق الرافعي
القاهرة في مارس سنة ١٩٢٢
١  يعني بهذا سَبْق الصينيين في ميادين المدنية والعمران، وبلوغهم غايتها، وتأخُّر الغربيين في باحة الهمجية، ونزولهم إلى وهدتها.
٢  كحفيد ابن رشيد بالأندلس وغيره.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤