خصوصية الاعتقاد

إذا كان ليَ أن أضع افتراضًا بشأن الخصوصية الثقافية، أو خصوصية الاعتقاد في منطقة الشرقَين الأدنى والأوسط؛ فإنَّني أقول إنها الغيب المطلق المتعالي أو المفارق الفعَّال. فهذه الخصوصية هي المحدد الحاسم للاعتقاد، وعليها الاعتماد، وإليها مخاض الإنسان، وهي مصرف جهده وطاقته، ومحور السلوك والطموح والانتماء، وركيزة اللغة، وقوام النظر والحديث، ومُحدد إطار الفكر والتفكير، وأساس النهج السائد في علاقة الإنسان بالآخر وبالحياة وبالطبيعة، يَحتكم إليها الإنسان والمجتمع في كل أموره إذا ما تصدَّى للعمل أو إعادة البناء، وتفنى إدارة الذات فيها وإليها، وما عدا ذلك فهو الفضل.

إنَّ كلمة الغيب والكلمات المُنتمية إلى عالم الغيب تُشكِّل مُقومات بنية الاعتقاد وأساسيات الخطاب الاجتماعي، ومَبادئ السلوك، ومحط اشتياق الوجود والفعل، وبدونها لا تقوم لبِنية الاعتقاد قائمةٌ، ويَفقد السلوك مشروعيته. ونُلاحظ، من حيث المعدَّل التكراري للكلمات المُنتمية إلى عالم الغيب، التي ورَدَت في القرآن، على سبيل المثال (وهو ما يُمكن أن نلحظه أيضًا في كُتب العقائد في تاريخ المنطقة) أن كلمة غيب وردَت ٤٨ مرةً، وكلمات الله وإله واللهمَّ ورَدَت ٢٨٤٩ مرة، وكلمة رب ورَدَت ٩٦٩ مرة، والسموات ١٨٥ مرة، والسماء ١١٨ مرة، واليوم الآخر ٢٦ مرة، وكلمة الآخرة ودار الآخرة ١١٣ مرة، وكلمات الرحمن والرحيم ومشتقاتها ١٨٢ مرة، والجنة وجنات ١٢٠ مرة، وجهنم ٧٧ مرة، واسم الله من ح ك م ٩٧ مرة، واسم الله من ع ل م أو رب العالمين ٢٨٣ مرة، واسم الله من غ ف ر ٩٦ مرة، هذا عدا أسماء الله مثل البصير والسميع … إلخ، وعدا الأفعال التي فاعلها الله أو مالك الغيب مثل: وجعلنا من الماء … وآتيناهم … إلخ.

والأمر الجدير بالملاحظة هنا أن كلمة «العقل» من حيث هو اسم لملكة إنسانية فاعلة لم يَرِد في القرآن أو في العهدَين القديم والجديد ولو مرة واحدة على الإطلاق، وإنما وردت في القرآن كلمات «يعقلون»، «يعقل»، «تعقلون» … ٤٧ مرةً في معرض المحاجاة من أجل الإيمان وعقيدة الغيب. هذا بينما القلب أو الفؤاد، وليس العقل هو أداة التَّفكير والتعقل، وموضع الهداية واليقين،١ وهذه الملاحظة مهمة لما سيردُ بعد ذلك من معنًى دينيٍّ للغيب ووظيفته.

وإذا كان «العقل» مُعرَّفًا بأل لم يرِد فليس هذا نفيًا لوجوده، وإنما دليل على أنه ليس الأول مرجعًا وحكمًا أو محورًا للاعتقاد. هذا على نحو ما نجد الأتمن أو النفس في الهندوكية محورًا للعقيدة وأساسًا لوجود ولسلوك ومشيئة الإنسان في اختيار الحسن والقبيح … والنفس ليست الروح، وإنما حالات الوعي والرغبات أو الشهوات، ورسالة الإنسان التحرُّر من رغباته، وبذا يكون برهمانيًّا حقًّا. أو على نحو ما نجد اللوجوس في ثقافة الإغريق علَّة أولى، وهو بمعنى العقل والكلمة في آنٍ، ومصدرًا للوجود … أو الطاو بمَعنى الطريق في الحكمة الصينية، وهو الكل أو الوجود الأعظم الشامل نسيج الزمان والتغيُّر، ورسالة الإنسان هي التناغم مع الطاو، وهذه هي كبرى الفضائل والوجود الحق النابع من باطن الذات.

والغيب له معنًى لُغوي قاموسي محدَّد، ولكن له معنى وقيمة وقوة فاعلة على المستوى الاجتماعي والنفسي أو لنَقُل على المستوى الثقافي الاجتماعي الأنثروبولوجي في تاريخ المنطقة. الغيب من حيث هو كلمة ورَد كما أسلفنا بمُعدَّل تكراري كبير في القرآن، ناهيك عن الكلمات الأخرى البديلة عن الغيب، أو وثيقة الصِّلة به، مثل الله والرب والحق، وأفعاله التي تؤكد أنه مصدر العلم والفعل دون الإنسان. ثم هناك علاقة الغيب بالإنسان ودَوره وسَطوته القدسية.

والغيب معنًى هو ما استتر عن العين … غاب غيبًا وغيبة وغيبوبة وغيابًا، وهو خلاف شهد وحضر. والغيب كل ما غاب عن الإنسان، سواء أكان محصلًا في القلوب أم غير محصَّل (المعجم الوسيط، مادة «غاب»). وقيل في المعنى المعنوي لما يَغيب عن علم الإنسان. ويذكر الغيب في القرآن باعتبار الناس وبالنِّسبة إليهم لا إلى الله، فهو عالم الغيب أي ما يغيب عنهم (معجم ألفاظ القرآن الكريم، مادة «غاب»). وفي وصف المؤمنين حقًّا «الذين يؤمنون بالغيب»، وقد تكرَّر أكثر من أربعين مرةً. والمعنى كما يقول الطبري؛ أي يُؤمنون بما جاء عن الله من الإيمان بالله والملائكة والبعث والجنة والنار، مما لم يُرَ وغاب عن الرؤية والمُشاهَدة. وهي الأمور التي تَستوعِب وتمتصُّ الجهد الإنساني — المعرفي والطقسي والشعائري — لكي يُحصِّل بعض العلم بها واستَرضاءها، ويُوظِّف حياته بها.

(١) النص ودلالة التأويل

يُمثِّل الغيب المفارق والمُطلَق الفعَّال خصوصية الاعتقاد في جميع مُعتقَدات الشرقَين الأوسط والأدنى، منذ بداية التاريخ على اختلاف مُسمياتها. إنه المفارق الفعَّال بمعنى أنه مفارق للوجود في استقلال عنه، ولكنَّه مُدبرٌ له، صاحب سلطان مُستمِر عليه؛ ومن ثم هو محور وخصوصية ثقافة المنطقة، ويَختلِف في هذا عن الغيب المطلق المتعالي في مُعتقَدات الغرب؛ ذلك أنه في تراث الغرب منذ الإغريق مُفارق غير دائم الفعالية، بمعنى أنه خَلقَ الخلق ودفَعَه الدفعة الأزلية إلى الحركة والحياة مرة وإلى الأبد. وبذا ترك مساحة للتدبير والفعل والسلطة في الأرض للعقل الإنساني في استقلال عنه. وهذا يُيسِّر ويُفسِّر قبول الذهنية الغربية لمبدأ وقيمة العلمانية التي هي — إيجازًا — إعمال العقل الإنساني في شئون الدنيا. ويَختلف كذلك عن الغيب الحلولي أو الباطني في حِكَم ومُعتقَدات جنوب وشرق آسيا، حيث الغيب ليس مفارقًا، ولكنه الوجود الأكمل في شموله القائم على التناغُم؛ وطاقة الإنسان مُنصرِفة إلى التناغُم معه. وتُحدِّثنا ثقافة شرق آسيا عن ملكوت السموات (الذي يُناظر الغيب) وملكوت الإنسان. إنها لا تُنكِر الغيب ولكنها تُخصِّص مساحة لإدارة وفعالية ومسئولية الإنسان.

والعبرة دائمًا على مدى التاريخ ليس بمُفردات النص، بل بتأويل النص، أعني كيف جرى فهمه وتوظيفُه في الحياة، وفي أيِّ سياق اجتماعي سياسي أو حضاري، مثال ذلك أن عمدت الكنيسة في أوروبا خلال العصور الوسطى — وقد كانت تُشكِّل تحالفًا مع أمراء الإقطاع — إلى إشاعة تأويل مُغاير لرؤية التراث. ولكن مع عصر النهضة، الذي دفعت إليه تحوُّلات اجتماعية وفكرية، كان المطلب الملح العودة إلى التراث في ولاء إبداعي يُتيح مساحة لفعالية عقل الإنسان، عودة تُؤكِّد مكانة الدين في الوجدان، وحق العقل في تدبير شئون الحياة. وهكذا قدمت حركة الإصلاح الديني على أيدي رجال الدين العلمانيِّين تأويلًا جديدًا وأصيلًا — كما وصفوه — لنص المسيحية، أسهم في حشد طاقة المجتمعات نحو التقدم.

إنَّ النصوص قاطعة الدلالة على خصوصية الاعتقاد مُتواترة في معتقدات الشرقَين الأوسط والأدنى منذ قديم الزمان، وليسَت بحاجة إلى دليل أو تكرار. أو لنَقُلْ إنها مُتواترة في جميع المُعتقَدات؛ ذلك لأنَّ الإنسان بعامة باحث مُتأمِّل منذ الأزل في صيغة العلاقة القائمة والمُحتملة بين أطراف ثلاثة؛ الإنسان + الكون + الغيب … وتتغيَّر مواقع الأطراف ومساحة السيادة ومسئولية العقل بتغيُّر سياق العمل وظروفه والتحديات التي تُواجه هذه الحضارة أو تلك. ومن ثم تتغيَّر النتيجة اللازمة عن العلاقة بين الأطراف داخل هذه البِنية، وهو ما يتمثَّل في نوع ومدى نشاط الإنسان ونهجه … أو إلى أين يُفرغ طاقته إذا اختلف السياق.

والذي يَعنينا بيانه هنا أن تأويل النصوص يسهم في صوغ الإطار المعرفي القيمي الذي يُحدِّد رؤية الإنسان للحياة ودوره فيها، ونظرته إلى العالم، ومكانة العقل والفعل الإنسانيَّين، ونهج الإنسان في التعامل مع شئون حياته، ويُنبئ يإمكانات نجاحه أو فشله، وكذا يفسر أسباب النجاح والفشل في صراع الحضارات.

وقد أخذ تأويل النصوص، تحت تأثير السُّلطة السياسية ونزعتها المحافظة أو نزعتها الثورية أحد مَنحيَين؛ إذ حين يهدف التأويل إلى الوفاء بحاجة أمة نزَّاعة إلى التغيير فإنه يهيئ مساحة لإدارة الإنسان وحرية العقل؛ ومن ثم مسئوليته عن شئون الدنيا يَصرفها حسبما يَهديه عقله ومُقتضى حاجاته لإعمار البلاد والارتقاء بالمجتمع. ولذا نجد هذا النحو في التأويل دائمًا قرين عصور الازدهار الحضاري … وهي عصور عابرة في أمتنا؛ لذا لم تترسَّخ جذورها في الأذهان.

والمنحى الثاني في تأويل ذات النصوص يقف في تضاد مع الأول؛ إذ يدفع إلى المقدمة بنزعات التواكُل والاستسلام، وتغييب العقل وإهدار مسئولية الإنسان، ولهذا عمدنا إلى إبرازه هنا بقدر من الإسهاب لغلبتِه في حياتنا وتجذره في عقولنا. وكان هذا دائمًا وأبدًا قرين عصور التخلف والانحطاط الحضاري، أو لنَقُل الانهزام الحضاري؛ إذ يقف المجتمع مهزومًا تابعًا، بل وعالة في ساحة الصراعات بين الحضارات. وبات هذا النحو من التأويل الآن أشدَّ خطرًا ونحن نعيش أو نواجه تحديات عصر حضارةٍ، أبسط تعريف لها أنها حضارة ركيزتها ثورة في المعلومات، وثورة في القدرة على فهم فيض المعلومات المتدفق وتوظيفها. وعمادها عقل الإنسان العام، وأن يكون عقلًا ديناميًّا مبدعًا حرًّا. وقد كان لهذا التأويل، ولا يزال، السيادة على فكرنا حتى ترسخ على مدى القرون كإحدى المسلَّمات. وحرصت النظم الحاكمة المحافظة على دعمه وتأكيد أنه التأويل الأوحد الصحيح … وما أطول عصور التخلُّف والانحطاط الفكري والاجتماعي الممتدة حتى الآن والتي حاربت بضراوة كل من حاول إحياء التأويل الأول أو الاجتهاد ليكون دعامة لصحوة حقيقية منشودة، وأهدرت دمه، ووجدت من العامة وهم ضحايا قرون التجهيل، عونًا وظهيرًا للتصدِّي لدعاة النهضة ولاستنكار «مروقهم» مما دفَع مُصلحًا دينيًّا مثل جمال الدين الأفغاني إلى الشكوى في مرارة لأنه لم يجد في مصر مَن يفهمه واضطرَّ إلى الرحيل عنها إذ قال: «لم أجد في مصر مسلمًا مُستعدًّا ليرأف بحالي وآلامي عندما أُحدِّثه عن تاريخي، لذلك قررت أن آخذ الطريق إلى البلاد التي فيها أناس يتمتَّعون بروح طاهرة وآذان مُرهَفة، وعقول نَيِّرة.»

(٢) الغيب في الحياة والفكر

إذا تأملنا لغة التخاطب أو الكتابة سنجد ارتفاع المعدل التكراري للكلمات الدالة على الغيب حتى إنه يُمكن القول إن هيكل اللغة أو الحديث ينهار تمامًا — على سبيل الافتراض النظري — إذا سقطت هذه الكلمات … بل سوف يتعثَّر المتحدث أو الكاتب ويتعذر عليه مجرد استهلال الكلام أو الكتابة. هذا عن لغة التخاطب والتواصل الاجتماعي. والأمر يتضاعَف مرات ومرات في لغة العبادة والطقوس والأذكار وفي المحافل الدينية أو ذات الطابع الديني وما أكثرها في الحياة اليومية … ونجد اللغة هنا لغة استيعاب واستلاب؛ إذ تتلاشى الذات في مدلولات الغيب، وتغشى هذه المدلولات الغيبية كل مظاهر الحياة الثقافية سواء في اللباس أو الرموز والطقوس والشعائر والتزين … إلخ.

والغيب هو الحقيقة المطلقة؛ ومن ثَمَّ فهو لا منطقي ولا عقلاني بالمقياس الإنساني، إنَّ الغيب حسب الاعتقاد فكرة وحقيقة متعالية أزلية، ومن هنا نجد أن الفكرة — أو الفكر بعامة — في إطار بِنية التفكير التقليدية وجود مُتعالٍ لا زماني مجرَّد ومستقل ومقطوع الصلة بالواقع. وكأن بين الواقع والفكر هُوَّة لا سبيل إلى الوصل بينهما؛ ومن ثم يُمكن سرد الأفكار دون رابط أو سببية، وهي — أي أفكار — ذات معانٍ لا تاريخية ولا اجتماعية، أي غير مشروطة بمجتمعٍ وتاريخ، إنَّها كيانٌ عقلي صِرف مُستقل عن قيود اللغة والمجتمع والسياسة والاقتصاد والتاريخ.

ولهذا يتَّسم الفكر التقليدي والاعتقاد بالثبات المُطلَق ولا تاريخية المعنى. ومن هنا أيضًا — واتساقًا مع تعالي الغيب معقل الحقيقة المطلقة — كانت للعلوم الدينية السيادة والأستاذية في مختلف مجالات المعرفة. واحتدم الصراع ضد الفلسفة وتكفير محاولة الربط بين العلوم الدينية والعلوم العقلية أو الدنيوية التي هي علوم منطق وتدريب على العقلانية وممارسة لها، كما وأنها إيمان بالتغير في إطار واقع موضوعي اجتماعي تاريخي ولغوي … وهذه ممارسة مغايرة تمامًا لممارسات الفكر في مجال علوم الدين حيث الحقيقة ليسَت رهنًا بهذا الواقع الموضوعي، بل بانتمائها إلى «واقع متعالٍ» … أي إلى الغيب.

والفِكر العربي صاغت بِنيَته عقيدة الغيب، وأن ما وراء الشهادة، وقد احتواه النص الذي هو سبيلنا إلى الحقيقة له الحكم والسيادة. وهكذا تحدَّد نهج هذا الفكر في تناوله لظواهر عالم الشهادة، أي ظواهر النفس والمجتمع والطبيعة؛ فهو نهج لا عقلاني حيث العقلانية احتكام لحصاد فكر الإنسان القائم على قوانين للمنطق، انطلاقًا من إيمان وثيق بأن مصادر المعرفة الحقة هي ظواهر الطبيعة، وأداة المعرفة إنسانية، وأن ذلك الحصاد الفِكري — المعرفة العِلمية — في تنامٍ مطرد، تَغتني وتُثري بمعارف مُتجدِّدة أبدًا تتحقَّق بفضل الجهد العقلي الإنساني.

والغيب بأحكامه وبِنيَته حكم مسبق ملزم، حتى وإن خَفِيَ مضمونه عن الإنسان أو خفيتْ حكمته … فهو الإرادة القصوى، وهو المشيئة النافذة في أمور حياتنا الدنيا … هذا على عكس ما ذهب إليه مُفكِّرو عصر النهضة والتنوير في أوروبا؛ إذ رأوا أن علاقة الإنسان مع ذاته، وليست علاقته مع الله، هي محور التصوُّر الكوني من منظور المعرفة والفعل؛ بمعنى أنه دون نَفْي لواقعية العالم أو التعرُّض لمسألة الإيمان بوجود الله، فإن الذات الإنسانية قادرة على الفعل الإداري المستقل، والمنوطة بالتغيير على هدى المعارف المُكتسَبة والحقائق النِّسبية أو لنَقُلْ — بلُغة الدين — إرادة الإنسان لها المشيئة في تغيير في المجتمع أو تحديثه … وليسَت مرهونة بإرادة مُتعالية مُفارقة … فالذات الإنسانية قادرة على الفعل والتغيير. ولم تَعُد المعرفة حقيقة مُطلَقة اكتملَت مرةً وإلى الأبد بحيث نفهم الحاضر في ضوء الماضي ومعاييره … بل الحقيقة إنسانية تاريخية نِسبية … على عكس ما يقضي به التقليد في كل المعتقدات من أن إرادات البشر مجتمعة عاطلة عن إتيان فعل أيًّا كان غير مُقرر في إطار العلم أو التدبير الغيبي المسبق. فحرية الفكر في إطار التصور الكوني الغيبي، حرية مقيدة لأنَّ المطلق لا يتكرر، وحرية الغيب هي المطلق الوحيد. ويَتنافى هذا، مرة أخرى، مع ما ذهب إليه مُفكِّرو النهضة والتحديث من أن العقل الإنساني حر المشيئة، لا مُطلَق المشيئة في بناء حياته على الأرض، وأن حرية الفكر الإنساني هي المعتمد الوحيد في شئون الدنيا؛ وأن العقل بحريته هذه قادر على فهْم وتفسير الظواهر، وبيان أسبابها، والتحكم فيها وإبداع الجديد منها. واتخذوا من هذا الفهم شرطًا وركيزة لتأسيس العلم اجتماعيًّا، أعني إقامة العلم كمؤسسة اجتماعية مطلقة الحرية في تحديد منهج البحث وبيان أسباب الظواهر، واستكشاف قوانينها، وتسخيرها بإرادة الإنسان حسب مشيئته وغاياته. ويؤكدون أن مؤسسة العلم الاجتماعية لا تقوم لها قائمة في مجتمع أولوية السيادة فيه لأحكام الميتافيزيقا المُطلَقة؛ حيث إن العلم أساسه الإيمان بالتغيُّر، ووضع نظرية لقوانين هذا التطور. والعلم رفض لميتافيزيقا المطلق وإيمان بالحقيقة النسبية وبالإبداع العقلي.

والعقلية الغيبية لا تَعتمِد النهج النَّقدي التحليلي في معالجة الأمور. وهي عقلية إيمانية، تمرَّست على الإيمان بما خفيَ عن الحسِّ وعزَّت معرفته على العقل، ولهذا أيضًا لا تَعرف الشك الذي هو أساس التحليل النقدي في حوار العقل والطبيعة. ويترسَّخ لديها في عصور الانحطاط والاستبداد والتخلف نهج التسليم والاستسلام دون إيمان بالفعالية الذاتية … ولهذا نجد الموقف مع المُشكلات الطارئة استعاذة بالغيب، واستعانة بالسحر والرَّقى والتعاويذ، واعتمادًا على رفضٍ أو قبولٍ مُطلق للحدث دون وعي نقدي … وتسود الأسطورة كردٍّ غيبي على القضايا، وكحلٍّ غيبيٍّ للمُشكلات بحيث صاغت الأسطورة نظرة كونية مُتكاملة عن الحياة والوجود والفعل «الإنساني» في صورة نسق ميتافيزيقي كامل له وظيفة اجتماعية وسياسية تَدعمها النزعة المحافظة التقليدية. ونلحظ نزعة الرفض أو القبول المطلق دون وسطية في محاجاتنا للقضايا الفكرية. مثال ذلك ما نلحظه في قضية التناقض المُفتعَل بين التقليد والتحديث؛ إذ نرى الموقف ينحصر في إمَّا … أو … وأيضًا من ينظر إلى نموذج الغرب وكأنه شرٌّ مطلق غير قابل للدراسة والتأمل والمقارنة والتحليل والانتقاء … أو أن يراه المُتغرِّبون بحكم الثقافة الموروثة ذاتها ومن موقع الشعور بالدونية أسطورةً جديرة بالاتباع والمحاكاة المطلقة دون وعي عقلاني نقدي لمُقدِّماته وأسبابه وسياقه.

(٣) الانفصام بين الواقع والأسطورة

وعلم الغيب هو الحق كل الحق وما دونه زيف باطل. وهو ملك لله وحده وليس للإنسان منه نصيب إلَّا لمَن اصطفاه الله وخصَّه بنعمته ومنحه قبسًا من هذا العلم. وهو لذلك علم لدنِّي ليس للإنسان فضل فيه. وليس للإنسان إلا أن يُسلِّم بأن لا حول له ولا قوة؛ وإذا كان يطمع في معرفةٍ حقَّة فليَنتظِر مع المُنتظرين شذرة جزئية لا شمول فيها ولا إحاطة؛ هذا في مجال الغيب المستور. ولكن الشائع توسيع نطاق هذا التصور ليشمل عالَم الشهادة، (ظواهر النفس والمجتمع والطبيعة) بمعنى أنَّ ما تيسر للمرء من معارف عن طريق الغيب هو منحة جزئية، وليس له أن يَطمع في الوصول إلى نظرية تكشف عن قوانين حركة الظواهر للتنبُّؤ بالمُستقبل … فالمستقبل عند علام الغيوب وبيده وحده.

والاستسلام للغيب شرط جوهري لصدق الإيمان ومشروعية الوجود الاجتماعي (في نظر المؤمن). ويقول الطبري في شرح الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ: «بالغيب أي ما جاء عن الله من الإيمان بالله والملائكة والبعث والنار، مما لم يُرَ وغاب عن الرؤية والمشاهَدة.» ثم يستطرد مؤكدًا هذا النهج مُستشهدًا بالآية ١٨٨، الأعراف قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ويُؤكِّد الطبري أن لا سبيل للإنسان للوصول إلى المعرفة الحقة مُستشهدًا بالآية فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلهِ؛ أي لا يعلم أحد لِمَ يفعل إلا هو. وكذلك الآية قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ (النمل: ٦٥)، وعَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (الجن: ٢٦).

وكل ما هو منسوب إلى عالم الغيب مقدَّس أو مرهوب في كل أديان الشرق الأوسط حتى وإن كان في عالم الجان؛ وكل ما لا يَنتسب إلى عالم الغيب فهو دنس وحرام … وعالم الدنيا وشئون الدنيا موضع تحقير؛ مما يَجعل الفريضة الأولى نظريًّا الهرب منها والتظاهر بكراهيتها أو العزوف عنها والزهد فيها وإسقاطها من الحساب، أعني مرة أخرى أن يَنصرف مخاض الإنسان وجهده إلى عالم مستور خفي هو عالم الغيب، وإن ظلت أقدامنا على الأرض وحواسنا تغمرها ملذات الأرض الدنسة والمشتهاة في آن؛ أما الفكر والخيال فهما في اشتياق إلى عالَم الغيب، ومن هنا لا مجال للتفكير في تغيير الحياة الدنيا من خلال نظرية فكرية، بل هي رداء يأمل في أن يَنزعه المرء عن نفسه.

وإذا تأملنا تاريخ العقائد المُختلفة في الشرقَين الأدنى والأوسط نجد أن بعض الفرق بالغت وأفرطَت في غلوِّها عند تحديد علاقة الإنسان مع الغيب، بوصفها ركيزة الوجود والمعرفة والحرية حتى وصل الأمر إلى الغلو والتطرف في الزهد في الدنيا والدعوة إلى التخلي عن الدنيا وشئونها فكرًا وعملًا.

معنى هذا أن يعيش الإنسان واقعيًّا مُنقسمًا على نفسه مشدودًا مُتوتِّرًا بين عالمَين، أحدهما له الهيمنة يمتصُّه كاملًا، والآخر يجذبه يَستجيب له ولكن يحتقره في آن، إنه إنسان فصامي ممزق الوجدان، عصابي، الإنسان الخطَّاء بطبيعته وابن الخطيئة. ومثل هذا الإنسان الخصي من حيث قدرة الفعالية مع الطبيعة وفهم قوانينها لا يكون منتجًا بل مستهلكًا، ولا يكون مبدعًا بل تابعًا. وليس غريبًا أن يكون الإبداع محصورًا في موضوعات الخيال؛ وأن يكون الإبداع كلمة وإرادة غيبية وليس فعلًا … وأن يأتيَ الخَلق رمز الإبداع الأول ثمرة كلمة … والكلمة أو الفِكرة هي من عالم الغيب أو المثل … أما الفعل أو العمل فهو من عالم الدنيا ولهذا يَزخر تراث حضارة المنطقة بتكريم الكلمة وتحقير العمل اليدوي.

واستَرزِقِ الله ممَّا في خزائنه
فإنَّ رزقَكَ بين الكاف والنون

(إشارة إلى فعل الخلق المطلق «كُنْ».)

وهكذا ذهَب غُلاة التواكليِّين إلى أن الغيب هو القوة المتحكِّمة في مصير الإنسان. ولذلك هو القدر أو قرين القَدر الذي لا فكاك منه ولا حيلة للإنسان إزاءه، أمره نافِذ، وإرادة الإنسان نحوه مُعطَّلة؛ مما يُفضي إلى خلق إنسان مُسيَّر فضيلته الخضوع والطاعة. والغريب أن يَنعكِس هذا على سلطان الدنيا فتكون للحاكم الطاعة حتى وإن ظلم، وأمره نافذ بين الكاف والنون دون جدلٍ أو نقاشٍ أو رجاءٍ.

سقوط العقل

ويُفضي الإيمان بالغيب، بمعناه العام المُعمِّي الذي غرسته تيارات الجبرية المُتطرِّفة، وخلقت حوله عصور الانحطاط السياسي والاجتماعي والفكري نسيجًا أسطوريًّا، إلى الإيمان بكل ما هو خافٍ عن الحس، وكل ما هو منسوب إلى عالم آخر غير عالم الشهادة وكأنَّ له قوة فاعلة حاكمة لكل شئون الحياة الدنيا … بل هو القوة الفاعلة الغالبة وما دونه رافد له … مثال ذلك الإيمان بالأحلام وفعاليتِها، والإيمان بالسحر، وهذه القوى لها مصداقيتها قبل ظواهر وقوانين الحياة الدنيا … أو هكذا تكون بِنية الأذهان عند العامة من المؤمنين حيث خوارق الطبيعة لها الامتياز على ظواهر الطبيعة وقوانينها. وهذا تجلٍّ وامتداد لتراث ثقافي قديم.

ويُشجِّع هذا قيمًا أخلاقية فردية تواكلية سلبية: «دع الخلق للخالق»، «العبد في تفكير والرب في تدبير»، «المستقبل بيد الله»، «قيراط بخت ولا فدان شطارة»، «اجرِ جري الوحوش غير رزقك لم تحوش»، «اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب»، «المكتوب ما منوش هروب»، و«من حبه ربه واختاره جاب له رزقه على باب داره» … إلخ، وأعود لأقول إن هذا ما تُروِّج له عصور الانحطاط والاستبداد لسلطات محلية أو غازية؛ ومن ثم تتوارى أمثال شعبية تُمجِّد العمل الجمعي وتحض على السعي الجاد العقلاني في الحياة. وإنما يصوغ المجتمع من حصاد رصيده الموروث نسقًا ثقافيًّا يهيئ له فرصة التكيُّف واطراد البقاء مع واقع طارئ مرفوض.

ويتمثَّل في الإيمان بالحظ والتطير وتفسير الأزمات بأنها عقاب من الغيب، بل والتعامل مع الظواهر والأحداث دون اعتبار لأسبابها وقوانينها المادية وكأنه مُطلق أيضًا. ويكفي أن نتأمل السلوك التلقائي للناس، مع مصعدٍ أو سيارة أو أي ظاهرة، تراهم لا يَضعون في الحسبان الإمكانات المادية للشيء. ولنتأمل أيضًا الكتابات الرائجة لمؤلِّفين مشهورين لنجد الأولوية لعالم الغيب من ملائكة وجان وتدخُّلها في سير أحداث الدنيا، والسعيد من الناس مَن نال رضا كائنات الغيب ومدَّت له يد العون.

ويُهيئ هذا الضرب من الإيمان بالغيب العقل لقبول حكايات وأساطير لا عقلانية تتمثَّل في الكهانة والسحر والأحداث الخارقة وقُدرة الأولياء والصالحين. والانتساب للغيب أساس التميز؛ وبقدر ما تكون الصلة بالغيب بقدر ما يكون الولي مُتميِّزًا ومحصنًا بقدرات الغيب. وسلوك الناس التلقائي نراه صادرًا عن بنية فكرية لا عقلانية تتَّجه إلى الغيب، تحتكم إليه، وتتخذ إليه الوسائط التماسًا لتغيير سنن الحياة والتلطُّف بها. وكم من عبارات تزخر بها الأدعية والمأثورات التي صاغت هذا العقل الموكول له أن يواجه تحديات القرن الواحد والعشرين في عصر ثورة العلم والتكنولوجيا.

وإنَّ الإيمان بالغيب على هذا النحو الشائع والمعاش يقضي أو يَستلزِم إيمانًا دون حاجة إلى دليل عقلي، هو تسليم بصدق ما بلغه من مصدر غيبي خفي مَستور في أمور الدنيا المُتغيِّرة وإسقاط لأداة العقل ولمدلول الحجة … ومن ثمَّ فإن التنشئة الثقافية الاجتماعية على هذا النحو هي تدريب على هذا النمط من الفِكر وترسيخ له ليكون نهجًا وخصوصية ثقافية، فتصنع إطارًا فكريًّا عاطلًا عن إمكانية استخدام العقل الناقد التحليلي المُحاج … لا يسأل ولا يتشكَّك بل يُسلِّم تسليمًا.

وإذا كان الأمر كذلك بالنِّسبة لعالم الغيب، وإذ كانت هذه هي بنية الفكر التسليمي أو الاستسلامي الذي يعبد القوة ويُذعن لها، فإنه في حياة المجتمع استطراد لهذه البنية واتساق معها … الحاكم شأنه شأن الغيب أو هو ظل علام الغيوب كلمته قاطعة دون سؤال، ورأيه حِكمة يُطأطِئ لها الرأس، وعنده القول الفصل. وخير الناس من كانت له صلة ما بالغيب؛ إذ يتقرب إليه الناس زلفى يسترضونه ويخشون غضبه بل قد تكون له الولاية عليه عليهم مثل شيخ الطريقة الصوفية، وهو أمر شائع.

ومشروعية الوجود والعمل والكلمة تَنبثِق من الغيب موضوع الإيمان لأنه هو الوجود الحق … وقضية الإنسان الوجودية الكبرى هي الوصول إلى معرفة الغيب فيما يخصُّ قدره الفردي، ووسيلته استرضاء الغيب والتذلل له. وحرية الإنسان ليسَت حريةَ فعل إرادة إنسانية، بل هي طاعة لله وتسليم لإرادة القوة المُتعالية. وقضيته الوجودية الأولى هي التحرُّر من خطيئة أولى حين خالف الأمر الإلهي … ومن ثَمَّ فإن حرية الإنسان هي المشروع الوجودي الأول والأساس الذي يتحقَّق حين يُحرر نفسه من هذه الخطيئة ويحظى بالغفران ودخول ملكوت السموات … فهذا هو التحدي الأعظم الذي تَنكسِر عند حدوده جهود الفرد المُضنية، ويُفنِي حياته من أجلها … إنه يشكو إلى الإله بلوى وجوده على الأرض طمعًا في الآخرة؛ إذ ابتلاه ربه بالحياة الدنيا؛ إذ سوَّلت له نفسه أن يعرف الغيب حسب ما تروي قصة الخلق … وقضيته خلاص فردي. وهذا ما هيأ مكانة كبرى وسُلطة اجتماعية سيادية واسعة لا تقهر للكهانة والكهنة على مدى التاريخ؛ حيث قبضة الغيب صارمة مُتسلِّطة، ولا يزال هذا ممتدًّا من خلال الطرق الصوفية وأوليائها الأحياء أو الأولياء الموتى في قبورهم بفضل كراماتهم.

وواقع الأمر أن هذه المكانة التي يحتلُّها علماء الدين والكهنة وشيوخ الصوفية والأولياء بحكم تميُّزهم لانتمائهم إلى الغيب جعلت منهم قوَّامين على العامة في سُلوكهم وتوجهاتهم. أولًا: هم أهل الحل والعقد؛ أي المؤتمنون على المشروعية — أي على الطريق إلى الجنة — وإليهم تُردُّ أمورها … وهم مرجع العامة لتحديد الحلال والحرام في معيشتهم وواجباتهم السلوكية. ويمارس علماء الدين والكهنة وشيوخ الصوفية، وهم بمثابة ظلِّ الغيب على الأرض، تأثيرًا بالغ الأهمية على النموذج الاجتماعي العام؛ فهم لجام العامة. ويبدو واضحًا أن العامة يُؤثرون شيوخ الطرق الصوفية على علماء الدين، ويرون الشيوخ على علاقة أوثق بالغيب. إذ يلتمس عندهم العامة إشباعًا روحيًّا، وإجابة واضحة على أسئلتهم أقرب إلى مزاجهم الذي صنعه التراث الثقافي على مدى التاريخ دون الاكتفاء بترديد النصوص كما يَفعل رجال الدين؛ فضلًا عن أن العامة يَلتمسون لدى شيوخ الصوفية والأولياء «البركة»، والتي تعني أنهم على صِلة بالغيب تُضفي عليهم قيمة رمزية وفعالية على مستوى الممارسة الاجتماعية، وقد تنبَّه الحكام والسلاطين على مدى التاريخ للدور الاجتماعي للشيوخ والأولياء وقُدرتهم على توجيه العامة ولجم عقالهم باسم الغيب حتى يأمَن السلاطين جانبهم؛ ومن ثم يَصرِف الشيوخ جهود العامة وغضبهم إلى عالم الغيب. وتَكفي نظرة إلى ظاهرة انتشار الطرق الصوفية التي يزيد عددها في مصر وحدها عن خمسين طريقة، وقُدرتها على البقاء والاستمرار قرونًا، ودورها السياسي الاجتماعي الخفي على مدى التاريخ.

(٤) الغيب بطل التراث الشعبي

والخلاص في القصص الشَّعبي وفي الخيال الاجتماعي يكون على يد شخص تيسَّرت له مثل هذه القُدرة أو الصلة بالغيب … وهو يوازي الشخصية الكاريزمية التي يَنشدها الناس لخلاصهم، ويَتواكلون عليها. ويُضفون عليها من مخيلاتهم صفات حدَّدها الموروث الشعبي … إنه القدر … وهذا هو الثوب الذي يَرتديه الحاكم دائمًا، والذي يُسبغه عليه العامة دائمًا أيضًا.

فالبطل في السيرة الشعبية هو من أُوتيَ قبسًا من علم الغيب، ومن القوى الخارقة التي يُواجه بها قوى الشر؛ ويُعينه ويؤازره الغيب في معاركه، فالنصر ليس من عنده، ولا بفضل عدته وعتاده، بل النصر من عند قوى الغيب … ليس الإنسان هو الفاعل، بل الفاعل قوى الغيب التي هيأت له أسباب النصر ربما في صورة كلمة تؤكد صلة الإيمان بالغيب، يَنطقها المؤمن فتخرُّ لها الجبال. ولهذا نجد اللاعقلانية هي القسمة السائدة والمشتركة في كل عناصر الموروث الشعبي الذي صاغ — بالتالي — عقول أبناء هذا الموروث، وهكذا أيضًا لا نرى الأدب الشعبي أدب ملاحم، محوره تحدِّي الإنسان أو البطل للقدر، بل هو أداة للقدر أو لتجلي القدر.

وأفضى الغيب — الذي هو في الأدب الشعبي جزء من الفانتازيا والإبداع الإنساني — إلى تحليق في الخيالات لتحقيق الذات والتعويض عن النقص في الدنيا. أحلام الدنيا تتحقَّق في الخيال الشعري أو الطقسي مثلما تتحقَّق في الفلكلور الشعبي، فكلاهما له وظيفة اجتماعية واحدة ومن نبع واحد … فالنصر ليس مردودًا إلى الإنسان، وليس له فيه حتى فضل الاستعداد؛ والهزيمة يَجري تعويضها وموازنتها في عالم الخيال بنصرٍ تتهيَّأ أسبابه من عالم الغيب ويأتي نصرًا بغير عناء … ويتمحوَر الأمل والهدف في انتصار العقيدة أو تحقيق الذات من خلال انتصار العقيدة أو باسمها ضد أعداء العقيدة. إنَّ تحقيق الذات هو العمل للآجلة الباقية، وهو ما يفضي إلى تحقير الدنيا.

وحيث تغيب الأسباب الموضوعية في الحياة الدنيا، وحيث تَنتفي قواعد البحث العقلاني لأسباب الظواهر من أزمات أو نكسات، تتركَّز بؤرة الاهتمام والانتباه، حسبما تَقضي بِنية الفِكر، على أسباب نابعة من الغيب. وهكذا نجد التفسير اليسير والسريع لكل ما يحل بالإنسان من كوارث وأزمات القول جزافًا بابتعاد الإنسان عن خصوصية الاعتقاد، وأنَّ الحل هو العودة أو الردة إلى هذه الخصوصية … أي إلى الغيب في تواكل مُطلَق دون اعتبار لظروف موضوعية كانت علَّة وسببًا، ويغدو الإيمان بالغيب — في غير أمور العبادات — تغييبًا عن أمور الدنيا. وليس غريبًا أن يتواتَر أبطال الموروث الشعبي، ويتواتَر السلاطين والحكام والكل يستمدُّ مشروعيته من ذات الوعاء، والكل شعاره التسليم المُطلَق للغيب والانتصار له، والذي فيه تتحقَّق الأحلام والرؤى، ويتبدَّد مخاض الإنسان.

(٥) الفردية والتطرف

والغيب مُطلق؛ إنه أبديٌّ لا نهائي غير مشروط ولا منطقي بالمعنى الإنساني للمنطق، وهو الحق المطلق والكمال المطلق، لا يحده حد، ولا يخضع لعوامل التغير، أو لا يَعتريه تغيير. ولهذا فإنَّ المطلق جعل قيم الخير والشر مُطلَقة … بل إن صياغة البِنية العقلية المرجعية على هذا النحو تجعل من العسير إدراك النسبية والتغير … فالمجتمع الخير واحد وأبدي، ومقولة التغير والتطور مقولة نشاز لا تتلاءم مع هذه البنية؛ الإنسان أو المجتمع إمَّا شرير تمامًا أو خيِّر تمامًا، وفي جميع المجالات يَنطبق مبدأ الكل أو لا شيء؛ والفكرة صحيحة أو خاطئة؛ صواب أو خطأ مُطلَق في كل زمان ومكان، لا وسط ولا وسطية! كما يحلو للبعض الادعاء بأن الوسطية خاصية الاعتقاد … وكذا لا نسبية أو تناسب، والحق مُطلق ليس نسبيًّا … والحق واحد عند الجميع، ويتوحَّد معه الجميع وفي كل زمان ومكان.

وهكذا يَنزع المرء نفسه من أرض الواقع المتغير، ولا يَبقى لديه ثابتًا وحقًّا مُطلقًا غير الكلمة دون سواها. فالكلمة والرمز دون الفعل والعمل، النص دون المُمارسة … وأضحى النص هو السيد، وبات الحق كلمة والخير كلمة … والكلمة بديل الواقع أو الفعل … إذ يوجد الغيب في الكلمة والرمز والشعيرة والطقوس.

ومن هنا أيضًا تترسَّخ ثقافة الواحدية دون التعددية ودون التنوع في شئون المجتمع … البِنية الذهنية لا تستسيغ التعدُّدية حتى وإن دعت إليها لفظًا؛ لأن المرء أحادي أو توحيدي الذهن. ويَنعكِس هذا في مجال العمل الاجتماعي مُتمثلًا في الفردية دون روح الفريق. ويغدو المثل الأعلى هو الإرادة المطلقة، إرادة حاكم أو مسئول، والمثل الأعلى للمحكوم الصالح هو الطاعة والخضوع. وهل التاريخ الاجتماعي السياسي يشهد بغير ذلك في التطبيق؟

(٦) الزمان والتاريخ والمجتمع

والغيب المطلق لا زماني، لذلك ليس الزمان امتدادًا أو متصلًا لأحداث مُتعاقبة مترابطة الأسباب، وليس تطورًا قائمًا على التغيُّر … تغيُّر الظواهر والأحداث والكائنات بفعل الإنسان، فلا الإنسان فاعل ولا الأحداث مُترابطة الأسباب … وانعكس هذا الفهم واضحًا في مجالات البحث والفكر المختلفة.

ففي مجال التاريخ على سبيل المثال نجد قيمة الحدث في انتسابه إلى الغيب. فالطبري المؤرِّخ؛ شأن غيره من المؤرخين التقليديين والاسكولائيِّين، يكتب تاريخ العالم منذ بدء الخليقة، ونراه يُعنى أساسًا بعلاقات المخلوقات بالخالق، ومحور تقسيمه للمخلوقات هو الطاعة والإيمان، أو العصيان والجُحود. ونقطة البدء عند المؤرخ عادة ليس الواقع والواقعة في ترابطها، بل الرواية دون اعتبار لمفهوم الزمان وتتابع الأحداث والعلاقة السببية، بل يُمكن التنقُّل من حدث إلى آخر، وليس الحدث التاريخي فعلًا إنسانيًّا إراديًّا.

وتَنتفي فكرة التقدم بانتفاء فكرة الزمن. ويقف المرء موقف اللامبالاة تجاه الزمن بحيث لا يُرتِّب أحداث يومه أو عمره وفقًا لجدول زمني. وهذا ما نراه في سلوكنا التلقائي. مثال ذلك أننا لا نُثبِت على كتابٍ عند نَشرِه تاريخَ إصداره، ولا نُعنى بتوثيق الأحداث وتسجيلها وترتيب تسلسلها؛ ونجد الشهور العربية هي شهور مناسبات وأحداث لها علاقة بالغيب، ولا علاقة لها بفصول السنة، ولا بالعمل ونظامه، أو بالنشاط الاجتماعي في تواتره.

وفاعلية الغيب وهيمنته المطلقة وسابق تدبيره، يجعل الناس غير عابئين ببحث أسباب الفشل أو التماس هذه الأسباب في ظروف موضوعية واقعية راهنة أو تاريخية؛ وإنما يقنع المرء برد الفشل إلى أسباب خارقة للطبيعة. ومن هنا نُلاحظ أنَّ البنية الذهنية لا تَستسيغ البحث في سوسيولوجيا الفشل في تاريخنا؛ وإنما نَكتفي بالقول إنَّ فشلنا راجع إلى ابتعادنا عن رُوح العقيدة؛ أو إن الفشل عقاب استحقَّه المرء أو المجتمع لخطيئة بالمعنى الغيبي لا خطأ بالمعنى الدنيوي. ويُعبر المثل العامي عن هذا في الممارسة الحياتية: «تبات نار تصبح رماد، لها رب يدبرها»، و«السعد وعد» … وهكذا، استِسلام للأمر الواقع بل وتحذير من محاولة تغييره؛ وإبطال لفعالية إرادة الإنسان. ولهذا لم يكن غريبًا أن يَطلع علينا فقيه من فقهاء الدين سلَب عقول المسلمين ويقول بتحريم نَقلِ الأعضاء أو إبدال كُليَة مريضة لإنقاذ حياة إنسان … النجاح والفشل مكتوبان بمعنى أنهما مُحدَّدان مسبقًا في الغيب مما يُوفر للمرء تبريرًا للفشل … ليس الجد والمتابعة والمعرفة ولا الكسل والجهل أو سوء التقدير.

ولهذا أيضًا نُهمل تقليديًّا الحس التاريخي؛ إذ لا وظيفة له في إطار البِنية الفكرية الحاكمة … ما هو الماضي؟ وما هو الحاضر؟ وما هو المستقبل؟ ليسَت هناك علاقة سببية بين الثلاثة، بل وليست هناك علاقة وحدة أو اطراد. لا نؤمن بأن المستقبل كامن في الحاضر والماضي مُضافًا إليه جهد ومعرفة الإنسان.

وهكذا تمضي الكوارث والأزمات، وكأن كلًّا منها حدثٌ مُفرد مقطوع الصلة بأية أسباب، أو كأن النازلة تقع بدون مقدمات أو نتائج … ثم يطويها النسيان، ونَمضي مع الحياة، أو تمضي بنا الحياة وكأن لا علاقة بين السابق واللاحق. وهكذا تسود آلة النسيان حياتنا الاجتماعية لفقدان الرابطة السبَبية بين أحداث التاريخ، وأننا لسنا علَّة الأحداث وإنما نَنسبها إلى الغيب.

والمستقبل مجهول لأنه بيد الله وليس للإنسان من سبيلٍ إلى معرفته بل التخطيط له، إنه المكتوب على نحو ما يشيع في معتقد العامة، إنه بعض الغيب من حيث معرفته أو صياغته أو التدبير له، وينسى أصحاب هذا التأويل سندًا آخر لتأويل مُناهض تُمثِّله مقولة اعقلها وتوكل أو أنتم أعلم بأمور دنياكم. ويَدفعنا هذا إلى أن ندع المُلك للمالك. ولذلك أُتيحَت مساحة للسحر أو شفاعة الأولياء بُغية التحكُّم في أحداث المستقبل. وهذا إيمان يضعف من عزم الإنسان على صوغ مُستقبله والتخطيط له أو التحدِّي من أجله؛ فضلًا عن أنه يُثير الشكوك في المستقبل المجهول، فننظر إليه في وجَلٍ وريبة، ونرهب التجديد والإبداع والتغيير. بل ويرى الإنسان أن المستقبل الحقيقي هو الحياة بعد الموت ليعود إلى عالم الأزل، ومن ثم يتبدَّل اتجاه الزمن، وتغدو الحركة إلى قلب الماضي.

وإذا كانت الحقيقة المُطلقة موطنها الغيب وما عداها زيف وبهتان؛ وإذا كان العقل لا سلطان له، بل ولم يَرِدْ ذكره أداةً لمعرفةٍ موثوق بها؛ ممَّا حدا بكثيرين من علماء الإسلام إلى الحطِّ من شأنه والتشكيك في دوره وقدرته على نحو ما فعل حُجة الإسلام أبو حامد الغزالي؛ وإذا كانت القضية الوجودية للمُؤمن هي الاشتياق إلى عالم الغيب والتذلل له واسترضاؤه واسترحامه إلى حين المثول في حضرته؛ فإن من العبادة أيضًا تأمُّل الوجود، ولكن بوصفه آية لإبداع الخالق، وليس تأمله أيضًا قصد فهم الظواهر. ولهذا ليس غريبًا أن لا نجد للعلم، بمعنى علم الطبيعة، وجودًا في ثقافتنا؛ ولا نجد للفضول المعرفي مكانًا في حياتنا؛ إذ ما جدوى معرفة ظواهر الطبيعة لغير تأمل إبداع الخالق. وهكذا كان العلم قديمًا لخدمة العالم الآخر والتقرب زلفى إلى الآلهة. واقترن لفظ العلم تقليديًّا بالعلوم الدينية، والعالِم هو المُتفقِّه في الدين، والقيمة الاجتماعية لهذا العلم الأخروي، والكتاب المنزَّل من عالم الغيب هو الحق دون سواه ليس في أمور العبادات وعالم الآخرة، وإنَّما في أحداث الحياة الدنيا؛ مما يعزز حالة الانكفاء على النفس، ففي الغيب الكفاية والأمل، ولا خلاص إلا به، ونرفض كل ما خرج عن مُحتواه؛ ولا خير في علم لا يدعم الإيمان ويُقرب الإنسان من الله.

وها هو ذا أبو حامد الغزالي في رسالة «أيها الولد» التي يَعرض فيها معنى العلم، وحدود العلم المطلوب لنجاة الإنسان في هذه الحياة الدنيا؛ حيث القضية الأولى والوحيدة عند الإنسان هي الخلاص. يسأل «الولد المحب» مُعلِّمه وهو الشيخ الغزالي: «فالآن ينبغي أن أعلم أي نوع من العلوم يَنفعني غدًا، ويؤنسني في قبري!» ويقول الشيخ المُعلِّم الذي كانت كتاباته إيذانًا بسقوط العقل، ومِعْوَلًا لهدم أركان الحضارة الإسلامية وأسسها العقلية، ويؤكد في إجابته أن لا جدوى من علوم الدنيا فهي مضيعة للوقت، قمينة بالندم على تحصيلها: «أي شيء حاصل لك مِن تحصيل علم الكلام والطب والدواوين والأشعار والنجوم والعروض والنحو والصرف غير تضييع العمر بخلاف ذي الجلال؟» وهذا هو أيضًا الشيخ محمد بن عبد الوهاب يُؤكد في رسالته «الأصول الثلاثة وأدلتها» أن العلم هو معرفة الله ومعرفة نبيه ومعرفة دين الإسلام دون أن يُضيف شيئًا آخر من العلوم، مؤكدًا أن الإنسان خُلق فقط لهذا العلم والعمل به والدعوة إليه، وليس لأي شيء آخر. هذا على النقيض تمامًا من علماء وفقهاء مُسلمين ازدهرت بهم حقبة الحضارة الإسلامية قديمًا، من أمثال المعتزلة والفارابي وابن سينا وابن رشد وابن الهيثم وابن خلدون وغيرهم، ممَّن كان لعلمهم فضل النهضة في أوروبا وبداية طور حضاري إنساني جديد … ونَزهُو بهم في معرض التفاخر بأمجادنا إزاء الغرب … وهو على النقيض ثانية مع ما ذهب إليه أيضًا أئمة فقهاء الدين في عصرنا الحديث من أمثال جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده. لذلك ليس غريبًا أن يُفضي فكر الغزالي والأشعرية ومن سار على دربهما إلى حالة انحسار حضاري لا تزال مُمتدة حتى الآن؛ وأن يسفر الفكر الوهابي عن نظام حكم يُسخِّر أمواله لمهامَّ سلفية تحميه من تطلُّعات النهضة والصحوة الحقَّة التي ترتكز على مقومات أساسية يقتضيها عصرنا وهي العقل والعلم والإنسان صاحب الإرادة الواعية الحرة.

وكذلك حال الفلاسفة يَرون وظيفة الفلسفة دعم العقيدة، وحين يُفكِّرون في موضوع حرية الإنسان فإنهم لا يَطرحونها من حيث هي قضية إنسانية في مُواجَهة الواقع وضروراته وفهم قوانينه وقيود المجتمع؛ بل يَطرحون مفهوم الحرية في مواجهة القدر، حرية الاختيار والمسئولية أم الجبر والخضوع الأعمى لتدبيرٍ مسبق؛ أي نطاق حرية عبدٍ للقدر لا إنسان فاعل تحكمه شروط اجتماعية وبيئية يُمكن فهمها ويكون العقل ملكة فاعلة تحريرية.

وكذلك الحال في مجالات البحث العِلمي. وليس غريبًا والحال كذلك أن نشهد ثنائية وانقسامًا في فكر الباحث العِلمي … محاولة تطبيق المنهج العلمي عند بحث الظاهرة في تجاور مع رفض مُطلق للعقلية المنطقية. ويَنعكِس هذا في الممارسة الحياتية العادية … إذ نجد هذا الباحث عضوًا في مركز بحوث وأيضًا مريدًا لشيخ يتزعم طريقة صوفية … ويتجسد هذا النهج بصورة واضحة في رفضٍ مُطلق لعلمَنة المجتمع والعلوم ذلك لأنَّ العلمنة هي في جوهرها التماس العقل المُفكِّر الحر للسببية في الأحداث الاجتماعية وتكرار الظواهر الطبيعية باعتبار هذا أمرًا من شئون دنيانا وليس من صلب العقيدة.

ويتمثَّل هذا أيضًا فيما يُمكن أن نُسميه صدمة العلم لدى شباب الجامعة، خاصة في الكليات العلمية. فقد وَرثَ هؤلاء بنية ذهنية غيبية مُتخلِّفة بحكم التنشئة الاجتماعية، عَوَّدتْهم أن يردوا الأسباب إلى غير أسبابها الموضوعية، وتلقَّوا تعليمًا يُدغدغ هذه البِنية ويفرز روح التخلف العلمي العقلي؛ إذ لا يربي العقول على مناهج البحث العلمي، وإعلاء شأن العقل والعلم؛ بل يتلقَّى الشباب في المدارس دراسات تؤكد روح الازدواجية والانقسام في الفكر؛ وتعطي الأولوية والمرجعية القدسية في أمور العلم لإطار فكري غير عِلمي؛ وتضع الفكر العقلاني النقدي موضع الاتهام والتشكيك. ويُغذي مناخ المجتمع هذا الوضع الانفصامي المتخلف، فضلًا عن إكراهات اجتماعية أخرى. ومن ثم يدخل الشباب إلى كليات علمية مُسلَّحون ببنية فكرية رافضة لمنهج البحث العلمي، وتضع العلم في مرتبة متدنية. وهكذا يقبلون على العلم، أو يتلقَّونه بنفس عازفة رافضة؛ ويعيشون وبينهم وبين الفكر العلمي سدًّا نفسيًّا وعقليًّا منيعًا. وتدفعهم صدمة العلم إلى ردة أو نكسة يُعززها فقدان الدور الاجتماعي، وفقدان الرؤية المستقبلية، ومناخ اجتماعي مناوئ للعلم؛ ووضع اقتصادي مأزوم، وشعور بالاختناق، وأن لا خلاص على الأرض.

وهكذا يحسم أسلوب توظيف البنية الفكرية الغيبية سلوك الناس، ومكانتهم في المجتمع العلمي، وتوجُّههم إزاء العلم وإزاء المجتمع معًا. والإيمان بأنَّ الغيب مصدر الحقيقة المطلقة في شئون الدين والدنيا هو في جوهره نَفي لإنجازات الفكر العقلاني، ونفي لأنَّ الفكرة مُنتَج اجتماعي. ويفضي هذا الإيمان، كما نشهد عند هؤلاء الشباب، إلى دجماطيقية أو نظام عقيدي ثنائي جامد، يعيش الشباب أسيرًا له عاجزًا عن التعامل في مُرونة مع أي فكر آخر مغاير أو مع متطلبات الواقع المتغيِّر؛ إذ يرى في الفكر الآخر تهديدًا لذاته ولقدسياته، وتبرز الأحكام الثنائية المطلقة؛ إيمان أو كفر. وحيث إن الغيب المطلق ثابت لا يتغير، لا زماني ولا مكاني، فإن الشباب يؤمن بالتالي أن لا جديد تحت الشمس، ويرفض الحديث عن التغيُّر والتغيير الاجتماعي، إلا إذا كان التغيير في اتجاه السلف، فحقائق الغيب هي الحقائق الاجتماعية الفاعلة، وهي الصدق الاجتماعي والإطار المرجعي. ويحاول الشباب معالجة مشكلاته من منطق النظرة الثباتية إلى المجتمعات والحياة وظواهر الطبيعة، وهي النظرة المتَّسقة مع البِنية المفاهيمية للغيب. ومن ثم نراه يؤكد أن ما صلح للسلف يصلح للخلف، وأن الحضارة التي ينتمي إليها واحدة على مر الأزمان وصالحة لكل الأمم … إنها حضارة هذا الغيب ولا تعدُّدية … العالم أمة واحدة تصلح حاله نظرية واحدة لا زمانية. وهي رؤية تتعارض مع ما يتلقاه في سلبية، أو ما يعرضه العلم فيزداد له رفضًا وكراهية.

(٧) البحث عن دور للعقل

ما سبَق لا يعني أن العقل ليس له حضورٌ البتَّة في تاريخ حياتنا الثقافية، فما مِن ثقافة مُتجانسة النسيج تمامًا؛ عقلانية خالصة أو غيبية نافية نفيًا مُطلقًا وصريحًا للعقل … وإنما كل ثقافة لها ثنائيتها النقيضية، والغلَبة لأحد طرفَي التناقض وهي غلبة لها قابلية للحركة، فتأتي ظروف وأحداث الحياة وترجح كفة هذا حينًا وكفة ذاك حينًا آخر، وكلَّما كانت دواعي التغيير لها الغلَبة على الإطلاق اتجه الميزان ناحية العقل للتعامل الموضوعي مع مُتطلبات الواقع … وكلما كان الكساد الاجتماعي والكسل الفكري، والانحطاط الحضاري مع استبداد السلطة وهنت معها عزيمة التغيير، وغلبت نزعة الْتماس الخلاص من خارج الذات … وهنا يَميل الميزان إلى الاتجاه المعاكس.

وحيث إنَّ عصور الانحطاط والاستبداد في حياتنا الاجتماعية، ومن ثم الفكرية، هي القاعدة المطَّردة والمتصل الذي لا ينقطع إلا من صحوات عابرة، فإنَّ العقل في ثقافتنا منقوص القدر أو مُنتقصه، محدَّد الدور والفاعلية، محدود المساحة … له إجلال ولكن وهو في قفص الاتهام، متَّهم دائمًا بقابليته للزيغ والمروق والانحراف … لا نأخُذ بشهادته إلا على أساس قاعدة الاتِّساق أو مبدأ التسليم بسُلطة أعلى لها الحاكمية والمرجعية والحكمة المُطلَقة … لذا فإنَّ العقيدة كما وصَفَها حجة الإسلام الغزالي في كتابه المُنقذ من الضلال هي لجام العقل … ومن هذا المنطلق عاش الغزالي في حياتنا ومات ابن رشد العقلاني في فِكرنا، وأحيا مواتًا في النهضة الغربية المُعاصِرة … كل من دعا إلى العقل إيمانًا بفاعليته وسلطانه انزوى في ركن من أركان التاريخ وطويت صفحاته وطمست كلماته، إلا إذا جاء الحديث عنه في معرض إحياء الذكرى تفاخرًا وادعاءً، لا افتخارًا واقتداءً. وبدت كلماتنا أقرب إلى التأبين عند ذكر محاسن موتانا. ولنسأل أنفسنا مَنْ مِنَ المُفكِّرين العقلانيين في تاريخنا عاش فكره نابضًا بالحياة، هاديًا للسلوك من الأقدمين أو المُحدَثين؟ جميعهم في قفص الاتهام!

ولكن أعود لأقول قد تختلف الآراء في تحديد الخصوصية الثقافية. ولكن مناط الأمر النظر بعين الاعتبار في دور الخصوصية الثقافية في حياتنا وتاريخنا في ضوء العمل من أجل التحرُّك إيجابيًّا نحو المستقبل الذي يستلزم تأويلًا إبداعيًّا جديدًا، تسمح به دينامية كل تراث ثقافي من أجل حشد الطاقة، وحفز الإرادة، وإعمال العقل.

ومن ثمَّ ليست القضية في جوهرها نفي للغيب أو إثبات، فهذا ليس موضوع حوار، فضلًا عن أن جميع الحضارات تؤمن بالغيب على نحو أو آخر وإن تبايَن نطاقُه ومَجالُ سُلطانه، ولكن القضية هي مساحة حرية الفكر المسئول المتاحة للإنسان في تناوله لعالم الشهادة أو شئون الحياة الدنيا، إنها مسألة توزيع اختصاصات، أو فصل بين السلطات، وإيمان بالعقل أيضًا الذي لم يَكُن له اعتبار في الماضي ولم يَرِد له ذِكر وتوظيف واضح المعالم والمسئوليات في الكتب المقدَّسة. وإذا قلنا فصل التخصُّصات فإن المقصود هو أن المُنحازين إلى التأويل القديم من دعاة الجبر السلفيِّين لنطاق سلطة الغيب إنما يَفرضون رؤيتهم لهدف سياسي. ثم إنَّ التراث الثقافي، أي تراث ثقافي، له آليته الخاصة التي تسمح له وتُهيئ إمكانية استمراره من خلال قابليته للتأويل. فهو حمَّال أوجه. ويَبرُز الوجه الثوري الداعم للتغيير بفضل الإنسان ذاته المؤمن بقُدرة الإنسان على صنع حياته على الأرض ويَختفي هذا الوجه ليَبرُز وجهٌ استسلامي تواكلي في عصور الردَّة والانحسار.

قد تكون خصوصية الاعتقاد مسألة نظرية. ولكن الذي يَعنينا نزع القناع السياسي عن دورها الاجتماعي الذي ساد قرونًا طويلة؛ وبيان كيف استثمر أصحاب السلطان في التاريخ هذه الخصوصية لصالح الحفاظ على السلطة ضد كل مَن ناهض سلطانهم وسطوتهم، ودعا إلى التغيير وإلى اعتماد العقل أساسًا لتدبير شئون الحياة والثِّقة فيه مرجعًا وهاديًا للبحث في ظواهر الطبيعة والنفس والمُجتمَع. ونظرًا لأن القاعدة العامة على مدى التاريخ في الشرقَين الأوسط والأدنى، أن السلطة الدنيوية تَستمدُّ مشروعيتها من الدين لا من المواطنين، فقد كان رجال الدين المنوط بهم تفسير الدين أصحابَ كلمة إزاء بيان مشروعية أو شرعية السلطة.

وتُؤكِّد أحداث التاريخ أن ثمة تحالفًا تراثيًّا بين السلطة السياسية والسلطة الدينية، أو بين رجال الحكم وفقهاء الدين وهو تحالف ظلَّ دائمًا ضد التغيير لصالح الكافة. ونحن بحاجة إلى دراسة سوسيولوجية معمَّقة تكشف جوهر هذا التحالف وأسلوب توظيفه وآثاره المدمرة على العقل باعتبار أن هذا التحالف الذي استهدف — دائمًا — خدمة الساسة والسياسة كان العلَّة الأساسية وراء الانهيار الحضاري، نُريد أن نعرف كيف قام وتدعم تاريخًا حتى بات تراثًا، ونكشف لخدمة من كان هذا التحالُف على مدى التاريخ! كيف تناقل الأباطرة والملوك والسلاطين في الشرقَين الأدنى والأوسط السلطة قهرًا واغتصابًا، والكلُّ يزعم أنه يحكم باسم الدين، ويُروِّجون تأويلات على لسان رجال الدين تدعم سلطانهم، ويتَّهمون كل داعية إلى العقل بالمروق والهرطقة. وتحول هذا التأويل الذي ترسخ في أذهان العامة إلى سدٍّ منيع يحول دون استنهاضهم وحفزهم إلى التغيير بإرادتهم ودفعهم إلى دائرة السلبية. إنَّ البحث السوسيولوجي لأسلوب توظيف خصوصية العقيدة اجتماعيًّا وسياسيًّا يستلزم جرأةً على كشف العلاقة الحقيقية المعاشة بين الإنسان المعاصر والتأويل الشائع، أو الرسمي، للنص الديني والذي استهدف إقالة العقل أو إزاحته عن ساحة الفعل الاجتماعي والعلمي.

والنص الديني دائمًا وأبدًا حمَّال أوجه، قابل للتأويل، والمفروض أن يكون تأويلًا حسب المصلحة الاجتماعية العامة في الأساس لا المصلحة السياسية، غير أنَّ السؤال المطروح دائمًا هو كيف وظَّف أصحاب السلطة ومعهم رجال الدين هذا النص لصالحهم؟ مثال ذلك التأويل الذي شاع بأنَّ المسيحية عقيدة سلام بمعنى الاستِسلام والانصراف عن الدنيا، بينما أغفل من انتزعوا لأنفسهم حقَّ التأويل ما قاله المسيح في تحدٍّ دنيويٍّ صارخٍ «لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا عَلَى الأَرْضِ. مَا جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا بَلْ سَيْفًا» (متَّى، ١٠: ٣٤)، وهو نص قابل للتأويل، وغير ذلك من تعاليم اشتملَت على قيم تُنظم شئون الحياة.

لهذا فإنَّ البحث لن ينصبَّ على صيغة النص لغويًّا ونحويًّا، بل هو بحث سوسيولوجي معرفي ينصبُّ على تأويل النص؛ أي كيف فهمه الإنسان وكيف كانت فعاليته في المجتمَع، وعلى أي وجه روَّج له أصحاب الحل والعقد، ولمصلحة من شاع على هذا النحو؟ أعني مدلول خصوصية الاعتقاد على النحو الذي شاع بين العامة وروَّج له أصحاب السلطان في عصور الانحطاط التي عشناها وأصبح إطارًا معرفيًّا قيميًّا فاعلًا اجتماعيًّا؛ إذ إنه على مدى هذه العصور، ولأنها عصور انحطاط، راج تأويل يطمس كل مساحة لحرية إرادة الإنسان في شئون الحياة الدنيا، ويَهدر كل إمكانية لتغيير الواقع اعتمادًا على العقل الحر، والتفاعل الثقافي بين الحضارات، وإنَّما عمد أصحاب السلطان، ومَن تبعهم من الفقهاء إلى إشاعة التأويل الذي يجرد الإنسان من حقه في إعمال العقل بحرية، ويكرس ظاهرة التواكل والعزلة الحضارية والانكفاء على الذات وترك أمور السلطة، أي السياسة، لأولي الأمر وتحقير علوم الدنيا التي هي أساس الإعمار. وليس غريبًا والحال كذلك أن يَعتمِد كل أصحاب السلطان على الطرق الصوفية ويَعملوا على استرضائها.

ولهذا نجد عصر الازدهار الحضاري اليتيم في ظل الحقبة الإسلامية، وما أقصره، هو العصر الذي راج فيه تأويل يَدعم استقلال العقل وحريته. وما مُحاولات علماء الكلام وفلاسفة الإسلام خلال هذه الحقبة إلا جهد مُتميز في هذا الصدد، ولقد كانت إنجازاتهم عاملًا مهمًّا ورئيسيًّا في تخصيب الحضارة الغربية إبان نهضتها، ونحن غافلون غارقون مع تأويلات شاعت وقد تَخفت وراء وجه ديني وهو في الحقيقة قناع سياسي يلزم انتزاعه. وهذا ما حاوله بعضهم من أمثال الشيخ رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده والشيخ علي عبد الرازق وغيرهم؛ إذ حاولوا الكشف عن تأويلٍ إبداعي جديد يلائم مُقتضيات العصر ومقومات الحضارة العصرية، بحيث يحفز الإنسان على النهوض وخوض غمار الحياة الدنيا مُتحديًا على أسس عقلانية نقدية لتكون النهضة صحوة حقيقية. إن مَن دعوا إلى تحقير علوم الدنيا أو أغفَلوها إنما سلبوا الإنسان مقوماته الحضارية، وباتوا نوعًا من الطاغوت الذي يُرسخ أسباب التخلف. ونجد في مواجهتهم مَن يستندون في تأويلهم إلى الدعوة الصريحة لطلب العلم ولو في الصين؛ أي الانفتاح العقلي والفِكري على ثقافات العالم. وطبيعي أن طالب العلم هنا حين يَستجيب لهذه الدعوة فإنه لن يَلتمس في «الصين» بمعناها الرمزي علوم أصول الدين، بل علوم الدنيا.

ومن ثم فإن جوهر القضية وضوح الرؤية بشأن التغيير الاجتماعي الشامل، وأن يَنعكس ذلك في مجالات نشاط الحياة المختلفة للمجتمع: مؤسَّسات عِلمية ودستورية وتعليم واقتصاد وسياسة وثقافة. ويواكب هذا تأويل إبداعي للتراث الثقافي يُعزز السبيل إلى الهدف المنشود. لا أقول انسلاخًا عن التراث، بل تغييرًا يُواكب التغيير المنشود ويَقضي على حالة الانفصام. وأن نرد للعقل اعتباره ونؤكد الثقة النسبية فيه؛ فلا شيء مُطلق غير حرية الفكر. وهذه هي الخطوة الأولى؛ وهي بداية الطريق إلى العلمانية، التي هي اختصارًا إعمال العقل في شئون دنيانا.

١  تكرر «القلب» في القرآن معرفًا بأل أو اسمًا مضافًا مفردًا ومثنى وجمعًا ١٣٧ مرة، و«فؤاد» ١٦ مرة، وقيل عن قلوب المنافقين المكابرين … إنَّ الله ختم عليها أو طبع عليها، أي جعلها غير مستعدة لقبول الموعظة فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ولَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا … وعلم القلب هداية من الله … وليس علم نظر عقلي ومنهج منطقي: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ (التغابن: ١١) … أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (الحج: ٤٦)، ولا غرابة إذ نجد حجة الإسلام الغزالي في رحلته من الشك إلى اليقين، يؤكد، هو ومن سار على دربه من جمهرة السلفيين، أنَّ العقل بمعناه عند أهل الفكر والفلسفة والعلم لم يهده إلى اليقين، بل كان سبيله إلى الشك والخوف وانحلال رابطة التقليد … بينما القلب سبيله إلى اليقين. ولنا أن نستطرد معه قائلين: القلب سبيل اليقين أو الإيمان … أمَّا العقل فله شأن آخر هو علوم الدنيا والحياة والواقع المتغير، وهو هنا وافٍ لكمال الغرض … هو سبيل الإنسان إلى معرفة الحياة الدنيا، له قواعده ومنهجه، وله مجال اختصاصه واستقلاله، إلَّا أن نذهب إلى ما ذهب إليه الغزالي وننفض أيدينا من كل علوم الدنيا لأنَّها علوم لا تنفع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤