مجتمع المعرفة والخصوصيات الثقافية والحضارية العربية، هل من تعارض؟

يقول ابن خلدون:

إنَّ الأحوال إذا تبدَّلت جملة، فكأنما تبدَّل الخلق من أصله، وتحوَّل العالم بأَسرِه وكأنه خلق جديد.

وشاء عالم الاجتماع والفيلسوف إيمانول فالرشتاين أن يُعنْوِن واحدًا من أحدث كُتبِه بالعنوان التالي:

«نهاية صورة العالم كما نعرفها.»

ويعيش العالم بالفعل أزمة مخاض التحوُّل … مخاض النهاية وإيذانًا ببداية صورة جديدة لعالم جديد في إدراك الإنسان.

ويُمكن النظر إلى معالم التحول في الإدراك وفي البنية والعلاقات والسلوك من زاوية السياسة والاجتماع، وكذا من زاوية العلم والفكر، وكلاهما مُترابطان مُتكاملان.

نرى على صعيد العلم والفكر على مدى ثلاثة قرون حضارة عصر الصناعة، الموسومة غربًا بحضارة العلم، تنقَّلت وثبًا من آلية نيوتن وعالمه الميكانيكي إلى نظرية المجال الكهرومغناطيسي عند ماكسويل، ثم إلى نسبية أينشتين، والاحتمالية وعدم التحدُّد واللايقين عند هيزنبرج وصولًا إلى الإلكترونيات المُعاصِرة وتطوراتها المُتسارعة المذهلة، وكذا الهندسة الوراثية، وانتقلت حضارة الصناعة مع هذا إلى عالم النهايات أو المابعد؛ نهاية الماركسية والليبرالية وما بعد الحداثة وما بعد الفكر الغربي، أو ما بعد المنطق الغربي الذي سنَّه الغرب قانونًا كليًّا لفكر إنسان كلي، والآن عالم الشواش. وأصبح مقبولًا الزعم بأنَّ العالم الآن يعيش حالة شواش هي سمة مرحلة الانتقال أو حالة فراغ فكري إلى حين.

ومضى النصف الثاني من القرن العشرين مشحونًا بعوامل تحوُّل جذري غيَّرت المشهد العام للعالَم ووضعته على أعتاب مشهدٍ جديد، ويعلن نهاية منظومة ومخاض التحول إلى منظومة عالمية جديدة … عالم جديد يتشكَّل مع نهاية الألفية. توافَقَت عوامل عدة لتؤكد النهاية والبداية.

نهاية حقبة الاستعمار الرأسمالي الصناعي الأوروبي؛ وبداية استقلال حركات التحرُّر الوطني التي حقَّق بعضها نجاحًا وأخفق البعض الآخر.

صعود مُجتمعات شرق وجنوب آسيا لتُؤكِّد حضورها المؤثِّر على أصعدة السياسة والاقتصاد والفكر، وإخفاق مجتمعات الشرق الأوسط الكبير وأفريقيا، باستثناء جنوب أفريقيا.

سقوط اليسار واليمين التقليديَّين في الفكر الماركسي والليبرالي الغربي.

وشهد العقدان الأخيران:

جهود الغرب الأقصى (الولايات المتحدة الأمريكية) لترسيخ وراثتها لسلطنة وهيمنة الغرب باسم النظام العالمي الجديد، أو باسم العولمة.

وشهد العقدان الأخيران أيضًا ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات التي حفَّزت إلى نشوء المعلوماتية كأساسٍ مادي لمجتمع جديد هو مجتمع المعرفة. وأحدثت ثورة تكنولوجيا المعلومات في سياق التحولات آنفة الذكر ثورةً بعيدة المدى طالت جذور الثقافة والفكر والاقتصاد وعلاقات الإنتاج وقوى الإنتاج والبنى الاجتماعية وفائض الإنتاج المعرفي ووظائف الأنشطة الاجتماعية من تعليم وغيره، وكذا مفهوم ودور وحدود الدولة. ونظرًا لأن الثقافة أو التراث الثقافي هما مِحور وأداة ثورة تكنولوجيا المعلومات، ونظرًا لتباين المجتمعات في هذا الشأن، فقد عادت الثقافة، أو الخصوصية الثقافية والحضارية للمجتمعات لتحتلَّ الصدارة في الحوار والصراع والسَّعي للهيمنة.

ويُعبر عن هذا مانويل كاسيلز في كتابه «عصر المعلومات» بقوله: «أصبح توليد الثروة ومُمارسة القوة وابتكار رموز ثقافية رهن القدرة التكنولوجية للمُجتمعات والأفراد حيث تكنولوجيا المعلومات تمثِّل قلب هذه القدرة.»

وأصبحت تكنولوجيا المعلومات أداةً لا غِنى عنها من أجل الإنجاز الكفء لعمليات إعادة الهيكلة الاقتصادية الاجتماعية وظهور العمل الشبَكي باعتباره القوة الدينامية للنشاط الإنساني.

واتَّخذت المؤسَّسات والحكومات في الاقتصادات الرأسمالية عددًا من الإجراءات والسياسات أفضت إلى رأسمالية من نوعٍ جديد؛ عولمة الأنشطة الاقتصادية المحورية والمرونة وإدارة القوى … رأسمالية مرنة سريعة الحركة والتنقل مترابطة شبكيًّا وتملك إمكانات الاتصال عن بُعد وتخزين ومعالجة المعلومات وقرارات مركزية ولا مركزية في آنٍ واحد.

وصحبت هذه التحوُّلات عملية نشوء حركات اجتماعية قوية انتشرت فجأةً في كل أنحاء العالم الصناعي، هي حركات ثقافية تنشد تغيير الحياة في كل مظاهرها وليس السلطة فقط. ونشرت هذه الحركات أفكارًا جديدة، وتولدت عنها أحلام طموحة متباينة الأهداف؛ من مثل حركات الحفاظ على البيئة، والحركات النسوية، والدفاع عن حقوق الإنسان والحريات الجنسية والمساواة العِرقية وديمقراطية الشعوب.

وطبيعي تمامًا أن يتَّسع نطاق المطالبة بالحريات وتطبيق الديمقراطية ليُمثل تحديًا قويًّا للنظام الأبوي (البطريركي)، سواء بالنسبة للأسرة أو بالنسبة لنُظُم الحكم، وكلاهما ثقافة سائدة في العديد من المجتمعات غير الصناعية، ومن بينها المُجتمَعات العربية.

وتغيَّر مفهوم الطبقة الاجتماعية؛ ومن ثم تغيرت طبيعة التحالفات وشكل ومحتوى الصراعات الداخلية الاجتماعية. لم يَعُد الصراع الطبقي، كما ذهب ماركس في الماضي، صراعًا بين البروليتاريا، العمال الكادحون الأُجراء، وبين أصحاب الأعمال الأفراد الرأسماليين المستغلين داخل حدود الوطن. ولكن تغيَّرت طبيعة المُنْتَج وأدوات الإنتاج وهما المعلومة/المعرفة/العمل الذهني المكثَّف، ومُنتجو المعلومة/المعرفة، والمهن المساعدة أو المصاحبة من مديرين ومهنيين وتقنيين. ومن هنا أصبح هؤلاء، وليس البروليتاريا الوطنية، هم قوى الإنتاج في علاقات كوكبية شأن الشركات الكبرى المُتعدية القوميات التي تُمثل شبكات كوكبية. وأفضى هذا إلى تصدُّعات اجتماعية أساسية وحقيقية مُميزة لمجتمع المعرفة. وتتمثل هذه التصدعات في حالة التشظِّي الداخلية لقوى العمل بين مُنتجين معلوماتيين وقوى العمل العامة العادية التي كان الظن في السابق أنهم هم القوى المحرِّكة للتاريخ.

ونشأت مع هذا أيضًا ظاهرة الإقصاء الاجتماعي لقِطاع مُهمٍّ في المجتمع مؤلَّف من أشخاص مُستبعدين انتهت فترة صلاحيتهم الحضارية، وأسقطهم المجتمع الجديد من حسابه، وأضحوا مجرَّد عُمال مُستهلكين. ونشأت تحالفات بين بؤر أو قوى شبكية على الصعيد العالَمي بين المُنتجين المعلوماتيين، وأيضًا في المقابل بين النخب في المجتمعات المختلفة، وكذا بين الشركات الكبرى. وأدَّى هذا إلى تحوُّل جذري في مفهوم الديموقراطية النيابية ودور الدولة وسيادتها، ومعنى التفويض الاجتماعي الذي ربما يفضي إلى ما يسميه مانويل كاسليز الدولة الشبكية. ونشأت كذلك تحالُفات شبكية عالمية بين أبناء النخب.

وأصبحت الثقافة هي منبع القوة والأساس الذي تقوم عليه التراتبية الاجتماعية والعالَمية في عصر مجتمع المعرفة، وهي أيضًا رأس الحربة في معارك القوة في عصر المعلومات؛ ذلك لأنَّ المعارك الثقافية سوف تدور داخل وعن طريق الميديا والقُدرة على فرض رُؤًى وسلوكيات وقيم جديدة، فضلًا عن التلاعُب الرمزي لحساب القوى المختلفة المتصارعة كوكبيًّا. صفوة القول إنَّ العالم يُصبح ساحة صراع ثقافي ومجالًا لانتخابٍ ثقافيٍّ على صعيد عالَمي، إنه صراع بقاء أداته ومحوره الثقافة.

ويُجمل مانويل كاسيلز صورة التحول الثقافي الجديد بقوله: «طوال التاريخ تولَّدت الثقافة من خلال شعوبٍ مشاركة معًا في الزمان والمكان، يجمعهم زمانٌ ومكانٌ واحد.» وفي ظروفٍ حدَّدتها علاقات الإنتاج والقوة والتجربة. وتعدَّلت الثقافة نتيجة مشروعاتهم وحروبهم بين بعضهم لكي يفرض كل مجتمع على الآخر قيَمه وأهدافه ونظراته … معنى هذا أن التشكيلات أو التصورات الزمانية-المكانية كانت دائمًا حاسمةً لمعنى أي ثقافة، وللتطور الفارق لكل ثقافة.

ولكن في ظلِّ الإطار الفكري العام أو البارادايم المعلوماتي سوف تنشأ ثقافة جديدة نتيجة تُجاوز الأمكنة وطمس معالمها، ونتيجة إفناء الزمن بعد أن كثَّفت التكنولوجيا الزمن في لحظات قليلة تُفرغ المجتمع من تعاقُبه أو تسلسله حسب إدراكنا التقليدي، وتفرغ التاريخ من تاريخيته وتعيش المجتمعات في فضاء التدفُّقات وفي الزمن اللازماني أو في ثقافة الخنائلية الواقعية real virtuality والآنية المباشرة.

وسوف يكون الاتصال عبر الكومبيوتر مُتجاوزًا الفضاء والزمان التقليديَّين عاملًا حاسمًا في المواجهة الثقافية وفي صوغ ثقافة المستقبل. وطبيعي أن يكون هذا الاتصال طليقًا يحفز على المشاركة الحرة وذا مضمون أو محتوى منافسًا أو كُفئًا يُؤهله للمشاركة والبقاء. إنه مجتمع الحوار الكمبيوتري في شفاهية من نوع جديد، وهو أيضًا مجتمع التوثيق الكمبيوتري … إنَّ مجتمع المعرفة بعبارة أخرى هو المجتمع التفاعُلي على الصعيد الكوكبي.

ويَستلزم مثل هذا الحوار حضورًا ذهنيًّا، وتساميًا عقيديًّا، وقدرة على التكيف الآني، والحسم بين المتناقِضات، ويستلزم ابتكارًا وإبداعًا فوريًّا، بمعنى تجاوز الحوار المعتمد على التقليد وعلى شهادة التاريخ أو المرجعية الكاريزمية للسلف.

ويَجري الاتصال داخل مجتمع المعرفة على صعيد كوكبي وفق آلية ونهج جديدَين مما يَعني التحول إلى ثقافة جديدة عالَمية الأفق والمستوى.

والاتصال هنا يصوغ حتمًا شكل الثقافة؛ لأنَّنا عادة لا نرى الواقع كما هو، بل كما تُصوره مجازًا اللغة. إذ الثقافة/اللغة/الرمز يُمثل حجابًا بين الإنسان/المجتمع والطبيعة. وتخلق الصور المجازية التي تُجسِّدها اللغة محتوى ثقافتنا. ونظرًا لأنَّ الثقافة تتوسط عملية الاتصال وتؤثر فيها وتحدد نهجها وهدفها فإن الثقافات نفسها؛ أي منظومات المعتقدات والقوانين التقليدية في المجتمعات والتي صيغت تاريخيًّا في صورة منظومات، تتحوَّل بشكل أساسي، وتتحوَّل أكثر فأكثر مع الزمن بفعل المنظومة التكنولوجية الجديدة.

ولكن حريٌّ أن نُوضِّح أن نشوء مجتمع المعرفة، وبسبب اقترانه بالعولمة، لا يعني سيادة التجانس الثقافي كوكبيًّا أو هيمنة ثقافة ما كوكبيًّا باعتبارها ثقافة العصر؛ ذلك لأنَّ المجتمعات سوف تؤثر وتستجيب في صورة ردود أفعال على نحوٍ مُختلف إزاء عمليات ومقتضيات وشروط التطوير وفقًا للخصوصيات التاريخية والثقافية والمؤسَّسية لكلٍّ منها حتى وإن طال التطوير هذه الخصوصيات.

ويقول في هذا الصدد مانويل كاسيلز:

«إن تنوُّع السياقات الثقافية التي يظهر ويتطور فيها اقتصاد المعرفة لا يحُول دون وجود نموذج مشترك للأشكال التنظيمية في عمليات الإنتاج والاستهلاك والتوزيع. وسوف تكون القسمة المشتركة هي أنَّ عمليات توليد المعرفة، والنشاط الاقتصادي، والسُّلطة السياسية، والقوة العسكرية، ووسائل الاتصال؛ ستُمثِّل جميعها تحولًا عميقًا تأسيسًا على البارادايم أو الإطار الفكري لمجتمع المعرفة. وسوف تكون المجتمعات أكثر ارتباطًا والتزامًا بمنطق العمل الشبكي للثروة والقوة والرموز العاملة وَفق هذا المنطق. ذلك لأن تكنولوجيا المعلومات ستُؤدي إلى دمج العالم في شبكات تواصُل على أساسٍ نفعي في صورة مجتمعات افتراضية أو خائلية مُتباينة. ويعني هذا بالضرورة حدة المنافسة أو المعارك الثقافية على صعيد خائلي أيضًا.»

وتُشير بدايات مجتمع المعرفة إلى نشوء أزمة انتقالية تفرغ مفاهيم ومؤسَّسات حقبة الصناعة من المعنى والوظيفة اللتَين كانتا المُبرِّر لوجودها؛ من ذلك مثلًا الطبقة والتمثيل النيابي البرلماني والسلطة والدولة-الأمة؛ إذ سنكون بصدد تكوينات طبوغرافية من نوع جديد تتوزع فيها قوى وعلاقات المجتمع/العالم وَفق أسس ومعايير ومبادئ ودلالات وظيفية جديدة. مثال ذلك أن الدولة-الأمة سوف تَفقد الكثير من سيادتها نتيجة تحول علاقات قوى الإنتاج والسياسة إلى علاقات شبكية كوكبية للثروة والقوة. ويؤدِّي هذا أيضًا إلى انحسار قُدرة الدولة على تمثيل إقليمها وأراضيها إزاء هذا التحدي الجديد. ولذلك تُصبح الهويات التي تُضفي شرعية قومية على الدولة والمؤسَّسات الداخلية غير ذات موضوع؛ لأنها تأسست على قيم ومبادئ الدولة-الأمة أو القومية وما سُمي بالعقد الاجتماعي. وأصبحت هذه جميعها فارغة من الدلالة في إطار البارادايم الجديد.

وطبيعي أن يفضي هذا إلى إثارة نزاعات وصراعات ثقافية وفكرية بشأن مثل هذه الموضوعات التي ترسَّخت محورًا لتحديد الانتماء ومعنى الكيان الاجتماعي. ويتجلَّى هذا واضحًا في المجتمعات العربية التي ألِفت الحديث عن هوية لغوية أو دينية.

ويعقب مانويل كاسليز على هذا بقوله: «لن يحول هذا الوضع الجديد دون نشوء هويات جديدة فرعية أشبه ببؤر تتجمَّع وفقًا لهويات المشروع المستقبلي project identities. وستكون هويات مُقاومة. ويعني هذا نشوب معارك لا نهائية حول الرموز الثقافية للمجتمع هي في جوهرها معارك انتخاب ثقافي لا نهاية لها. وطبيعي أيضًا أنه لن يَفوز فيها الجامد المتصلب أو السَّلفي لتناقضه مع طبيعة ثقافة الحضارة الجديدة.»

(١) الخصوصية الثقافية والحضارية

تعدَّدت بتعدد الدارسين تعريفات كلمات، ولا أقول مصطلحات، الحضارة، الثقافة، الخصوصية، الهوية … إلخ. ونجد كمثال من يرى الثقافة تعبيرًا عن هوية/ماهية جبلية؛ ومن ثم يرى أن هناك مجتمعات أسيرة ما يُسمِّيه ثقافة التخلف، وأخرى تنعم بثقافة دينامية هي ثقافة التقدم والإبداع والعبقرية. هذا ما يذهب إليه لورانس هاريزون وصمويل هنتنجتون ونيوت جنجريتش. ومن عجبٍ أن نجد مُؤتمرات الفكر العربي الإسلامي تنزع إلى القول بثبات وجوهرية الهوية/الثقافة/الحضارة وإن اختلفَت زاوية النظر. لذلك تؤكد هذه المؤتمرات المتواترة على ضرورة ما تسميه «ثوابت الفكر والثقافة حفاظًا على الهوية والتزامًا بالتراث غير المفهوم وغير المحدَّد علميًّا». وتتحوَّل مثل هذه المفاهيم والرؤى القاطعة إلى قيود تُكبِّل حركة المجتمع وتصيب الفكر بالجمود؛ إذ يتعيَّن عدم الخروج عن النص.

بيد أنَّنا نرى غير ذلك. وحيث إن التعريفات متباينة وفقًا لزاوية النظر أو لانحيازات أيديولوجية فإن لنا أن نقدم تعريفات إجرائية نراها مُلائمة لمقتضى الحاجة، أعني تُلبي الرغبة في إزاحة النزعة السكونية والتحول إلى رؤية أو موقف دينامي يُؤكد التنوع في كل هذه المفاهيم على الصعيد الأفقي، وكذا على صعيد الامتداد الزماني التاريخي لتطور المجتمعات.

الحضارة إبداع اجتماعي للأدوات المادية (التكنولوجيا) والمعنوية (الإطار الفكري/القيمي)؛ أي الثقافةُ استجابة لتحديات وجودية يَفرضها الواقع المتجدِّد بتفاعُله مع الإنسان المجتمع من أجل بناء ما يُسمى الموطن الملائم niche construction. وهذا تعريف دينامي؛ إذ يدمج الإنسان/المجتمع كأحد مكونات البنية الحضارية بسلوكه وفكره وقيَمه، وباعتباره طرفًا فاعلًا في حوار نشط مع الطبيعة على صعيد إيكولوجي؛ ومن ثم خصوصيته، التي هي حصاد وتجلي استجاباته، من واقع حاله.

وتكون بذلك الثقافة مُنتَجًا اجتماعيًّا لتكييف فرص ومناخ ونهج الفعل والتفاعل والاستجابة؛ نظرًا لدورها في تشخيص ظواهر الحياة والوجود وتحديد سُبل التعامل. إنها بذلك إطار الفعل والتفاعل ومحدد السلوك والاستجابة للتكيُّف والبقاء. ولهذا فإن دراسة الثقافة في ازدهارها وانحطاطها تستلزم دراسة حالة الفعل والتفاعل والنشاط الإبداعي للمجتمع؛ ومن ثم فإن الفكر الاجتماعي والثقافة الاجتماعية كلاهما رهن الفعالية الإبداعية المادية والمعنوية للمجتمع؛ أي الحضارة المتجدِّدة. معنى هذا أن الفكر أو الوعي الوجودي بالذات حدث تاريخي يجري في بُعدَي الزمان والمكان، ونقطة انطلاقه ليست خارج الظروف الحافزة والمكيفة له، وهو الواقع بأبعاده. وكذا الذات العارفة جزء من نسيج الموضوع الذي تَعرفه. ولا وجود لتراث ثقافي في المطلق خارج شروط تكوُّنه في التاريخ؛ أي الزمان والمكان … والمكان أو المجتمع ليس محايدًا في فعاليته، وليس حدثًا مكتملًا. ومن ثم الثقافة متنوعة، متعددة، متطورة ومتغيرة صعودًا وانحطاطًا.

أما عن خصوصية الإنسان/المجتمع، فهناك:

  • (أ)

    خصوصية النوع … أي مستوى التطور الارتقائي.

  • (ب)

    خصوصية على المستوى الحضاري المحلي والعالمي، والتي تعنينا هنا. وهذه هي حصاد ما اكتسبه المجتمع على مدى تاريخه في تطويره للغة وعناصر ثقافته واستجاباته وأساليبه المميزة في العمل وفي تنظيم البنية والعلاقات الاجتماعية … إلخ، وملاءمة هذا كله للمسرح الجغرافي الذي تجري عليه الأحداث. وتتميَّز هذه الخصوصية بقابلية التطور والتنوع والتكيُّف خلال علاقات العمل الاجتماعي التي يَجري في إطارها ويُعبِّر عنها النشاط الثقافي الاجتماعي.

لذلك نقول الخصوصية منتج وحدث تاريخي في إطار الفعل والتفاعل الاجتماعيَّين؛ أي العمل الاجتماعي والإبداع الفكري. إنها صيرورة تاريخية نشأةً وتكوينًا وتطورًا بناءً على خصوصية النوع الإنساني والظرف الوجودي. معنى هذا بحث الخصوصية في تطورها التاريخي الاجتماعي وبيان عوامل الازدهار والانحسار ومَظاهرها في الحالَين.

لذلك ليست الخصوصية، كما يذهب البعض، انتماءً لفظيًّا إلى فكر أو عقيدة وليسَت حدثًا اكتمل انتقائيًّا في زمنٍ ما، بل هي مُنتجٌ وتعبير عن حالة وفعالية المُجتمع وعن النشاط الإنتاجي الإبداعي والمنتج الفِكري الثقافي … الواقع الحضاري المتغير.

بِناءً على ما سبق يُمثِّل مجتمع المعرفة تعبيرًا رمزيًّا عن طور حضاري جديد. إنه تعبير عن ثورة تكنولوجية مُتمركزة حول المعرفة أدَّت إلى تحول أسلوب التفكير والإنتاج والاستهلاك والتجارة والإدارة والاتصال والحياة والموت. وسوف تكون له تجلياته الثقافية، وقضاياه الفكرية، ومُفرداته اللغوية، ورؤاه الفنية. وسوف يؤثر بعمق في الثقافة والخصوصية، ولكن سوف تتبايَن وتتنوَّع بتنوع استجابات المجتمع.

(٢) تحديات مجتمع المعرفة

يحدد إعلان المبادئ الصادر عن القمة العالَمية لمجتمع المعلومات WSIS، جنيف ٢٠٠٣، وتونس ٢٠٠٥، التحديات التي تُواجه العالَم، ومن بينه العالم العربي في سبيل بناء مجتمع المعرفة. وطبيعي أنَّ المجتمعات العربية تُواجه، أو تُعاني، ما هو أكثر وأخطر من هذه التحديات لمَا تكشف عنه من تناقُض مع ما يُسمَّى «خصوصيتها الثقافية». وهذا ما سوف نَعرض له.

إن الانتماء إلى مجتمع/اقتصاد المعرفة يعني كما يُقرِّر إعلان المبادئ الصادر عن القمة العالَمية لمجتمع المعلومات:

تسخير إمكانات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات للنهوض بأهداف التنمية: استئصال الفقر المُدقع والجوع، ومحو الأمية، والمساواة بين الجنسَين، وتمكين المرأة، والارتفاع بمُستوى الرعاية الصحية. وهذه جميعها غائبة في المجتمعات العربية التي تعيش بغير استراتيجية تطوير حضاري وطني، ممَّا يُباعد بينها وبين الجهود اللازمة للانتماء لركب حضارة الصناعة وعصر الثورة المعرفية. إذ إنَّ من بين هذه التحديات ما يراه البعض يَتنافى مع الثقافة الاجتماعية والعقيدية السائدة. وتُؤكِّد الإحصاءات أيضًا حالة الفقر المدقع علميًّا وتعليميًّا وارتفاع نسبة الأمية وتدنِّي الحالة الصحية؛ بل وحرمان الغالبية من أبسط حقوق الرعاية.

يُؤكِّد البند ٣ عالَمية كل حقوق الإنسان والحريات الأساسية في شمولها والديمقراطية والتنمية المُستدامة واحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية (حرية المعلومات وحرية التعبير والاعتقاد وحق المشاركة الإيجابية للمُواطِن في إدارة ومتابعة ومراقبة شئون بلده)، وكذلك الحكم الرشيد. ويرى الإعلان أنَّ هذه جميعها كلٌّ متكامل. وغنيٌّ عن البيان أن هذه جميعها شروط غائبة عمدًا وقسرًا في المجتمعات العربية؛ ومن ثَم هي هدف جوهري يتعين إنجازه إذا شئنا التطلُّع إلى الانتماء للعصر.

يُؤكد الإعلان في البندَين ٧، ٨ أن للعلوم دورًا مركزيًّا في تطوير مجتمع المعلومات أو مجتمع المعرفة؛ وأنَّ التعليم والمعرفة والمعلومات والاتصالات هي بؤرة تَقدُّم البشرية. ويعرف الجميع أن العلم والبحث العِلمي ومغامرة المعرفة العلمية تُمثل جميعها الفريضة الغائبة في الثقافة الاجتماعية وفي السياسة العامة للمُجتمعات العربية. ويكفي أن نَعرف أن المجتمعات العربية تُخصِّص لميزانيات البحث العلمي ما لا يزيد عن ٠٫٥٪ من إجمالي الناتج القومي، وهي نسبة تكاد تكفي رواتب الموظفين. هذا بينما تُخصِّص كوريا الجنوبية ٢٫٥٪ وإسرائيل ٣٪ والولايات المتحدة ٣٪ من إجمالي الناتج القومي.

وتُؤكد الإحصائيات كذلك أن العالم العربي ينتج في مجال المعرفة وإصدارات الكتب تأليفًا وترجمة حوالي ستة آلاف عنوان في السنة، ويبلغ نصيب العلم فيها أقلَّ من ٢٪. ولا تزيد إصدارات الترجمة عن ٣٥٠ عنوانًا في السنة في كل العالم العربي، ٢٧٠ مليون نسمة. هذا بينما تصدِّر إسرائيل حوالي ٤٥٠ عنوانًا مترجمًا في السنة، وتترجم إسبانيا (٣٨ مليون نسمة) أكثر من عشرة آلاف عنوان في السنة مع الاهتمام بالعلم.

هذا فضلًا عن تدنِّي مستوى التعليم الجامعي في جميع حقول المعرفة، ثم ارتفاع نسبة البطالة خاصةً بين خريجي الجامعات. وأكثر من هذا أن طريق الحراك الاجتماعي مسدود أمام هؤلاء بسبب تعطُّل حركة التطوير الاجتماعي.

يُقرر الإعلان في المادة ٢٤ أن القدرة على النفاذ إلى المعلومات والأفكار والمعارف والمُساهمة فيها هي مسألة أساسية في مجتمع معلومات/معرفة جامع. وواضح أن مجتمع المعرفة يعني تحولًا جذريًّا عن أَعرُفٍ وعادات راسخة وعن عناصر معوقة ضمن تراث ثقافي نصفه جملة بالعراقة في المجتمعات العربية التي ألِفت فردية الحاكم المطلق، وألِفت التمايز الثقافي بين السلطة والعامة، وأن السلطان هو الحاكم الحكيم، وكأن عراقة التراث تحُول دون الإبداع والتجديد.

ويتكامل مع هذا ما قرَّرته المادة ٢٩ بشأن بناء القدرات كشرط جوهري؛ إذ تُقرر ضرورة أن يُتاح لكل شخص فرصة اكتساب المهارات والمعارف اللازمة لفَهم مجتمع المعرفة، وفهم الاقتصاد القائم على المعرفة، والمشاركة فيها بنشاط، والاستفادة الكاملة منهما.

ولن يتسنَّى تحقيق هذا الهدف إلا من خلال استراتيجية تطوير حضاري وعقد العزم على التغيير الجذري والشامل لهيكل المجتمع والعلاقات الاجتماعية وتعظيم رأس المال البشَري للمُجتمعات العربية في صورة الحريات والتعليم والنهوض بالبحث العلمي والصحة العامة … إلى غير ذلك من شروط بناء مجتمعٍ جديد.

ويتأكد هذا في ضوء ما تحدده المادة ٣١ من أن التعليم في ظل مجتمع المعرفة أصبح ذا مضمون ونهجٍ جديدَين، إنه ثقافة اجتماعية جديدة؛ إذ تُقرِّر المادة أن التعليم المستمر وإعادة التدريب والتعلم عن بُعد وغير ذلك أمور تسهم جوهريًّا في إعادة تشكيل المواطنين كعناصر فاعلة في المجتمع الجديد. ويعود الإعلان ليؤكد في المادة ٣٣ على ضرورة تدعيم القدرة الوطنية في البحوث والتطوير في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. وتُقرر كذلك الماسدة ٣٤ أن الاندماج الإيجابي في اقتصاد المعرفة يعتمد إلى حد كبير على زيادة بناء القدرات في مجالات التعليم والمعرفة التكنولوجية والنفاذ إلى المعلومات.

وتتناول المادة ٤٩ أمورًا تتعلَّق بالسياسة العامة بين الدول. ونرى الحاجة إلى توسيع نطاق تطبيقها لتَشمل السياسة العامة بين الدول والسياسة العامة للدول محليًّا؛ ذلك أن مجتمع المعرفة يستلزم التمكين المعرفي والثقافي والسياسي للمُواطن بما يسمح له في إطار المجتمع العالمي التفاعلي، وفي خِضم طوفان المعلومات، بالفهم النقدي لمحتوى المعارف المطروحة محليًّا وعبر شبكة الإنترنت. ولا يتأتَّى هذا إلا بالنسبة لمواطن حر التفكير، غني بالحصاد المعرفي، يعيش في مناخ سياسي داعم يُؤكد الثقة بالنفس والمسئولية، ويملك فرص الحصول على المعلومات والمعارف والقدرة على النقد العقلاني في ضوء استراتيجية قومية لتطوير المجتمع هو أحد صانعيها بفضل توفر شروط مساهمته الحرة والإيجابية. وهذا ما يفتقده المواطن العربي أو الرعية العربية.

تُقرر المادة ٥٢ أن التنوع الثقافي هو التراث المشترك للإنسانية جمعاء. ومن ثَم يتعيَّن على مجتمع المعرفة احترام الهويات الثقافية والتنوع الثقافي واللغوي والتقاليد والأديان. ويمثل هذا النهج ثقافة جديدة أو غريبة بالنسبة لما هو سائد داخل المُجتمَعات العربية؛ إذ يتعين عليها تطبيق حرية التنوع الثقافي والتنوع العقيدي دينيًّا وسياسيًّا وفكريًّا في داخلها قبل الدعوة إلى الالتزام به دوليًّا. ويتعين كذلك التحلي بالتسامح العقيدي كثقافة راسخة، والتخلي عن الانحيازات الأيديولوجية إزاء الآراء والمُعتقدات السياسية والعقائد الدينية المُغايرة، بل والتخلي عن الانحيازات الأيديولوجية في النظر إلى التاريخ في مراحل سابقة رغبةً في الكشف عن حركة أحداث التاريخ في موضوعية وتأكيد الوعي التاريخي الصحيح وحرية القراءة الجديدة والتأويل الجديد لأحداث التاريخ ومساره.

إنَّ مجتمع المعرفة، كما أسلفنا، مجتمع تفاعلي على الأصعدة المحلية والإقليمية والدولية، وأيضًا على الصعيد التاريخي بمَعنى تفاعل مع فكر وثقافة وأحداث الماضي وتجديد الرؤية العِلمية.

(٣) العرب ومجتمع المعرفة

لنا أن نسأل بعد ذلك: لماذا الخوف من العولمة ومجتمع المعرفة؟ ومَن الخائف؟

  • (أ)

    حُكام ونخبة تقليديون جفَّت ينابيعهم ويرفضون التطوير ويُؤكِّدون حرصهم على ما يسمونه قدسية الثوابت؟

    أم …

  • (ب)

    شعوب أو عامة تقليديُّون بالوراثة وأَسرى التجهيل على مدى القرون التي صاغتهم على هذا النحو فكانوا هم دائمًا ضحية ما يُسمَّى زيفًا الاستقرار والثبات والخوف من الفتنة بغية المحافظة لحساب الحُكام؟

وحين نقول الخوف من العولمة ومُجتمَع المعرفة على الخصوصية، هل الخوف على الثروات الإبداعية التي أنتجَتْها الشعوب على مدى التاريخ دون الخوف من الجمود والتخلف؟

أم الخوف على عادات سلوكية وتكوينات نفسية مُرتبطة بواقعٍ تاريخي مضى؟

أم الخوف من غلَبة قِيَمٍ مناهضة للتقليد المُعوِّق للتغيير؟

أم إيثارًا للقعود والقناعة بالاستيراد والاستهلاك والتبعية بديلًا عن النضال وإجهاد الفكر للتمييز بين الإيجابيات والسلبيات؛ ومن ثَم نُعفي أنفسنا من مشقَّة الاقتحام بجسارة تبعات ومسئوليات التحدِّي بكل رهاناته ونُغيِّر من واقعنا ونتجاوز أنفسنا؟

أصبح جليًّا أن العالم الآن يقف على أعتاب ثورة معلوماتية ومعرفية متسارعة بشكل هندسي بفضل تسارع تطور تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. وأضحى العالم حلبةَ سباق ورهانات بين الأمم المتقدمة والناهضة في الغرب وفي شرق وجنوب آسيا. وتسعى دول مثل الولايات المتحدة لتكون هي مرجع ومستودع المعلومات ومصدر المعرفة بكل ما يشوبها من انحيازات أيديولوجية.

والسؤال الآن عن الكيفية التي يواجه بها العقل العربي هذا الطوفان، وهو عاطل من عدة معرفية ملائمة ولا يَملك سوى رصيد «معرفي»، وحتى زمانه وهو كل إرثه الماضي. هذا بينما الانتماء إلى مجتمع المعرفة يعني، في أبسط الأمور، القدرة على المساهمة الإيجابية وأن تكون المجتمعات عنصرًا فاعلًا مُبدعًا فضلًا عن استيفاء شروط ومقوِّمات الصلاحية لنشر المعرفة عبر الشبكة الإلكترونية كمادة ووثيقة مُعتمدة قابلة للبحث والنقد، وتمثِّل إضافة جادة وجديدة، أو تُمثل بلغة الاقتصاد سلعة مقبولة وقابلة للرواج عالميًّا.

ويوضح الدكتور نبيل علي عالِم هندسة اللغة الحاسوبية في دراساته العديدة والغنية العقبات التي تُواجه أو تتحدَّى المجتمعات العربية على طريق الانتماء لعصر المعلومات ومجتمع المعرفة. يقول كمثال في كتابه «تحديات عصر المعلومات»: إنَّ المجتمعات العربية ضمن الشرائح الدنيا في التوزيعات الإحصائية الخاصة بالفجوة الرقمية؛ إذ لا يتجاوز نصيب العرب من إجمالي مستخدمة شبكة الإنترنت ٥٪، في حين تبلغ نسبة العرب إلى إجمالي السكان العالمي ٤٪. وتأتي البلدان العربية في ذيل القائمة من البلدان النامية فيما يخصُّ عدد مواقع الإنترنت ومُستخدمي الشبكة، ناهيك عن مستوى التفاعل الإيجابي بين الإنسان العربي ومصادر المعلومات وسلبية المتلقي العربي إزاء المحتوى. هذا بينما يستلزم اقتصاد المعرفة مزيدًا من الترابط بين المعرفة العِلمية والتطبيق التكنولوجي على صعيد المجتمع؛ ويستلزم تطويرًا للإنسان؛ أي رأس المال البشري، من حيث المهارة والاستعداد والمشروع المستقبلي. ويُمثل هذا الوضع تهديدًا خطيرًا؛ إذ يضع المجتمعات العربية داخل الإقصاء أو التهميش.

وتكشف المجتمعات العربية عن بؤسٍ شديد في مجال إدارة المعرفة توليدًا إبداعيًّا واستثمار وظيفيًّا، ومرونة دينامية في الاكتساب والاستغناء والتطوير. وطبيعي أنَّ مثل هذا الوضع المُتدنِّي يجعل من المجتمعات العربية فريسة للأقوى في صراع الانتخاب الثقافي الكوكبي؛ مما يُهدِّد بالهيمنة الثقافية، ونصرخ مُردِّدين «الغزو الثقافي». ويؤكد د. نبيل علي أن هذه الفجوة الرقمية المهولة لن تكون فقط عائقًا على الطريق، بل إنها سوف تُؤدِّي إذا ما اتَّصلت إلى فجوةٍ لغوية تُهدِّد ثقافتنا وهويتنا. (د. نبيل علي، تحديات عصر المعلومات، دار العين للنشر، القاهرة ٢٠٠٣، ص٢٧–٣٨).

إنَّ الوفاء بمسوغات التحرك على طريق الانتماء لمجتمع المعرفة والمشاركة الإيجابية في حضارة العصر يَستلزم تغييرًا جذريًّا شاملًا لكل مقومات بناء الإنسان/المجتمع العربي؛ التربية والتعليم، والعلاقات الاجتماعية، وهيكل المجتمع في تجاوب مع شروط الديموقراطية. ويستلزم ثورة ثقافية بمعنى إعادة تنظيم البِنية الذهنية للإنسان العربي على النحو الذي يُهيئه بداية لاستساغة ثقافة مجتمع هادر التغيُّرات، مجتمع الدفق المكاني والزماني حيث تغير مفهوما المكان والزمان كما يقول مانويل كاسيلز. ويستلزم ثورة في الإعلام وفي أسلوب التنشئة الاجتماعية على نحوٍ يخرج عن التقليد الموروث لمُجتمَعات مضى عليها قرون.

وتُمثِّل التربية والتعليم في المراحل المختلفة أداة المجتمع في صناعة أو صوغ الإنسان بما يؤهله عنصرًا فاعلًا ومشاركًا إيجابيًّا على مستوى حضارة العصر؛ ومن ثَم التطوير المطرد للمجتمع. وأخطر ما في التربية والتعليم التقليديَّين في العالم العربي هو منهج التلقين واستظهار النص وهي أساليب تُنمي السَّلبية وتُرسِّخ مبدأ تحريم الخروج عن النص؛ أي سد السبيل أمام الإبداع وحرية التفكير. وتدعم الثقافة وتتكامَل مع هذا الجهد؛ وكذا الإعلام والتنشئة الاجتماعية جميعها تعمل جاهدةً، في واقعها الراهن، من أجل الحفاظ على الموروث وبشَكلٍ انتقائي باسم الاستقرار والمحافظة أو بلغة تَنطوي على غواية ودغدغة الوجدان «الحفاظ على ثوابت الفكر العربي والثقافة العربية والخصوصية». هذا على الرغم من تناقض هذا المنهج مع حقائق علمية ظاهرة هي أن كل حضارةٍ لها خصوصيتها الثقافية.

وطالما أن المجتمعات العربية لا تملك استراتيجية تطوير حضاري، فإنها عاطلة من رؤية مُستقبَلية وعاطلة من نظرية لبناء الإنسان ورافضة لثقافة التغيير، وتعمل على ترسيخ النزعة المحافظة. وطالما أن المجتمعات العربية تقبل الاستسلام والاتكال على الحاكم؛ إذ بيده الأمر والنهي والحكمة والتغيير، فإن كل ما يتعلق بالسياسة والمجتمع أمور مردُّها إلى الحاكم، بينما التطوير شأن عام وقضاياه تمثِّل سياسة عامة تعني الإنسان العام. وننسى في غمرة هذه الغواية باسم الحفاظ على ثوابت التراث والخصوصية أن المجتمع لا يُمكنه الدفاع عن نفسه وعن هويته إلا إذا كان مُجتمعًا متقدمًا منتجًا لوجوده وثقافته في تجددٍ مطَّرد؛ ومن ثَم قادرًا على تمكين ذاته وتأكيد منعته والدفاع عن نفسه.

وحريٌّ أن نُدرك أن المعرفة ليسَت كمًّا تراكميًّا مهما زاد حجمها، بل المعرفة إبداع اجتماعي نسقي واستثمار توظيفي هادف في تكامل بين فنونها، ونشاط تجديدي من خلال الفعل والفكر في تغذية مُتبادلة ومطَّردة. ويُثمر هذا كله منهجًا جديدًا لتنمية المهارات الذهنية وتطويرًا مُتجددًا لعناصر وعلاقات البنية الذهنية … أي يثمر عقلًا جديدًا، وإنسانًا جديدًا، مع عالَم متجدِّد مما يحدُونا، بل يوجب علينا، ألا نرى مُستقبَلَنا في الماضي، بل المستقبل إنجاز متوالٍ أسَّس له السلف ماضيًا، ونُؤسِّس له حاضرًا، وتُؤسِّس له الأجيال من بعدنا.

•••

ليس معنى هذا أن الطريق أمامنا مسدودة، وإنما يعني أن إخفاقاتنا مردُّها إلى أسبابٍ ثقافية/اجتماعية/تاريخية اقتصادية وسياسية. إننا نُدرك نظريًّا، ونتحدث طويلًا عن عالَم اليوم وحضارة العصر وعن المستقبل وإنجازات العلم وتحدياته … نفيض في الحديث بينما الفعل الاجتماعي مجهض موءود.

نحن أَسرى ثقافة الكلمة حيث الوجود كلمة بدايةً وانتهاءً. وإن نشوء الكلمة/ اللغة/الرمز في تاريخ تطوُّر النوع هو بداية الميتافيزيقا … الرمز مجاز للدلالة على واقعٍ … والرمز في ثقافة الكلمة هو البديل الكامل عن الواقع، واقع مقطوع الصلة بالفعل الاجتماعي الذي هو علَّة نشوء وتطور الكلمة/اللغة/الفكر.

وحريٌّ أن ندرك أن التطور والتكنولوجيا مُتمايزان وليسا شيئًا واحدًا … حيازة التكنولوجيا لا تَصنع تطورًا أو حضارة، ولا تُجدِّد لغة أو فكرًا أو إنسانًا، بل تكون عائقًا. وأذكر هنا ما قاله البنك الدولي في تقريره عن عامي ١٩٩٩/١٩٩٨م: «البلدان النامية قد تتعجل شراء تكنولوجيا مُتقدِّمة ومُعقَّدة لا تستطيع تحمل ثمنها ولا استدامتها وصيانتها ظنًّا منها أن حيازتها كافيةٌ لحل مشكلاتها … إن أفضل تقانة للكومبيوتر تضيف كلفةً لا لزوم لها؛ إذ تمثِّل عبئًا ما لم تتوفَّر للمجتمع إمكانات التطوير والصيانة والمهارة. وهذه مخرجات بِنْية حضارية جديدة، وثمرة مدخلات تطويرية للتعليم والبحث العلمي والبنية الاجتماعية والفعالية الإنسانية الحرة.»

ونحن بحاجة إلى ابتكار وصناعة ثقافة بديلة … ثقافة التغيير، وذلك بالتحول جذريًّا من ثقافة الكلمة إلى ثقافة الفعل … أو لنَقُل ثقافة الكلمة/الفعل في ترابط وتفاعُل جدلي.

نحن نعيش بحيازة التكنولوجيا مظاهر حضارة عصر جديد غريب عنا، ونتحدَّث لغة/فكر عصور قديمة وعوالم قديمة، وبذا نَغترِب في واقعنا المحلِّي والعالمي.

ونعيش ثقافة العقل المُكتمل الكامل اليقيني النهائي المُطلق والمفارق؛ ولا ندرك أبدًا أن العقل الإنساني لا يكتسب حصاده وقوانينه وأُطُره بصورة نهائية حاسمة مرة وإلى الأبد. إنه بنية متجدِّدة مُتطورة، ومتوترة. وقد تدفعه أزمة التوتر عند الإخفاق إمَّا إلى إبداعٍ جديد وإمَّا إلى ردَّة ماضوية، إلى إرثٍ أو متاع فكري لإطار قديم خاصة إذا كان قائمًا على اليقين المطلق.

ونحن بحاجة إلى امتلاك ناصية الثقافة النَّقدية التي تُراجع وتشك وتتطلَّع في انفتاح وتسامح إلى المستقبل وإلى فكر الآخر، وتَستَوعِب عن فهمٍ علمي حركة التاريخ والواقع. وثقافة العقل النَّقدي لا تقنع بتحصيل العقلانيات الجديدة كإضافة كمية، وإنما تُواجه تحديات الإطار الأنطولوجي المرجعي الذي يُمثِّل إطارًا لثقافة انتهت فترة صلاحيتها وجفَّ نبعها عن تقديم حلول لمُشكلات عصرٍ مفارق؛ ومن ثَم عجزت عن أن تَعْبُر بنا الأزمة. معنى هذا أنَّ ثقافة العقل النقدي هي ثقافة نقد العقل بصورة مُستمرة … نقدٌ لمحتوى العقل ومنهجه وأدواته وبيان تاريخيته مع القُدرة على إعادة تنظيم بنية العقل دومًا في توافق وترافق مع الواقع المتغير وإبداعات العقل ذاته ليكون الواقع مفهومًا، معقولًا … ومن ثَم تمكين الإنسان/المجتمع للتحكم والحكم في السياق الجديد.

ولهذا نقول: إنَّ الثقافة الحقة ليست تلك المظاهر الاحتفالية السائدة في مجتمعاتنا العربية التي لا يتجاوز تأثيرها حدود الكلمة الرنانة والفارغة من المعنى … بل الثقافة التي نحن بحاجة إليها ونَفتقدها هي «إعادة تنظيم البِنية الذهنية للإنسان»، من خلال التنشئة والتعليم والإعلام والسياسات المرسومة والممارسات العلمية في مناخ من الحرية الجسور ومناخ الفعل الاجتماعي لإنتاج مشروع الوجود على مستوى حضارة العصر.

صفوة القول التحوُّل عن ثقافة الكلمة واليقين المطلق إلى ثقافة الفعل/العقل/الإدارة إنَّما يعني في كلمتين التحول عن ثقافة القناعة بحيازة التكنولوجيا، وهو النَّهج الذي يُرسِّخ التبعية إلى ثقافة امتلاك ناصية التطوير، وهو نهج الإبداع العلمي والتكنولوجي … أو لنَقُل التحول من ثقافة اقتصاد الريع إلى ثقافة خلق الثروات والتنافس والتحدي؛ أي ثقافة مجتمع الصناعة والمعرفة وكل ما يَقتضيه هذا التحوُّل من مُعاناة للانتصار على أنفسنا، فهذه هي سبيل الشعوب لازدهار الهوية إذا شئنا الحفاظ على الهوية في صورةٍ مُزدهرةٍ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤