أزمة مصر الحضارية

(١) البحث عن مصر في وعي المصري؟

ما هي صورة مصر في وعي ووجدان أي مصريٍّ مقارنةً بغيرها … أي مقارنة بصورة أي أمة أخرى في وجدان أبنائها؟ كم كنت أتمنَّى أن نُجري استبيانًا بين عدة قطاعات مختلفة من رجال دولة وسياسة ورجال دين ورجال أعمال ومثقَّفين وعامة حول سؤال: ما هي مصر وصورة مصر في ذهنك الآن … مصر الحاضر … والمُستقبل … والماضي. بمَراحله؟ ونسأل أيضًا ما هي صورة اليابان أو الصين أو الهند أو أوروبا … إلخ؟ ذلك لكي نتبيَّن مدى توفُّر صورة مشتركة بين أبناء مصر. أو لنقلْ لكي نتبيَّن مدى الانتماء إلى، أو الانسلاخ عن، صورة مشتركة جامعة لوجدان أبناء المجتمع، وإلى أيِّ حد يضمُّنا مجتمع تُوثِّق أواصره صورة تاريخية ومستقبلية تُعزِّز نسيج التلاحم والحركة، وتُبرر مقولة «النحن» … إذ تصدق هنا رؤية كارل مانهايم:

«يكون وجود المجتمع مُمكنًا لأنَّ أبناءه يَحملون في رءوسهم صورة مشتركة عن هذا المجتمع تاريخًا وحاضرًا ومُستقبَلًا، وبذا نرى العالم وأشياء بعينِها في العالم بطريقة واحدة جمعية.»

ولكن حيث لم نُجرِ مثل هذا الاستبيان، فسوف يكون الحديث كالعادة في إطار نظري مجرَّد … وهنا يتعيَّن الإشارة إلى أن اللغة لها غواياتها وسلطانها وانحيازاتها … والأفكار النظرية المجرَّدة يَهيم معها المرء مقطوع الصلة بحقائق الواقع … ولذلك أرى من الملائم أن أضع بداية التعريفات الإجرائية لكلمات تجري على الألسنة مجرى المُصطلحات وهي ليسَت كذلك … من بينها الحضارة والحداثة والثقافة والآخر وصورة الذات … وستكون هذه التعريفات إحداثيات النظر في المرآة … مرآة الذات ومرآة الآخر، أو الآخر كمرآةٍ أرى فيها ذاتي على نحوٍ نقدي مقارن، أو كما يُقال تحثُّني على تأمُّل ذاتي نقديًّا Critical self-reflexiveness.
الحضارة إبداع اجتماعي للأدوات المادية (التقانة) والمعنوية (الإطار الفكري/القيمي) أي الثقافة؛ استجابةً لتحديات وجودية يفرضها الواقع المتجدِّد بتفاعله مع الإنسان/المجتمع من أجل بناء ما يُسمى الموطن الملائم niche construction. وهذا تعريف دينامي؛ إذ يدمج الإنسان/المجتمع كأحد مُكوِّنات البِنية الحضارية بسلوكه وفكره وقيمه وباعتباره طرفًا فاعلًا في حوارٍ نَشِط مع الطبيعة وخصوصيته مُستمَدة من واقع حاله.

وتكون بذلك الثقافة مُنتجًا اجتماعيًّا لتكييف فرص ومناخ ونهج الفعل والتفاعل والاستجابة، نظرًا لدَورها في تشخيص ظواهر الحياة والوجود وتحديد سبل التعامل. إنَّها بذلك إطار الفعل والتفاعُل ومحدد السلوك والاستجابة للتكيُّف والبقاء. ولهذا فإن دراسة الثقافة في ازدهارها وانحطاطها تستلزم دراسة حالة الفعل والتفاعل والنشاط الإبداعي للمجتمع؛ ومن ثمَّ فإن الفكر الاجتماعي والثقافة الاجتماعية كلاهما رهن الفعالية الإبداعية المادية والمعنوية للمجتمع؛ أي الحضارة المتجددة. معنى هذا أن الفكر أو الوعي الوجودي بالذات حدث تاريخي يجري في بُعدَي الزمان والمكان، ونقطة انطلاقه ليست خارج الظروف الحافزة والمُكيِّفة له، وهو الواقع بأبعاده. والذات العارفة جزء من نسيج الموضوع الذي نَعرفه. ولا وجود لتراث ثقافي في المطلق خارج شروط تكونه في التاريخ؛ أي الزمان والمكان … والمكان أو المجتمع ليس محايدًا في فعاليته، وليس حدثًا مُكتملًا.

والهوية الاجتماعية هي فعل أو نشاط «النحن» الاجتماعية في التاريخ على مسرح جغرافي مُميز … وتعطُّل هذا الفعل يعني ردَّةً وحياة اطراد عشوائي، وكذا تعطُّل لإنتاج الفكر والثقافة. وصورة الذات هنا هي بعض بنية عامة للفكر المجتمعي … بنية لمفترض ذهني في إطار الزمان والمكان تأسيسًا على إيكولوجيا المعرفة … إنها وليدة شروط وجودية مختلفة … وهي فعل إبداعي، أعني أنها مؤسسة على الفعل/الإنتاج … إنتاج مشروع الوجود الحضاري وليس التهويم النظري المجرَّد … وتزدهر صورة الذات بفعل الاحتكاك وعمليات التخصيب المُتبادَل من خلال التفاعل مع الثقافات الأخرى، ولكن من مَوقع قوة الفعالية الإبداعية الإنتاجية … وحيث إنَّ صورة الذات، حسب هذا المعنى، إنتاج أو وليدة الفعل الإبداعي فإنها ليست إرثًا راكدًا أو نسبًا … وحيث إنها فعالية مُتبادلة ومطردة، فإنها في حالة إضافة وتجدد وتطور دائمًا مع تطور وتجدد الإنسان/المجتمع … الحضارة. وبذا حين نقول صورة الذات فإنه يتعيَّن تحديد بُعدَي الزمان والمكان لها … عند السلف، أي التي أبدعها السلف … أم صورة الذات التي أبدعناها نحن … وصورة الآخر عندي من أي موقع لي وله، اتساقًا مع التفكير الموقفي.

وصورة الذات مُحصلة موقفية، بمعنى أنها جامعة لبُعدَي الزمان/التاريخ والمكان مسرح الفِعل بكل مؤثراته … وأعني بالزمان التاريخي ليس الزمن مفهومًا مجرَّدًا، بل الزمن الحدث والوقائع وآثارها وما ترسَّب منها في اللاشعور ليَطفر على السطح أو يتوارى، وآثار ذلك إيجابًا وسلبًا على الأنا والآخر … وأعني بالمكان مسرح الحدث بأبعاده المحلية والإقليمية في تطوره وفي تفاعله الدينامي … والتاريخ الحدث مُؤشِّر على البنية والفعالية للذات ووعيها بذاتها وبالآخر.

والآخر بلغة سياسة المحورية الغربية هو ذلك المُغاير المختلف الأدنى مستوى … وهذه نظرة تبريرية لسلوكٍ بعينِه إزاء الآخر؛ إذ إن دونيته كحُكمٍ قيَمي ذاتي تُهيِّئ لي حق الهيمنة وادعاء التميُّز.

ولكنَّ الآخر في الفكر الفلسفي من بين معانيه هو شهادة إثبات وجود الأنا، إنه أحد مُكونات الوعي الوجودي بالذات، وأنه مُغاير، منافس، أو نقيض. ومهما بلغ حدُّ التناقض، إلا أنه ضرورة لإثبات الوعي بالوجود والوعي بالذات، وهو علَّة الحركة الجدلية بين الذات والهُو، أو الأنا والآخر. ومهما كان التناقُض تطاحنًا، إلا أنه لا يَصِل إلى حد الإفناء؛ لأنَّ إفناء الآخر إفناء للوعي الوجودي للذات. ومن هنا أرى نفسي وأعي وجودي والعالم من خلال الآخر، إنه المرآة النقدية التأمُّلية.

والآخر، اجتماعيًّا وثقافيًّا، قد يكون الذات عينها في الزمان والمكان … بحكم التطوُّر والاختلاف والتوتُّر الناجم عن التحوُّل من تقليد إلى حداثة … وقد يكون الآخر هو المُجتمع ذاته في المكان ذاته، حين يَنقسِم المجتمع كمثالٍ إلى ثقافتَين مُتمايزتَين تاريخيًّا؛ ثقافة السلطة وثقافة العامة، على نحو ما هو حادث في مصر طوال عصور الحكم الأجنبي والاستبداد المحلي … حيث لكلٍّ قِيَمه ورُؤيته أو صورته عن ذاته وعن الآخر، والتي تُحدِّد سلوكه معه للتكيُّف والتحايُل للبقاء أو لقهره والتسلُّط عليه؛ ثقافة العامة الصبر والدعاء والاسترحام … وثقافة السلطة، الثراء الفاحش والتعالي والبطش.

وصورة الذات عن الآخر وصورة الآخر عن الذات هي ضرب من الجدل المشروط بشروط وجودية حضارية بمعنى الحضارة السابق تحديده، وليس تفكيرًا مُجردًا … حتى وإن صيغت صياغة أيديولوجية تعسُّفية تعبيرًا عن مصالح … مثال ذلك صورة اليابان لدى الغرب في عصر التوكوجاوا أو في عصر الميجي وبعد ذلك الآن، وسُلوك الغرب في تحوُّلاته. كذلك صورة الهند أو الصين لدى الغرب قبل نهاية الاستعمار، ثم الآن وقد شقَّتا طريقهما الخاص للإسهام الحضاري … ثم صورة العرب عند الغرب وصورة الغرب لدى العرب على نحو ما نرى عند صمويل هنتنجتون ونيوت جنجريتش وجوهان جالتنج؛ إذ يُعبِّرون عن رؤية أيديولوجية تبريرية. ونلحظ أن تغير الصورة مع الزمن رهن التغير في عناصر موقفية لأطراف العلاقة الجدلية بين الذات والآخر.

وحريٌّ أن نُؤكِّد أن صورة الآخر لدى الذات وصورة الذات لدى الآخر هي ضرب من الثقافة والأيديولوجيا؛ إلا أنَّها ليسَت بالضرورة مُتجانسة عند أيهما في الزمان والمكان. مثال ذلك صورة الشرق لدى الغرب وتبايُن الصورة لدى قطاعات من المُفكِّرين. مثال ذلك فولتير الذي قال: «الشرق هو الحضارة التي يَدين لها الغرب بكل شيء.» وجوته الذي قال: «مَن يَعرف نفسه ويعرف الآخر سوف يُدرك أن الشرق والغرب توءمان لا يَنفصلان.» هذا بينما قال كيبلينج: «آه، الشرق شرق والغرب غرب، ولن يلتقيا ما دامت السماء والأرض إلى يوم الدين.» وقال توينبي: «لقاء الشرق والغرب أهمُّ الأحداث العالمية في عصرنا.» وقال ميشيل مونتيني: «الشرق مرآة لاستكشاف عيوب الغرب.» ويرى هيجل أن الهند مهد وأرض الشروق، ولكن الغرب أوج الروح وذروة الحضارة. ويرى صمويل هنتنجتون ومَن هم على شاكلته أن الحضارة الغربية هي الحضارة الكونية، وأن الثقافات غير الغربية لا تَحمل شيئًا من خصائص الحضارة الغربية، وأن الصراع بين الشرق والغرب جزء من صدام أبدي بين الحضارات، وأنَّ هناك هوَّة ثقافية بين حضارة الغرب وحضارات الشرق أعمق من القومية والأيديولوجية. ونجد معنى هذا الكلام واضحًا؛ من حيث الغطرسة والدعوة إلى الهيمنة على الآخر في كلمات عالِم النفس والفيلسوف الأمريكي سكينر الذي قال:

«مثلما أنَّ التطور البيولوجي أسفر عن هيمنة أحد الأنواع، كذلك فإنَّ التطور الثقافي (الحضارة) للبشر سوف يُفضي إلى هيمنة ثقافة على الثقافات الأخرى.»

وظلَّ الشرق صامتًا بفعل هيمنة الغرب إلى أن استقلَّ وخرج عن صمته ليُؤكِّد وجوده الحضاري والثقافي. تحدثت مجتمعات شرق وجنوب شرق آسيا، وتغيَّرت صورة الذات لدى الآخر.

(٢) الأزمة ودروس من تجربة اليابان مع التراث والحداثة

منذ قرابة قرن ونصف كانت صورة مصر (الآخر) في نظر اليابان تُلخِّصها كلمتا «مصر النهضة». وزار مصر وفدٌ ياباني لمعرفة كيف تكون النهضة. والآن نجد الصورة على النقيض تمامًا، لماذا؟ الإجابة على هذا بعض ثقافتنا الاجتماعية كموقف من الحياة والوجود والتحدي عند المقارنة بتجربة اليابان مع التراث والحداثة.

التراث بِنيَة ثقافية دينامية مُتطوِّرة بتطور الفعالية الإنتاجية للمجتمع. ويُجسد التراث الإطار الفكري أو الأبستيم الذي يتعامل المجتمع من خلاله مع العالم … وهذا الأبستيم صياغة تاريخية متطورة تنطوي على قيَم ومعارف هي تراث، أو صفحة من صفحات التراث المتوالية والمتغيرة مع الزمان … هي الدوافع الجمعية اللاشعورية والشعورية معًا، والتي تُحدِّد وتَحكُم التفكير الاجتماعي؛ ومن ثم السلوك والتوجُّهات، كما وأن نشوء وتكوُّن هذا الإطار له ظروفه الحاكمة سلبًا وإيجابًا، مما يلزمنا بالنظر إليه في إطار التكوين التاريخي الاجتماعي sociogenesis باعتباره ظاهرةً شاملةً الذات العارفة وموضوع المعرفة في مواجهة تحديات الوجود.

ويُمثل التراث ساحة توتُّر وصراع في مراحل التحول الحضاري حين يَعجز عن الوفاء بالأدوات الثقافية اللازمة للتعامل مع الطارئ الجديد من ظواهر، والذي يُوجب قطيعة معرفية مع الماضي. ونُعبِّر عن هذا عادةً بأزمة التراث حين تَغلب الشكلية والغربة عن العصر، ومحاولة العيش في عصر «حديث» بمنظومة معرفية أو تراث ثقافي لعصر آخر. ويدافع التقليديُّون عما يسمونه ثوابت التراث، بينما يؤكد المجددون ما تردد على ألسنة مُفكِّرين يابانيِّين «جفت ينابيع التراث».

وتدرك المجتمعات في مراحل التحول الحضاري أهمية استلهام تراثها الثقافي على أساس منهج عقلاني نَقدي ليدعم الفكر والفعل الجديدين على طريق التطور. إنها تُراجع نفسها، وتُصحح أو تلائم أوضاعها لا نكرانًا للماضي أو إنكارًا له، فإنه بعض الامتداد الحضاري؛ بل اعتزازًا به في ثوبٍ جديد وتأويل ملائم.

والحداثة عملية تاريخية ممتدَّة منذ نشأة الاجتماع البشري، وليست أبدًا هي الغرب أو أوروبا أو الإنسان الأبيض كما زعَمَ فِكر المِحورية الغربية منذ عصر التنوير. إنَّ الإنسان في مجتمعه البدائي حين أبدع الفأس أبدع حداثةً شاملةً الفكرَ والفعلَ بتأثيريهما الاجتماعي، وكذلك حين أبدع الكتابة أو الطباعة أو آلة الصناعة … إلخ، صنع حداثة جديدة باتِّساع جماع أنشطة المجتمع والإنسان. وحين أبدع الخوارزمي وابن الهيثم والبيروني وابن سينا إنجازاتهم في العلوم والفلسفة أبدعوا حداثة إنسانية جديدة.

وهكذا الحداثة تحوُّل نوعي ارتقائي للمجتمع، يتمثَّل في تصاعد قدرة الإنسان على التحكم في محيطه المادي والنفسي والاجتماعي، ويشتمل على تغييرٍ في القيم والعلاقات الاجتماعية والتطور الحضاري، في إطار العقلانية والتفكير العمَلي حسب مستوى العصر. ولهذا فإنَّ حداثة كل عصر تَقترن بثورةٍ ثقافية مطابقة لمتطلبات عملية التحديث، ويدعمها ولاء خلَّاق، وتأويلٌ إبداعيٌّ للتراث من أجل حشد طاقات المجتمع وفاءً لمشروعٍ قومي ولإنجاز صورة مجتمع المستقبل. والحداثة حسب هذا التصور ليسَت صفة ثابتة، إنها شروط وجودية نسبية؛ أعني تتغيَّر حسب الزمان والمكان شكلًا وآلية ومضمونًا. وهي بذلك عمَلية اجتماعية شاملة لكل نشاطات الحياة المجتمعية، ولبِنية المجتمع وتعاليمه، ومن ثم الإنسان.

ولهذا فإنَّ كل عصر هو عصر حديث في «ذاته وزمانه، وله شروطه التي تُشكِّل مجتمعةً ومتكاملةً ركائز البناء «الحديث» وصولًا إلى إنجازات إنسانية موضوعية تَنعكس في كل مجالات حياة المجتمع؛ حداثة في اللغة على سبيل المثال، بمعنى استيعاب اللغة، من حيث هي فكر لمجالات الفكر الجديد، فتُقدم اللغة مفرداتها الجديدة المعبرة عن الفكر النابع من النشاط الإبداعي للمجتمع. وهنا تُثري اللغات وتغتني في عصور النهضة، وتضمحلُّ وتتدهوَر وتتحجَّر في عصور الركود الحضاري.»

وهناك كمثال آخر الحداثة في الفن، بمعنى أن يُعالِج الفن قضايا العصر، وقد يَبتدِع أساليب تتوافق مع إنجازات العصر في مجال الفكر أو الخامات، أو ما يتعلَّق بالشكل والمضمون. والحداثة في الشِّعر أو المسرح من حيث معالجة قضايا وأفكار ربما بشكلٍ جديد، وإنما في اتِّساق مع المشروع النهضوي الجديد وبيان رُؤًى جديدة. وهناك الحداثة في العلوم (المؤسسات العِلمية وتنوعها، ونظام إدارتها، والمناخ الملائم للعمل والابتكار، وموضوعات ومناهج البحث … إلخ)، وحداثة أسلوب العيش وإدارة شئون العمل أو الدولة بما يَدعم مسيرة النهضة والأخذ بمبادئ العلم «الحديث».

إذن ليس التحديث هو الترغيب. ولكن هل الغرب كان قوة الدفع إلى حداثة اليابان وبلدان آسيا وأفريقيا … إلخ؟ يقول مفكر ياباني في تعليقٍ له بصدد تفسير عملية الحداثة وكيف بدأت: «إنَّ اليد التي طرقت الباب لم تكن أقلَّ أهمية من اليد التي فتحت الباب.» ومعنى هذا أن المُعوَّل هنا على الفعالية الذاتية ورؤية الذات ومنهجها من أجل التعيير الخلَّاق.

الإنسان الياباني مهاجر أصلًا من شرق آسيا، والمهاجر مُتمرِّد رافض للانصياع في سكون، بل ساعٍ دائمًا إلى مغامرة مع المجهول. ويملك المغامر إرادة صُنع الحياة، ويتَّصف باستقلالية الرأي والطموح والدينامية وكفاءة الاستجابة والفضول المعرفي … وإن ما يَعني المهاجر هو الشيء العملي المباشر والمُفيد الآن، وخِبرته وليدة نشاطه، بينما عينه على خبرة الآخرين؛ ومن ثَم القدرة على الملاءمة والاقتباس.

ويشعر اليابانيون أنهم شعب فائق التمايز والتميز ثقافيًّا. ولديهم إحساس قوي بالذاتية؛ فالشعوب تنقسم في نظرهم إلى «نحن وهم». وصاغ التراث الثقافي الإنسان الياباني على صورة مُتجانسة ومحددة الطابع لها سماتها الواضحة. وأهم هذه الصفات الدأب والمثابرة في إطار جمعي، والتفكير وَفق معايير الجماعة. وتَرتبط بالوجدان الجماعي قيم التناغُم والتناسق من خلال التفاهم الذكي … القرار الجماعي هدف في حدِّ ذاته، وتتَّسق مشاعر الجماعية مع العقائد اليابانية الثلاث: بوذية زن، والشنتو، والكونفوشية، والتي خضعَت كلها لتأويلات إبداعية.

بهذا الزاد من التراث الثقافي بدأت اليابان المواجهة المصيرية والتحدِّي الذي فرضه الغرب، والذي كشف عن أزمة ثقافية. واجهت اليابان صدمة الغرب وهي خاوية الوفاض إلا من تراثٍ جفَّ نبعه. وعرفت اليابان الغرب، أو عانت صدمتَه، على مراحل مُتعاقبة، أولها في القرن ١٦ من خلال البحَّارة البرتغاليِّين الذين وصلوا إلى شاطئ اليابان عام ١٥٤٢م، أعقبت ذلك فترة من العزلة امتدَّت قرنين، وجاءت الموجة الثانية لصدمة الغرب مع التهديد البحري الأمريكي بقيادة القائد بيري عام ١٨٥٣م. وأحسَّت اليابان بالصدمة وبمَهانة العجز. وكان قرار التغيير واقتباس تكنولوجيا وعلوم الغرب؛ إذ أدركوا أن هذه هي قوة الغرب.

وبدأت مسيرة التحديث إراديًّا، وشمل تغيير البِنية الأساسية المادية للمجتمع، والبِنية الأساسية للثقافة؛ أي تأويل التراث الثقافي. ويُمثل القرن ١٨ بداية غرس بذرة الإصلاح والحداثة التي أثمرت عصر الميجي ١٨٦٨م، وشهدت هذه الفترة صراعًا فكريًّا، وازدهارًا تنويريًّا يُبشر بالتحول المرتقب، ويُمهد له من خلال العمل الجاد والممارسة التطبيقية دون الإغراق في مناقشات وتهويمات نظرية خالصة عقيمة. ودخل الفكر العلمي التقني والنظري إلى اليابان تدريجيًّا. وأفسحت له العقائد اليابانية مكانًا دون قتال؛ حيث لا وجه للخصومة والتطاحُن. وسبق التحول فترة أرسى خلالها عدد من الإصلاحيِّين نزعة احترام العقل والواقع أساسًا للنظر والتفسير والعمل، وهو ما يُذكرنا بابتكار فلاسفة الغرب منهج البحث العلمي.

وتجلَّى الفضول المأثور عن اليابان كخصوصية ثقافية في العناية بتحصيل معارف الغرب والنَّهَم والتحايل لاكتساب مُقوِّمات النهضة. وعمد الباحثون والمصلحون إلى إيقاظ الوعي، وبيان أن هناك حضارات مغايرة أعظم من حضارة الصين الأم. وعرفت اليابان ما يُمكن أن نُسميه عصر الشهداء الثقافيِّين، الذين ضحوا بحياتهم نتيجة التزامهم بمبادئ النهضة، وبذلوا الجهد والتضحية لوضع الأُسس الاجتماعية والنفسية والفِكرية للحداثة والإصلاح بعد ذلك في عصر الميجي، وهذا درسٌ للمثقَّفين العرب.

وبرز في القرن ١٧ روَّاد حركة التنوير من أمثال سيكي كوا Seki Kowa الذي كشف حساب التفاضُل والتكامل مُستقلًّا عن نيوتن وليبنتس، وظهر في مجال التاريخ أمثال آراى هاكوسيكي الذي كان مسئولًا عن مركز الدراسات الهولندية، والذي قال:

التاريخ الياباني الحقيقي لم يُكتَب بعدُ؛ إذ لا توجد كُتب تقدم دراسة نقدية للأحداث الواقعية. وكل ما هو موجود منها ليس إلا «تفسير لأحلامٍ رَوتْها أحلام».

وطالب بإعادة كتابة التاريخ وَفق نظرة نقدية ليكون سجلًّا موثوقًا به.

وطبَّق توميناجا ناكاموتو (١٧٤٦–١٨١٥م) منهج النزعة النقدية التاريخية في دراسة الدين. وأكَّد أنَّ الدِّين تستخدمه السلطات في الصراع لتحقيق مكاسب سياسية. وخطا ميورا بايين Miura Baien (١٧٢٣–١٧٨٩م) خطوة أخرى نحو حصر المعرفة في إطار ما يُمكن التحقُّق منه، وقال إن الطبيعة هي موضوع البحث، وأنَّ الإنسان جزء من الطبيعة. وطبق كايهو سيرجو Kaiho Seirgo (١٧٥٥–١٨١٧م) المنهج نفسه في دراسة المجتمع البشري. واطَّردت حركة التنوير، أو كما تُسمى حركة العقل والواقع في اليابان على الرغم من المعارضة التي واجهتها. وشهد القرن ١٩ نمو هذه الحركة في أربع جهات:
  • ظهور نزعة قومية قوية تمثَّلت في البحث عن الهوية القومية دون الذوبان في ثقافات أخرى.

  • دعوة إلى إصلاح النظام الملكي.

  • دعوة إلى تطبيق الديمقراطية النيابية.

  • رغبة قوية في معرفة ثقافة الغرب والإحاطة بأُسسها.

وظهرت تيارات سلَفية محافظة وأخرى متطرفة، وظهرت تيارات تغريب متطرفة في موقفها السلبي من التراث. وناهض هؤلاء وأولئك تيار العقل والتنوير الذي سعى إلى تهيئة العقل الياباني للتفكير العلمي والتعامل العقلاني مع الواقع.

واشتدَّت حركة المعارضة عنفًا في أواخر القرن ١٩، وأعرب أنصارها عن احتجاجهم ضد «الغزو الفكري». وتشكَّلت جمعية سلَفية عام ١٨٧٦م باسم Tokyo Shushin Gokusha لتشجيع أخلاق السلف. وصدَرت كتابات كثيرة تُهاجم أخلاق وفكر ومعتقدات الغرب، وشهدت اليابان كذلك محاولات لإحياء النشاط الطائفي بين البوذيِّين، والتحريض ضد كل ما هو أجنبي، وضد الأفكار الحديثة بوجهٍ عام، ووصل الأمر إلى حدِّ مُعارضة استخدام مصابيح الغاز باعتبارها ثقافة غربية.

وشكَّل المحافظون مؤسسة عام ١٨٨٨م أصدرت مجلة رسالتها الحفاظ على جوهر وثوابت الثقافة القومية اليابانية.

وظهرت على النقيض تيارات التغريب الداعية إلى التدريس باللغة الإنجليزية، وتشجيع الدراسات الغربية، ونشر ثقافة الغرب عن طريق إصدارات الكتب والمجلات والمقالات. وظهرت حالة من الهوس بالغرب امتدَّت عشرين عامًا أطلق عليها بعضهم اسم فترة السُّكْر بالغرب.

وتجلَّى هذا في الفنون وفي السلوكيات الاجتماعية. وبين هذا وذاك عاشت اليابان حقبة من الاضطراب والصراع الفكري وازدواجية الثقافة في ظاهر الأمر. ثم كانت الغلَبة لتيار العقل والواقع الذي تبنَّته أجيال الشباب. وتركزت الجهود من أجل هدف محدَّد المعالم: أن تكون اليابان «أمة غنية وجيش قوي».

وسارت عملية التحديث بشكلٍ انتقائي لصالح هذا الهدف وَفقًا لخطوات محدَّدة مع الاستفادة بالغرب:
  • حكومة على النمط الأُوروبي.

  • نظام تعليم طموح للتعليم العالي.

  • نظام قضائي كان في البداية على النمط الفرنسي، ولكن بعد المواءمة مع الأوضاع الاجتماعية اليابانية.

  • نظام مالي ونَقدي وضرائبي.

  • تحديث الاقتصاد وإقامة نظام مصرفي حديث وإصلاح النظام النقدي.

  • التوسُّع في البِنية الأساسية اللازمة للتطوير الاقتصادي.

  • إقامة صناعة الأسلحة والصناعات الاستراتيجية.

ويُعتبر الإصلاح التعليمي من أهم عوامل النهضة في عصر الميجي نظرًا لدور التعليم في تغيير بِنية المجتمع جذريًّا، وتغيير ذهنية الإنسان؛ مما يؤثر على سلوكه وفعاليته، وتهيئة إمكانات المجتمع لمواجهة التحديات وَفق مشروع قومي. كان التعليم السابق سلفيًّا يغرس مبدأ الطاعة والحفاظ على التراث. وطبيعي أن شهد إصلاح التعليم صراعًا في البداية بين التقاليد اليابانية وبين متطلبات التعليم الحديث. وخاضت اليابان التَّجربة وفق منهج المحاولة والخطأ إلى أن استقرَّت سياستها بما يتلاءم مع متطلبات العقل والواقع مجسَّدَين في المشروع القومي.

ويُعتبر فوكوزاوا رائد حركة الإصلاح التعليمي، والذي قال:

«هدف التعليم الوحيد أن يُبين أن الإنسان خلَقَته السماء لتحصيل المعارف اللازمة؛ لإشباع حاجاته من أجل الطعام والمأوى والملبس، ولكي يعيش في اتِّساق مع رفاقه. نعم أن يكون المرء قادرًا على قراءة الكلاسيكيات هذا شيء جيد، ولكنه ليس الشيء الذي يَستحق الثناء الذي نُضفيه على أئمة الفكر الصينيين واليابانيين من رجال السلف.»

إنَّ المطلوب حقًّا تعلمٌ وثيق الصلة بحاجات الإنسان التي تَفرضها الحياة … إنَّ مَن يستظهر حوليات السلف ولا يعرف ثمن الطعام، أو ذلك الذي تعمَّق في الكلاسيكيات والتاريخ، ويعجز عن إنجاز صفقة بسيطة … هؤلاء ليسوا سوى مَعاجم تستهلك الأرز، ولا فائدة منهم لبلدهم، بل هم عقبة … إدارة شئون البيت تعلُّم، وفَهمُ اتجاه العصر تعلُّم، فلماذا نُسمي قراءة الكتب القديمة تعلُّمًا؟

وحقَّقت اليابان إنجازات مهمَّة في مجال التعليم سبقَت غيرها من الدول الغربية؛ إذ بدأ تطبيق نظام التعليم الإلزامي الأولى عام ١٨٧٢م، وهو النظام التعليمي الذي بدأ في إنجلترا عام ١٨٧٠م، وفي فرنسا عام ١٨٨٢م، وفي الولايات المتحدة عام ١٩١٨م، وفي ألمانيا ١٩١٩م. وأنشئت جامعة طوكيو عام ١٨٧٧م، وبلغت خمس جامعات حتى عام ١٩١٨م، ثم ما بعدها. وفي عام ١٩١٠م بلغت نسبة مَن أتمُّوا تعليمهم الابتدائي ١٠٠٪. وأسهمَ القطاع الخاص بدورٍ بارز في سبيل نشر التعليم وفاءً للمشروع القومي وتأكيدًا للاستقلال والذاتية القومية، وساعد الحكومة فيما عجزَت عنه الميزانية الرسمية. إنها خاصية الرُّوح الجماعية اليابانية.

الحداثة والديمقراطية والإصلاح الدستوري

حداثة عصر التصنيع ثم المعلوماتية هي تحوُّل مطرد غير مسبوق في بِنية وعلاقات وفعاليات الإنسان الفرد والمجتمع كمنظومة، وتوصف بأنها حضارة التسييس الاجتماعي، بمعنى المشاركة السياسية النشطة للإنسان العام والتي اصطُلح على تسميتها الديمقراطية. وتقتضي هذه المشاركة، ضمانًا لإيجابيتها وفعاليتها، توفُّر شروط حريات وحقوق الإنسان الفرد، وشروط المشاركة في صنع القرار وإدارة شئون الدولة، من خلال مؤسَّسات يجري انتخابها انتخابًا مباشرًا حرًّا، مع الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية. وتَقتضي كذلك حرية إنشاء مؤسسات المجتمع المدني الطوعية. وتَستلزم الاستجابةُ لهذه الشروط آليةً لحسم المشكلات واتخاذ القرار بما يَتلاءم مع حاجة التطوير والتحديث المطرد للمجتمع. وطبيعي أن تكون آلية مُتطوِّرة مع تطوُّر حاجات ومشكلات المجتمع والاستجابة السوية لها التي تأتي تعبيرًا عن توازن صراع القوى داخل المُجتمع. وطبيعي كذلك أن هذا التحوُّل من منظومة إلى أخرى؛ أي مِن تقليد ترسخ إلى «حداثة» تَستلزم تسييس المجتمع، سوف يُؤدي إلى صراعات وتناقُضات، وتجري محاولات التوفيق والتأويل والتوليف مَرحليًّا، ولكن الحَكَم دائمًا دعم حركة التطوير في السياق الحضاري. ولم تكن اليابان استثناءً.

بدت هذه الشروط غريبة، بل ومُنافية تمامًا للتقليد الياباني. وأكثر من هذا أن بعض المُصطلحات الدستورية والسياسية الجديدة الدالة على نُظُم العمل واستحقاقات الفرد لم يكن لها مُقابل على الإطلاق في اللغة؛ ومن ثم في الفكر الياباني، أي غريبة على التراث. نذكر من ذلك كمثال عبارة «حقوق الشعب» أو «الحرية الفردية» أو «الجمعية العمومية» لمُمثلي الشعب، أو مشاركة نواب الشعب مُمثلين عن عامة الشعب في صنع القرار ومراقبة التنفيذ وحق الاستجواب، ناهيك عن التشريع وكذا حق «المواطنين»، وهو مصطلح جديد في تكوين الروابط أو الأحزاب السياسية، وحق تداول السلطة.

كان التراث السياسي الياباني يتحدَّث عن جهاز شورى وليس جهازًا تشريعيًّا ولا تنفيذيًّا ولا جهاز مراقبة للسلطة التنفيذية أو جهازًا قضائيًّا يتمتع بحصانة دستورية وسلطات مميزة ومستقلة.

عرفت اليابان قبل عصر الإصلاح جهاز الشورى، ويُمثله مجلس دولة يضمُّ عددًا مِن النبلاء أو كبار السن، وهم مُستشارون للعرش والوزراء مثل مجلس الدولة للشوجان، ويعني السادة الأصول أو حكماء القبائل أو الآباء المؤسِّسين شأن مجلس أهل الحل والعقد. كذلك مفهوم «الحقوق» في القانون المدني بدا غربيًا وشاذًّا؛ بل وتغريبًا وانقيادًا لحضارة الغرب. إذ السائد هو مفهوم الواجب فقط؛ حيث هدف التشريع أن يُحدِّد للفرد الرعية وليس «المواطن» واجباته دون حقوقه.

وبدا أيضًا مفهوم حقوق الفرد من الرعية مفهومًا غربيًّا مُنافيًا للتراث، وكذا مفهوم «الحرية الفردية»؛ إذ لم يكن لهذه المفاهيم أو العبارات مقابلًا في اللغة والمعاجم والممارسات اليابانية. ولذلك لزم سك عبارات جديدة مقابلة، من ذلك مثلًا ترجمة «الحرية الفردية» إلى عبارة تعني «ما ينتقص من صاحب السلطان أو من الحاكم». وعارض السلفيُّون «حق الشعب في المراقبة والاختيار» ورأوا أنَّ هذا يَعني أن العامة يعرفون أفضل من الحاكم الفيلسوف وحامل مسئولية السماء في تحقيق التناغُم على الأرض.

واحتدم الصراع من أجل التغيير. ولم تُحاول الحكومة الاستعانة بالنظريات، بل تعاملت مع مُشكلاتها على أساسٍ تجريبي من خلال دراسة التطبيق العمَلي لنُظُم الحكم في البلدان الغربية واختيار ما هو أكثر ملاءمةً للمشكلات الطارئة في اليابان في سبيل إنجاز مشروعها القومي. وخطَت اليابان أثناء ذلك خطواتها المذهلة على طريق التطوير والسبق العِلمي والتكنولوجي. وكشفت اليابان عن أصالتها في النَّهم المعرفي والتحصيل الانتقائي لما ينفعها ويلزمها من إنجازات الغرب المعرفية-العلمية النظرية والتطبيقية. ويَكفي أن نشير إلى أن اليابان في مطلع القرن العشرين عقدت اتفاقات مع أهم دُور النشر العلمية في الغرب لإصدار طبعة يابانية من منشوراتها في تزامن مع إصدار طبعتها باللغة الأصلية. وكانت اليابان تُترجم آنذاك أكثر من ١٧٠٠ عنوانٍ كل عام، وتُصدر من كل عنوان طبعة تتجاوَز العشرة آلاف، وهي الآن تُترجم سنويًّا أكثر من ٣٥ ألف عنوان.

(٣) الأزمة ودروس من تجربة الهند بين التراث والحداثة

يُمثِّل التاريخ إحدى الأولويات التي تتصدَّر اهتمامات الأمم حين تهم بالنهوض عاقدةً العزم على الحركة نحو المستقبل ودخول ماراثون حضارة العصر؛ إذ إن الأمة تُفكِّر لنفسها وبنفسها؛ أي يكون لها فكرها المُستقل، ويتوفَّر لها ركن من أركان الإرادة الجمعية حين تعي ذاتها التاريخية في استجابة لتحديات مفروضة على هَدي مشروعِ تطوير حضاري، أو لنَقُل إن تحديث المجتمع رهن شرطين:

  • (١)

    وعي عملي عقلاني نقدي بالذات؛ أي بالرصيد الثقافي الموروث، وبالتاريخ في وحدته وحركته كامتداد دينامي إلى المستقبل.

  • (٢)

    استراتيجية تطوير حضاري شاملة ومنافسة هي ابتكار ذاتي مؤسَّس على وعي بواقع الذات والواقع الإقليمي والعالَمي.

    ويتعيَّن أن نُضيف شرطًا ثالثًا فيما يتعلَّق بالبلدان المستقلة حديثًا:

  • (٣)

    تحرير العقل من حيث هو الوعي بالذات من سلطان أيديولوجيا قوى الاستعمار وما فرضته من انحيازات فكرية تدعم صورتها وسلطانها ضد صورة الذات التاريخية في حقيقتها؛ أي إعادة كتابة التاريخ بأيدي أصحابه.

والوعي بالتاريخ هنا ليس مجرَّد ذاكرة انتقائية لأحداث مُتفرقات وفاءً لانحيازات أيديولوجية محلية بديلة. وحريٌّ أن نُدرك أن الوعي التاريخي وعي جمعي، وإعادة لبناء صورة الذات تأكيدًا لوحدة النحن الاجتماعية والانتماء إليها، والحركة الجمعية كمنظومة لإنجاز مشروع التطوير. والوعي بالتاريخ أيضًا ليس وعيًا بمَن نحن فقط من حيث البُعد الزماني ودينامية الفعل المطَّرد، بل ومَن نحن أيضًا بالنسبة للآخرين في الزمان والمكان، أعني الوعي بحركة التفاعل الجدلية محليًّا وإقليميًّا وعالميًّا بكل ما فيها من سلبيات وإيجابيات حتى تكتمل الصورة موضوعيًّا قدر الاستطاعة. هذا ما فعلته أمم كثيرة إبَّان نهضتها: أمم أوروبية والصين واليابان والهند وبلدان أفريقية.

كانت دراسة التاريخ في الهند تَعتمِد على الرواية. ولكن مع تطور الحركة السياسية من أجل الاستقلال والبَعث الوطني بدأت حركة نهضة عِلمية شملت علم التاريخ الذي عُنيَ بدراسة جميع مراحل الماضي. وحدد علماء التاريخ دورهم في العمل على استكشاف المجتمع الهندي من الداخل؛ أي من خلال العمليات الداخلية التي عاشها المجتمع في الماضي وتفاعُلاته محليًّا وإقليميًّا، وتاريخ تطور الأشكال الاجتماعية الهندية، والكشف عن التحولات الاجتماعية التي تشكل أساسًا لما أصاب الهند من تدهور وخضوعها لحكام أجانب. وتركز جهد المؤرِّخين على استكشاف الإرث القديم للوحدة الثقافية والكبرياء المشترك القائم على الميراث الحضاري لكلِّ أبناء الشعب الهندي. وعُني الباحثون بتحرير هذا الإرث من التشوهات التي لحقت به على أيدي الكُتَّاب الغربيِّين.

وظهر التاريخ القومي للهند من منظور جديد كردِّ فعلٍ ضد الكتابات البريطانية عن تاريخ الهند. وفي هذا يقول بانيكار K. M. Panikar عام ١٩٤٧م:

ما إن وعَتِ الهند ماضيها … حتى ازداد الإلحاح على كتابة تاريخ الهند على نحوٍ يُعيد بناء الماضي بصورة تعطينا فكرة عن تراثنا.

وقال أيضًا:

إنَّ تاريخ الهند خلال حقبة الاحتلال ليس نشاطات شركة الهند الشرقية أو مُمثلي التاج البريطاني، بل الانتفاضة المتصلة التي أفضَت إلى تحوُّل المجتمع الهندي من خلال نشاطات أبناء الهند أنفسهم.

كذلك شهدت الهند جدلًا حاميًا بين تيارات المحافظين وتيارات المجدِّدين، ما بين تغريبيِّين ودعاة التطوير الحضاري المستقل مع استيعاب علوم وثقافة العصر. وظهرت حركات فكرية ودينية إسلامية وهندوسية داعية إلى الإصلاح والنهضة. واحتدم الجدل حول دور التراث بصوره المُتباينة وكيفية إعادة تقييم التراث الثقافي وإعادة تأويله ليكون دعامةً للتطوُّر وبناء صورة حضارية جديدة للذات. ونذكر من هؤلاء محمد إقبال ورابندرانات طاغور. يُمثِّل هذان المفكران صورة رائعة للدعوة إلى التآلف بين التقليد والتجديد استنادًا على التفاعل الأصيل بين إيجابيات التراث والإبداع الثقافي الجديد وثقافة الغرب وعلومه وتقنياته.

يقول رابندرانات طاغور (١٨٦٠–١٩٤١م):

حان الوقت لكي نفتح خزائن السلف ونضع ثرواتهم في خدمة الحياة لتكون عونًا لنا على بناء مستقبلنا.

ولكن طاغور ومحمد إقبال وغيرهما من دعاة التجديد يُؤمنون بأن التجديد الأصيل لثقافة الهند مستحيل بدون الاستيعاب الإبداعي للثقافة العالَمية على هَدي مُتطلبات شعب الهند وقضاياه الملحَّة، وأن يتجلَّى هذا كله في الآداب والفنون والسياسة بما يَصُوغ صورة متكاملة مُتجدِّدة للهند. وهذا ما فعله رادها كرشنان في الفلسفة، ونهرو في السياسة، والكاتب والناقد الأدبي جوبتا في النقد الأدبي. وقال جوبتا: «ليس كل ما يَنتمي إلى القديم يُمكن إحياؤه في العصر الحديث تحت شعار اتصال التقاليد … إن السبيل الوحيد هو الارتقاء بالتراث مع استيعاب النظرة العِلمية المعاصرة إلى العالم.»

وعمد الأدباء والكتاب إلى استلهام الفيدا وإبراز القيم التي تُمجِّد الإنسان والنزعة الإنسانية والتقدُّم والإبداع والاستقلال الذاتي والمسئولية الذاتية للمرء وتمجيد بهجة الحياة على الأرض.

وظهر من المسلمين والهندوس زعماء إصلاح يُعَبِّرون عن تيارات متقابلة من حيث الموقف من التراث والدين مع تأويل جديد يخاطب به كل منهم أبناء عقيدته، ويَدعم وحدة الشَّعب الهندي. نذكر من هؤلاء شأن ولي الله (١٧٠٢–١٧٦٢م)، الذي قال إنَّ الرسول جامع بين أعمال النبوة وهي مُلزمة، وبين أعمال غير النبوة وهي غير مُلزمة مثل الزراعة والطب. ويُذكرنا هذا بمقولة ابن خلدون «جاء الرسول ليعلم الناس الدين لا ليُعلِّمَهم الطب.» ورأى ولي الله أن ليس كل ما في التراث الديني واجب التطبيق شرعًا، وأعلن رفض التقليد، وبذا كان مؤسس جماعة أهل القرآن وناصَبَه بعض العلماء العداء.

وعرف المسلمون في الهند زعماء وتيارات إسلامية أخرى بحثت أسباب التخلف ووسائل دعم وحدة الهند. واجتهد هؤلاء للفصل بين الدلالة الدينية للتراث وبين مرجعية عقل الإنسان. نذكر من بينهم سيد أحمد خان (١٨١٧–١٨٩٨م)، مؤسس حركة النهضة الإسلامية التي كانت توءمًا لحركة النهضة الهندوسية. وكان هدف الحركتين النهوض بالأمة الهندية. وكذلك مولانا حسن أحمد مدني، خريج دار العلوم، الذي قال:

عقيدة الإيمان عالمية لا تخضع للحدود الوطنية.

وقال:

الوطنية أو القومية مسألة جغرافية، والمسلمون مُلزَمون بالولاء لهذه الحدود مع إخوانهم المواطنين غير المسلمين، وأن يعيشوا في إخاء وانسجام داخل الهند المُستقِلة، وإن كانت ليست دار الإسلام ولكنها ستكون دار الأمان؛ حيث يتمتع كلٌّ بحقِّ وبحُرية ممارسة شعائره الدينية؛ فالهند وطن الجميع.

وتحدَّث في هذا الاتجاه محمد علي جناح، مؤسس دولة باكستان؛ إذ قال في خطابه أمام الجمعية التأسيسية الباكستانية في ١١ / ٨ / ١٩٤٧م عن تأسيس دولة باكستان العلمانية:

يُمكنكم الانتماء إلى أيِّ دينٍ أو طائفة أو عقيدة. هذا لا علاقة له بعمل الدولة … إننا نَنطلق من مبدأ أساسي أننا جميعًا مُواطنون لدولة واحدة … حريٌّ بنا أن نضع هذا نصب أعيننا، وسوف تجدون مع الزمن أن الهندوسي سوف يكفُّ عن أن يكون هندوسيًّا، والمسلم سيكف عن أن يكون مسلمًا، ليس بالمعنى الديني؛ لأنَّ الدين عقيدة شخصية لكل فرد، وإنما بالمعنى السياسي كمواطنين أبناء دولة واحدة.

ولكن حين ننظر إلى الحاضر بعيون الماضي، وتغلب الانحيازات الأيديولوجية الطائفية أو الفردية، يَفرُّ الواقع من أيدينا، وتنقطع صلتنا بالحضارة، وتَستنفِد قُوانا صراعات نظرية مجردة وأوهام وتهويمات، ويُنقَض البناء، ونكون فريسة لمن يقفون بأقدامهم راسخين على أرض الواقع. وحريٌّ هنا أن نتأمل الصراع الدائر في باكستان والهند، وتفاقم خطر الأزمة في باكستان التي تعطلت فيها كل قُوى البناء والتقدم.

(٤) الأزمة واغتيال العقل المصري

إذا كانت استعادة الوعي التاريخي بالذاتية الاجتماعية/الثقافية في وحدتها وتكامُلها شرط لشَحذِ الطاقات للنهضة، فإنَّ لنا أن نسأل عن صورة هذه الذاتية المشتركة التي تُجسِّد الوعي الاجتماعي وتَكفُل تماسك لُحمة وسَدى المُجتمع كبِنية ذات فعالية هادفة في تضافُر وحدة تاريخية ورؤية مُشتركة عن النفس والعالم … أعني ما هي معالم وخصوصية هذه الصورة؟ وما هو تاريخها النشوئي التكويني التطوري اجتماعيًّا وسيرورتها وكذا صيرورتها في الزمان؟ وما هي المؤثرات الخارجية والمحلية التي اصطلحت معًا على صياغتها على هذا النحو؟ وما هي مرجعيات هذه الصورة نشأةً وتكوينًا؟ هل هي صياغة أيديولوجية في إطار من الكلام المُرسَل أم كشفًا عن أركيولوجيا طبقات ومسارات وتحولات التاريخ … الواقع الإيكولوجي الجامع لتفاعلات البيئة والإنسان/المجتمع بكلِّ ما في هذين من وحدة وجود شاملة مُتفاعلة. وأيضًا كيف صاغت هذه الصورة سلوك الإنسان … أعني ثقافته المعيشة التي تَكفُل له البقاء على النحو الذي هو عليه؟ … صورة الذات هنا فعل وتفاعُل وعادة وذاكرة وتطوُّر مشترك بين المخ والثقافة لبناء ما يُسمى المواطن الملائم niche construction، وتغدو الإطار الحاكم لسُلوكه تحديًا أم استسلامًا؟ مغامرة الحياة أم رضًا بالواقع، تمردًا وإقدامًا برُوح جماعية أم لامبالاة وإحجامًا في فردية … نزوع إلى الإبداع والتجديد أم سكون وخوف من التغيير … صفوة القول سؤالنا بإيجاز ما هو محتوى الصورة، وما هو الظرف الوجودي لنشأتها وتطورها في التاريخ؟ وما هي الصورة المستقبلية، صورة مجتمع المستقبل في ضوء هذا الإطار؟ هل هي صورة التحدي والعزم والإقدام في ماراثون الحضارة … أم الهرب واللامبالاة والأنانية … والهرب إلى الغيب يأسًا؟

ولكن قبل هذا، أو في ترادف معه، ليكون حديثنا محدَّدًا ونحن نتحدث عن مصر … أيُّ مصر وأيُّ مصريِّين نعني في الزمان والمكان؟ مصر التاريخ؟ مصر العقيدة؟ مصر العربية؟ أم مصر الأرض الوطن، مصر قاطني المدن أم قاطني الريف؟ مصر السلطة والسلطان من أجانب أو محليين، أم مصر العامة المنتجين المستضعفين؟ مصر الإنجازات العِلمية والتكنولوجية، أم مصر مُستودع الآثار والعاديات؟

إنَّني حين أقول صورة مصر هنا فأنا أعني مصر الأرض السوداء والفلاح … اقتصادًا وثقافةً وجغرافية وتاريخًا ومعاناة من سطوة الأجنبي واستبداد الحاكم المحلي … وهؤلاء هم دالة التطور الحضاري الارتقائي وعدة التطوير، وهؤلاء هم مَن لا يتحلَّلون من جذورهم المصرية ولا يَنسبون أنفسهم لعروق وافدة.

القضية الغائبة دومًا عند الحديث عن مصر الحضارة/النهضة يُجسدها سؤال: ماذا أصاب مصر والمصريِّين على مدى قرابة ألفيات ثلاثة؟ نحن بحاجة إلى دراسة عِلمية للظرف الوجودي الذي أحاط بمصر الإنسان/المجتمع لإعادة بناء صورة موضوعية تاريخية اجتماعية، وإعادة بناء الإنسان/المجتمع المصري؛ لأنه الأداة والهدف لإنجاز تطوير حضاري فاعل. هل مصر والمصريون حقيقة مثلما وصفهم المقريزي «قال الرخاء إني ذاهبٌ إلى مصر، فقال الذلُّ وأنا معك.» هل هذه خاصية صورة مصر والمصريين؟

إنَّ مصر في غيبة أو مُغيَّبة عن حقيقة تاريخها بعد أن حجبَته أقنعة أيديولوجية مصطنعة وأساطير لبست ثوب الحقائق وباتت مرجعًا … روايات غير محقَّقة أحاطت بها هالة ذات قدسية حينًا، أو أكاديمية حينًا آخر … نحكي عن غزوات القوى الخارجية مع تعاقب الزمن والعهود على مدى ألفين وخمسمائة عام دون الكشف عن الأسباب، لماذا كانت مصر فريسة سهلة؟ وما هي حقيقة الصراعات والأطماع إقليميًّا؟ وماذا فعل هؤلاء بمصر وكيف صاغوا الظرف الوجودي الذي صاغ الإنسان وعيًا وسلوكًا بحيث تتضح الصورة ونعرف لماذا أصبح الإنسان المصري على ما هو عليه الآن من افتقار لصورة ذاتية جمعية تُحقِّق تلاحم الرؤية إلى التاريخ/الحاضر/المستقبل، … ولماذا تعطل الفعل الجمعي الإنتاجي؛ ومن ثم تعطل الإنتاج الفكري، وجمدت الثقافة في ثوب أسطوري، ثقافة ترسخ التخلف واللامبالاة … كيف صاغت أحداث التاريخ وأقنعة الأيديولوجيا والظروف الاجتماعية … أعني كيف صاغت عمليات التزييف الرُّوحي والنهب المادي والاستبداد الشرس والواقع المأساوي … كيف صاغت هذه جميعًا استجابات الإنسان المصري وثقافته المعيشة وصورته عن نفسه وعن أهل السلطان؟

أزعم أن مصر قبل الغزو الفارسي عام ٥٥٠ق.م. كانت تُعاني حالة انحسار حضاري واهتراء ثقافي أضعف بنيتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، بحيث يسَّر للغزاة مهمتهم. شاعت ثقافة عصر الانحطاط والانحسار التي جسَّدتها الهرمسية التي تلاءَمت بعد ذلك مع حال الإنسان/المجتمع المصري في عصور الاحتلال والقهر والاستبداد والنَّهب المتوالية … والهرمسية في وجهها السَّلبي، ثقافة العجز وفقدان الإرادة والهرب إلى الغيب … ثقافة الغنوصية … المغرقة في الروحانية والنزعة الباطنية وتأكيد أنَّ صراع الوجود ليس صراعًا من أجل إعمار الدنيا وسعادة الإنسان على الأرض وتطوير الحياة حضاريًّا تأسيسًا على مسئولية الإنسان وإرادته الواعية … بل الصراع محوره وإطاره صراع الإنسان ضد الخطيئة اشتياقًا للغيب المطلق المتعالي المفارق الفعال … ولهذا يكون الظرف الوجودي المأساوي والعمل أو الكدح في الحياة تكفيرًا عن خطيئة، وابتلاءً وامتحانًا، وتكون العلاقة بالوجود أو بالسلطة القاهرة عبوديةً واسترحامًا، وأمر الإصلاح موكول إلى الله … وعلى الإنسان أن يَستعين بالصبر على البلاء … في انتظار ثواب الآخرة.

ترى الهرمسية الحياة الدنيا دورات اشتياقًا إلى الواحد الأحد. وأن سبيل الإنسان، الفرد، لبلوغ هذه الغاية دوام الذِّكر والاستغفار والإكثار من العبادات والابتعاد عن الدنيا التي هي متاع ولذة. وشر الأمور أن تكون الحياة الدنيا غاية، ومن ثم ينصرف المرء عن الخير الأسمى/الله. والحكمة التي هي الطريق إلى معرفة الله مؤلفة من ثلاثة: الخيمياء والتنجيم والسحر الأبيض، وأثر الثلاثة على البشر، هذا دون السحر الأسود الذي تُمارسه قوى شريرة.

يقول هرمس مثلَّث العظمات، وهو، على الأرجح، تحوت كبير الآلهة في مصر القديمة:

اجمعوا بين محبة الديانة والحكمة، وقفوا أنفسكم على تعليمها، وإن قدرتم على أن يكون زمان مقامكم في هذه الدنيا مصروفًا بأَسره إلى ذلك دون غيره فافعلوا، ومتى كنتم بهذه الصِّفة سهل عليكم ما يصعب على غيركم.

ألَا نجد صدى لهذه المقولة فيما يُسمى بالدِّين الشَّعبي أو الثقافة المعيشة لدى العامة في ظل القهر والاستبداد وتعطُّل إرادة الفعل والروح الجمعية؟ إنها مركز قوى الجذب كعقيدة مُستضعفين يجري على هديها وبدافعها تأويل أي عقيدة تالية لتكون أداة تكيُّف مع مُقتضى الحال طالَما استمرَّ القهر والمعاناة والاستبداد. وفي هذا المناخ الثقافي الكسيح بدأت تتوالى غزوات الأجانب. وتضافر هذا المناخ مع جهود الغزاة لتدمير كل عوامل المنعة واحتمالات الصحوة الثقافية والاجتماعية. حقًّا لم يحُلْ هذا دون صحوات بين الحين والآخر، ولكن المناخ الاجتماعي، أو الرأي العام السائد بين أفراد المجتمع مُتعاونًا مع قوى القهر يجهضها أو يتخلى عنها. وأصبحت المرجعية الفكرية في حياة المجتمع والأفراد تجسدها ثقافة الهجرة إلى الغيب وانصراف المرء فردًا بكليته إلى شكليات شعائر وطقوس الدين دون إعمار الدنيا.

ومع اتصال حالة الانحسار الحضاري بكل انعكاساتها الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، ومع تفاقم الوضع منذ بدايات عصور الاحتلال على اختلاف الغزاة حتى عصرنا الحديث والاستقلال الذي أفضى إلى إبدال استبدادٍ أجنبي باستبدادٍ محلي، ثم اقتران الاستبداد المحلي بتعطل رؤية نهضوية واعية بالتاريخ وبالحاضر، أو عازفة عن النهضة والتحدي الحضاري على الرغم من الوعي بمُقومات ومُقتضيات النهضة … أقول مع اتصال واطراد الوضع المأساوي بخضوع مصر للاحتلال الفارسي منذ ٥٥٠ق.م. وجَدَت الهرمسية امتدادًا عقيديًّا ووظيفيًّا لنفسها في صورة الرهبنة في ظلِّ المسيحية أو في صورة الصوفية في ظل الإسلام وصوغ المرجعية الفكرية والثقافية للعامة.

ودَعت هذه وتلك الإنسان إلى ما سمَّته فضيلة الانصراف عن الدنيا واللجوء أو الهرب من آلام وعذاب الواقع المهيض إلى رحمة الغيب أو ترك الدنيا لأهل السلطان الطامعين، ولنُقبل نحن بقلوبنا زاهدين مُخلصين نحو الغيب. وسادَت تأويلات غابت معها قوانين الدنيا ومقومات النهوض بالواقع أو الثورة عليه، وانصرف الاهتمام كل الاهتمام إلى استرضاء الغيب على حساب مُتطلبات النهضة، بينما غرق الإنسان المستضعف المُستذل في مُتطلبات الإشباع الغريزي؛ مما فاقم من حالة الانفصام أو ثقافة الانفصام في صورة وجدان فرد يشتاق إلى الغيب أو سلوك فرد طامع في إشباع غريزي وليس طموحًا للترقِّي والتحدي على أرض الواقع.

ووجَدَت جميع النُّظم الحاكمة، أجنبية في السابق، ومحلية بعد ذلك، فرصتها في تغذية هذا الشعور وطقوس الدروشة. وتضخم الوجدان الديني الزائف الداعي إلى الانصراف عن الدنيا، سواء في صورة الرهبنة وتقديس أهلها، أو سلوك الصوفية والتبرُّك الاجتماعي بها، واقترنت هذه وتلك بثقافة الصبر على البلاء بزعم أن أمور الدنيا من اختصاص الساسة دون كل ما يُحقِّق للمرء فردًا أو جماعة حق المشاركة في إدارة شئونه، وأنه صاحب حق في الدنيا مثلما له ثواب الآخرة.

ولهذا ليس غريبًا أن نجد الحكام يَعمدون إلى استرضاء جماعات الصوفية التي كثر أتباعها وتعدَّدت طرقها لتكون هي أو شيوخهم أداة دعم للحكام، وأداة حفاظ على النظام الحاكم وحِفظ الأمن ضمانًا لما يُسمى استقرار المجتمع لصالح السلطان.

ونجد في مصر مثلًا طرقًا صوفية تعددت مع الزمن وتزايد أعضاؤها حتى تجاوَزوا عشرات الملايين، وأصبحوا ثقلًا اجتماعيًّا رهيبًا، وجميعهم يَدينون بالطاعة العمياء والولاء المطلق لشيوخهم الذين هم على صلة بالحكام ومَوضع رضًى منهم، وهم المسئولون أمامهم عن التوجُّه العقلي والوجداني لأتباعهم. وبذلك قامت الطرق الصوفية تاريخيًّا بدورِ ما يُعرف اليوم بوزارات الداخلية لتطويع فكر وسلوك العامة وفقًا لرغبة أهل السلطان. ومن ثم نجد الاثنين على وفاق في الوظيفة الاجتماعية وإن تبايَنَ النهج.

وأدعو القارئ إلى أن يُعيد معي قراءة عبارة/عقيدة هرمس، ويقرأ معي أيضًا كمثال ما قاله اثنان صاغا بحسم وجدان عامة المسلمين، وتُروِّج لفِكرهما المؤسسات الدينية الرسمية بدعم من السلطات. وهذان هما أولًا حُجة الإسلام الشيخ أبو حامد الغزالي والثاني الشيخ محمد بن عبد الوهاب صاحب المذهب الوهابي.

يُحدثنا أبو حامد الغزالي أو يتحدث إلى من تَصوَّره تلميذه في رسالة/كتاب بعنوان: «أيها الولد». يتحدَّث هنا عن معنى العلم وحدود العلم اللازم لنَجاة الإنسان في هذه الدنيا … أي الخلاص من المعاناة … يسأل الولد معلمه الغزالي:

«أي نوع من العلوم يَنفعني غدًا، ويُؤانسني في قبري؟»

يُجيب الشيخ ليهدي أمة الإسلام وكيف تُوظف يومها لغدها؛ ومن ثم بيان معنى المستقبل في حياتها دائمًا، ويصوغ الإجابة على هيئة تساؤل، فيقول:

«أي شيء حاصل لك من تحصيل علم الكلام والطب والدواوين والأشعار والنجوم والعروض والنحو والصرف غير تضييع العمر بخلاف ذي الجلال؟»

ومن ثمَّ نسأل نحن عن التجليات الثقافية لمثل هذه النصيحة/العظة: أي نفع نجنيه من الحديث عن التحدي الحضاري وبناء أمة عزيزة دعامتها العلم والمعرفة والتكنولوجيا. ولهذا لا غرابة أن يُقبل الناس على كُتب عذاب القبر، والحياة بعد الموت، ويَنصرفون فرادى وجماعات عن قضايا الوطن والوطنية والمواطنة.

وهذا هو أيضًا الشيخ محمد بن عبد الوهاب في رسالته «الأصول الثلاث وأدلتها»، يُؤكد فيها أن العلم هو معرفة الله ومعرفة نبيه ومعرفة دين الإسلام … فإن الإنسان خُلق فقط لهذا العلم والعمل به والدعوة إليه، وليس لأي شيء آخر.

ويقول: «والعلم علمان؛ علم نافع وهو علم الآخرة، وعلم الدنيا.»

وعنده: «خير العلوم العلم اللدني الذي يأتي عبر مُجاهَدات الروح والنفس» وليس عبر اجتهاد العقل والبحث العقلي.

أليس من حق أهل السلطان أن يَهنئوا بهذا الكلام ويستثمروه للحفاظ على سلطانهم؛ ومن ثم يبذلون أقصى الجهد والطاقة لترويجه وترسيخه في الأذهان باسم العقيدة التي زيفوها؟ وغاية ما يراه هؤلاء ومن ورائهم العامة أنَّ الحضارة هي عمارة المساجد وإصدار كُتب عن الحياة بعد الموت. ويستغرق العامة، المعذَّبون في الأرض، في قراءة كتب وفي ممارسة طقوس الحياة بعد الموت يَلتمسون العزاء والسَّلوى. ويقترن هذا لزومًا بالانصراف عقلًا عن كل ما يتعلَّق بالحياة قبل الموت والإقبال في نهمٍ غريزي على استهلاك مُنتجاتها. وهكذا تسود حياة لا عقلانية فردية الطابع … ويَغفُل الجميع عن عقلانية الدين والدنيا.

ولعلَّنا نجد في هذا إجابة على سؤال: لماذا لا يثور المصريون؟ ولماذا يثورون عند امتهان كرامة الوطن والمواطن؟ لقد أطاحت بهم على مدى القرون تأويلات لا عقلانية لمعنى الدين هي امتداد للهرمسية ولا عقلانية الحكمة/الدين في لباس مسيحي أو إسلامي. وأصبحوا بذلك ضحايا يَهيمون مع تخييلاتهم في فضاء لا عقلاني؛ بينما أقدامهم بعيدة عن أرض الواقع. وهكذا كان اغتيال العقل في حياة المصريين على اختلاف دياناتهم.

(٥) الأزمة وخصوصية المسألة المصرية

أزعم أن مصر واجهت محاوَلات خصاء ثقافي مُتعمَّدة على أيدي الغزاة في تعاقُبهم وصراعاتهم الإقليمية للاستئثار بالفريسة. وهذا هدف الغزاة دائمًا في كل بقاع الأرض وعلى مدى التاريخ. وأزعم كذلك أن مصر، التي نبحث عن صورتها، عاشت في معزل عنصري (أبارتهيد) منذ سقوطها فريسةً للغزاة إلى حين تاريخ انبعاث حركة النهضة الحديثة أو عودة الروح المصرية على يدَي رفاعة الطهطاوي أول مَن بعث صورة مصر الحضارة القديمة إلى النور وطالَبَ بوحدة تاريخها، ثم أحمد عرابي أول مَن أطلق صيحة الفلاح المصري مُطالبًا بحق المشاركة في صنع القرار. وكان محمد علي مناسبةً لا سببًا لكسر حاجز المعزل العنصري.

جميع الغزاة في تعاقُبهم ناصبوا الثقافة المصرية العداء القاتل. وجميع الغزاة ابتداءً من الفرس عمدوا إلى تدمير ونهب ثروات مصر المادية والروحية … إنهم لم يَستنزفوا خيراتها الاقتصادية فحسب؛ بل عاثوا فسادًا، ودمَّروا بيوتَ ومؤسَّسات الثقافة فيها، حلُّوا الجيش وأصبحت مصر بغير أداة للدفاع عن قضية قومية … ونهبوا الكتب ودمروا المعابد وأسرُوا العلماء وأخرسوا الكهنة … وكانت المعابد هي المطبخ الثقافي ومراكز العلم أو ترسانة الثقافة وخزانة الوعي الثقافي الاجتماعي تصوغ وتُجدد رؤية المجتمع وإطاره الفكري.

وحريٌّ أن نأتي هنا بشهادة مؤرِّخ قديم غير مصري هو ديودور الصقلي الذي عاش في الإسكندرية في القرن الأول قبل الميلاد؛ إذ يقول: «إن الفُرس بقيادة قمبيز أشعلوا النيران في كل معابد مصر، وحملوا معهم كل الكنوز إلى آسيا، واقتادوا قسرًا عمالًا مصريِّين لبناء القصور الشهيرة وبعض المدن في ميديا.» وهذا ما فعله الغزاة من بعدهم. ونضيف أنهم أسروا علماء ومن بينهم فيثاغورس الذي عاش ١٨ عامًا في مصر طالبًا للعلم.

وكان الحدث الأكبر الذي قطع الحبل السُّري الواصل بين ثقافة المجتمع كمؤسَّسة وبين أبناء المجتمع، حين أصدر كل من الإمبراطور الروماني ثيودوسيوس في القرن الرابع الميلادي ومِن بعده جوستنيان في القرن السادس الميلادي مرسومًا بإغلاق المعابد وتحريم وتجريم تعاليمها والعبادة، وهو ما يُعادل إصدار مرسوم بإلغاء الذاتية الثقافية المصرية المعبِّرة عن وحدة المجتمع وتضامنه وانتمائه ووحدة رؤيته. ومنذ هذه الوقائع والمصري يُعاني مما نُسمِّيه انسلاخًا عن الذاتية، أو اختلال الأنا. انطوى المصري على نفسه فردًا يجتر ثقافة فقَدَت نبعها وأسباب تجديدها وتحوَّلت في الأذهان إلى أساطير وخرافات.

… وهكذا، أصبح المصريُّون يعيشون فرادى يضمُّهم مكان بغير زمان. وهناك من الغزاة من فرضوا تاريخهم هم على مصر والمصريِّين؛ ومن ثم أصبحوا ينتمون إلى تاريخ لم تَجرِ أحداثه على أرضنا.

وهكذا، المجتمع المصري طُمست صورته المشتركة أو الجماعية إثر سقوط حضارته وإهدار ثقافته التي هي حصاد وعيه المعرفي في التاريخ … لم يَعُد بالإمكان أن يدرك الإنسان المصري، كمجتمع منتج هادف، الأشياء نفسها وَفق إطار واحد جامع لواقع مشترك؛ إذ بات الواقع، العالم، فرديًّا … ومع اختفاء إحساسنا بواقع مشترك، وبقضية مشتركة قومية، بعد أن حلَّ الفُرس الجيش المصري رمز قوة المجتمع للدفاع، بعد هذا فقَدنا أداتنا الوسيطة المشتركة، وفقَدنا الحافز المشترك، والهم المشترك للتعبير وتواصُل الخبرات … تشرذم المجتمع إلى تجمُّع سكني. ومع تمزُّق الشمول المُجتمعي، ومع فقدان الخبرة الفردية لخصوصيتها الكلية؛ أي العامة المشتركة، ومع فقدان آلية الصياغة النَّسقية للحصاد المعرفي وليد الفعل الإنتاجي المجتمعي … مع هذا كله تحللت الثقافة إلا من أساطير، وتفكَّك التضامن الاجتماعي أو ساد مناخ الاهتراء الثقافي.

ولنقرأ معًا ما قاله العالم المؤرِّخ المصري محمد شفيق غربال في كتابه «تكوين مصر» يصور مصر في أيام هيمنة الإغريق والرومان، وهو ما تكرَّر على توالي الغزوات:

«بقي الإغريق مُنعزلين، وظلُّوا طائفة مميزة … وظلَّ المصريون يعملون حطَّابين مُحتطبين ومالئي الدلاء، يُعاملون معاملة الأجناس المُستعبَدة، يكدُّون ويَكدحون حتى يسقطوا من الإعياء، حُرموا من أن ينهض بينهم زعماء منهم، وتُركوا نهبًا لقساوستهم المتعصِّبين.»

ويُضيف:

«وأبقى ملوك البطالمة وقياصرة روما على السخافات والمساخر الدينية عن سوء قصدٍ ونية، وأصرُّوا على الإمعان فيها وهم في قرارة أنفسهم يَحتقرونها بكل جوارحِهم.»

ومع جفاف مَنابع الثقافة القومية، وغياب العمل المجتمعي المُعبِّر عن العلاقة الإبداعية بين الإنسان والبيئة في صورة معرفة، ومع تعاقُب الغزاة والتسلُّط والقهر غاب الوعي التاريخي أو الوعي بالتاريخ، وتعطَّلت قدرة المجتمع على صياغة صورة عن ذاته ممتدة من الماضي إلى مُستقبل يهدف إليه بجهده علمًا وعملًا عبر الحاضر.

وأصبح هذا الواقع الثقافي المُهترئ هو المستودع اللاشعوري الحاكم زمنًا طويلًا؛ ومِن ثمَّ نتوقَّع توترًا بينه وبين أي محاولة للتجديد والتغيير في ضوء واقع حضاري مُغاير، بل إنه سوف يؤثر سلبًا على جهد وسلوك الإنسان المصري الذي هو أداة التطوير. وطبيعي أيضًا أن الإنسان/المجتمع حين يُواجه كارثةً أو انتكاسة وهو عاطل من بنية ثقافية عقلانية تُفسِّر له الأحداث فإنه سرعان ما يرتدُّ تلقائيًّا إلى رصيده الموروث. وهذا ما حدث على مدى قرنين من الزمان مع محاولات النهوض والتعثر؛ إذ مع مطلع النهضة يُشرق الأمل، ومع النكسة ينطلق اللاشعور ومُحتواه اللاعقلاني.

وعلى الرغم من أن الزعماء الذين تصدَّوا للنهضة رصدوا جهدهم لبناء مصر الحديثة، إلا أنهم لم يراعوا أبعادًا مهمة مثلَما حدث في اليابان أو الهند أو الصين. إذ استعانوا بالاستبداد لإقامة العدل إشباعًا لموروث ثقافي يَفرض هذا النهج الخاطئ، وتحقيقًا لمبدأٍ تردَّد في عبارة المستبد العادل، وهي مقولة خاطئة ومنافية لمقتضيات حضارة العصر. وإزاء الاستبداد يظلُّ المصري محتميًا. بموروثه الثقافي السلبي. ولم يضع من تصدوا للنهضة من زعماء وأحزاب أزمة الإنسان المصري، وحالة انسلاخ الأنا وجذورها التاريخية؛ بل إنهم جميعًا ولا يَزالون حتى الآن يخشون الإنسان العام الذي هو معلم/حضارة الصناعة والمعلوماتية، فإن ثورة/حضارة الصناعة هي ثورة الإنسان العام المشارك الفعال في حرية.

وتتجلى صورة الإنسان المصري في حكمته التي تُبلورها أمثاله العامية. وهذه الأمثال تحمل نقيضين … أمثال تدعم سلوك اللامبالاة والانطواء والسلبية وعدم الانتماء … وأمثال أخفاها القهر والاستبداد والتي تَدعم الروح الجمعية والتحدي والبناء. ونشَأَت كذلك على أرض مصر ثقافتان أخريان؛ ثقافة السلطة وثقافة العامة المستضعفين. وتُحدِّد كلٌّ من هاتين الثقافتَين صورة الذات وصورة الآخر والسلوك الواجب نحو الذات ونحو الآخر. صورة الذات عند السلطة الأبَّهة والثراء الفاحش والبطش والاستبداد بالآخر … وصورة الذات عند العامة التحايل على البقاء … والتوحُّد رياءً مع المعتدي وهذا المبدأ هو أساس ثقافة الفهلوة المعتمد على مدى تاريخ مصر … وكذلك ثقافة الصبر على البلاء … وتنبعث من أعماق النفس ما استقر فيها على مدى التاريخ، أعني ثقافة الهرمسية … الدعاء إلى الغيب، والعوض عند الغيب، والهرب إلى الغيب.

وتفاقمت هذه الثقافة في العقود الأخيرة في ظلِّ واقع الاستبداد وانسداد سُبل الحراك الاجتماعي وتعطل أسباب تحقيق الطموح ووأد الأمل خاصة عند المرشَّحين ليشغلوا مكانًا في الطبقة الوسطى، وهم خريجو الجامعات. ولذلك ليس غريبًا أن نرى من هؤلاء مَن يتطرَّفون في تصديهم للواقع في ضوء أحكام نابعة من هذا العمق اللاشعوري دون اعتماد على العقل لشحذ الطاقات من أجل التغيير والتطوير وَفق صورة ذاتية حضارية منافسة على الصعيدين المحلي والعالَمي.

وارتدَّت مصر خلال العقود الثلاثة الأخيرة إلى اللاشعور الهرمسي، وأضحت تجمعًا سكنيًّا مُنفلت الغرائز وليست مجتمعًا. وأصبحت صورتنا الذاتية نثارًا في أزمة هي تجلٍّ لواقع الحال. تعطل الفعل الإبداعي لإنتاج مشروع الوجود على مستوى حضارة العصر، وغاب الوعي التاريخي الذي يصوغ رؤية واحدة موحَّدة لنسيج الأمة على مدى تاريخها في تطوره الجدلي. وغابت الرؤية المستقبلية التي تُمثِّل وعاءً لطاقات الأمة وهدفًا لها وحصادًا لإبداع العقل العلمي. وغابت قضية إعادة بناء الإنسان وإعادة تنظيم البنية الذهنية الثقافية بدلًا من شيوع الثقافة الاحتفالية. وبدلًا من أن نعيش عصر العقل والواقع والتفكير العِلمي ارتمى الناس أفرادًا كلٌّ وَفق مذهبه في أحضان ماضٍ انتقائي التماسًا لخلاص وهمي. وعشنا زمنًا مُحلقين في فراغ الأمة الإسلامية والأمة العربية قبل أن نُرسخ مواقع أقدامنا هنا في مصر لتكون هي البداية والمنطق، ونَبني مصر ندًّا حضاريًّا على أساس مشروع تطوير حضاري يُعزِّز العقل والروح معًا.

هكذا غابت الصورة الذاتية للمُجتمَع، فهل يمكن للآخر أن يصوغ صورة عن ذاتيتنا على أساس موضوعي دون أن تتوفَّر لنا هذه الصورة ودون أن نصوغها نحن بفعلِنا الحضاري؟ ثم نتحدَّث عن الانتماء؟

(٦) صورتنا لدى الآخر في عصر التحول

استطرادًا أو استكمالًا للصور المتعدِّدة التي تَعرضها المرايا والنَّوافذ نَعرض فيما يلي مثالًا جديرًا بالاهتمام لصورتنا نحن لدى الآخر، وذلك في سياق عرض صورة أفريقيا في عصر المعلوماتية. نقرأ هذا العرض عند عالم الاجتماع والفيلسوف مانويل كاستل في سفره الضَّخم «عصر المعلومات»، الصادر عام ١٩٩٩م، في المجلد الثالث ص٧٠–١٢٢. ولنا أن نتبيَّن من خلال هذا العرض ومُقارنته بحالنا مدى صِدق انتمائنا لقارة أفريقيا.

يقول:

في الربع الأخير من القرن المُنصرِم حدَثَت ثورة تكنولوجية مُتمركزة حول المعلومات أدَّت إلى تحوُّل أسلوب التفكير والإنتاج والاستهلاك والتجارة والإدارة والاتصال والحياة والموت وشن الحروب والعلاقات والممارسات الجنسية. وتُشكِّل اقتصادًا كوكبيًّا شاملًا الكوكب كله، يَربط أعدادًا من البشر المُهمِّين وأنشطتهم من مختلف أنحاء العالم؛ بينما يسدُّ الطريق أمام شعوب وأقاليم ليَحُول دونهم ودخول شبكات القوة والثورة … ونشأت ثقافة الخائلية الواقعية. ويقول عن معنى هذه الثقافة: وأعني بالخائلية الواقعية real virtuality منظومة يكون فيها الواقع نفسه (أي الوجود المادي/الرمزي للناس) غارقًا بالكامل في مشهد لصورة خائلية في عالم الإيهام، حيث الرموز ليست مجرَّد مجازات وإنما تُؤلِّف الوجود الفعلي. (الخاتمة، مجلد ٣)
وشملت ثقافة الخائلية الواقعية عالمًا سمعيًّا بصريًّا مُتفاعلًا في تزايد مطرد، نفذ إلى التصورات الذهنية والاتصالات في كل الأنحاء دامجًا تنوع الثقافات ضمن نص فائق إلكتروني electronic hypertext. وإذا بالمكان والزمان، وهما الأساس المادي للخبرة البشرية، تحوَّلا إلى فضاء تدفقات space of flows يُهيمِن على فضاء الأمكنة؛ وإلى الزمان اللازماني timeless time الذي تجاوَزَ زمن ساعة الحقبة الصناعية.

ونجد في عصر التحوُّل التعبيرات الخاصة بالمقاومة الاجتماعية لمنطق سيادة المعلوماتية والعولَمة تدور حول هويات أولية خالقة مجتمعات محلية دفاعية باسم الرب أو الوطن المحلي أو العِرق أو الأسرة. ويتداخَل صعود المعلوماتية مع صعود اللامساواة والاستبعاد الاجتماعي في كل أنحاء العالم … وكذا إعادة هيكلة الرأسمالية ومنطقها القاسي في المنافسة … ولكن الشروط التكنولوجية والتنظيمية الجديدة لعصر المعلومات تُهيئ نقلة جديدة قوية للنمط القديم لالتماس الربح.

إنَّ صعود الرأسمالية المعلوماتية/الكوكبية خلال الربع الأخير من القرن العشرين تَوافَق حدوثه مع انهيار اقتصادات أفريقيا وتفكُّك الكثير من دولها، وانهيار غالبية مُجتمعاتها … فوضى سياسية، هجرات جماعية، عنف، انخفاض مستوى المعيشة، اعتمادية على الخارج … وأرى أن ثمة أسبابًا هيكلية واجتماعية لهذا التوافُق التاريخي … وأسهمت عوامل في إنكار الإنسانية dehumanization على شعوب أفريقيا.
  • في عام ١٩٥٠م تصدر أفريقيا أكثر من ٣٪ من صادرات العالم.

  • في عام ١٩٩٥م تُصدر أفريقيا ١٫١٪.

  • في عام ١٩٨٠م أفريقيا هدف ٣٫١٪ من صادرات العالم.

  • في عام ١٩٩٥م أفريقيا هدف ﻟ ١٫٥٪ من صادات العالم.

  • انخفَضَت واردات العالم من أفريقيا من ٣٫٧٪ عام ١٩٨٠م إلى ١٫٤٥٪ عام ١٩٩٥م.

  • مزيد من الاعتماد على القروض من البنوك الدولية مما يزيد التبعية.

  • العزوف عن التصنيع المحلِّي والاكتفاء بالاستيراد.

  • زيادة واردات الأغذية.

  • ضعف البحث العلمي.

  • الوجود رهن المساعدات الخارجية والقُروض الأجنبية والمنح، هذه هي القسمة الأساسية المميزة للاقتصاد السياسي.

  • سداد الديون غير ميسور إلا من خلال إجراءات تبعية [مثل شن حرب بالوكالة أو بالمشاركة بعض الديون].

  • بيع الأراضي والبنوك وتمليكها للأجانب.

  • ضعف كلمة الدولة وانحسار دورها مع دول حوض النيل، لم تَعُد الدولة القائدة/النموذج.

والنتيجة: التهميش عالميًّا وإقليميًّا.

وهذا هو واقع أفريقيا دون قارات العالم … لماذا؟

باحثون يرَون:

بيئة مؤسسية ليست موضع ثقة.

تهاوي البنية التحتية للإنتاج والاتصال ورأس المال.

سياسات اقتصادية خاطئة تعوق الصادرات والاستثمار لصالح جماعات مصالح محلية لارتباطهم ببيروقراطية الدولة؛ ومن ثم ضعف أو انهيار القدرة على المنافسة والمشاركة في المجتمع العالمي المعلوماتي الشبكي.

على الرغم من التهميش في داخل الشبكات الكوكبية، توجد موارد قيمة، مثل البترول والمعادن … لا يزال لها رواجها في التصدير، وتُحقِّق نموًّا اقتصاديًّا … ولكن المشكلة هي استخدام الحكومات لعوائد الصادرات. ونجد البيروقراطية الثرية تَنعم بمُستوًى عالٍ جدًّا ومسرف في استهلاك واردات باهظة الكلفة، بما في ذلك المنتجات الغذائية والأزياء حسب الموضة العالمية من الغرب.

تدفُّقات رأس المال من البلدان الأفريقية إلى الحسابات الشخصية والاستثمارات الدولية المُربِحة في كل أنحاء العالم التي تفيد فقط قلَّةً من الأثرياء تُوفِّر ثروات خاصة لإبعاد استثمارها إلى بلد المنشأ لهذه الثروة.

نَلحظ اندماجًا انتقائيًّا لقطاعات صغيرة من رأس المال الأفريقي وأسواق الوفرة والصادرات المربحة داخل الشبكات الكوكبية لرأس المال والسِّلع والخدمات، بينما جماهير الناس في فقر مُدقع وجهل.

ويُؤدي هذا إلى سقوط الاقتصاد التقليدي في أزمات بسبب العجز الشديد عن التصدي والمنافسة، مثل الزراعة وإنتاج الغذاء للسوق المحلية مما يسهم في مزيد من التفكُّك.

وبذلك لا تكون أفريقيا خارجة بالنِّسبة للاقتصاد الكوكبي؛ بل بالعكس تمامًا، إنها مُفكَّكة ومجزأة أي مندمجة كشظايا متناثرة في الاقتصاد الكوكبي … إنها ساحة غير استثمارية لأهلها … مؤسَّسات وعمال أفريقيا مقطوعة الصِّلة بالاقتصاد الجديد المميز للعالم؛ بينما النخب الأفريقية مُرتبطة بالشبكات الكوكبية للثروة والقوة والمعلومات والاتصالات.

تعيش أفريقيا في معزل عنصري تكنولوجي مع فجر عصر المعلومات.

Africa’s Technological Apartheid at the Dawn of the Information Age.

إنَّ تكنولوجيا المعلومات والقُدرة على استخدامها وملاءمتها هي العامل الحاسم في توليد وتحقيق الثروة والقوة والمعرفة في عصرنا. ولكن أفريقيا الآن مُستبعَدة من ثورة تكنولوجيا المعلومات.

البنية التحتية المادية physical infrastructure فقيرة جدًّا بالقياس إلى البلدان النامية الأخرى، ناهيك عن البلدان المتقدمة: توليد الكهرباء، خطوط التليفونات، الطاقة، سهولة الاتصال. بعد هذا كم الحواسِب الإلكترونية والمهارات والمحتوى … غالبية العمل المحوسب خاص بمُعالجة بيانات روتينية وليس بصناعة القرار … الاستجابة لاستخدام الحواسِب جاءت نتيجة تشجيع من شركات إنتاج الحواسب أو نتيجة أيديولوجيا ترى التقدم والانتماء للعصر شكليًّا … وهذا يرسخ التبعية والتخلف التكنولوجي وتكوين ثروات للنخبة البيروقراطية دون أن يَرتبط هذا بمُتطلبات الاقتصاد أو الخدمة العامة.
الدولة النهَّابة The Predatory State الدور التدميري للدول-الأمم الأفريقية للاقتصاد والمجتمع.
يقول: فريمبونج-أنساه Frimpong-Ansah، محافظ البنك المركزي السابق في غانا:

ليسَت العقبة أمام النمو القيود المفروضة على رأس المال؛ وإنما الشيء الحاكم هو القُدرة المؤسسية على تعبئة المدخرات وتوجيهها وتوظيفها.

ويقول آخر:

«إنها أزمة مؤسسات … أزمة أمة تخضع لاستبداد دولة. عناصر الطبقة الحاكمة هم عناصر أقرب إلى أن يكونوا مرتزقة؛ حيث نجد سيطرتهم على مناصب الحكومة والتميُّز تخضع لرحمة قرارات نزوية لحاكم مطلق.»

سياسة الكروش التي لا تَمتلئ the politics of the belly، هذه أزمة أفريقيا في رأي جان-فرانسوا بايار؛ إذ إنَّ النخبة أصحاب هذه السياسات عاطلون من أيِّ استراتيجية سوى تكديس الثروات نهبًا من بلدهم وارتباطات بلدهم في العلاقات الدولية.

الحل لأزمة أفريقيا هو البناء من القاعدة، من الصفر وصولًا إلى الحداثة عبر طريق مُغاير يَرفض القيم والأهداف السائدة اليوم في قيم الرأسمالية الكوكبية … الاعتماد على الذات … ولكن ثمة عقبات تحُول دون ذلك أهمها مصالح وقيم الغالبية من النخبة السياسية في أفريقيا وارتباطهم بالشبكات الخارجية بُغية مصالحهم الخاصة.

Manuel Castells, The Information Age, vol.3, pp. 70–122.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤