رجل … وامرأة!

جلس الرجل في حجرة الانتظار بالمدرسة يُجيل طرفه في قطع الأثاث المبعثرة، وينقل الطرف بين السقف والأرض والحيطان. لم يتغير شيء عما رآه لآخِر مرة منذ أربع سنوات … يومَ كان معلِّمًا في هذه المدرسة …

… هذا النضد الصغير في الزاوية كأنه قطعة من بناء الحجرة، لم يتزحزح أنملةً عن موضعه؛ وهذه الأريكة الكبيرة التي طالما تمدَّد عليها في أوقات فراغه ولوى ذراعَيْه تحت رأسه وسبح في أحلام اليقظان؛ وهذه الصور في أُطرها معلَّقة على الحيطان تطلُّ منها هذه الوجوه الصغيرة في أساريرها مرح الطفولة، وفي عينيها بريق الأمل المتوثِّب؛ لم تزل كذلك في موضعها حيث صفَّفها بيدَيْه قبل سنين، ولكنها زادت عما عهدها طائفةً من الصور في عديد من الأطر؛ لا شك أنها صور الفِرَق التي أتمَّتْ دراستها بالمدرسة منذ فارَقَها …

ودفعه الحنين إلى الماضي؛ فنهض يتأمل صور تلاميذه هؤلاء الذين عاش بينهم شَطْرًا من حياته في منزلة الأب الثاني، ثم فارَقَهم وفارَقوه منذ سنين بعيدة، فَوْجًا بعد فَوْج، إلى حيث لا يدري من فِجَاج الحياة. ما أسرعَ مرَّ السنين! أيُّ هؤلاء التلاميذ يذكره اليومَ وإنه لَيذكرهم فردًا فردًا؟ وأين هو اليومَ منهم وأين هم؟ لعل منهم اليومَ صاحبَ المنصب الرفيع والجاه العريض، وهو ما زال حيث تركوه في منصبه وجاهه، تتقاذفه المقادير من قرية كبيرة إلى مدينة صغيرة، ولكنه في موضعه من الحياة حيث كان: معلِّم أطفال! ذلك مكانه على الحقيقة مهما تقلَّبت به الأمكنة والأزمان!

ووقف بإزاء صورة من عديد الصور المعلَّقة، فلم ينتقل عنها ولم يخفضْ بصره؛ لقد ألمَّتْ برأسه ذكريات من الماضي، ذكريات حية لم يزل قلبه بدمها ينزف. وحدَّق في الصورة طويلًا تحديقَ العانس في المرآة تنعى الشبابَ وتتهم الزمن … منذ ثماني سنوات حين دُعِي ليجلس بين تلاميذه في هذه الصورة، كان شخصًا آخَر غير الشخص الذي يعيش اليوم … لقد كان يومئذٍ يعيش في دنيا من الأحلام، أحلام الشباب والمرأة والحب، أين هو اليومَ مما كان؟ أما الشباب فقد عرَقَتْه أحداثُ الزمن، وأما الحبُّ فقد دفنه هناك ولفَّه في أكفان اليأس والخيبة، وأما المرأة …

وانقطعت سبيبة الذكرى حين أقبل عليه ضابط المدرسة يهزُّ في يده عصًا ويتبعه غلام. إنه ولده … لقد فارَقَ هذه المدرسة منذ سنين ولكنَّ بِضعةً منه لم تزل ثمة … ليته لم يكن أبًا … إذن لَاستراح من ذلك الماضي كله فلم يذكره ولم يأسَ على شيء مما ناله فيه من الخزي والندامة، ومن الأحزان والآلام … ودمعت عيناه حين أهلَّ الصبي وراء الضابط وعلى شفتَيْه ابتسامته، وبسط الرجل ذراعَيْه يستقبل ولده ومال عليه يقبِّله في لهفة وشوق، وفي حسرة وأسًى … وطأطأ الغلام رأسه يعبث بأزرار معطف أبيه ويداعب سلسلته، وسبح أبوه في ذكرياته ينشرها ويطويها …

•••

… أما هي …

لقد كان يحبها أعنفَ الحب وأرقَّه، ولم يكن يتمنى من دنياه إلا أن يظفر بها زوجًا يُصفيها الحب ويُخلص لها الوداد، وقد ظفر بها ونالها، فأين هو اليومَ مما كان يأمل من سعادة؟ لقد أفلتها فلم يبقَ بين يديه من تلك المُنَى الساحرة غير لمحة ضئيلة يراها في عينَيْ هذا الغلام …

وعاد إلى الماضي يسترجع ساعاته ولياليه، ويحصي على الزمن سيئاته وأياديه. لقد عرفها فتاةً في بعض الملاعب العامة مع أخيها الصغير، فعطفه عليها دل متواضع وكبرياء تبتسم، وأحبها منذ ذلك اليوم وراح يعيش في وهم الأماني … واستطاع أن يُلفتها إليه ويدعوها إلى الاهتمام بأمره … ومدت إليه خيط الرجاء فتعلَّق، ومضت الأيام تقرِّب بينهما وتُدني نفسًا إلى نفس حتى أشعرتهما أنها كل شيء في حياته وأنه كل شيء في حياتها، وشاطرته سعادة الأمل، وأخذ يُعِد العدَّة للأمر العظيم يوم تكون زوجَه، واستَبَقَا الأوان فمنحته من ودها على غفلةِ الأهل أشياءَ في إباء الراغب ورغبة المتأبِّي. ولم تكن أيام المواصَلة على وتيرة؛ فيومًا دلال، ويومًا عتاب، ويومًا يكون الرقيب دون ما تريد ويريد …

وهكذا راح الزمن يُذكي في صدرَيْهما لواعجَ الشوق ويُضرِم لهيب الوَجْد أربعَ سنين متوالية، بين لهفة وشوق وأمل. ثم زُفَّت إليه …

لقد شعر يومئذٍ أن الدهر أتمَّ عليه نعمتَه وأسبغ عارفته، ولكنه أعطاها مقادته من اليوم الأول، ولم يتلقَّها إلا بتقديس وعبادة، وظلَّ بعدها في العبادة والتقديس! وإنها لَتحبُّ السيطرة والسلطان، بعض ما في دمها من طِباع التُّرك، وإن فيه لَطراوةً ولِينًا من ضَعْف العاشق الذليل؛ فأخذت تُملِي عليه إرادتها فيسمع، وتستثيره فيذل ويخنع. وكانت تأمل أن تجد فيه سيدها، ولكنه ما زال يختضع لها حتى أنِفَتْ لها نفسها أن تكون سيدته …! وخاب أملها في الرجل الذي قدَّرت أن يكون، فراحت تستنهض رجولته بما تنتقص من سلطانه، وإنها لَتتمنَّى أن يعاصيها ويتمرَّد على إرادتها فتشعر به زوجًا كما أمَّلَتْ. ولم يجد هو عندها ما يأمل من حنان الزوجة وعطف الحبيبة، فراح يستجديها الحب بما يستخذي لها ويتلاشى نفسًا في نفس، وأطال الركوع بين يديها والسجود عند أطراف ثوبها كما صوَّر له بلاء الحب …

وتطاولت، وما زالت تتطاول، حتى جاوزته طولًا وعرضًا، وتصاغر، وما زال يتصاغر، حتى لم يَعُد في عينيها شيئًا يُذكَر، لا في وهم الحب ولا في حقيقة البشرية …

واستشعرت لذةَ الإمارة حين فقدت لذةَ الاستسلام، ولم يشقَّ عليها أن تبلغ من السلطان ما أرادت، فلم تلبث أن وجدت نفسها الآمِرةَ المطاعة في مملكتها، وتعبَّد لها السيدُ فراحت تُسرِف فيما تأمر وما تنهى، وتبالغ في مَطالبها، لا تقف عند حد ولا تنتهي إلى غاية …

•••

… وعاد الزوجان من المصيف؛ أما هو فعاد فارغَ الجيب ممتلئ النفس، يتوزَّعه الشك والقلق وسوء الظن بنفسه وبالناس؛ وأما هي فعادت فارغةَ القلب راضيةَ النفس، قد عرفت فنونًا من الحياة وألوانًا من السعادة وضروبًا من النعيم لم تكن تخطر لها قبل اليوم على بال؛ وصار همها من دنياها ثوبًا جديدًا تختال به على صواحباتها، أو ليلةً ساهرة تلتمس فيها متاع القلب والنظر، أو سَفْرةً إلى هنا أو هنالك تجتلي من مَشاهِدها أُنسًا وبهجة … ولم يكن يضنُّ عليها بشيء …

ونسيت تدبير البيت، وشئون الزوج، فكانت تقضي نهارَها زائرةً أو طائفة بالمعارض والملاعب ودُورِ اللهو، وأخذت تنفلت من قيودها شيئًا بعد شيء، حتى اطمأنَّت إلى حريتها كاملة حيث تغدو وحيث تروح، وحيث تنفق من وقتها ما تشاء في الليل أو في النهار!

وألِفَ الرجل أن يعود إلى داره في النهار أو في الليل فلا يجد زوجته ثمة، ولا أحد غير الخادم تخلع عنه ملابسه وتهيئ له طعامه؛ ولم يكن ذلك ليسوءه كثيرًا، فحسبُه من الزوج الحبيبة أنها سعيدة هانئة، وأنه يستيقظ في الصباح على نغماتٍ من صوتها النديِّ الرقيق، ويمسي ووجهها آخِر ما يراه من دنيا اليقظة … واستمرت الكُرة تتدحرج مُبعدة عن منال يمينه …

وعاد ليلةً إلى داره متعبًا مكدودًا يلتمس شيئًا من أسباب الراحة، ودقَّ الباب فلم يُجِبه مجيب، وعاوَد الدقَّ فلم يجد غيرَ الصدى يرنُّ ثم يتلاشى في مثل ضحكة ساخرة من فم امرأة …

«تُرى أين ذهبت الخادمُ الساعةَ؟»

كذلك سأل نفسه، ولم يسأل: «أين زوجه الآن؟» فلعل ذلك لم يكن يعنيه بقدر ما يعنيه أن يجد باب الدار مفتوحًا! لقد تعوَّدت زوجه ما تعوَّدت، وتعوَّد منها ما تعوَّد حتى لا يكاد يكون لها شأن في الدار إلا أن تأكل وتنام. لقد اصطلحا على أن هذه الدار ليست لهما إلا «فندقًا خاصًّا» يجدان فيه من الطعام وراحة الجسد ولذَّة الغزل ما لا يتهيأ لهما مثله في «فندق» آخر؛ ولكن فندقهما هذا ليس له اليومَ خادمٌ ولا بوَّاب …! أليس لهذا المسكين على امرأته مثلُ حقِّ الأزواج على الزوجات، أو مثلُ حقِّ النزلاء على مدير الفندق؟!

وأخذ الرجل يَذْرَعُ الطريق غاديًا رائحًا، ويداه معقودتان خلف ظهره، ورأسه إلى الأرض لا يرفعه إلا لمحة بعد لمحة ليمدَّ بصره إلى أول الطريق …

ورآها مُقبِلة في سِرب من رفيقاتها تهتزُّ أعطافهن في فتنة وإغراء، ويتهانفْنَ في الحديث عابثات، ورأته زوجُه فأسرعت إليه قائلة: «أنت هنا؟» ولم تَزِد، وسبقته إلى الباب، وانصرف صواحبها. وقال لها وقد اطمأنَّ بهما المكان: «لقد انتظرت طويلًا … أين الخادم؟»

قالت: «أوه! ألم أُنبِئك منذ أمس …؟ لقد ذهبت إلى أهلها، ومن أجلك عدتُ مبكرة!»

قال منكرًا وقد رسم الاستياء خطَّين على جبينه: «مبكرة؟!»

ومالت عليه فطوَّقته بذراعها، وراحت أصابعها تعبث في شعره، وانطبعت على شفتيها ابتسامة فاتنة. فانبسط الرجل من عبوس، وذاب غضبه في حرارة صدرها الدافئ …

… وتتابعت أيامهما من بعدُ بين غضب ورضًا، فقد بدأ الرجل يحسُّ أن له على امرأته حقًّا … وأدركت المرأة أن زوجها يحاول أن يعود رجلًا وأن يبسط عليها سلطانه، ولكن بعد أن عرفت من أين تناله وكيف تغلبه على إرادته. ومضى عام، وزادت الأسرة ثالثًا … هذا الغلام يعبث بأزرار معطف أبيه …!

•••

… ودق الجرس في فناء المدرسة، فأفلت الغلام من بين يدي أبيه إلى الصف سريعًا، وخلَّف أباه وحده يسترجع ذكرياته …

تُرى أين هي الآن؟ إنه لم يزل يحبها، ولكنه قد فارَقَها، أو لعلها هي التي قد فارَقَته …!

وآلمته الذِّكرى، ومدَّ يده إلى جيبه فأخرج من علبته دخينة أشعلها واعتمد على حافة المقعد بذراعٍ وأسند رأسه إلى راحته، وزفر زفرة، وتلوَّت ثعابينُ الدخان صاعدةً أمامَ عينيه تُخيل له ما تخيل، وراح يتابع الذكرى …

لقد كافأته زوجه على الحب والطاعة عصيانًا وسخرية …! ليته استطاع أن يكون معها أصلبَ قناة وأغلبَ إرادة، فلعله كان أحبَّ إليها صلبًا غلَّابًا صاحب إرادة وعنفوان!

إنه كان يحبها حبًّا بعيد الأمل، ليس له حدود تحصره في حدود الممكن أو تحبسه في دائرة الحقيقة؛ فلما ظفر بها ضلَّ الطريق إلى السعادة التي كان يتمثَّلها على البعاد حلمًا في النوم وتخيُّلًا في اليقظة، وبين الأحلام والأماني راح يلتمس قلبها فهوى على قدمَيْها!

وحين أراد أن يهيئ لها سعادة الرضا في جواره، لم يعرف كيف يجعل إرادته تسبق إرادتها فيما تشتهي فيمنحها ما تشاء قبل أن تدعوه إليه آمِرةً مُطاعة … فتعوَّدت أن تكون آمِرةً مُطاعة!

ولو أن الحجاب بينهما فيما بين الخِطبة والزفاف لم يكن في حراسة التقاليد لَتفاهم قلباهما على الود الكريم، ووضعا الأساسَ لحياة الغد على غير جُرفٍ هارٍ من الوهم والخيال!

هل كان يعلم يومئذٍ أن الرجل ينزل منزلته من نفس المرأة بسلطانه وغلبة إرادته، لا بالتذلل والطاعة وشكوى تباريح الهوى؟

… وعاشرته بضع سنين تعيش معه في البيت كضيفٍ على ميعاد، وكان حظُّ صديقاتها وأصدقائها منها أكثر من حظه، فربما قضى الساعات في البيت وحيدًا وهي هناك، تتنقل زائرةً من دار إلى دار، فلم تكن تلزم دارَها إلا يومًا واحدًا في كل أسبوع تستقبل فيه ضيوفها …

… ومضت على وجهها والرجل في غفلته …

وفجأه المرض في المصيف واشتدت به العِلَّة، ونصحه الطبيب أن يعود … أفتعود زوجُه من المصيف ولم يمضِ من الصيف إلا أيام، وليس في العام المديد إلا صيف واحد … كل اثنَيْ عشر شهرًا …؟ ما أغلظ كبده لو أنه ألحَّ عليها في العودة معه قبل أن تنال قسطها من متاع الروح والجسد …!

… وخلَّفها على الشاطئ العريان في حراسة الشيطان، تداعب أمواجًا في البر وأمواجًا في البحر، ثم عادت إليه حين حلا لها أن تعود … على أنها قد عادت يومئذٍ أكثر علمًا بالحياة، وكأنما صنعتها هذه الفترةُ التي قضتها وحيدةً في المصيف صنعةً جديدة، فلم تهنأ لها الحياة على ما تعوَّدتْ من قبل، وحالت ابتسامتها عبوسًا ورضاها سخطًا، ولم يَعُد يَعنِيها كثيرًا أن تتحبَّب إلى رجلها حين يطلُّ من عينيه شيطانُه، فقد كان شيطانها أقوى وأغلب …!

وتهامس الناس عن رجل وامرأة، ورفت على الشفاه بسمات، وتحيَّرت في العيون نظرات، وتحدَّث جارٌ من النافذة إلى جاره. وبلغه النبأ أخيرًا، وأفاق من وهم الحب وهو على شفير الهاوية، وتراءى له في أعماق الهوَّة التي تحت قدمَيْه خيالُ رجلٍ وامرأة وغلام!

… واستعاد رجولته ولكن بعد أن فقد مَن يأتمر بأمره، وفارَقَها في صمتٍ عَيُوفًا أبيًّا، ولكنه خلَّف قلبه هناك … تحت وسادتها وبين الحشايا …!

وتم له ما دبَّر، ونُقِل من المدرسة التي كان يعمل فيها؛ ليفارِق البلد الذي دفن فيه الشباب والحب والأمل، وتركها وولدها وراح ينشد العزاء وحيدًا بعيدًا، وقد أقسم أن يعيش حياته وحيدًا بعيدًا لا تساكنه امرأةٌ في دار، ولا تشاركه في فراش!

ومضت سنوات، وها هو ذا يعود ليأخذ ولدَه يعيش في حضانته؛ لقد كان يأبى حتى هذه اللحظة أن ينتزع منها ولدَها على كُرْه؛ إبقاءً على الماضي الذي كان … يا ويحه! كم ذا يعاني العاشق من ألوان المَذلَّة حين يتنازعه عقله ووجدانه …! ها هي ذي تدعوه ليأخذ ولدَه راضية؛ لكأنما كرهت أن يكون ولدُها معها نميمةً تدلُّ أصدقاءها على أنها أُم …!

•••

وصلصل الجرس في المدرسة مرةً ثانية وما يزال الأب غريقًا يغالب موجات الذكرى الطاغية في يأس العاشق الوفيِّ جُوزِيَ بحبه ووفائه غَدرًا وخيانة!

– «تعال يا بني! إنني أنا أبوك!»

وضمَّه إلى صدره واغرورقت عيناه، ولمحه زميلٌ قديم من زملائه في المدرسة وهو يوشك أن يغادر البابَ وفي يده غلامه، وناداه زميله فتمهَّل، وكأنما عثر الزميلُ القديم بكنزٍ حين لقي صديقه، فهز يده بعنف وعلى شفتَيْه ابتسامةُ رضًا، وكان في عينيه سرٌّ تهمَّان أن تبوحا به وهو يقول: «أفلا تسأل عن أصدقائك بعد طول الغياب؟!»

قال الرجل وكأنما يتحدث إلى نفسه: «أراك بخير!» ولم يَدْرِ ماذا قال؛ لأنه لم يكن يعني ما قال …

قال زميله: «فإنني سعيد برؤيتك اليوم … وستظل معي اليومَ وغدًا، أليس كذلك …؟ إن موعد زواجي غدًا … كأنما كان حضورك لميعاد!»

وعبس الرجل وسكت، وعاد ماضيه يتراءى له، ماضيه يوم كان عروسًا يتهيأ للزفاف ليس بينه وبين الموعد إلا ساعات، وخُيِّل إليه أن صورة ذلك الماضي تتراءى له الساعةَ في عينَيْ صديقه القديم. إن على شفتيه ابتسامةَ الأمل، أفليس يدري على أي هول يُقبِل …؟ إنه سيتزوج، ستكون له امرأة، لعله يحبها، ولعلها هي أيضًا … ولكن ماذا وراء ذلك؟ أفيعرف زميله القديم ما وراء غده؟!

وطال صمته، ويد صديقه في يده، وفي يده الأخرى ولده؛ بقية ذلك الماضي. في إحدى يديه تاريخٌ يبدأ، وفي اليد الأخرى نهايةُ تاريخ. قصتان أولهما رجلٌ وامرأة، وحب وأمل، وأماني وأوهام … وخاتمة إحدى القصتين هذا الغلامُ الذي يقوده، لا يدري القائدُ ولا المقودُ أين يذهب به صاحبه، فماذا تكون خاتمة القصة الأخرى …؟

وظل صامتًا، وظلت يد صديقه في يده، واسترخت أجفانه فكأنما أخذته إغفاءة، وانحدرت على خده دمعة، واختلجت يداه في يدَيْ رفيقَيْه … وتلاشت الابتسامة على شفتَيْ صاحبه، وانقضبت نفسه، وأحسَّ يدًا تختلج في يده فصاح في لهفة: «ماذا بك؟»

وصحا الحالم من غفوته ولم تزل في رأسه بقيةٌ من الحلم، وأجاب في غير وعي: «لا شيء … كن رجلًا … لا تأسَ على ما يفوتك … هذه هي الدنيا …!»

وأفلتَتْ يدٌ من يد، ومضى على وجهه وخلَّفَ صاحبه حيث كان ولم يزل في يده غلامه …

وهبَّت نسمة فاستيقظ، ومثُلَ ماضيه لعينَيْه ثانية، وتراءت لها صورتها … يا لله …! إنه لم يزل يحبها …!

وأحسَّ كأنما تجاذبه الأرض إلى الوراء … إلى حيث يراها … أَبَعْدَ كلِّ هذا …؟ وشعر أنه يمسك في يده شيئًا، ونظر إلى جانبه فرأى ولده … لقد كاد ينسى … وعادت له من الماضي صورة أخرى، وعاد قلبه فامتلأ حقدًا ومرارةً … وجدَّ في السير، وغلامه في يده يتعثَّر في مشيته لا يكاد يلحقه …

… وتغلَّب على نوازعه، وعرف كيف يكون رجلًا، وكيف يقمع في صدره ذلك الحبَّ الذليل الذي أفسد عليه حياته وأوشك أن يهوي به إلى الهوان والعار … ومضى في طريقه إلى البلد النائي، وكأنما كان يدوس بقدمَيْه قلبه الدامي فيحسُّ وخزًا أليمًا فوق ما تَخِزه الذكرى وتؤلمه …

•••

ومضت الأيام تسدل بينه وبين الماضي حجابَ النسيان وهو يُغالِب هواه ويصارع نفسه، حتى برئ من دائه. وأخذت ذكريات الماضي تتضاءل في رأسه رويدًا رويدًا حتى أوشكت أن تتلاشى، وانقشعت عن عينَيْه غشاوةُ العاطفة التي كانت تغلبه على عقله، وتزيِّن له أن يبيع بالحب كرامةَ الرجل.

وانقضت سنوات أخرى، وأصبح الرجل ذات يوم صحيحًا معافًى. ودقَّ جرس الباب، وانبعث الماضي لعينَيْه ثانيةً حين رأى نفسه وجهًا لوجه أمام المرأة التي كان يحبها أعنف الحب، فعاد يُبغضها أعمقَ البُغض، ويُبغض من أجلها النساءَ جميعًا … ها هي ذي تسعى إليه بعد سنين من القطيعة تُصبحه مبكرة … أمن أجله أم من أجل ولدها …؟

لقد أخفقت فيما كانت تسعى إليه، فلم تظفر بشيء من السعادة التي انطلقت وراء أوهامها وحطَّمت في سبيلها عشَّ الزوجية، وقطعت آصِرة الأمومة. وحالت الثمرةُ التي كانت تتشهَّى حلاوتها مُرَّةً كريهةَ المذاق حين عرفت منزلتها الحقيقية من نفوس المعجَبين بها والمزدلفين إليها من الرجال. لقد انفضُّوا عنها جميعًا بعد أن مَلُّوها، وراح كل منهم يلتمس لحظات سعيدة في غرام جديد أبيٍّ يذوق فيه لذَّةَ الظفر بالمغيب المجهول … وعادت إلى الماضي تستلهمه الرأي حين تنكَّر لها الحاضر، فإذا بقية من العاطفة لم تزل تجاذبها إليه، واستيقظت أمومتها …!

وذكرت في النهاية الرجل الذي كان يحبها، والذي كان يبيع من أجلها كل شيء، فجاءت تسعى إليه معترفةً تائبة … هيهات …!

لقد أضلَّها السراب طويلًا، فلما همَّت أن تعود إلى مناخ الرَّكْب كانت القافلة قد ذهبت في طريقها، فلم تدرك غير الغبار يُقذِي عينَيْها وتتكاءدها عقباتُ الطريق!

واستبطأ الفتى أباه عند الباب فأطلَّ من الشرفة ينظر، ثم ارتدَّ … وأغلق الرجل دونها بابَه وخلَّفها على الطريق، ووقفت بينه وبينها الذكرياتُ المؤلمة عن ماضيها وعن ماضيه؛ لم تؤثِّر فيه دموعُ الندم، ولم يعطفه عليها ما ناشَدته الحب القديم؛ فقد علَّمته من قبلُ كيف يكون بليدَ العاطفة، فبقي معها بليدَ العاطفة؛ وعلَّمته ألَّا يؤمن بالحب، فأثبت لها أنه لا يؤمن بالحب؛ وعلَّمته ألَّا يثق بوعود امرأة، فأكَّد لها أنه أبدًا لا يثق بوعود امرأة …

وحين عادت المسكينةُ امرأةً ذات قلب … عاد المسكينُ رجلًا بلا قلب …!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤