عن الهرمسية وأركيولوجيا العقل المصري/العربي

الهرمسية نسبة إلى هرمس مثلَّث العظمات أو المُعظَّم ثلاثًا، رسول الآلهة إلى بني الإنسان في نظر العقيدة المصرية القديمة. وثمة روايات مختلفة بشأن هرمس والمتون الهرمسية ولأيِّ هرمس تعود … والذي يعنينا هنا الرواية المرجَّحة التي تَنسب هرمس إلى الحكمة المصرية وربِّ الحكمة والكتابة في مصر القديمة الإله تحوت أو طوط، وهو الذي أطلَق الإغريق عليه اسم هرمس في إشارة إلى أحد الأرباب الاثنَي عشر عند الإغريق.

ويُمكن القول إنَّ الهرمسية كانت الإطار العام للمُعتقَد الديني المصري قديمًا أو الثقافة الشعبية التي ترسَّخت وسادت وإن تبايَنَت صورها، والتي تَعتمِد ما يُسمَّى السحر الأسود وتسخير قوى خارقة للطبيعة لمصالح بشرية. إنها أشبه بالأدب الشعبي شأن ألف ليلة كمثالٍ، التي لا نعرف مؤلفًا واحدًا لها وإنما نصوص كثيرة تراكمت لمؤلِّفين عديدين تحت عنوان واحد، وربما في أزمنة مُتوالية ومن مصادر مُتباينة. ولكنَّها مع هذا ترسَّخت دينًا شعبيًّا وسلطانًا ثقافيًّا غالبًا يتحدَّى الزمن في ظل سيادة الركود الاجتماعي؛ ومن ثم جمود الفكر وهيمنة الأسطورة. وأصبحت بذلك سر الأسرار والقوة الفاعلة الخفية التي لن يَقهرها سوى فعلٍ اجتماعي جديد نشط مؤسِّس لثقافة جديدة.

ويرى عديد من المُفكِّرين أن للهرمسية جانبَين؛ سلبيًّا وإيجابيًّا، وأنها بجانبَيها المصدر الذي نبعت منه الرهبنة المسيحية التي كانت بداية نشأتها في مصر وانطلقَت منها إلى بلدان أخرى. وكانت الهرمسية أيضًا مصدر التصوُّف والحكمة الإشراقية وفكر إخوان الصفا. وتُمثل كذلك في إحدى صورها الكتاب المقدس عند الصابئة وعند غيرهم، ونجد جوهرها في العديد من عقائد شاعت في المنطقة. وجدير بالذكر ما قاله الفيلسوف الصوفي الإشراقي شهاب الدين يحيي السُّهروردي المعروف باسم «السُّهروردي المقتول» (١١٥٤–١١٩١م)؛ إذ قال: إن هرمس هو النبي إدريس. وقال عنه اليهود لشيوع أسس الهرمسية عندهم إنه النبي إخنوخ.

وتُعتبر الهرمسية شأنها شأن جميع العقائد حمَّالة أوجه، وتخضع للتأويل إيجابًا وسلبًا وفقًا لمُقتضيات المجتمع في حالته سكونًا وحركة، قوة وضعفًا؛ إذ ثمَّة معامل ارتباط وثيق يُؤكده التاريخ بين موقف ووَضعِ المجتمع قوةً وضعفًا، وبين السلوك والثقافة والحياة الباطنية والتنظيم الاجتماعي الهادف.

تُؤكِّد شهادة التاريخ أنَّ التفكُّك الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والعسكري في مجتمع ما يَنعكس واضحًا على سلوك وثقافة المجتمع ومعتقداته وحياته الذهنية والباطنية؛ أي إن حالة التفكُّك والتحلل تصيب جميع جوانب الحياة الاجتماعية وليس بعضها دون الآخر. ويضعف هنا دور النخبة الثقافية التي تُجسد حالة التحلل مثلما تسود حالة من عدم الثقة في السلطة؛ بل وحالة من الشك العام في التقاليد والقيم والمعايير العامة ومصداقية السُّلطة التي تلجأ إلى الاستبداد. ويَنزع المرء أو أفراد المجتمع إلى الهرب من هذا الواقع المهيض والعدواني إلى واقع آخر يصنعه الناس من رموز ثقافية مقطوعة الصلة بالحقيقة وتُعفيهم ظاهريًّا من آلام المواجهة ليتقبلوا آلامًا أخرى تمنيهم بالخلاص في حياة آجلة.

هذا على عكس الحال حين يكون المجتمع قويًّا تنظيميًّا، وقويًّا من حيث الفعالية العامة ويسود الأمن والأمان نفسيًّا وثقافيًّا وتغلب العقلانية والثقة بالنفس وبالمستقبل وبالقُدرة على النهوض وتحمُّل المسئولية القومية والفردية، وهو ما يُوصف إيجازًا بالانتماء.

تؤكد الهرمسية كمثال، في جانبها الإيجابي، على أن الفعالية الاجتماعية للإنسان هي استطراد لعملية اكتمال خلق الكون. وتتجسد هذه الفعالية في إبداعات الفنون والعلوم واكتشاف نواميس الكون ومعرفة كيفية ضمان النظام، كما تؤكد على الانفتاح العقائدي إزاء المعتقدات الأخرى. وهذا هو الجانب الذي انتقل إلى أوروبا منذ بواكير عصر النهضة في صياغته الروحية مع انتقال كُتب مقدسة أخرى للهندوسية والبوذية والكونفوشية والطاوية. وكانت جميعها غذاءً روحيًّا ودعمًا فكريًّا في الصراع ضد الكنيسة ونزعتها الانغلاقية والاستبدادية.

مثال ذلك أنَّ الهرمسية تصف في جانب منها أن هبوط الإنسان الأول من السماء عبر أفلاك الكواكب إلى عالم الطبيعة لم يكن حدثًا وليد خطيئة عصيان، بل بفعل حب وكرم ومباركة الرب. وهكذا تُعفي الإنسان من الشعور بالخطيئة أو الذنب الذي يُلاحقه في حياته الدنيا ويجعل دنياه ساحة توبة واستغفار ولا شيء آخر.

يقول هرمس: إنَّ الله خلق الإنسان على صورته وأحبَّه لأنه ابنه الوحيد (أي كلمته) سبحانه؛ إذ كان جميلًا على نحوٍ لا يُقارَن بغيره، إنه صورة الرب وأحبَّ الله فيه صورته. ومنَحَه الله سلطانًا … سلطان العقل على المخلوقات الفانية غير العاقلة.

ويُضفي هرمس رسول الإله الواحد الأحد، حسبما كان تعريفه، قيمة كبرى على الإنسان بما يعني حق الإنسان في التكريم وإجلال قَدرِه. ويعني هذا إدانة قدسية لكلِّ مُحاولة للاستبداد به والحط من مكانته … ويضع هرمس الإنسان في مَرتبة سامية أو فلك تالٍ للكون والإله، وحمَّله الأمانة. وهذا هو المعنى الجليل الذي استقَتْه النهضة والحركات الإنسانية في أوروبا ولكنه غاب في عصور الظلام والاستبداد التي سادَت مصر مهبط الهرمسية.

ويقول هرمس:

لقد صنع الصانعُ (الإله) الإنسانَ ليُشاركه الحكم، وإذ قبل الإنسان هذا العهد بالكامل صار مصدرًا للنظام في العالم.

ويقول:

والإنسان يفوق ملائكة السماء في الكلام بلا خوف … الإنسان أعجوبة تستحقُّ التشريف والتبجيل.

ويرى هرمس أننا نعرف الإله عن طريق تأمُّل روعة الخلق وفهم نواميس الكون. وحفَّزت هذه الرؤية الكثيرين مِن العلماء إلى البحث في تاريخ الإنسان والكون.

ويقول هرمس:

إنَّ دارس الحكمة الخالصة هو دارس لكل العلوم، لا كنظريات مُهوِّمة؛ بل كولاء للإله «آتوم» … إذ إنَّ تلك العلوم تكشف عن عالم كامل النظام بقوة الأرقام.

ويقول هرمس في هذا المعنى أيضًا:

خلق الله الإنسان على صورته ليكون زينة العالم … وعمل الإنسان (أي دوره) هو أن يُكمِّل عمل الإله «آتوم».

لقد خلق الله الإنسان ليكون سبيله في خَلقِ النظام والجمال في الكون.

وهذه المتون جميعها يُمكن تأويلها لتكون عامل حفز لتأكيد دور الإنسان/المجتمع في إعمار الدنيا واحترام حقوق الإنسان والبحث العلمي في ظواهر الطبيعة، واستكشاف نواميس الكون والإنسان.

بيد أننا نجدُ للهرمسية وجهًا آخر سلبيًّا ظلَّ ولزمنٍ مُمتدٍّ طويلًا ملاذ المستضعفين المقهورين المُعذَّبين في الأرض. ويُمثل هذا الوجه الرمز الاجتماعي الذي يُحلِّق بخيال الإنسان في عالم آخر يلتمس فيه إشباعًا وتقديرًا مفترضين أو متوهمين تعويضًا له عن واقع حقيقي أليم مهين. ويكون الرمز التخييلي بديلًا عن الفعل الدنيوي لتغيير الواقع ودراسة أسباب الآلام على الأرض. وهذا هو الجانب الذي ساد في فترة الانحسار والضعف الحضاريَّين لمصر القديمة، وامتد مع الزمن في ظل الغزوات الأجنبية وما فرضته من نُظُم حكم استبدادية واستنزاف لخيرات البلاد وتدمير لأواصر العلاقات الاجتماعية وأركان الثقافة. ولم يكن غريبًا، كما أكد المؤرِّخون، أن تلجأ نظم الحكم الاستبدادية الغازية إلى تشجيع هذه المساخر. ولكن الأغرب أن نُظُم الحكم المصرية أخيرًا بدلًا من أن تجعل مُهمتها الأولى ثورة ثقافية تُعيد بناء عقل الإنسان المصري إذا بها تكون امتدادًا لسياسات القهر والاستبداد للحكام الأجانب؛ ومن ثم تضاعف من ترسيخ الجانب اللاعقلاني للثقافة الشعبية المتوارثة.

ونجد في فترات الانحسار والاستبداد التي سادَت على مدى أكثر من ألفين وخمسمائة عام ولا تزال مُمتدةً، نرى غلَبة التأويل الذي يُرسِّخ الروح الفَردية الأنانية والهرب من المسئولية الاجتماعية، ويُعزِّز الهرب إلى الغيب دون الاندماج الجَمعي والاجتماعي في شئون الحياة الدنيا وتطويرها جماعيًّا. ويرى الناس في هذا آلية للحفاظ على الذات والبقاء أفرادًا تحاشيًا للمُواجَهة مع قوى بطش طاغية.

يقول هرمس في فصل تحت عنوان «راعي البشر»: «يفوز الإنسان بحبِّ الآب، أي الإله، بفضل حياة التقوى والنَّقاء والتسبيح بحمده، والتوسُّل والتضرع له، وترنيم التراتيل والأدعية والمأثورات، وأن يَنبض قلبه حبًّا للرب، ويَرتفع عن شهوات الجسد وحواسه.»

ويقول هرمس في صلاته وترانيمه وتسابيحه:

«بتسابيحي أعبدك يا مَن أنت الخير وحدك.
لتكن مشيئتك.
أسألك تثبيت إيماني بعرفاني وحبي لك.»

ويقول:

«حياة الإنسان على الأرض يَحكمها القضاء والقدر.»
حياة الإنسان على الأرض فُرصة للتطهر.

ويقول:

خلق الإله الخَلق لنراه في خلقه … وسبيلنا العبادة.

ويقول في فصل تحت عنوان «عن الفكر والحواس»:

«التقوى والتفاني عبادة لوجه الله هي عين الحكمة اللَّدُنية أو العرفان به سبحانه. ومَن عرَف الرب أوتي خيرًا كثيرًا.»

ويقول هرمس:

«أول واجبات المرء الفاضل بطبعه … تعظيم الله عزَّ وجل وشُكره على معرفته، وبعد ذلك فللناموس عليه حقُّ الطاعة له والاعتراف بمنزلته، وللسلطان (أي الحاكم الدنيوي) على المرء حق المناصحة والانقياد … والثواب الأُخروي وحده هو الغاية.»

والأزمة عند الإنسان الهرمسي يجسدها سؤال المريد الهرمسي إلى مُعلمه:

«لماذا قُدِّر على الإنسان القيام في مادة الجسد بدلًا من العيش مع الأرواح في سعادة إلهية أبدية؟»

إنه هاجسُ الخطيئة وحرص النفس على العودة … الردَّة إلى الماضي … إلى ملكوت الرب … ولهذا نجد من بين صلوات العابد الراغب في التحرُّر من سجن المادة/الجسد صلاة يُناجي فيها ملكوت السماء ويقول: «نحن البشر تحملنا البؤس والشقاء بالحلول في ثياب الرذيلة الحقيرة (أي الجسد) … نسألكم: ما الإثم الذي اقترفناه لكي يحق علينا عذاب الدنيا؟»

وطبيعي أنَّ مثل هذه الثقافة تخلق عقلًا ماضوي النزعة، يرى الماضي دائمًا عصرًا ذهبيًّا ولَّى، وأنه آثمٌ بطبعِه وأن النفس الأمارة بالسوء هي الآثمة الجانية، ومن ثمَّ لتكن الحياة كلها منصرفة للتكفير عن الخطيئة سعيًا للخلاص.

والسؤال الآن سؤال مركَّب: ما هي طبيعة وقدرات الإنسان الذي تَستغرقه مثل هذه الثقافة؟ وكيف يكون إطاره الفكري ونظرته إلى الوجود وإلى أي وجهة يكون مخاض سلوكه في الحياة؟ ومَن هو القدوة والمثل الأعلى؟ وما هي نظرته إلى العقل ودوره؟ وما هو معنى ووظيفة المعرفة ومصدرها في تمايز مع ثقافات أخرى تُؤمن بالآخرة وبعالم الآخر ولكنها تمتلك نظرة مغايرة إلى معنى وجود الإنسان على الأرض ودوره ورسالته في الحياة الدنيا؟ ذلك لأنَّ الإجابة على هذا السؤال المركَّب ربما تلقي ضوءًا على الإنسان الذي تستوعبه مثل هذه الثقافة/العقيدة. ويتبع هذا سؤالٌ آخر: وهل مثل هذه الثقافة قدرٌ لا فكاك منه أم أنها نتاج واقع حياتي معيش يمكن أن تتغير مع تغير الواقع ويتغيَّر معها الإنسان؟

ثمة قضية محورية في الثقافات الإنسانية على اختلافها، وهي العامل المحدد لطبيعة نظرة الإنسان إلى الوجود وإلى رسالته. هذه القضية يُمثلها سؤال: مَن هو الإنسان أو النفس الإنسانية التي هي المصدر الأول لوجودي؟

نجد إجابتين:

الإنسان، أيَّا كان المصدر الأول، كائن اجتماعي/سياسي؛ أي معنيٌّ بشئون الحياة الدنيا، وأنه أهلٌ لأن يتحمَّل مسئولية أن يُعمِّر الأرض ويحقق الخبر لنفسه وللمجتمع، أي شريطة توفر حياة اجتماعية مشتركة لها قواعدها ونظامها أو سياستها، وبدا يُحقِّق تناغمًا مجتمعيًّا هو بعض التناغم الكوني.

أو أن يقول:

الإنسان نفس هبطت إلى الأرض بسبب خطيئة النفس وبات لزامًا التكفير عن الخطيئة، وكل نفس/فرد مسئول عمَّا اقترف، وإنَّ سعي النفس للخلاص مسئولية فردية وجهد فردي؛ ومن ثم ليس على النفس من واجبات لها الأولوية سوى المجاهَدة الدءوبة وفقًا لطقوس وشعائر للخلاص من الخطيئة الأولى والعودة إلى مُستقرِّها الأول في رحاب حضرة الوجود الأسمى.

هذه ثقافة وتلك ثقافة أخرى، وتلزم عن كلٍّ منهما حياة اجتماعية مغايرة. وجدير بالذكر أن الفهم الأول لا ينكر عالم الآخرة ولا ينكر الرب وواجب الاشتياق إليه وأداء الطقوس والشعائر لوجهه، ولكنه يقدم صورة أخرى للكون وللإنسان غير الصورة التي صاغتها الهرمسية في جانبها السلبي الشائع. كذلك لا يُنكر الفهم الأول مبدأ الخلق، ولكنه يؤكد مبدأ الفعالية الاجتماعية المُستقلة والتكافل الاجتماعي ومسئولية الإنسان على نحو ما نجد في ثقافة الغرب في عصر النهضة والتنوير وفي شرق آسيا مثلًا.

وإذا تأمَّلنا معنى العقل في الفكر الهرمسي، نجد أنه ليس ملَكة مُستقلة يتمتَّع بها الإنسان ومن وظائفها فهم الإله والكون وتحصيل المعارف وفق قواعد عقلية تُصيب أو تخطئ، ولكن المعرفة/الفهم في الهرمسية هي إشراق من لدن الله … ومن ثم هي صواب مُطلَق دون حاجة للاحتكام لواقع أو لعقل آخر. والإله هو العقل الكلي، وعقل الإنسان قبس أو فيض من العقل الكلي ومهمَّته الفناء في الكل في الإله؛ أي أن يَهدي المرء/النفس إلى طريق الخلاص وصولًا إلى الخير الأسمى؛ الله … ولذلك نجد في الهرمسية كلمة العقل مرادفًا لكلمتي القلب أو الفؤاد الذي هو وجدان ذاتي محض.

ومثل هذا العقل الهرمسي لا يُثري ولا يغتني بتراكم المعارف والمحاجاة أو الجدل المعرفي المنطقي وبفضل المشاركة الاجتماعية أو النشاط الجمعي، وإنما هو قوة أو ملكة ذاتية وقسمة مشتركة عادلة بين الناس جميعًا وواحدة في كل زمان ومكان.

كذلك المعرفة أو العرفان وهي معرفة/ذوق/وجدان/إشراق لدني وذاتية الإدراك … هي معرفة لا تُثري وتغتني بالتراكم، ولا تتطوَّر، وليس لها تجليات اجتماعية خارج الذات العارفة، ويَعجز صاحبها عن التعبير عنها أو الإفصاح بها، إنها سرٌّ قدسي أو هي حالة وجدٍ وذوق وكشف ليس إلا. ومثل هذه المعرفة هي الأسمى وغيرها من المعارف أدنى مُستوًى ولا خير فيها بالمعنى الديني الهرمسي، وفي ضوء رسالة الإنسان على الأرض. وإن مَن ينصرف عنها إلى طريق «الحكمة» أو الإشراق فقد ظفر بالأفضل وبالأسمى، ولا مانع من أن يسلك جميع أبناء المجتمع السبيل نفسه.

والهرمسية حسب هذا الإطار طريق للخلاص ومعرفة النفس وليسَت مذهبًا مُغلقًا، ولكنها طريق فردي، ولكل امرئ طريقته دون تعصُّب. ولعل هذا هو الوجه الذي أعجب بعض مُفكِّري عصر النهضة الأوروبية ضد تعصب وانغلاق الكنيسة. ويُمكن وصف الهرمسية بأنها فلسفة دينية مستقلة، فلسفة انحصار ذاتي solipsism، ورؤية كونية تَعتمِد الذوق الصوفي الذي هو خطاب ذاتي وحالة فردية حتى وإن أنكرها الآخرون. إنها بهذا الفهم رؤية كونية روحية تزداد قوة كلما ازداد المريد انفصالًا عن الدنيا. وتعتمد التأمل سبيلًا للمعرفة … تأمل في الإله ثم كشف ذاتي للحقيقة الإلهية على طريق الخلاص والاتحاد بالإله مبدأ الوجود ومُنتهى غايته. وطبيعي أن الوصول إلى حكمة إلهية ومعرفة بالنفس والإله مُجاهدة فردية يدَّعيها الفرد ولا دليل عليه. إنه هو الذي يقول، وهو الذي ينعم بالخلاص كما يتراءى له هو، وهذا هو الخير الأقصى الذي يشتاق إليه.

المُريد العابد لا يرى «الخير» الذي هو الله مُتجسدًا في المجتمع في صورة حياة ذات خصائص مميزة مثل العدالة الاجتماعية، بل «الخير»، «الله» وجدان ذاتي، والوصول إليه جهدٍ فردي ولا تسأل عن برهان عقلي أو دليل منطقي، وليس للآخرين أبناء ثقافته إلا أن يَحسدوه أو يغبطوه على ما أفاض الله به عليه من نعمة العرفان حسبما تقضي ثقافة المجتمع.

ويُوصف المريد الهرمسي في هذه الحالة بأنه من السالكين الواصلين، الذي عرف كفردٍ طريقَ الخلاص. ويأسى مثل هذا المريد لحال الناس من حوله الذين ألهاهم جمع المال وحب الدنيا وزخرف الحياة. وإذا تمنَّى لهم شيئًا فهو الهداية … أن يهتدي كل فرد إلى ما أنعم الله به عليه من هداية وعرفان … وربما يشتدُّ عطفه عليهم وأسفُه لحالهم فيقسو ليزدجروا، ويشدد النكير عليهم ليدفعهم دفعًا، وهم الجهلاء، إلى الطريق وليُنقذَهم من براثن النفس الأمارة بالسوء ويُعظِّم هذا ثوابه. وهذه هي غاية وحدود الدور الاجتماعي المنوط به. وهذا هو المعنى الأخلاقي الاجتماعي الذي يَحصُر الأخلاق في حدود الدين الهرمسي وليس باعتبار الأخلاق مبحثًا اجتماعيًّا شاملًا.

لهذا نجد من الطبيعي أنَّ مثل هذا المريد الواصل السالك لا تُؤرِّقه قضايا المجتمع وما يُعانيه من بؤس أو ما يتمتع به من وفرة ورخاء؛ إذ لديه المُبرِّر الفكري الذاتي للحالين. البؤس عقاب يحلُّ بمَن انصرف عن طريق الخلاص، والمتعة ملهاة دنيوية عاجلة وحرمان آجل للروح من فردوس ملكوت الرب. وأقصى ما يجود به هذا المرء الواصل هو الصلاة إلى الرب ليهديهم ويَسلُكوا سبيله.

وحريٌّ أن نُجريَ مقارنة هنا بين عقل وعقل في الثقافات الاجتماعية السائدة تاريخيًّا وتطوُّراتها. نجد ثقافة شرق آسيا أو ثقافة الإغريق قديمًا تُحدثنا عن الحكيم وليس القطب الصوفي. الحكيم/الفيلسوف معنيٌّ بقضايا الناس والحياة (الأخلاق) وقضايا العقل والفكر (المنطق)، من حيث الصواب والخطأ وقواعد ومنهج التفكير. والحكمة نتاج تأمل ونظر في الطبيعة والإنسان والكون وجمع خبرات خاضعة للمشاهدة ويمكن عرضها ومشاركة الآخرين في تقديرها والاحتكام إلى عقولهم والمشاركة في تفسيرها وفهمها والحكم على مصداقية التفسير والفهم اعتمادًا على ما يُسمَّى عقلًا أو تحليلًا واستدلالًا عقليًّا منهجيًّا أو إعمال عقل المرء في ضوء مرجعية المعارف السابقة المتراكمة وشهادة الواقع المعيش اجتماعيًّا. وهذا ما قد تَختلف طرق التفكير أو المناهج وصولًا إليه، ولكنه هو منطلق التفاعل ومعايشة الواقع/الكون/المجتمع. ولهذا أيضًا قابل للتطور.

وإذا كان التأمل العقلي المجرَّد للحكماء منهجًا لتكوين رؤية ولتفسير الظواهر، إلا أنَّ هذا يتم في إطار مجتمع يَجري الاحتكام إليه في ضوء النتائج، وهو المجتمع العِلمي، ويعتمد الإقناع الذي هو إعمال فكر وعقل … هذا على عكس الحكمة الإشراقية التي هي فيض إلهي وتجربة ذاتية وإيمان فردي وخلاص فردي، وليسَت بحاجة إلى شهادة آخر، وإنما مناط الأمر حكم المرء المعني كفرد.

ولهذا ليس غريبًا أن تدعو حكمة الإغريق وشرق آسيا على سبيل المثال إلى أن يكون الحكيم الفيلسوف مسئولًا ومرجعًا اجتماعيًّا يسوس أمور المجتمع. وليس غريبًا كذلك أن تتوزَّع الحكمة عندهم في مباحث مُتنوِّعة: سياسة/أخلاق/ميتافيزيقا … إلخ، وتُجسد جميعها أنشطة عقلية؛ أي تعتمد التأمل العقلي المنهجي والبرهان وحكم الآخرين، وإنها أنشطة اجتماعية تَعني الآخرين معًا وهم أصحاب رأي فيها. وليس غريبًا ثالثًا الإيمان بالإنسان الفرد العاقل طرفًا مشاركًا اجتماعيًّا أهلًا للمسئولية باعتباره طرفًا موضوعيًّا في بِنًى شبكية اجتماعية.

ولهذا تقضي مثل هذه الثقافة الاجتماعية بأنَّ الآخر جدير بأن يحمل صفة المشارك وإن تباينت المجتمعات حول شروط أهلية المشاركة. ويُمثل رأي الآخر نوعًا من التغذية العكسية النشطة؛ أي المصادقة النقدية على فكر/عقل صادر عن واقع مُشاهَد، لا غيبي، ومشترك. وإذا كان هذا المعنى يَختفي في ظروف الاستبداد والظلامية، إلا أنه ثاوٍ في اللاشعور ويطفر أو يطفو إلى السطح ويتطوَّر معه الإنسان الفرد من رعية إلى مواطن، ويتطور الحاكم من وصيٍّ وظِل إلهٍ على الأرض إلى حكيم وحاكم بالمشاركة.

هذا على عكس الحكمة الهرمسية أو الشرقية قديمًا، فإنها تلقين من خارج يصدر عن صاحب سلطة أو سلطان غيبي طبقًا لما تَقتضيه ثقافة المجتمع التي ترى أن سُلطانه نابع من وصوله واتصاله بالمصدر الأسمى الذي يَتجاوز الدنيا والطبيعة وطبائع الأشياء. وتعجز قدرات البشر عن الحكم عليه في ضوء الحياة المعيشة. وأكثر من هذا أن سلطان الدنيا، أي الحاكم، يخلع على نفسه مثل هذا الوصف بشكلٍ ما وتدعمه ثقافة المجتمع السائدة وترى أن له الولاية والطاعة معًا.

وإذا تأملنا معنى الاتحاد بالله، الغاية والمُنتهى بالنسبة للواصلين السالكين، نجد أنَّ الاتحاد بالإله بالمعنى الديني الهرمسي فناء في الله. ويعني هذا أيضًا فناءَ المرء إرادةً وفعاليةً ومسئوليةً دنيويةً … إلخ، ويعني بالتالي غيبة كاملة للآخر والمجتمع وقضاياه … غياب فعالية الإنسان في الأرض ولا حساب للمرء على ذلك.

بينما نجد فلسفات أخرى تحدثت عن اتحاد المرء بالله ولكنها أضفت عليه رؤية مغايرة؛ إذ يعني الاتحاد بالله فلسفيًّا فهم عقل المرء لمعنى الإله وفعاليته وحُدودها وصفاتها في استقلال عن الذات العارفة دون إفناء لهذه الذاتية ودون غياب لقضايا أخرى اجتماعية. ولهذا تكون للذات الفاهمة للألوهية والمتَّحدة فكريًّا معها كذاتٍ قُدرة على الحديث والإبانة والتوضيح على نحو يُؤكِّد وجودها الذاتي المستقل. ويُمثل كل هذا فصلًا واحدًا من بين فصول كتاب المعرفة/الحكمة الفلسفية التي يُسطِّرها عقل هذه الذات العارفة.

المعرفة/الحكمة الدينية الهرمسية وحيٌ من الإله/إشراقية … إنها فيض يُنعِم به الإله على عبده الواصل. هذا بينما المعرفة الفلسفية استنباط واستدلال عقلي، واحتكام للعَقل المنطقي، عقل الذات العارفة وعقل المخاطب الآخر. إنها معرفة للمجتمع، ومعرفة عن النفس/المجتمع/الوجود وللفعل الحاكمية. ولهذا يَنتظِر الإنسان الشرقي نبيًّا يهديه أو حاكمًا ملهمًا ومن ثم له الطاعة. وليس حاكمًا حكيمًا ذا قدرات عقلية تؤهله للفهم والتفسير والحوار والتفاعل مع العقول الأخرى.

وشيوع مثل هذا الاعتقاد ضمن ما يُسمَّى الوجدان أو الدين الشعبي يرسخ تقليدًا لدى العامة في النَّظر إلى الحاكم باعتباره مطلق الإرادة والسيادة ووكيل الإله لحلِّ جميع المشكلات، ويُرسخ تقليدًا آخر في النظر إلى طبيعة وجذور مُشكلاتهم وقضاياهم وأزمتهم. وكم هو يسيرٌ على أمة هذا وجدانها أن تُخدِّر نفسها. بمسلَّمات زائفة أو أن تُشوِّه معنى الأحداث لتتلاءم مع إطار مرجعي موروث وليس مع الوقائع ذاتها بعد فَهمها علميًّا وإن التزام العامة بمُسلَّماتهم يَصرفهم عن بحث الوقائع علميًّا لبيان الأسباب الموضوعية للأزمة وسُبل حلها لخير المجموع. وطبيعي أيضًا أن تَنزع السلطة الحاكمة إلى تشجيع مثل هذا التقليد الذي يُعفيها كسلطة حاكمة من المسئولية ومن المواجهة.

وغنيٌّ عن البيان أن التماس دليل عَقلي أو برهان يعني إعمال أو إجهاد فكرٍ، ويَعني التزامًا بقواعد منهج. هذا على عكس المعرفة الإشراقية الحدسية، إنها سعادة ذاتية لا تَدفع صاحبها إلى فعل اجتماعي ولا تخلق ثقافة اجتماعية مؤسَّسة على تراكم معرفي عقلي منهجي. وتتضمَّن المعرفة العقلية القائمة على البرهان صراع الإنسان ضد الجهل، جهل بالطبيعة وظواهرها، وجهل بالإنسان ومُقتضيات حياته الاجتماعية وتطويرها، ومن ثم تستلزم دائمًا المزيد من البحث ومراجعة الذات … ولكن نجد في المقابل المعرفة الإشراقية، صراع ضد الخطيئة، ومجاهَدة لمعرفة الإله والاتحاد معه؛ ومن ثمَّ فإن المعرفة العقلية البرهانية صراع للفهم والتحكم عقليًّا (عمليًّا) في الطبيعة والنفس، وسعادة المُجتمع روحيًّا ودنيويًّا تأسيسًا على حاجات الإنسان والمجتمع سواء حاجات إدارية لتنظيم المجتمع أو لإشباع رغباته الرُّوحية الفكرية والمادية وهنا تكون العقيدة فكرًا عقليًّا وقيمًا اجتماعية وليست نصوصًا للاستظهار والتكرار.

وترسخ مثل هذه الثقافة الاجتماعية العلاقة التفاعُلية المتبادلة بين الفكر والواقع تأسيسًا على المنهج العقلي والتطور/التراكم المعرفي. وتحول أيضًا دون التحليق في فراغ ما وراء الواقع والتهويم مع نظر «فكري مجرد» لا يتطوَّر نظرًا لانقطاع صلته بالواقع المعيش المُتغير أبدًا. وها هنا ثقافتان … ثقافة تغيير وتطوير مقابل ثقافة الثبات والسكون.

ثقافة السكون والركود هي التي جمدت في صورة أسطورية على مدى قرون مع ونتيجة لجُمود الفعل الاجتماعي الإبداعي النشط، وتعتمد التلقين والنمطية الشَّكلية للسلوك والفكر. وصاغت هذه الثقافة، وصاغت معها الحياة الراكدة ما يُمكن أن نُشبهه على سبيل المجاز بنسيج عقل يلفظ أي عضو جديد يقحم عليه … ولهذا تقف هذه الثقافة بلسان أبنائها صارخة مستغفرة ضد كل الثقافات الأخرى، وضد كل مستجد؛ إذ تراه بدعة وضلالة، وكذا ضد التعددية والتنوع. إنها أشبه بالجسم المريض الذي يَرفض غرس أي عضو غريب؛ إذ سرعان ما يلفظه ويلفظ معه أسباب الحياة … ومثل هذه الثقافة لا يجدي معها أسلوب الترقيع أو الإضافات الجزئية من خارج، وإنَّما إعادة بناء كاملة؛ لأنَّ الثقافة الاجتماعية بِنيَة كاملة مُتكاملة، تتحقَّق بفضل وعي عقلاني بالعمق التاريخي، وبفضل نشاط مجتمعي إنتاجي إبداعي.

ويغدو مثل هذا المجتمع الراكد ثقافيًّا وإنتاجيًّا أشبه بالمريض النَّفسي الذي يُعاني من حالة الانفصام أو الذاتوية autism. يَعشق الانطواء التام على الذات، ويَتلذَّذ بما يعيشه من تخييلات وتهويمات بعيدة عن الواقع. يرى نفسه في ذاته … ثقافته الموروثة، منصرفًا بكليته عن عالم الواقع، منكفئًا على نفسه عبر تخييلاته. ويَعيش خارج الزمان وخارج المكان/الواقع المتجدِّد. ويَعجز عن بناء علاقات تفاعل مع الآخرين، تفاعل في الفكر والإنتاج. ويرى في فكر وسُلوك الآخر عُدوانًا يستهدف ذاته المحورية. ويَنفر مِن كلِّ ما هو مُغاير لواقعه المعيش وجدانيًّا/ذاتيًّا أي مغاير لثقافته. وتمضي القرون وأبناؤه يجترُّون أنفسهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤