قلب الليل

١

قلت وأنا أتفحَّصُه باهتمام وموَّدة: إني أتذكَّرك جيدًا.

انحنى قليلًا فوق مكتبي وأحدَّ بصره الغائم. وضح لي من القرب ضعف بصره، نظرته المتسولة، ومحاولته المرهقة لالتقاط المنظور، وقال بصوت خشن عالي النبرة يتجاهل قِصَر المسافة بين وجهَينا وصِغَر حجم الحجرة الغارقة في الهدوء: حقًّا؟! .. لم تعُد ذاكرتي أهلًا للثقة، ثم إن بصري ضعيف.

– ولكن أيام خان جعفر لا يمكن أن تُنسى.

– مرحبًا، إذن فأنت من أهل ذلك الحي!

قدَّمتُ نفسي داعيًا إياه إلى الجلوس وأنا أقول: لم نكن من جيل واحد، ولكن ثمة أشياء لا تُنسى.

فجلس وهو يقول: ولكني أعتقد أنني تغيَّرتُ تغيُّرًا كليًّا، وأن الزمن وضع على وجهي قناعًا قبيحًا من صنعه هو، لا من صنع والدي!

وقدَّم نفسه بفخار دون حاجة إلى ذلك قائلًا: الراوي، جعفر الراوي، جعفر إبراهيم سيد الراوي.

لم تخفَ عليَّ أسباب اعتزازه بالاسم، وأكَّد ذلك التناقض الحادَّ بين منظره التعيس وبين لهجته المتعالية. قال: إنك تعود بي إلى ذكريات عزيزة، أحياء خان جعفر والحسين المقدسة، أيام الهناء والتجربة.

– وكانت ثمة وقائع مثيرة وحكايات غريبة.

فضحك عاليًا. اهتز جسده الطويل النحيل حتى أشفقتُ على بدلته الرثة أن تتمزَّق، ورفع لي وجهه ذا الجلد المدبوغ، والشعر النابت وهو يهرش شعر رأسه الأبيض المتلبِّد، وقال: نحن أهل، ومن حقي أن أستبشر خيرًا لقضيتي العادلة!

فسألته مؤجِّلًا الخصام: تشرب قهوة؟

فقال بلا أدنى تردُّد وبجرأة: لنبدأ بسندوتش فول ثم تجيء القهوة بعد ذلك.

وراقبته وهو يأكل بنهَم جائع حتى ساورني الأسى، واستقرَّت رائحته في أنفي خليطًا من العرق والتبغ والتراب. ولما أكل وشرب اعتدل في جلسته وقال: أشكرك، لا أريد أن أضيع وقتك أكثر من ذلك، لا شك أنك اطَّلعتَ على طلبي بحكم وظيفتك، فما رأيك؟

فقلت بأسف: لا فائدة، نظام الوقف لا يسمح بشيء من ذلك.

– ولكن الحق واضح مثل الشمس.

– الوقف واضح أيضًا.

– كان القانون ضمن ثقافتي، ولكني أعتقد أن كلَّ شيء يتغير.

– إلا الوقف فإنه حتى اليوم لم يتغير.

فهدر صوته الخشن صائحًا: لن يضيع حقي أبدًا، ولتعلم ذلك وزارة الأوقاف.

ولما وجد مني هدوءًا باسمًا تراجع إلى الهدوء وقال: دعني أقابل المدير العام.

فقلت بلطف: المسألة واضحة جدًّا، فوَقْف الراوي أكبر وَقْف خيري في الوزارة، ريعه موقوف على الحرمَين الشريفَين ومسجد الإمام الحسين، بالإضافة إلى جمعيات خيرية ومدارس وتكايا وأسبلة، والوقف الخيري لا يمكن أن يئول إلى شخص بحال من الأحوال.

قاطعَني بحدة: ولكنني حفيد الراوي، وريثه الوحيد، وإني في مسيس الحاجة إلى مليم على حين أن الإمام الحسين غني بجنات النعيم.

– ولكنه الوَقْف!

– سأقيم دعوى.

– لا فائدة من ذلك.

– سأستشير محاميًا شرعيًّا، ولكن تلزمني استشارة مجانية لأن النقود كائنات مجهولة في عالمي.

– لي أكثر من صديق بين المحامين الشرعيين، وممكن أن أدبِّر لقاءً بينك وبين أحدهم، ولكن لا تضيع وقتك جريًا وراء أمل لا يمكن أن يتحقَّق.

– إنك تعاملني كطفل!

– معاذ الله ولكنني أذكِّرك بحقيقة لا جدال فيها.

– ولكنني حفيد الراوي، وإثبات ذلك يسير عليَّ.

– المهم أن تركة الراوي أصبحت وقفًا خيريًّا.

– وهل من العدل أن أُترَك أنا للتسوُّل؟

– المتفق عليه في الإدارة، وهو المتبع في مثل ظرفك، أن تُقدِّم طلبًا بالتماس صرف إعانة شهرية من الخيرات، بشرط أن تثبت نسبك.

جعل يردِّد: إعانة شهرية! .. يا لهم من مجانين ظالمين!

وواصل قائلًا: صاحب الوَقْف يلتمس إحسانًا! .. هذا جنون .. وما مقدار الإعانة؟

صمتُّ لحظات متردِّدًا ثم قلت: قد تصل إلى خمسة جنيهات .. وقد تزيد.

قهقهَ ساخرًا كاشفًا عن أسنان مثرمة سوداء، ثم قال: صدِّقني، سأكافح، لقد حملت حياة لا يقدر على حملها الجن، فلتكن معركة، لن أكفَّ عن القتال حتى أنال حقي الكامل من تركة جدي اللعين!

فلم أتمالك من الابتسام وقلت: ليرحمه الله جزاء ما قدَّم للخير.

فضرب حافة مكتبي بقبضته المعروقة وقال: لا خير فيمَن ينسى حفيده الوحيد.

– ولماذا نسيك؟

قبض على ذقنه دون أن يجيب، شعرتُ بأن الزوبعة ستنقشع عاجلًا أو آجلًا، وأن التماس الإعانة سيُكتب. ما أكثر المتسولين عندنا من حَفدة الباشوات والأمراء والملوك، ويقيني أنه لا يجحد أحد ذريته بلا سبب، فماذا فعلتَ يا جعفر؟!

ومدَّ بصره الضعيف إلى لا شيء وراح يقول: وَقْف خيري، حرمان من الميراث، هكذا فعله دائمًا مزيج من الخير والشر، ها هو يمارس سلطته ميتًا كما مارسها حيًّا، وها أنا أكافح في موته كما كافحتُ في حياته .. وحتى الموت.

٢

توثَّقَت العلاقة بيني وبين جعفر الراوي. كان في وحدته على استعداد حادٍّ للالتصاق بمَن يشجِّعه ولو بابتسامة، وكان يشجِّعني على المغامرة شعوري بأنها عابرة سريعة الزوال، فشخصيته المضطربة لا توحي بالاستقرار والدوام، وإرضاؤها يسير هيِّن، ثمة أشياء ظاهرة وباطنة جذبتني إليه، هناك على سبيل المثال الذكريات القديمة، وافتتاني ببيت الراوي وحكاياته، وما تردَّد يومًا عن مغامرات جعفر وجنونه، وهناك أيضًا ميلي إليه رغم فظاعة منظره، ورثائي له في خاتمته التعيسة. وكان ذا قامة مديدة، ولولا البؤس — وربما الأمراض — لنضحَتْ شيخوخته بروعة وجلال.

سألته بعد أن تناولنا عشاءنا من الكوارع في شارع محمد علي: كيف تعيش يا جعفر؟

– أتخبَّط في الشوارع نهارًا وحتى منتصف الليل.

– وأين تسكن؟

– أبيت في الخرابة.

– الخرابة؟!

– هي ملكي بوضع اليد، وهي ما تبقَّت من بيت جدي القديم!

وكنت قد انقطعت عن الحي العتيق منذ عهد بعيد، فلم أعرف أن البيت تحوَّل إلى خرابة.

– أليس لك أهل؟

– لعلهم يملئون الأرض.

ابتسمت. فقال جادًّا: لي أبناء قضاة وأبناء مجرمون.

– أتعني ما تقول؟

– رغم ذلك فإني وحيد.

– يا لها من طريقة في الحديث!

– اسمع، رُدَّ إليَّ الوقف وأعدك بأن تراني محاطًا بالأبناء والأحفاد، وإلا فستجدني دائمًا وحيدًا طريدًا.

– أراك تحب الألغاز.

فضحك قائلًا: إني أحب اللقمة الحلوة والوَقْف، كما أحب لعن الواقفين.

– أليس لك مورد رزق من أي نوع في شيخوختك؟

– لي أصدقاء قدماء، أعترض أحدهم فيمدُّ يده بالسلام، ويدسُّ في يدي ما يجود به، إنني أتمرَّغ في التراب، ولكنني هابط في الأصل من السماء.

قلت بأسى: حياة غير لائقة، اكتب الالتماس فورًا.

– هي الحياة الإنسانية الأصيلة، جرِّبها بشجاعة إن استطعت، اقتحم الأبواب بجرأة، لا تتمسكن فكلُّ ما تحتاجه هو حق لك، هذه الدنيا ملك للإنسان، لكل إنسان، عليك أن تتخلى عن عاداتك السخيفة، هذا كل ما هنالك.

– ومع ذلك فإنك تتمنَّى أن تسترد تركة جدك؟

فقهقهَ قائلًا: لا تحاسبني على التناقض، إني حزمة من المتناقضات، ولا تنسَ أنني عجوز، ولا تنسَ أنني أخوض معركة مع جدي منذ قديم.

– أود أن أعرف لماذا حرمك ميراثك؟

– هذه هي المعركة، لا تتعجل، لست بسيطًا كما يتراءى لك، كثيرون ينخدعون فيَّ، حتى الصِّبْية يجرون ورائي وأنا أتخبَّط في الشوارع، ماذا يظنون؟ إني أحب الكلام، ولمَّا كنت وحيدًا فإني أكلم نفسي، ماذا يظنون؟ لقد تقدَّم بي العمر ولمَّا تكفَّ الأسئلة عن مطاردتي، صدِّقني فإنني شخص غير عادي، حتى في الجبل كنت غير عادي، ولا في القصر ولا في الخرابة، ورغم التصعلُك والتسوُّل فإنني أقف أمام الحياة مرفوع الرأس متحدِّيًا، إذ إن الحياة لا تحترم إلا مَن يستهين بها!

جعلت أتأمله باسمًا وهو يتحدى الوجود ببدلته المتهتكة وجلده المدبوغ، ثم تمتمت: عفارم عليك!

– وليس الإنسان وحده مَن تعاملت معه فلي صِلات عريقة مع الجماد والجن والعفاريت، فضلًا عن عناصر الحضارة الجوهرية.

ثم غير نغمته فجأة وسألني: هل وقع اختيارك على محامٍ ثقة لنذهب إليه؟

فقلت متوسلًا: انسَ بالله هذه القضية الوهمية يا جعفر.

– ألستُ جعفر إبراهيم حفيد سيد الراوي؟

– بلي … ولكن لا توجد قضية على الإطلاق.

فصاح: إذن سأشعل ثورة تقلب نظام الكون.

– هذا أقرب إلى الإمكان من كَسْب القضية، اكتب الالتماس ولا تبدِّد الوقت.

فقال ضاحكًا: إنكم في الوزارة تعيشون من فتات أوقافنا، ثم تمدون أيديكم إلينا بالإحسان.

– اكتب الالتماس ولا تبدِّد الوقت.

وغشانا الصمت دقائق ثم قال وكأنما يحادث نفسه: خمسة جنيهات!

– يجب أن تستأجر ولو حجرة فوق سطح.

– كلا. إن المبلغ يكفي للغذاء والسجاير والكساء، أما المأوى فكيف أستأجر مسكنًا وأنا أملك قصرًا؟! .. لن أهجر الخرابة.

– اكتب الالتماس في أقرب فرصة وأرسِلْه إلى الوزارة.

– لا داعي للعجلة، دعني أفكِّر، قد أكتب الالتماس وقد أستشير محاميًا، ولا يبعد أن أواصل الحياة بلا التماس ولا محام، لا داعي للعجلة.

– على أي حال فقد عرفت سبيلك.

فقال بحدة: لا سبيل للتفاهم بيننا، فأنت ممَّن يخافون الحياة، وأنا ممَّن يزدرونها، وجميع ما ترتعد لمجرَّد تصوُّره قد عانيتُه، جميع ما تسأل الله ألا يقع قد ذهبتُ إليه فوق قدمي.

– عظيم جدًّا يا جعفر.

– هل يعجبك كلامي؟

– جدًّا.

– أتود أن تسمع المزيد منه؟

– ثِق من ذلك كلَّ الثقة.

– لقد قدَّمتَ لي عشاء فاخرًا، وستقدِّم إليَّ مساعدات هامة في الأيام القادمة، فضلًا عن أننا أبناء حي واحد، بنا إلى مقهى ودود بالباب الأخضر!

وسِرنا جنبًا إلى جنب نحو الحي العتيق، حتى اخترقنا القبو الأثري إلى الباب الأخضر، وجلسنا ندخِّن البوري ونشرب القهوة على حين جرى الحديث في سكون الليل الطويل.

٣

هجعت عطفة الباب الأخضر تحت ستار الليل، تعود في تلك الساعة أفواج من الشحاذين إلى أركانهم، ينطلق المجاذيب في جنباتها، يفوح البخور من زواياها، لا غريب يطرقها ليلًا إلا روَّاد مقهى ودود القلائل، وجميعهم من مدخِّني البوري، قال جعفر: دعني أحدثك عن عهد الأسطورة.

– لعلك تقصد الطفولة.

– إني أعني ما أقول فلا تقاطعني، لا توجد طفولة، ولكن يوجد حلم وأسطورة، عهد الحلم والأسطورة، وهو يفرض ذاته في عذوبة فائقة، وربما زائفة، بسبب من معاناة الحاضر الأليمة عادة، وهو دويٌّ ضخم في وجداني، وعندما أحلِّله لا أجده شيئًا، وهذا ما يؤكد طبيعته الأسطورية، حسبك أن تعرف أن قطبَيه الأساسيين — أبي وأمي — لا أكاد أعرف عنهما شيئًا ذا بال.

– هل غادراك وأنت طفل؟

– لا أذكر أبي بتاتًا، لا صورة له في ذاكرتي، ولم يُخلِّف صورة فوتوغرافية لتُذكِّرني به، وقد فارق الدنيا قبل أن ينجب غيري، ولا يوجد سوى موقف واحد يشير إليه إشارة غامضة، موقفه يوم الاحتفال بالمحمل وراء نافذة تطل على مرجوش، وأنا ممتطٍ قفاه وأنظر من فوق منكبه إلى الجموع، وإلى رأس المحمل المذهَّب الذي يتبختر في مستوى النافذة، موقف يدل على العطف والحنان أليس كذلك؟ والمحمل مَعْلم من معالم الأسطورة، أما الجموع فحقيقة من نوع خاص، بعثت في نفسي ذات يوم في مكتبي بميدان باب الخلق فهتفت في وجه «سعد كبير» وقلت …

قاطعته: نحن الآن في الأسطورة فلا تجاوز حدودها!

– دعني أتكلم بحرية فإني أكره القيود!

– ولكن الحكاية ستذروها رياح الخواطر فأضلُّ بين شذراتها!

قهقهَ قائلًا: ألا تسمح لي بأن أعبث بالزمن كما عبث بي؟! حسن، لنعُد إلى الأسطورة، إلى الجن الماجن والجماد اللعوب والحقائق الطيفية والأحلام الحقيقية، لنعُد إلى الأسطورة، قلت لك إنني لا أتذكر أبي ولكنني لا أنسى يد أمي.

– يد أمك؟

– صبرًا، لقد مات أبي، كيف ولِم؟ لا أدري، ولكنه مات في ريعان الشباب كما علمتُ فيما بعد، كنت في الخامسة وربما دون ذلك، حتى بيت مرجوش لا أتذكَّره، ثمة حجرة يصعد إليها من الدهليز بسلم ذي درجتَين، وفراش مرتفع يُرقى إليه بسلم خشبي يغري باللعب، ونارجيلة معزولة فوق صوان حتى لا تمتد لها يدي، وقطط مُدلَّلة، وجندرة، وكرار مظلم تسكنه أنواع شتى من الجن، وفأر أسود، ومَبْخرة، وقلة مغروسة في صينية يسبح الليمون في مائها، وكانون وزكائب فحم، ودجاج وديك مزهوٌّ فخور، مات أبي لا أدري كيف، ولا أدري ماذا كان يعمل، ولكن بوسعي أن أحدثك عن الموت نفسه فإني به خبير، إني من صُنَّاعه، حُق لي يومًا أن أقول إنني واهب الحياة، فعندما يشتعل الغضب وتلتهم ألسنته كلمات السماء تفتح أبواب غامضة تتسلَّل منها الشياطين، بل يجيء إبليس نفسه في موكبه الناري يحفُّ به القضاة ورجال الشرطة والسجانون، عند ذاك يغير جعفر الراوي اسمه ولقبه وجلده.

قلت برجاء: ماذا عن موت أبيك؟

– سامحك الله، إنك خانق الإلهام، تودُّ أن تعرف كيف مات أبي كما لو كان أباك أنت، ماذا أعرف عن ذلك؟ أستيقظ في الظلام فأنتبه إلى أن أمي تحملني بين ذراعَيها وتغادر بيتنا إلى بيت جارتنا، لا شك أن النوم غلبني، ولما أستيقظ في الصباح أجدني في مكان غريب فأبكي، تجيء الجارة بطعام فأسأل عن أمي.

– أمك في مشوار وستجيء في الحال .. تناول طعامك.

وأتناول الطعام رغم ضيقي، وأسمع طوال الوقت صواتًا، ولكن الصوات والزغاريد أصوات مألوفة في حارتنا، وأرجع إلى بيتنا في نفس اليوم ليلًا أو في اليوم التالي، فألقى جوًّا غريبًا وكئيبًا يُفشي سرًّا أليمًا لا أعرف كُنهه، ولكن تصيبني منه وَحْشة وقلق مُبهَم، ها هي أمي، ما أشدَّ تغيُّرها، جلبابها أسود، وجهها مريض شاحب، نظرتها خابية وذابلة، فقدَ البيت مناخه النقي ومرحه الأصيل.

– ما لك يا أمه؟

– كل شيء طيب، العب.

– أين أبي؟

ودارت وجهها عني وهي تقول: سافرَ .. العبْ .. عندك السطح ولا تُكثر من الأسئلة.

إنني أُعامَل معاملة جديدة لا تخلو من جفاء وقلة اكتراث، أمي تهرب مني، تهرب بعينَيها إن لم تهرب بجسمها كله، وهي تبكي من وراء ظهري، أبي لا يعود من السفر، ثم إنني لست جاهلًا كلَّ الجهل، بلغَتْني أشياء عن الله .. الشيطان .. الجن .. الجنة والنار .. حتى الموت بلغَتْني عنه أشياء مُنذِرة بغير السرور، متى يعود أبي من سفره، ومتى يرجع وجه أمي إلى صفائه المعهود، وكم دام انتظاري القلِق لأبي، ومتى أدركَني اليأس منه، وكيف أُنسيتُه وشُغلت عنه، وكيف واصلتُ حياتي بعد ذلك وكأن شيئا لم يكن؟ نسيت ذلك كله ولا سبيل إلى تذكُّره وتسجيله، أما يد أمي فلا يمكن أن تُنسى.

– ذكرتَ مرارًا يد أمك؟

– تمسك بي أو أمسك بها ونسير معًا في الحواري والأسواق.

– للتسوق أم للنزهة؟

كنت بدأت آنس إلى روحه المتقدة وراء الأطلال والخرائب، وبدا هو سعيدًا مُمتنًّا للعشاء والبوري وظفره بمستمِع يتابع ما يقول باهتمام، قال: أحيانًا أحاول أن أتذكَّر صورة أمي فلا أعثر على شيء ذي بال، ما طولها على سبيل المثال؟ كنت بطبيعة الحال أقصر منها جدًّا ودائمًا أنظر إلى فوق حين أحدِّثها ولكن ذلك لا يدل على شيء ولا يحدِّد طولها، ولا فكرة لي عن وزنها كذلك، ولا لون عينَيها، ولا لونها نفسه، ثمة صورة عامة غير مُحدَّدة الخطوط، وإشارات ونبرات غير مسموعة، وعواطف جياشة، وابتسامات وضحكات وزجرات، أشبه بأطياف الأحلام، غير أنني أستطيع أن أقرِّر بأنها كانت جميلة، لولا جمالها لما حدثَتِ المأساة، كما أنني أذكر قول جارتنا لمناسبة منسية «ولد يا جعفر يا ابن الست الجميلة»، ولكنها لم تبقَ في الحياة كثيرًا حتى تُمكِّنني من حفظها في قلبي من الدمار، يدها فقط التي بقيت معي، أحسُّ حتى الساعة مسَّها وضغطها وشدَّها وانسيابها، وهي تمضي بي من مكان إلى مكان، خلال طرقات مسقوفة ومكشوفة، وتيارات من النساء والرجال والحمير والعربات، أمام الدكاكين وفي الأضرحة والتكايا، وعند مجالس المجاذيب وقراء الغيب، وباعة الحلوى واللعب، تقودني في جلبابي وعلى رأسي طاقية مزركشة تتدلي من مقدمها تعويذة كالحلية، وكانت أحاديثها متنوعة ذات صِيَغ شعرية تخاطب بها الكائنات جميعًا، كُلًّا بِلُغته الخاصة به، فهي تخاطب الله في سمائه، وتخاطب الأنبياء والملائكة، كما تخاطب الأولياء في أضرحتهم، حتى الجن والطير والجماد والموتى، وأخيرًا ذلك الحديث المتقطع بالتنهُّدات الذي تُناجي به الحظ الأسود، كانت الدنيا حية واعية تتلقى الكلام وتردُّه، وتشارك بإرادتها الخفية في حياتنا اليومية، لا فرق في ذلك بين ملاك وباب ضريح، بين الهدهد وبوابات القاهرة القديمة، حتى الجن كانت تلين لكلماتها السحرية، وبفضل ذلك نجوتُ من مهالك لا حصر لها.

ولما وجدته جادًّا لم أتمالك من الضحك، فسألني دون أن يخرج من جديته: علامَ تضحك؟

فقلت بلهجة المعتذِر: إنك تروى حلمًا ولكنك الآن تعرف تفسيره وتأويله.

فقال بكبرياء: لا تتخيَّلْ أنك تعرف من الدنيا نصف ما عرفتُ.

– هكذا؟

– إني بَحْر ولا فخر!

– ولكنك لا تفرِّق بين الحقيقة والخرافة.

– لا توجد خرافات وحقائق، ولكن توجد أنواع من الحقائق تختلف باختلاف أطوار العمر وبنوعية الجهاز الذي ندركها به، فالأساطير حقائق مثل حقائق الطبيعة والرياضة والتاريخ، ولكلٍّ جهازه الروحي، وإليك مثالًا حيًّا، فقد أخذَتْني أمي ذات يوم لزيارة قبر أبي بين قبور الفقراء المكشوفة في العراء، ثم راحت تُناجيه قائلة: «زوجتك وابنك يُحيِّيانك ويسألان الله لك الرحمة والغفران يا أحب الناس وأكرمهم، إني أشكو اليك وحدتي وهمي فادعُ لنا ربك يا حبيب» وسرعان ما ألصقتُ أذني بجدار القبر، فسمعتُ تنهُّدةً وكلامًا أخبرتُ به أمي فقالت لي: «مبارك أنت حتى يوم الدين».

فسألته بإشفاق: ماذا قال لك أبوك؟

– إنك غير مؤهَّل لتصديقي فلن أجيبك!

ساورني شعور بأنه يغطي ماء الدعابة بسطح من الجدية الخشنة أو أنه يريد إحاطة أسطورته بجو أسطوري يتوافق معها ليُرضي حنين قلبه، فتمتمتُ مذعنًا: فوق كلِّ ذي علم عليم.

– كانت دنيانا دنيا حية، تنبض بالرغبات والعواطف والأحلام، فيها الجد والمزاح، فيها الفرح والأسى، ينتظمهم جميعًا — الإنس والجن والحيوان والجماد — لحن التفاهُم والتعامل.

– ولكنك تدرك ذلك كله؟

– كلَّ الإدراك، بشغف وإصرار.

ألم يطوقك الخوف؟

– أحيانًا ولكني سرعان ما ملكتُ أسلحة الدفاع والهجوم وصرت سيد الدنيا، كنت ذات مساء ألاعب الليمون في صينية القلل على حافة النافذة، فما أدري إلا ورأس كائن يتطلَّع إليَّ من موضع في مستوى النافذة من الطريق، عيناه تضيئان في الظلام وقدماه منغرستان في الأرض، فتراجعتُ مضطربًا حتى استلقيت على ظهري فوق أرض الحجرة ومزَّقَت صرختي سكون الليل، وقد علمتُ فيما بعد أن لقاء الإنسي بالجني لا يجوز أن يتم على ذلك النحو، وقالت لي أمي إنه آنَ لي أن أحفظ الصمدية، أما عفاريت بيتنا — وهم يقيمون في الكرار — فكانوا يميلون بطبعهم للدعابة، ولا يصدر عنهم أذى حقيقي، يخلطون المش بالعسل، أو يُخفون السمن لاستعمالهم الشخصي، أو يُطفئون المصباح بيد الماشي ليلًا، وأسوأ مزاحهم تحويل الأحلام إلى كوابيس.

– هل تستطيع أن تعطيني فكرة عن صورة العفريت؟

كلا، إنك غير مؤهل للتصديق، ثم إن الجن تختفي من حياة الفرد مع اختفاء عهد الأسطورة وسرعان ما ينساها تمامًا، بل إنه يُنكرها، رغم أنه يلقاها كلَّ يوم في صور جديدة من البشر، وفي الحال الأخيرة يصدر عنها شر حقيقي وأذى كبير، ولكنك تُصرُّ على أن الجن خرافة ليس إلا، ومن ناحية أخرى فقد شاء لي القدر أن أرى النور المبارك في ليلة القدر وأنا جالس على حِجر أمي، أتطلَّع إلى السماء! .. فتحت نافذة وأطلَّ منها نور باهر طمس أضواء النجوم.

فقلت ضاحكًا: يُقال إنه لا يرى نور ليلة القدر إلا مَن كُتبت له السعادة من البشر.

فقهقهَ طويلًا ثم قال: يبدو أنك غلبتني هذه المرة، ولكن إلى حينٍ فقط، حقًّا إني أبلَغُ مثال للبؤس، ولكن العبرة بالخواتيم، والخاتمة ما زالت مجهولة، وقد أجدُ الجواب في الجنة، ولي مع الجنة تاريخ طويل، كانت أمي تحدِّثني عنها حديث الخبير، فأحببتها حبًّا لا مزيد عليه، خلبتني وسلبت لبي، فصارت حلمي الباهر، جنة السحر حيث يُرى الله بالعين ويُسمع بالأذن ويُخاطب باللسان، في حديقة الأنهار والألحان والشباب الدائم، ولكن لنرجع إلى حديث أمي، كيف كانت تعيش بعد وفاة أبي؟ خطر لي هذا السؤال فيما بعد ولم يُسعِفني الجواب، كنا نغادر بيتنا كلَّ يوم، نزور أضرحةً ودكاكين، ونبتاع ما يلزمنا، ثم نرجع إلى بيتنا لتنهمك هي في الواجبات المنزلية، وآوي أنا إلى جنتي الأرضية بين القطط والدجاج، وقد تزورنا جارتنا، وكان لا أهل لي ولا أهل لها، أكانت تملك مالًا؟ .. حتى اليوم لم أعرف وجه الحقيقة في ذلك، وقد ظلَّت ترتدي السواد عقب وفاة أبي، وكانت تبكي أحيانًا إذا خلَتْ إلى نفسها، وأكثر من مرة ضبطتُها وهي تبكي، وأدركتُ سر العلاقة بين البكاء وبين اختفاء أبي، وسألتها: ألستِ تقولين إن أبي يقيم بين يدي الله؟

فأجابت بالإيجاب فسألتها: إذن فلماذا تبكين؟

فقالت: إنه لخطأ يا جعفر، ولكن الدموع تفيض رغم إرادة الإنسان.

لم يقعدني ذلك عن مغامراتي اليومية فأمضي في البهجة، أجمع البيض، أطارد الفئران، أتحدى العفاريت، ولبثَتِ المغامرة السعيدة عامًا عقب وفاة أبي، وأخذَتْ تجذبني حكايات الرباب في المقهى تحت النافذة، تابعتُها باهتمام على قَدْر استيعابي لها، وشاهدت معارك تنشب بسبب التعصُّب لأبطالها، ومن نفس النافذة شاهدت معارك الفتوات في الزفاف، فأُعجِبتُ بالفتوات كإعجابي بالجن، وحلمت طويلًا بأن أكون فتوَّة إن أعجزني أن أكون عفريتًا.

سألته: ألم يتحقق لك حلم من أحلام الطفولة؟

– لا تسخر مني وانتظر، أريد أن أحدثك عن الحب في عهد الأسطورة.

– ولكن عهد الأسطورة ليس بعهد الحب.

– ولكن الحب بدأ عندي من سن السادسة، كنت أحب الغوص وسط البنات في ليالي رمضان، والعلقة الوحيدة الجادة التي أصابتني من يد أمي كانت بسبب الحب، إذ أغويت بنتًا تماثلني في السن فأخذتها إلى سحَّارة وأنزلتُ الغطاء علينا، ولكن لم يدُم لي الحب طويلًا، فسرعان ما بُوغِتُّ برفع الغطاء، فرفعت وجهي فزِعًا فرأيتُ وجه أمي يحملق فيَّ، وضفيرتها تسقط فوق رأسي، وعلى فكرة كانت ضفيرتها طويلة جدًّا وكنت ألعب بها ما وجدتُ إلى ذلك سبيلًا، فأحلها وأعقدها وأدوِّرها كحبل، لا شك أن أمي كانت جميلة، ولولا جمالها ما نشأت المأساة أصلًا.

– أعطني فكرة عن حب الطفولة.

وهو يضحك: إنه يبدو عبثًا ضائعًا ولكني أذكر أنه صخب بانفعالات حادة قاربَتِ السكر.

– ذاك شذوذ!

لست تربويًّا على أي حال، وبوسعي أن أؤكد لك أن الجنس لم يكن عنصرًا طاغيًا في حياتي، ولكنه لعب دورًا حاسمًا في حينه، أما في الطفولة فقد أسهم في نطاقه الضيق في تأليف الأسطورة، غير أن الأسطورة تعرَّضت لضربة قاضية لم تكن في الحسبان، فقد استيقظتُ ذات صباح وحدي دون أن توقظني أمي كالعادة، أدركتُ أنني استيقظت وحدي عندما وجدتها مستغرقة في النوم، راقدة على وجهها، وسرَّني جدَّا أن أوقظها ولو مرة في حياتي الصغيرة، قربت فمي من أذنها وناديتها، مرةً ومرةً وهي لا تستجيب، حرَّكتُها بلطف مكرِّرًا النداء، ارتفع صوتي واشتدَّ تحريكي لها ولا مجيب، وأصررت على إيقاظها، وتماديت في إصراري حتى ملأ صوتي الحجرة بلا أدنى نتيجة، ويئستُ تمامًا فانزلقتُ من الفراش وغادرت الحجرة، وتناولت من فوق الكنصول رمانة، وصعدت إلى السطح وأنا أقشِّرها وأقضم حباتها الكهرمانية، ثم أتفل حثالتها للدجاج، ورأيت جارتنا فجَرَّنا الحديث إلى الحال التي تركتُ عليها أمي، وجعلَتْ تحقِّق معي ثم أمرَتْني أن أفتح لها الباب، وهرولَتِ الجارة إلى أمي، وانكبَّت فوقها وأنا واقف عند الباب، وما لبثَتْ أن ضربت صدرها بيدها وهتفت «يا خبر أسود يا أم جعفر»، ثم أقبلَتْ نحوي فرفعَتْني إلى صدرها ومضت بي إلى مسكنها، وانقبض قلبي لذلك التصرُّف، وتذكَّرتُ به تصرُّفًا مشابهًا يوم اختفى أبي إلى الأبد، ومضيت أصرخ «أمي … أريد أمي …» وقضيت في بيت جارتنا يومَين كانا أسوأ أيام عهد الأسطورة، وفي مساء اليوم الثاني طيَّبَت الجارة خاطري وقالت لي: لا تحزن يا جعفر فربُّك رحمن رحيم.

فقلت يائسًا: أنا فاهم، أمي ذهبت إلى أبي.

فدمعت عينا المرأة وتمتمت: ربنا معك، هو الأب والأم، هو كل شيء.

وقال زوجها وكان يدلِّك أسنانه بمسواك: يجب عمل شيء، ولو باللجوء للحكومة.

فقالت المرأة: حتى الحَجَر يلين!

ومضت أيام وأنا أعيش ضائعًا ذاهلًا حتى أقبلَتْ عليَّ الجارة تقول متهلِّلة: يا حبيبي، أبشِر، أمرَ ربنا بالرحمة، ستذهب الى جدك!

لم أفهم شيئا، كنت أسمع الكلمة لأول مرة.

٤

سألته بدهشة: لأول مرة؟

– لأول مرة.

— لم يجرِ له ذِكر في حياة أمك؟

– مطلقًا، علمًا بأنه كان في نفس الحي يقيم.

– ولِم أخْفَت أمك عنك أمره؟

– ربما لحنقها عليه، على أي حال أفهَمَتْني جارتنا أنه جدي، أنه أبو أبي، ولم يكن البيت بعيدًا عن مرجوش، ولا كان غريبًا عليَّ، فطالما سرت تحت سوره العالي ونحن — أنا وأمي — في طريقنا إلى الحسين، وأذكر أنني سألتها مرة عن هوية ذلك السور العالي الذي يقوم أمام قبو بيت القاضي كالجبل، فقالت لي بعجلة: «إنه السجن حيث يقضى المجرمون أعمارهم في الظلام»، ولم يكن معزولًا عما حوله، ففي الأحياء الشعبية تتلاصق بيوت الأغنياء والفقراء، ولم يكن يظهر من البيت ذاته شيء ولا من حديقته، فقط سوره المطِلُّ على بيت المال، وهو سور حجري يمتد طولًا وارتفاعًا كأنه حقيقة سور سجن أو جدار قلعة، أما بابه فيفتح على عطفة جانبية، ولما اجتزنا بوابته تمَّ أول لقاء بيني وبين حديقته، فلم يكن لي عهد قبل ذلك بالحدائق، ولا رأيتُ من عالم النبات إلا شجرة بَلْخ بميدان بيت القاضي، وشجيرة صبَّار بالقرافة، اقتحم أذني تغريد البلابل وزقزقة العصافير، ورأيت الأغصان محملة متواثبة بأفرادها الصغيرة الملونة، كما رأيت أسرابًا من الحمام تحوم حول برج قائم وراء تكعيبة العنب، يُطلُّ على جدول ماء يشق الحديقة بالعرض، يقف فيه بستاني مغروسًا حتى ثلث ساقه وبيده مقطف، أما أنفي فقد فغمته أخلاط من روائح الجنة حتى أثملَتْه، وقد ذهلت حتى أوشكت أن أصرخ من الأعماق، وسِرت في ممشى تتجاذبني على الصفين ألوانُ الأزهار والورود في طريقي إلى السلاملك، وشدَّ جاري على يدي وهمس في أذني مشجعًا: هذا هو بيتك الجديد يا جعفر!

كنت في حيرة شاملة، وكان جدي يجلس على أريكة ذات مسند عالٍ مُطعَّم بالأرابيسك تتوسط السلاملك، والظاهر أن جاري أنهى حديثًا قصيرًا مع جدي ثم قبَّل يده وذهب، فوجدت نفسي وحيدًا تحت بصره، لمَّا أفِقْ من سحر العصافير والأزهار والجدول، وفي أعماق قلبي أسى لم تهُن نواجذه، إنه يجلس متربِّعًا في جلباب أبيض فضفاض، متلفِّعًا بشملة مزركشة مغطى الرأس بطاقية بيضاء، طويل الوجه نحيله، قمحي اللون ذو نظرة هادئة مستقرة، جبهته عالية بصورة بارزة، وأنفه طويل شامخ، أما لحيته فبيضاء مُسدَلة على الرقبة، وتلامس أعلى الصدر، تبادَلْنا نظرة فلم أقرأ في عينَيه ما يخيف، وتبدَّى لي على قمة عمر طويل، وآية في النبل والوقار، ومالكًا جديرًا بالحديقة الفاتنة.

وقفت غير بعيد وغير قريب في جلبابي المقلم، وطاقيتي المزركشة، حاملًا التعويذة، أنتعل مركوبًا ملونًا، وأحمل تحت إبطي لفافة تحوي ثيابي القليلة.

أطال إليَّ النظر حتى اجتاحتني رغبة في الفرار.

وكأنما قرأ ما في صدري فابتسم، وأشار إليَّ بالاقتراب.

قلت بحرارة: أريد أن أرجع إلى أمي.

مَدَّ لي يده فاقتربت مادًّا يدي، تصافحنا، تملَّكتني رعشة بكاء، ولكنني تمالكت نفسي فلم أبكِ، وسرى إلى جسدي من ملمسه دفء، قال برقة: أهلًا بك.

أجلسَني إلى جانبه وقال: أنت في بيتك، هل أعجبتك الحديقة؟

فأحنيت رأسي بالإيجاب.

– تكلَّم، إني أحب الكلمات.

فغمغمتُ: نعم.

– أتعرف مَن أكون؟

– جدي.

– ما معنى ذلك؟

– أبو أبي.

– تُصدِّق ذلك؟

– نعم.

– هل تتذكر أباك؟

– كان يحملني لأرى المحمل ولكني أتذكر أمي …

وأجهشتُ في البكاء فربت على ظهري ثم سأل: ماذا تذكر من أبيك أيضًا؟

– زرتُ قبره.

فنحَّى وجهه عني قليلًا ثم سأل: ما اسمك؟

– جعفر.

– ثم ماذا؟

– جعفر إبراهيم.

– ثم ماذا؟

– جعفر إبراهيم!

– جعفر إبراهيم سيد الراوي، أعِدْ.

– جعفر إبراهيم سيد الراوي.

– مَن الذي خلقك؟

– الله.

– ومَن نبيك؟

– سيدنا محمد.

– هل عرفت الصلاة؟

– كلا.

– ماذا تحفظ من القرآن؟

– قل هو الله أحد.

– ألم تحفظ الفاتحة؟

– كلا.

– ولِم بدأتَ بقُل هو الله أحد؟

– لفائدتها في إخضاع الجن.

– هل تتعامل مع الجن؟

– نعم، كثيرون منهم يقيمون في كرار بيتنا، وهم يملئون مرجوش لیلًا!

– هل رأيتهم بعينَيك؟

– كثيرًا.

– إنك تكذب على جدك.

– رأيتهم وتعاملتُ معهم.

أجرى أصبعه على الخطوط المكونة لوجهي برقة وعناية، فأنِستُ إليه، وتخلَّى أكثر الارتباك عني. قال: لا تكذب يا جعفر فإني لا أحب الكذب.

– ولكني أقول الصدق.

– انظر بعينَيك ولا تتخيل ما لا وجود له.

وسكتَ فسألتُه بدوري: يا جدي.

فنظر إليَّ مستطلعًا فواصلت: لمَ لمْ تزُرْنا؟

مَدَّ بصره إلى الحديقة ثم قال: جدك متقدِّم في السن كما ترى.

– لمَ لمْ تدْعُنا إلى بيتك؟

بعد صمت آخَر أجاب: رفض أبوك ذلك!

فسألته: هل سأقيم هنا دائمًا؟

– إنه بيتك يا جعفر.

– وألعب في الحديقة؟

– وستلعب في الحديقة، ولكن لن تكون حياتك لعبًا خالصًا، إنك في السادسة ويجب أن تبدأ الحياة كذلك.

وبدأت الحياة الجديدة.

•••

وتوقَّفَ ملتفتًا نحوي وهو يقول بحِدَّة: ذلك هو جدي، الراوي، صاحب الوَقْف، فأي نظام يحرمني حقي الثابت؟

فقلت برجاء: لنرجع إلى حياتك الجديدة!

– لستُ تافهًا كما تتصوَّر، إني صاحب حق، وذو ثقافة، بوسعي أن أحدثك عن عيوب الديمقراطية، وعيوب الشيوعية.

– وستحدِّثني عن ذلك في سياق حكايتك، ولكن ارجع الآن إلى حياتك الجديدة.

فرفع منكبَيه في أسف وقال: يا للخسارة، لقد ضعف بصري، وإني مهدَّد بفقده نهائيًّا ذات يوم، ولم يبقَ من العمر إلا أيام، وما زالت البشرية تعني العذاب والقلق، ما زلنا نموت مخلِّفين وراءنا أملًا قد تحقَّق ونُسي، وسبع خيبات تؤرِّقنا حتى الاحتضار، وأنت تريدني أن أروي قصتي بالطريقة التي تعجبك أنت، لا التي أرتاح إليها أنا.

فقلت برجاء: النظام هو ما يلزمنا لنلم بقصتك في الأيام القلائل الباقية من الحياة.

– كانت الحياة الجديدة حلمًا بديعًا، نسيت الماضي كله، نسي القلب الخئون أمي الراحلة التي لم أزُر لها قبرًا، حلمتُ بها ذات ليلة ولما استيقظت شعرت بثقل قلبي وبكيت، ولكن القلوب الصغيرة تتعزى بسرعة، لا تتأتى إلا لكبار الحكماء، شُغلت تمامًا بجدول الماء وأشجار الحناء والنخيل والليمون والأعناب والضفادع والعصافير والبلابل والحمام واليمام، وازَّيَّن خيالي بالفراش النحاسي المذهَّب، والسجاجيد الفارسية والصوان الفخم، والمرآة الكبيرة المصقولة والستائر الملونة والدواوين الوثيرة والشرفة المسقوفة باللبلاب والحمَّام الكبير بأرضيته المعصراني وخزان مياهه العجيب، كنت أكتشف في كل ركن شيئًا جديدًا وثمينًا وأثري باسم جديد ومنظر فتَّان، على أن ذلك كله بهرني دون أن يستحوذ على قلبي حقيقةً، فلم يُراعَ في إعداد القصر مطالب الأطفال، لذلك لم يؤثر فيَّ شيء مثلما أثَّر حمار البستاني، وجدت فيه الصديق والملهاة، وقضيت على ظهره الوقت الطويل، قاطعًا الممشى ذهابًا وإيابًا وأنا أتفادى من الغصون الدانية، وأُعجِبتُ كثيرًا بالطلمبة والبئر والفسقية وتمثال الطاووس الذي يتوسَّطها فوق عامود مرمري، وتولَّت أمري امرأة كهلة حنون، نحاسية اللون تُدعى بهجة، سرعان ما وثقت بيننا العواطف الطيبة المتبادلة، ومن بهجة عرفتُ الكثير عن مأساة مولدي في مناسبات شتى وعلى مدى غير قصير، وتبيَّن لي أن جدي كان يعيش في البيت وحده محاطًا بحاشية من الوصيفات والخدم، جدتي ماتت منذ زمن قصير، كما مات أبي بعيدًا عن البيت، وكان الابن الوحيد الذي تبقَّى له على قيد الحياة حتى بلغ سن الرجولة، عقب سبعة إخوة ماتوا بين الطفولة والصبا، فكان الأمل الباقي بعد عذاب، وكان حلم المستقبل الذي تمخَّض — في نظر جدي، ولا شك — عن خيبة أملٍ أنكَى من الموت، وإلا ما هان عليه أن يعاقبه حتى القطيعة المُطلَقة، والغربة العدائية، والنبذ من البيت والأسرة والتراث، وذلك ما يجعل من جدي لغزًا في نظري، شخصيته توحي بالسماحة والرحمة والعذرية، ولكنه ينقلب بالغضب شيطانًا أو حجرًا صلدًا، عرفته وهو شِبه معتكف في بيته، ولكنه كان في الأصل أزهريًّا، ورث عن أبيه وأجداده الثراء الواسع والأزهر، على ذلك لم يعمل في وظيفة عامة دينية أو تعليمية، عمله كان إدارة أملاكه، فراغه كان للدراسة والاطلاع على علوم الدين والفلسفة والاقتصاد والسياسية والأدب، بَهْوه كان ملتقى لرجال الدين والتصوف والسياسة والأدب.

•••

سألته: ألم يكن له نشاط في الكتابة؟

– كلا، ولكنه كان يدوِّن مذكرات أو يوميات بصفة مستمرة .. ولا أدري عنها شيئًا.

– وهل كان كذلك أبوه وجده؟

– كانوا دائمًا من هيئة كبار العلماء، هو وحده الذي آثَر استثمار أملاكه والحياة الحرة.

– هل لك فكرة عن الرجل العصامي في سلسلة أجدادك، أعني الرجل العادي الفقير الذي منه نشأ الثراء؟

– إنها أسرة عريقة في الثراء والدين، ولعلَّي أنا أول صعلوك فيها!

فضحكتُ وقهقهَ ثم واصل: نشأ أبي نشأة دينية، التزامًا بخط الأسرة حتى فاز بالعالمية، وأراد أبي أن يسافر إلى أوروبا للسياحة والدراسة، فتردَّد جدي مليًّا، ثم وهبه الموافقة فسافر إلى فرنسا، تعلَّم الفرنسية، واستمع إلى محاضرات في الفلسفة واللاهوت في دراسة حرة، ثم رجع إلى وطنه دون أن يحصل على شهادة أو يحرِّر رسالة، وأعلن عن رغبته في مساعدة جدي في إدارة الأملاك فسمح له بذلك، وكان يرسل بمقالات إلى الصحف بين الحين والحين، ثم أحبَّ أمي في الوقت الذي كان جدي يدبِّر تزويجه من كريمة شيخ الأزهر، وتزوَّج منها دون مبالاة، ماذا كان عيبها؟ الفقر؟ الحق أنني لم أعرف لها أهلًا على الإطلاق، لا خال ولا خالة، لا قريب من قريب أو بعيد، على أي حال انفجر غضب الراوي، وهوى بقبضته على رأس الابن الوحيد فقطعه ونبذه، وخُيِّل إلى كثيرين أن سلسلة الراوي بمضمونها التاريخي قد انعدمت وانتهت، ولا شك أن أبي لم تكن تهمُّه سلسلة الراوي في شيء، كان يريد أن يحقِّق ذاته بطريقة أخرى، ولا أخفي عنك أنني أعجبت به، وأسفتُ لموته الذي لم أحزن له في حينه لصغر سني.

•••

سألته: أليس لديك فكرة عن المقالات التي كان ينشرها في الصحف؟

– بحثتُ عنها في أرشيف بعض الصحف، وهي تدور حول التوفيق بين الدين من ناحية، والعلم والفلسفة من ناحية أخرى، واعتبرتها دون تحيُّز عصريةً ومتقدِّمة، وبصفة عامة يمكن أن يُصنَّف أبي في الليبراليين، وعلمت أن أبي عمل مترجمًا في صحيفة الفجر عقب استقلاله عن أبيه، وأذكر أنني ناقشتُ جدي في موقف أبي عندما بلغت سنَّ المناقشة، سألته ذات مرة ونحن في جلسة مؤانسة: كيف هان عليك يا جدي أن تطرد أبي لزواجه من امرأة من عامة الشعب؟ .. إنك رجل مؤمن صافي الروح نبيل الخلق، فكيف هان ذلك عليك؟

وكان واضحًا أنه لم يرحِّب بالسؤال، ولكنه أجابني قائلًا: إنك مخطئ في تصوُّرك، إني أرى الإنسان نوعين: إنسان إلهي وإنسان دنيوي، الإنسان الإلهي هو مَن يعايش الله في كل حين ولو كان قاطع طريق، والدنيوي هو مَن يعايش الدنيا ولو كان من رجال الدين.

– وهل كان أبي سيئًا؟

– كان دنيويًّا فحسب.

– كانت أمي طيبة ونبيلة.

فتمتم: فليرحمها الله!

ثم واصل بعد هنيهة: لم أخطئ ولم أندم، ولكنى حزنت طويلًا.

كنت متأكدًا من حزنه، لولا حزنه الدفين ما لان قلبه لي، وقال لي: لقد فتحتُ لك قلبي وبيتي، سيكون كل شيء لك، ولكن عليك أن تكون إنسانًا إلهيًّا، إني لا أدعوك للزهد، فإن عملي الأول هو إدارة الأملاك.

ورتَّب لي منذ أول يوم مدرِّسًا يعلِّمني مبادئ الدين واللغة والحساب، لُقِّنت مبادئ دين جديد غير الدين الذي تلقَّيْته على يد أمي، دين المغامرة والأسطورة والمعجزة والحلم والشبح، أما هذا فدين يبدأ بالتعلُّم والجدية، حفظ سور وشرحها، إلمام بالقواعد، ممارسة للصلاة والصيام، دين نظري وعملي، ومدرِّس جادٌّ يرفع التقارير لجدي أسبوعًا بعد أسبوع، ولم يُخفِ المدرس رضاه عني فقال لي: أنت ولد مبارك، وليتم الله نعمته عليك.

كنت قوي الحافظة، حسن الفهم، محبًّا للعمل، ومارست الصلاة بسرور مؤتمًّا بجدي، كما مارست الصيام، ولم يُنسِني ذلك ديني الأول، فتراكمَ الجديد فوق القديم، ولم يسكت صوت أمي المتردِّد في أعماقي، وقد قال لي المدرس في أثناء مناقشة: الضريح مبنى من المباني، والوليُّ جثمان.

فقلت بإصرار: بل لكل شيء حياة لا تفنى أبدًا.

فابتسم الرجل وقال: فلنترك خلافاتنا للزمن، وللمزيد من العلم.

ويبدو أنني أحرزت تقدُّمًا يستحق الارتياح، وكان جدي يدعوني إلى شهود مَجالِسه العامرة بصفوة رجال الدين والدنيا، كان يدعوني لشهودها وقتًا قصيرًا يناسب استعدادي، وكثيرًا ما سمعتُ القوم وهم ينوِّهون بأجدادي في مواقفهم المأثورة، حتى امتلأتُ فخرًا بأولئك الرجال الممتازين الذين عُرفوا بالعلم والجود ومكارم الأخلاق، بقدرِ ما تنغَّص صفوي لغياب ذِكر والدي، والظلام الذي يغشي أصل أمي، وكلما تقدَّم بي العمر عاودتُ التفكير في أمي بمرارة أشد وأعمق، واقتنعت بأن مأساتها — ومأساة والدي بالتبعية — حادثة غير معقولة، ومناقضة للدين الذي أتعلَّمُه وأمارسه، وأن جدي يتصرف أحيانًا تصرُّف مَن لا دين له! لقد ذهبَتْ أمي، ولكنها أورثَتْني دينها ومأساتها، وسوف يرسبان في جانب من نفسي طويلًا، ربما أطول ممَّا تصوَّرتُ.

وأغدق جدي عليَّ حبه وحنانه وهو يتابع نجاحي وتقدُّمي، قال لي: يا جعفر، أراك جديرًا بتجديد شباب شجرتنا المباركة!

وقال لي: سِر متأبِّطًا ذراع الحكمة، وافعل ما تشاء.

وقال لي أيضًا: مبارك مَن يتحلى بوحي الله، وأمام المجتهد وسيلة ليتبوَّأ العرش!

وفي نشوة من التفاؤل قال: خطواتك في النجاح مباركة، وسوف تدخل الأزهر الشريف عما قريب، ألا يسرك ذلك؟

فأجبته بإخلاص: يسرني جدًّا يا جدي، وأودُّ بعد ذلك أن أسافر إلى أوروبا.

فتجلى الاهتمام في عينَيه وسألني: ما الذي جعلك تودُّ ذلك؟

– أسوة بما فعل أبي!

– فمسح على لحيته البيضاء وتمتم: عليك أن تتحلى بوحي الله، ثم افعل ما تشاء.

فتردَّدتُ قليلًا ثم سألته: أكانت خطيئة أبي الوحيدة أنه تزوَّج من أمي؟

فتجهَّم وجهه وقال بحِدَّة: ما مضى قد مضى.

وأغمضَ عينَيه كأنما ليُفرغ شحنة احتداده، ثم قال: لقد شرحتُ لك ولكنك لا تريد أن تفهم!

قلت لك إن وجهه تجهَّم، ولكن ما رأيتُه كان أفظع من ذلك، لم تكن لحظة عابرة، ولكنه تصوَّر في صورة جديدة ومخيفة، تحجَّرَت نظرته وشُدَّت عضلاته، وتغيَّر لونه، فخُيِّل إليَّ أني أرى شخصًا لم أرَهُ من قبل، عدوٌّ منطلِق من بركان، حاملًا غضب الأرض، قل إنه الصاعقة أو الموت نفسه، ولكنها كانت لحظة عابرة خاطفة، ثم عاد جدي إلى مجلسه، عدا ذلك لم أجِده قاسيًا ولا مخيفًا ولا ثقيلًا، كانت الإنسانية عبيره والحب إشارته حتى عزَّ عليَّ أن أصدق أنه فعل بأبي ما فعل، وكثيرًا ما قلتُ لنفسي لعله كان يُضمر الغفران، ويتحيَّن الفرص ليُصدر عفوه، لولا أن عاجلت المنية أبي في عز شبابه، وحتى بعد لحظة تجهُّمه المخيفة حدستُ في قوله «ما مضى قد مضى» ألمًا أثارته الذكرى وندمًا يُصرُّ على مطاردته، ولعل عذابه ناشئ عن مثاليته المفرطة، فهو يطالب الإنسان بالسموِّ والتطهُّر والكمال، وباعتناق رؤياه في الوجود، ويحتقر الضعف وما يراه انحلالًا وتدهورًا في التكامل البشري، هكذا اقتنعتُ بأن الطريق إلى حنانه واضح ومستقيم، ولكنه حافل بالجهد والصبر والعرق، والقوة والتقدُّم والسموِّ، وهو ما عناه بقوله «الإنسان الإلهي».

وفي المواسم كان يجتمع الزوار للاستماع والطرب، فتغرِّد الحديقة بالأغاني الصوفية، تردِّدها الحناجر الذهبية الذائعة الصيت، وكان جدي من عشاق الطرب، وله فيه ذوق يستوي في مكانه من نفسه الغنية بشتى الاهتمامات الدينية والدنيوية، وكنت أتابع الأناشيد ساهرًا حتى الفجر وأنتظر تلك السهرات بلهفة المحبين، وقد ضبطني مرة وأنا أغني:

أدِرْ ذِكر مَن أهوى.

كنت مفترشًا حصيرة تحت شجرة ليمون، وأردِّد الغناء مقلِّدًا الشيخ، فانتبهتُ إلى ظِله وهو يُغطِّيني وأمسكت عن الغناء، في غاية من الارتباك والحياء، ووقفت أمامه في أدب، ابتسم، تمتم: ما هذا؟ .. صوتك لا بأس به يا جعفر!

فأحنيت رأسي في رضى وبركة، سألني: ماذا تُغنِّي أيضًا في خلوتك؟

فأجبت: أغنيات من العهد القديم.

– مثل ماذا؟

فتردَّدت قليلًا ثم قلت: عصفوري يا أمة عصفوري.

فواصل ابتسامه وقال: ها أنت تحفظ هنا أناشيد مباركة.

ومضى يتفقَّد الحديقة، وقد بدا جليلًا مضيئًا.

وفي أوقات الفراغ كنت أجلس إلى بهجة لتحكي لي الحكايات، أو أغنِّي، أو ألعب في الحديقة مع الحمار، وأحيانًا ألاعب أبناء البستاني والطاهي وسواق الحنطور، وطيلة الوقت أتعطَّش للانطلاق في الحارة، وهل يمكن أن أنسى رحلاتي المتواصلة في حواري القاهرة تشدني يد أمي؟ وصارحتُ جدي برغبتي في الخروج، فقال لي: اركب معي الحنطور في نزهة المساء.

– أريد أن ألعب في الحارة.

– أليست الحديقة أجمل من الحارة؟

فقلت بحرارة: أريد أن ألعب مع الأولاد في الحارة.

فهزَّ رأسه مستسلمًا وقال: بشرط ألا تغيب عن عين بهجة، وألا يفوتك ميعاد صلاة.

هكذا خرجت إلى الطريق الذي منه جئتُ.

وكانت بهجة تجلس على كرسي أمام الباب لترعاني من بعيد، وسرعان ما عرفتُ أولاد الجيران، وفي مقدمتهم ابن لسواق سوارس يُدعى محمد شكرون، كان حسن الصورة رغم ضخامة أنفه وعرجه، دعاني أول يوم إلى مسابقة في الجري، وجرى بأسلوب مضحك وبعناد، وبين آونة وأخرى كان يثب وثبة شيطانية يقطع بها مسافة خيالية، متحدِّيًا ضعفه الطبيعي، وكان لطيفًا وصريحًا، فبعد أن تقرَّر له الفوز قال لي: إنك حفيد الشيخ الكبير، وعلى مَن كان غنيًّا مثلك أن يشتري لنا الملبن الأحمر والسوبيا.

ولما أكل وشرب انبسط وراح يغني:

من فوق شواشي الجبل باسمع نغم بالليل.
عشْق البنات البكارَى هد مني الحيل،
من فوق شواشي الجبل.

وإذا به يملك صوتًا عذبًا يهز النفس هزًّا، وأدركتُ لتوي أنني لا أستطيع منافسته، ولكنني رغم ذلك غنَّيت ما حفظته من غنائه، فتكرَّر على مسمعي ما سبق أن قاله جدي لي، قال: صوتك لا بأس به!

فقلت له: صوتك جميل حقًّا يا شكرون.

فقال في مباهاة: ستسمعني يومًا مطربًا من المطربين.

سرعان ما اتَّحدت علاقتنا في صداقة وطيدة، تميَّزت وسط العلاقات السطحية الكثيرة عاطفة راسخة وعميقة، وكان الغناء محور اجتماعنا، وبخاصة في ليالي رمضان الساهرة، ومن ناحيتي دعوتُه لشهود سهرات الطرب الديني في بيتنا، فسُرَّ لذلك سرورًا لا مزيد عليه، وأبهجه أن يسمع أقطاب المنشدين وأن يدرس عن قربٍ مهاراتهم الغنائية وخواصهم الصوتية وقدراتهم في التطريب والتأثير، وتجلَّى ذلك في انفعاله العنيف الذي بلغ حدَّ العشق والولَه، ودفعه ذلك لاقتحام وقار المجلس بجرأة فاقت كلَّ تصوُّر، فما كاد المنشد يختم وصلة حتى قام محمد شكرون من مجلسه إلى جانبي وراح ينشد بصوته الحسن:

أهلًا ببدر التم روح الجمال.

فجذب الأسماع بحلاوة صوته وحداثة سنه، وعمَّت شهرته الحاضرين من منشدين ومدعوِّين، حتى جدي لم يُخفِ إعجابه به، وكان بين الحاضرين شيخٌ يُدعى طاهر البندقي، صوفي وملحِّن وأستاذ في الموسيقى الشرقية، ومن أقرب المقرَّبين إلى جدي، فأُعجِب بشكرون جدًّا، وجاذبه الحديث طويلًا، حتى عرفَ أصله وفصله وآماله، هذا هو سحر الغناء، والجن يطربون لنا، ونحن نطرب لهم، وقد زعم بعض أهل مرجوش أنهم كانوا يسمعون غناء مطرب من الجن قبيل الفجر.

فقاطعتُه برجاء: دعنا من الجن، نحن الآن في بيت الراوي، ثم إنني مؤمن تمامًا بأنك لا تصدق شيئًا من ذلك.

– الذكريات تنهمر كالمطر.

– هي دائمًا كالمطر، ومهمتك أن تصنع جدولًا صافيًا.

فتنهَّدَ ثم واصل: زار الشيخ طاهر البندقي جدي عقب أسبوع من مغامرة شكرون، وأطلعَه على خاطرة خطرَت له، وهي أن يعلم محمد شكرون الموسيقى الشرقية، ويدرِّبه على الغناء، فوافق جدي على ذلك بسرور، وتعهَّد بأداء نفقات التعليم والتدريب، وثبت عندي من ذلك حب جدي العميق للغناء والموسيقى، وأنها عاطفة مستقلة بذاتها عنده، وليست تابعة لتدينه فحسب، وقد قلت له عندما أخبرني بما قرَّره بخصوص صدیقي: إنك تحب الغناء يا جدي!

فابتسم متسائلًا: لِم لا؟ إنه صديق الروح الحميم.

– وهل سمعت يا جدي كبار المطربين؟

– نعم، في بيوت الأصدقاء في المناسبات السعيدة.

ولم يكن إنفاقه على شكرون إلا مثلًا من إنفاقه على المحتاجين من أهل حيِّنا.

•••

فقلت تلقائيًّا: وتوَّج ذلك بوقف أملاكه كلها للخير!

فصاح جعفر: أما ذلك فلا، لا خير في خير يقوم على شر!

– أعتذر عن المقاطعة.

– اعتذر عن رأيك وهو الأهم.

– أعتذر.

نفخ غيظه وواصل حديثه قائلًا: أصبح محمد شكرون تلميذًا للشيخ طاهر البندقي، وأتاه الحظ عَبْر صداقتنا الوطيدة، وكنت أنا البواب الذي فتح له باب النجاح، وقد سُررت لذلك سرورًا بالغتُ فيه أمام جدي، ولكنه نظر إليَّ بارتياب وسألني: هل يمازج سرورك شيء من الغيرة؟

فنفيت ذلك بشدة، ولكنه قال باستياء: الغيرة رذيلة، لك عليها في مثل سنك عذر، أما الكذب فلا عذر لك فيه، لا تكذب يا جعفر، كن دائمًا صادقًا، لا تُغضب جدك فهو يحب النقاء، وقد وهبك الله عقلًا راجحًا كما وهب صديقك صوتًا عذبًا، فانعم بما وهبك ولا تنغِّص صفوك بما تفتقد، ولو كنت ذا استعداد للغناء ما ساءني أن تصير مطربًا، فالمطرب أيضًا يستطيع أن يكون إنسانًا إلهيًّا، من رحمة الله أن كلَّ شخص يسعه أن يكون إلهيًّا حتى الزبال، أما أنت فعليك أن تستعد لدخول الأزهر.

فقلت بصدق: أعز آمالي يا جدي أن أُوفَّق في حياتي الدينية.

لا أنكر أنني شعرتُ بشيء من الغيرة، وأزعجني أن يقتحمني جدي بقدرة خارقة على قراءة ما في الصدور، ولكنني على أيِّ حال شعرت بشيء من الغيرة، ها هو شكرون يتفوَّق بموهبة لا حيلة للاجتهاد فيها، وها أنا أعاني تناقض العواطف في رحاب القلب المعذَّب، على أن أحلامي حامت حول الدين والحياة الدينية، وشعرتُ شعورًا مُبهَما بأن ثمة رسالة ما تنتظرني في هذا المجال المقدَّس، فتطلعت إليها أشواقي من الأعماق، ولم تغِب عن خاطري التركة الكبيرة التي سأرثها ذات يوم، عزبة المرج والعمارات والأموال السائلة، ولم يكن العمل يهمني ولكني حلمت بالرسالة، والجلوس فوق أريكة جدي أستقبل الرجال، رجال الدين والدنيا، نناقش جميع الأمور الهامة، ونطرب مع المطربين في أوقات الفراغ.

•••

قلت مقاطعًا: إني أتذكر المغنِّي الأعرج كما أتذكرك في الجبة والقفطان.

فسألني مباهيًا: ألم ترَ بنفسك أن الله خلقَني في صورة حسنة؟

– كنت حسن الصورة حقًّا.

– كنت حسن الصورة، حسن السريرة، شريف الآمال، وقد دخلت الأزهر في طور المراهقة مُدعمًا بقوة إنسانية منوَّرة، كأنني أمير سماوي، لأجد نفسي في بيئة شعبية أصيلة أنهكها الفقر والتقشُّف والأسى، ولا تتيسر لها الإنسانية الحقة، إلا في الجد الصارم والاجتهاد المتواصل وتحصيل العلم بلا هوادة، عرفت العديد من الأقران، وصادقت كثيرين، وقد ذكروني بشعبيتهم وخرافاتهم بمرجوش، وبيد أمي، وبأصلي المأساوي الأصيل، فأحبَبْتهم رغم كل شيء، وكنت أدعوهم للعشاء مساء كلِّ جمعة في بيتي، وطيلة شهر رمضان كانت نخبة منهم تفطر معي وتتسحَّر معي، وفيما بين الإفطار والسحور كنا نمضي الوقت في المذاكرة والمناقشة، وبذلك اكتسبت مكانة فريدة لا تتأتَّى عادة لطالب، ولاحظ جدي سروري بذلك، فقال لي: إياك والخيلاء، املأ قلبك بحب هؤلاء الفقراء الأشراف، واذكر دائمًا نعمة الله عليك.

ولكن تفوُّقي كان يزكيني دائمًا عنده، فشيخ التوحيد أثنى عليَّ عند جدي، كذلك أستاذ الفقه والنحو، والمنطق، حتى سُرَّ جدي وقال لي: ستكون شيخًا ممتازًا.

ثم مستدركًا: الأهم من ذلك أنك تمضي في طريق النقاء بخُطى ثابتة.

وقلت لجدي: أريد أن أهب حياتي للدين، لا أدري كيف، ولكنني غير متحمِّس لأي عمل كالوعظ أو التدريس أو غيرهما.

– لا أهمية لذلك البتة، ما يهمني هو إرادتك النقية، هو إيمانك وحبك للدين، بعد ذلك ستجد أن كلَّ كتاب هو كتاب دين، وكلَّ مكان معبد، سواء في مصر كان أم في أوروبا، وسييسِّر الله لك سبيل الحكمة لتكون ممَّن يجودون بالحكمة، بالكلمة أو بالفعل، وهذه هي الحياة الإلهية.

استثار ذلك حماسي لأعلى الدرجات، وكنت أتقدَّم مُترَع القلب بالإيمان والقداسة، أستضيء بمثل جدي في الحياة، بحياته الجميلة الغنية التي عاشرتها في قَصره، بأصدقائه ومناقشاته وطربه.

ولكن كانت تمرُّ بي ساعات سوداوية، تتسلَّل إليَّ من مكامنها، فتغيِّر مذاق الحياة، وتغشاني سحب الذكريات السود، فأفكرُ بحياة النفي التي عاناها أبي، ومأساة أمي ذات التاريخ الغامض المجهول، وعند ذاك يثور غضبي على جدي، وأحاسبه في الخيال حسابًا عسيرًا، ويتبدَّى لي شيطانًا في ثوب ملاك، وأقول ما هو إلا رجل من الأعيان يستمتع بكل طيب في الحياة ويزعم أنه قديس إلهي.

ولم أجد مَن أُفضي به إليه بهواجسي إلا محمد شكرون.

كان بدأ يشق طريقه بصعوبة في ميدان مزدحِم بأصحاب العروش من كبار المطربين والمطربات.

وكان يحب جدي ويحفظ له جميله، ويقول عنه: إنه النبيل ابن النبلاء، لا نظير له في خلق الله.

فأسأله: وما رأيك في موقفه من أبوَيَّ؟

فيقول لي: علاقة الأب بابنه علاقة غامضة بالرغم من وضوحها السطحي، أحيانًا يتدفَّق منها الحنان، وأحيانًا تتجمَّد بالقسوة، عَرَجي هذا الذي تراه ما هو إلا عاهة صنعها أبي في ساعة غضب، أما أخلاق الرجل الحقيقية فتُقيَّم على ضوء علاقته بالآخَرين.

وطبعًا لم أقتنع بتلك النظرية وقلت: إن أخلاق الرجل — أيَّ رجل — وحدة لا تتجزأ.

على أن تلك الساعات السوداوية كانت تجيء كأحوال عابرة، لا آراء ثابتة، وسرعان ما يعود إليَّ صفاء النفس والرؤية الواضحة، أما أزمة تلك الفترة الحقيقية فكانت أزمة جنس، أزمة المراهق المتشوِّف إلى القداسة ونزاعه الدائم مع غرائزه القوية، وعاودَتْني كثيرًا ذكريات السحَّارة والبنت التي باتت الآن مجهولة تمامًا، وتعجَّبتُ كثيرًا كيف أن جدي يناقشني في كل خاطرة تخطر على أنه يتجاهل المعركة الحقيقية الناشبة في صدري، وكان في بيتنا ثلاث نساء — بالإضافة إلى بهجة العجوز — في الحلقة الخامسة من أعمارهن، لسن جميلات ولا مغريات ولكنهن لا يخلين من رمق يزكِّيهن عند مراهق مكبوت، وكنت أرى النساء في الشارع في ثيابهن المحتشمة غايةً في الإثارة، وكان النضال بين ضميري وغريزتي لا يكفُّ ولا يهدأ، غير أنني تغلَّبتُ على الإغراء بقوة تستحق الإعجاب، وكأن تشوُّفي لله فاق كلَّ شيء وهزم الشيطان في معاقله جميعًا.

أجل، لاحظَتْ بهجة نظراتي نحو زميلاتها، فجزعت وتوسَّلت بمنزلة الأمومة التي احتلَّتْها من نفسي لتصارحني بمخاوفها: لا تُعرِّض نفسك للهوان، جدك يعتبر جميع ما في البيت امتدادًا لشخصه، والمساس بأيٍّ منها مساسًا بذاته المصونة، وقد نعمتَ حتى الآن برضاه، ووجدتَه بلا شك نعمة تستحق الحمد عليها، ولكنَّ لجدك جانبًا آخَر يسكنه الغضب، فتجنَّبْه وأنت خير مَن يفهم ذلك.

فتمتمت بذهول: أبي!

– أجل، وأنت مؤمن، وصلواتك عبادة حقيقية، لِم لا تفكِّر في الزواج، وجدك كفيل بتزويجك من فتاة تحقِّق أحلامك وزيادة؟!

فقلت بدهشة: لم أفكِّر بذلك، وأعتقد أن الوقت المناسب لم يحِنْ بعدُ، كما أنني أكره فكرة الزواج كبديل للخوف من الخطيئة!

– أنا لا أفهم أفكارك، ولكن إذا أردتَ مساعدة فإني رهن إشارتك.

وقد علم محمد شكرون بذلك الحديث، وكان على علم بأزمتي ونضالي، وكان يعجب لها، وطالما قال لي: تعالَ معي إلى بيوت العوالم، فثمة فرص فريدة، وما عليك إلا أن تغيِّر ملابسك الدينية في بيتي.

ضحكتُ طويلًا، ورفضتُ أيَّ فرصة ممنوحة بكبرياء واعتزاز بالنفس، وأسعدني أن أتألم في ذلك الطريق، وأن أنتصر على ألمي، وكنت أقول لنفسي: طوبى لي، إني أنتصر كلَّ يوم مرة على الأقل على الشيطان، وإني جدير حقًّا بمستقبلي الطاهر.

وفكرتُ بأمور جديدة لأول مرة، فسألتُ بهجة: متى ماتت جدتي؟

فترحَّمَت عليها قائلة: منذ حوالي عشرين عامًا.

– أكان لمأساة أبي دخل في ذلك؟

– الأعمار بيد الله وحده.

– ولمَ لمْ يتزوَّج جدي بعدها؟

– هذا شأنه.

وتساءلتُ: تُرى هل كان لجدي حياته الجنسية الخاصة؟ وارتعدتُ لغرابة الفكرة، وقلت لنفسي إنه سيقرأ خواطري في عيني كالعادة، وسرعان ما تقع مأساة جديدة، وقلت لنفسي أيضًا إن جانبًا من نفسي يتعقَّب جدي بالانتقام، وإن حبي له ليس خالصًا تمامًا، وإنني لا أريد أن أنسى تمامًا مأساة والدي، وآيُ ذلك أنني ما زلت ألحُّ على بهجة حتى اعترفَتْ لي بأن أمي كانت ابنة دلَّالة تتردَّد على بيتنا، وسألتها إن كان عُرف عنها أو عنهما شيء من سوء، فأجابت بالنفي وقالت لي صراحة: جدك لا يعترف بالناس المجهولين!

فقلت بامتعاض واحتجاج: ولكن الناس جميعًا إلا ما ندر مجهولون.

إلا أنه يحلم بعالم من البشر الإلهيين على حدِّ تعبيره، أفلم يفطن إلى قسوة حلمه؟

وقررتُ أن أصوم رجب وشعبان ورمضان كلَّ عام، ومضتِ الحياة في جدٍّ واجتهاد وطهارة، وكان جدي يتابعني باهتمام وارتياح مغمغِمًا: ما شاء الله العظيم!

٥

كنت أسير بصحبة محمد شكرون في أطراف الدرَّاسة عندما أقبلَت علينا قافلة من الأغنام تقودها امرأتان: تنحَّيْنا جانبًا لنوسع للقافلة، رأيت المرأتَين، وهما أم وابنة غالبًا، صورة واحدة متكرِّرة، ترتدي جلبابًا أسود، متمنطقة بزنَّار، حافية القدمَين، متلفِّعة بشال أسود، وبرقع فضفاض تُطل من فوق حافته العينان، وباليد مغزل.

•••

وانقطع عن الكلام مليًّا حتى سألته: ماذا حدث يا جعفر؟

فالتفتَ نحوي قائلًا: إني أتساءل أيضًا عما حدث.

– ماذا تعني؟

– بكل إيجاز، لقد نظرتُ إلى عينَي الفتاة فاقتحمني الجنون الكامل، ولكن لندعْ مناقشة ذلك إلى حينه، سأصف لك الآن ما وقع، لقد شعرتُ بأنني متُّ، وبأن شخصًا جديدًا يُبعث في مكاني، وسوف تصدِّق أنه شخص جديد بكل معنى الكلمة، لا علاقة له بالشخص الميت، شخص جديد ثمِل، يفيض قلبه بالأشواق والقدرة الخارقة على التحدي والالتحام. وسمعتُ محمد شكرون يقول لي: متى تواصل السير؟

وراقبَني بحدة، ثم تمتم باسمًا: إنها راعية غنم!

فقلت وأنا ألهث: بل إنه القدر.

– فيمَ تفكر؟

– لا بد من معرفة مقرها.

– حسن، ولكن لا تنسَ العمامة فوق رأسك!

قوة أخرى غير إرادتي تسلَّمَت زمامي، سِرنا وراء القافلة، اخترقنا النحَّاسين فالحسينية، ثم رأيت العباسية فالوايلية، لم أشعر بتعب، لم أرحم عرج صاحبي، سِرت بقوة الجنون والسكر، وتفجَّرَت في قلبي ينابيع المغامرة بلا حدود، وتتابعَتْ أقوال محمد شكرون وشكاياته: سامحك الله!

– ماذا حلَّ بك؟

– البنت منتبهة إلى متابعتك لها.

– إنهم غجر وأفظع من الشياطين.

– قل لي بالله ماذا تريد على وجه الدقة؟

أخيرًا رأينا القافلة وهي تدخل معسكر عشش الترجمان، وشعاع الشمس يتقلَّص من ساحتها الرهيبة لينطوي في شفق المغيب، مودِّعًا أكواخها المصفَّحة، وأناسها المتوحشين، وطابع البداوة والنفي الذي يفصل بينها وبين المدينة، وتوقَّف محمد شكرون مُمسِكًا بذراعي وهو يقول: لا خطوة بعد ذلك، فليس ثمة مكان لغريب.

وتأوَّه مستطردًا: لقد دميت أقدامنا.

فقلت من عالمي الوجداني البعيد: لقد ودَّعَتني بنظرة حية قبل اختفائها.

– مبارك عليك.

ثم توسَّلَ إليَّ قائلًا: لنستقلَّ سوارس في عودتنا.

ولم يفارقني شكرون ليلتها، فسهر معي حتى منتصف الليل في البيت، وجعل يتأملني طويلًا وكأنه لا يصدق، وسألني: ماذا دهاك؟

فقلت له بأسي: ما تراه بعينَيك.

– لا أفهم.

– ليكن، إني مجنون بالبنت.

– أيحدث ذلك بهذه السرعة؟

– لقد حدث.

– ولكنها راعية، ومن بيئة شريرة.

– إنه القضاء لا مفرَّ.

– ومضى يفكِّر قائلًا: كيف يمكن إغراؤها؟ .. هل لهنَّ استعداد لذلك؟ .. كيف نعمل مع تجنُّب الفضائح؟ .. وما العمل إذا تحدانا المستحيل؟

فقلت بإصرار لا نهائي: بأي حال من الأحوال أريدها.

وجعلت أمضي الأصيلَ عند مشارف الدرَّاسة، مع صديقي أو مع نفسي، جالسًا على حجر، من حولي ترعى الشاة والماعز والجدي، على حجري كتاب المنطق مفتوحًا، وعيناي تسترقان النظر إليها وهي جالسة لِصق أمها وهما تغزلان، وكان المكان شبه خالٍ، لا يمُرُّ به إلا المتشردون وهم راجعون إلى المقطم، وعندما تميل الشمس نحو المغيب تمضي القافلة في رحلتها اليومية مُخلِّفة في قلبي كآبة وفراغًا لا يملؤه شيء، فأذهب إلى الجامع لأصلي المغرب ثم أحضر درس المنطق.

وقررتُ أن أخفي كوبًا في جيب قفطاني.

وعندما جمعنا الخلاء اقتربتُ من الأم وقدمت الكوب طالبًا حليبًا، فوثبت مروانة — كما سمعت أمها تناديها — إلى ماعز، وراحت تحلب لي اللبن، ثم ردَّت إليَّ الكوب مُغطى بالحباب، فتناولتُه وأنا أقول لها: عاشت يداكِ يا مروانة.

فابتسمَتْ لي عيناها، على حين نظرَتِ الأم نحوي بارتياب وأنا أشرب اللبن، ثم تمتمت: هنيئًا!

فشكرتُها، فقالت لي بلهجة ذات معنى: أنتم يا شيوخ رجال ربنا.

فقلت بامتنان: الحمد لله.

سعدت بإنشاء العلاقة وتبادل الحديث وشملتني غبطة سابغة حتى لحظة الفراق.

ومن موقع المراقبة قال لي محمد شكرون: لقد تحريتُ بما فيه الكفاية، وأقول لك إن أولئك الناس مع كلِّ شرٍّ إلا الشر الذي يسيل لعابك عليه.

فقلت له باستهانة: سيخرج من القمقم مارد لن تعرفه مهما ادَّعيتَ بأنك كنت له صديقًا.

ولم يقدِّر ما في قولي من ثورة، لم يعرف أنني أصبحتُ ملك الملوك، وأنني أفعل ما أشاء بغير حساب، وأنني سكران بفَوْرة الجنون الأحمر.

وربَطَ كوبُ اللبن بيننا برباط حريري قاتِل، ومن شدة نشاطها لمستُ أناملها وأنا أتناول الكوب، وقلت لها: أنتِ كريمة يا مروانة!

فحبكَتِ الخمار حول رأسها وهي ترمقني بشيطنة، فقلت وأنا أذوب في كلامي: ما أجمل عينَيك!

وقلت أيضًا وهي تمضي: ما أجيء هنا إلا من أجلك!

وكفَّتِ الأم عن الغَزْل وقامت، تناولَتْ حصاة من الأرض ورمَتْها بعيدًا صوب الجبل، ورأتني أنظر اليها متسائلًا، فقالت: وسيلة حكيمة لصد الزواحف والحشرات.

فقلت بارتياب: الله خير حافظًا.

فقالت بحزم: ولكن علينا أن نخاطب الشرَّ بلغته.

•••

وضحك وقال لي: صدِّقني فيما أقول، كله، وبلا تردد، لا تتأثر بمنظري الراهن، إن مَن يراني يؤمن بأنني وُلدت في مزبلة ولم أمارس إلا انفعالات القيء، ولكن ما فكرتك عن الحب؟

فقلتُ مباغتًا بصعوبة السؤال: الحب هو الحب، إني أصدِّق جميع ما يُقال عنه.

– وتؤمن بأنه يصنع المعجزات والعجائب؟

– أجل، لست غرًّا، ولكن حدِّثني عن حبك يا جعفر، عن نوعه، راعية غنم حافية الأقدام قد تشعل الدم.

– كان كذلك، نداء للدم، نداء صارخ دافع للحركة، مُغرٍ بالجنون والمهالك، يقتحم الأبواب والنوافذ ويرتكب الجرائم وينتحر.

فقلت بدهشة: ولكنك كنت وليًّا من أولياء الله الصالحين.

– لكي تعيش تجربتي تصوَّر أنك فقدتَ الذاكرة فجأةً، وأنك أصبحت شخصًا جديدًا.

– ولكن الفرد يتغير بالتدريج فيما أتصوَّر.

– كلا .. کلا .. إني أتغيَّرُ من النقيض إلى النقيض .. فجأةً!

– لا شك أنه يحدث في الظلام أمور كثيرة بعيدة عن وعيك.

– الإنسان يخلق المنطق، ولكنه يتجاوزه في حياته، والطبيعة يا عزيزي تستعمل الطفرة كما تستعمل التطور!

– هاتِ ما عندك يا جعفر.

فواصلَ قائلًا: وذات يوم دعاني جدي إلى مجلسه، سمح لي بالجلوس ثم سألني: كيف حال دراستك؟

أدركتُ لتوي أنه دعاني لأمر آخَر، إذ إن شيوخي كانوا يبلِّغونه عن تقدُّمي الفريد أوَّلُ فأوَّلُ، وعلى ذلك أجبتُ بأنني عند حسن ظنه فقال: ولكن الطريق طويل وهو مليء بالمتاعب.

فقلت بحماس ظاهري فحسب: المؤمن لا يخشى الطريق.

– قول حسن ولكن الفعل الحسن أهم من القول الحسن.

– هذا حق.

وتريَّث لحظات ثم قال: ثمة أمور تدعو للتأمُّل، وقد حلمتُ حلمًا، وعند اليقظة عقدتُ العزم على شيء.

– وما الحلم يا جدي؟

– لا أهمية لذلك، والأحلام تُنسى بسرعة، ولكن بقيَ ما عقدت العزم عليه.

– أهو يتعلَّق بي يا جدي؟

– أجل، وسوف يسعدك.

– حقًّا؟!

– قرَّرتُ أن أزوِّجك من بنت الحلال.

ذُهلتُ، صمتُّ، قلت لنفسي إن الرجل عالم بكل شيء، كيف غابَ عني أن جولة مسائية غريبة يقوم بها حفيد الراوي لا شك تلفت الأنظار وتثير التأويلات ثم يتطوَّع بإبلاغها إليه المتطوعون، إنه عالم بكل شيء ويحاول إنقاذ ما يُمكن إنقاذه.

– ماذا بك يا بني؟

– لم يخطر لي ذلك ببالٍ.

– فليخطر إذن.

– ولكن …

– إن الشباب يمضي بلا زواج لأسباب قهرية، وقد حباك الله بنعمته فما معنى أن تؤجِّل ما يُعتبر نصف الدين؟

– دعني أفكِّر في الموضوع بعض الوقت!

– سأختار لك عروسًا فريدة وسأترك الحكم لك!

رجعتُ إلى حجرتي هائجًا، فلم يغمض لي جفن حتى ترامى إليَّ أذان الفجر، شُحنت بقوة جبارة وأردتُ أن أنهال على الجدران فأدكها دكًّا، انطلقَ المارد متحدِّيًا، صمَّم على نيل فتاته ولو على أنقاض الحي كله لا القصر وحده؛ وناجيتُ أبي وأمي طويلًا، وثار غضبي على جدي بلا حساب، إنه لا يريد أن يكفِّر عن جريرته، وما زال غرامه عنيفًا بالتسلُّط والقهر، وفي حومة الأفكار المتضاربة نشب الحوار بيني وبين جدي، في حلمٍ أو في هذيان الليل أو بين النوم واليقظة لا أنكر.

– جدي .. إني أرفض.

– ترفض نعمتي؟

– أرفض القهر.

– ولو كان مني؟

– ولو كان!

– أنت عاقٌّ، تخون الجمال والنقاء، في سبيل ماذا؟

– الحرية!

– راعية الغنم.

– الدم والتشرُّد والهواء النقي.

– إنه الجنون الذي يخرج به الممسوسون من بيتي العتيق.

– النعيم الحق في الجنون.

– إنك ابن والديك.

– وإني أعتز بذلك إلى الأبد.

– نصفك يودُّ الانتقام مني.

– لا أريد أن أفكر فدعني أفعل.

– والجبة والقفطان؟

– سأخلعهما من توي.

– إذن كفرتَ؟

– لا أريد الدين مهنة.

– ماذا تريد أن تفعل؟

– أريد أن أمارس الحب والجنون والقتل!

أعتقد أنني عبَّرتُ بهذا الحوار عن الحال التي كنت أعانيها تعبيرًا كاملًا، وعندما أفضيت بأسراري إلى محمد شكرون ذهل تمامًا ولم يصدِّق أذنَيه، ولما وجد منى الجدَّ كلَّ الجد سألني: هل ترفض حقًّا ما عرضه جدك عليك من أجل مروانة؟

فأجبتُ بالإيجاب.

– أتترك البيت من أجل راعية الغنم؟

– نعم.

– ما معنى ذلك؟

– اعتبرني مجنونًا إذا شئتَ.

– ألا تخشى أن يحرمك ميراثك، وتجد نفسك شحاذًا؟

– هذا مُحتمَل.

– لا تستحق امرأة تضحية بهذه الجسامة.

فهززتُ منكبي استهانة فقال: أنا لا أفهمك.

– المسألة لا تتعلق بالفهم، إنها واقع.

– وما تفسيره؟ .. هل ثمة سر؟

– إنه جنون باهر وأنا مسحور به.

– صبرك، يمكن التوفيق.

– إني أحتقر التوفيق.

– يمكن أن تبقى في رعاية جدك وأن تواصل دراستك وأن تمارس حبك الجنوني.

– كلا .. كلا .. إنها أشياء متنافرة جدًّا، وقد اخترتُ.

– اخترتَ ماذا؟

– سأهجر البيت والأزهر.

– لا ضرورة لذلك.

– بل ضروري جدًّا، إنها حياة جديدة .. وإلا طُرِدتُ من الاثنين.

– عين أصابت هذا الشاب!

– لا بقاء في بيت جدي إلا لإنسان إلهي .. أما الأزهر فإنني ما وددتُ مهنته قط، والإيمان لا يحتاج إلى جميع تلك التعقيدات.

– ليتك كنت تهجر ذلك لشيء أفضل.

– المغامرة أفضل .. الجنون أفضل!

فقال بإصرار: لن أفهمك ما حييتُ.

فقلت بسخرية: رغم حماقاتك يا شكرون فإنك لم تعرف الجنون بعدُ.

– أيعني هذا أنك هجرتَ ماضيك كله بسبب الحب؟

– بل إنني بسبب الحب عرفتُ جنون المغامرة!

سلَّم محمد شكرون بالأمر الواقع، شعرتُ بأنه يؤمن حقًّا بأن المأساة لا تخلو من جنون حقيقي، واضطُرَّ إلى أن يَعِدني بالمساعدة بجس نبض مروانة وأمها، باعتبار أن العاشق يحتاج إلى سنِّيد كالمغنِّي، وبخاصة بعد أن أكدت له تحرياته أن مثل مروانة قد تُقتل ولكنها لا ترضى بعلاقة غير شرعية، ثم قال بامتعاض: وماذا عن مستقبلك؟ فحتى المغامرون الأحرار مضطرون إلى تناول لقمة؟

وأغرب شيء أنني لم أكن أوليتُ ذلك ما يستحقه من تفكير جادٍّ، وقد خطر لي للحظة أن أدرِّس لغة عربية ودينًا في مدرسة أهلية، ولكن سرعان ما نبذتُ الفكرة جانبًا لتنافرها مع جو المغامرة المسحور، وأحللتُ فكرة أخرى مكانها فقلت: أكون جوقة لإنشاد التواشيح النبوية؟!

– سيمُرُّ زمن طويل قبل أن تحيي ليلة ثم يظل نجاحك بعد ذلك موضع شك وعناء، والطريق الطبيعي أن تبدأ فردًا في جوقة، وهو ما لا يناسبك بحال!

فتفكَّرتُ مليًّا ثم قلت: أفضِّل أن أعمل في تختك أنت.

– تختي؟!

– لم لا؟ صوتي أجمل من أيِّ سنِّيد عندك.

– إنك وليُّ نعمتي ولكن …

– لا لكن من فضلك، ثم إنك تُحيي حفلات في الشهر الواحد لا تقل بحال عن ثلثه، ونجاحك مطَّرِد.

وصمت محمد شكرون، فقلتُ بحماس: ولن تفتر همتي في تكوين الجوقة الدينية الخاصة في الوقت نفسه.

– هذا ضروري واعتمد على صداقتي لسماسرة الحفلات الدينية، لا أصدق ما نتفق عليه، فإنه يبدو خيالًا، وما زلتُ مصرًّا على أنه يمكن معالجة الأمر بصورة أخرى.

فقلت بإصرار: لا رجوع إلى الوراء ولا خطوة واحدة، وسيكون لي رداءان، البدلة لتختك، والجبة والقفطان للجوقة النبوية، أليس ذلك ممتعًا؟!

ونظر نحوي في سكون الليل وسألني: لأيِّ درجة تصدِّقني؟

– لي من العمر ما يجعلني أصدِّق أي شيء.

– أريد درجة من التصديق أشد حرارة، كثيرون لم يصدقوني، تألَّمتُ لذلك وسعدتُ به، تألَّمتُ لأن العمل الفذَّ يحتاج إلى شهود، وسعدت لأن إقدامي مما يعزُّ تصديقه، أريد، ومن حقي أن أريد، أن يُعترف بي كإنسان غير عادي، إنسان لا يستطيع أي إنسان أن يهجر النعيم الذي كنتُ فيه بالبساطة التي هجرتُه بها …

– بدافع الحب وحده؟

– الحب لا يكفي؟! .. الحب هو الجنون خالقًا!

– أكانت مروانة على ذلك القدر من الجمال؟

– ولكن ما الجمال؟ .. المسألة نداء يصيب مفتاحًا كهربائيًّا.

– ألم ترغب أيضًا في حرمان جدك من وريثه الوحيد؟

– مأساة والدي لم تفارقني، ولكن انطلاقتي كانت ملائكية لا تلوِّثها رغبة خفية أو ظاهرة في الانتقام.

– ورد فعل للكبت العنيف الذي فرضته على نفسك بصفتك إنسانا إلهيًّا؟!

– أرفض هذا التفسير أيضًا، قلت لك إنها كانت انطلاقة ملائكية، مثل أغنية الفجر، قدح الحب الشرارة فكشف ضوءها عن حلم يتجسَّد ويتوثَّب لتحطيم جدار القصر والانطلاق متحدِّيًا الجاه والقيود للتمرُّغ في تراب الأم الخالدة، كما هجر بوذا قصره ذات يوم لغير ما سبب مُقنع لأحد من الناس .. ويحدث ذلك فجأة، وليس التطوُّر الذي يملأ دماغك إلا الترسيخ العملي للفجاءة المبدعة، وإليك مثالًا حيًّا حدث هذه اللحظة فجأةً، لقد قررتُ الآن ألا أكتب الالتماس.

– ماذا تعني؟

– الالتماس بتقرير إعانة شهرية لي من وقف جدي!

– أهي عودة للتفكير في قضية عقيمة؟

– لا قضية ولا التماس!

– ولكن …

– ولا لكن!

– فلنؤجل ذلك إلى حينه، واستمِرَّ الآن في حكايتك من فضلك.

وقهقهَ كعادته وقال: وذات مساء زحف محمد شكرون وهو يعرج — وأنا أتبعه — نحو العربية العجوز في مجلسها، فنحَّتْ مغزلها وقامت متوجِّسة، فقال لها: صاحبي يرغب في الزواج من كريمتك على سنة الله ورسوله!

ذهلت المرأة، هرولَتْ مروانة بعيدًا، وعاد محمد شكرون يقول: ها نحن تحت أمرك.

وتمالكت المرأة انفعالاتها وقالت: لنا قوم نرجع إليهم.

وكان لهم قريب من بعيد غير مُحدَّد القرابة فكان علينا أن نقابله.

كان يومًا عجيبًا.

كنا أول غريبَين يشقان سبيلهما في عشش الترجمان نهارًا دون أن يتعرَّضا للموت، حدَّقَت فينا أعين شريرة باستطلاع ساخرٍ وتحَدٍّ، وتوقفَتِ الحركة دقيقة، حركة تدريب القرود، وجَزِّ الأغنام ووزن المخدرات، وجلاء الأدوات المسروقة، ودقِّ الطبول.

وتجمَّعَ حولنا نفَرٌ من الغلمان، وراحوا يُحيُّون الشيخ جعفر هاتفين:

شد العمة شد
تحت العمة قرد

ومضينا إلى العجوز الجالس أمام كوخه، وأم مروانة واقفة بين يدَيه.

وتصافحنا، وكان طاعنًا في السن حتى الموت، فقالت أم مروانة نيابةً عنه: إنه يرحب بكما.

فقال العجوز يخاطبها بعد أن لكَمَها في ظهرها: لأنكِ أنتِ توافقين عليكِ اللعنة.

فقال محمد شكرون: صاحبي من أصل كريم.

فبصقَ العجوز قائلًا: طظ!

فقال محمد شكرون مُحرَجًا: وهو يعمل …

ولكن العجوز قاطعه: لا يهمنا العمل أيضًا!

فقال: أخلاقه …

فقاطعه العجوز: ولا تهمنا الأخلاق!

فقال شكرون وهو يتحلى بمزيد من الصبر: بكل إيجاز نريد كريمتكم على سنة الله ورسوله.

فضحكَ العجوز عن فمٍ خالٍ تمامًا وقال: مع ألف سلامة … تكلَّمْ عن المهر.

– تكلَّمْ أنت، فأنت كبيرنا.

فانتفخ العجوز قائلًا: عشرة جنيهات في يدي هذه.

وبسط يده، فتحرَّكت أم مروانة حركة غامضة، فقطب العجوز قائلًا: لنقرأ الفاتحة.

وانطلقَتْ من حولنا الزغاريد.

لم يعلِّق محمد شكرون بكلمةٍ احترامًا لعواطفي، وقررتُ من ناحيتي أن أواجه جدي بالحقيقة كما يجدر بشاب بلغَ رشده وأتمَّ مرحلةً لا بأس بها من تعلُّمه، فاتخذت مجلسي على مقربة من أريكته في السلاملك وكان يسبِّح في همس، وقطته الرومية تهر إلى يساره، وأعتقد أنه نشأ جوٌّ من التوقُّع والتحفز شارك كلنا فيه، أنا بما أُضمر من نوايا، وهو بفراسته التي يقرأ بها ما في الصدور، وجاءني سؤاله المألوف: كيف الحال؟

فأجبت وعقلي شارد: عال والحمد لله.

فقال بهدوء: ستُعلَن الخطوبة بعد ثلاثة أشهر عقب انقضاء رمضان!

صمَّمتُ على تجربة قوتي الجديدة بلا تردُّد، فقلت: معذرة يا جدي لقد وقع اختياري على زوجة أخرى.

فلم يبدُ عليه أي تأثُّر وتساءل: حقًّا؟

– هي إرادة الله على أيِّ حال.

– إذن هو حق ما ترامى إليَّ؟

فلم أنبس، فعاد يتساءل: راعية غنم؟!

فأجبت ببساطة: أجل يا جدي.

قال ولعلَّه تنهَّد: إنك راشد وأدرى بمصلحة نفسك.

فسألته باهتمام: هل أطمع في نيل رضاك؟

فمضى يسبِّح في هدوء، فسألته: هل يعني ذلك أنه عليَّ أن أغادر البيت؟

فلم يلتفت نحوي: إلى الأبد.

قمت فتناولتُ يده فلثمتها وذهبت.

وكان وداع بهجة أليمًا ودامعًا، وقد اقترحَتْ أن تطلب لي نقودًا ولكني صارحتها بأن لي من المدخرات ما يجاوز المائة جنيه، وجعلَتْ تبكي وهي تقول: الأحزان تبدأ في هذا البيت مع الزواج.

وهمسَتْ في أذني: صدِّقني .. جدك تعيس الحظ .. إنه لا ينام من الليل إلا ساعة.

فقلت لها صادقًا: إني أحبه وأرفضه!

وغادرتُ البيت الذي عشتُ فيه أربعة عشر عامًا طاهرة.

وذهبت مع عروسي إلى شقة جديدة بالخرنفش، اكتراها لي محمد شكرون، وساعدني على تجهيزها، مكوَّنة من حجرتَين وصالة، وبدَتْ مروانة في ثوبها الجديد آية من الجمال والإثارة، ولعلِّي كنتُ أرى لونها الطبيعي لأول مرة بعد أن خلقها حمام العرس خلقًا جديدًا، ولا أقول إني سعدت بذلك، وأعترف بأن اللون النحاسي الغامق القديم كان أصبح جزءًا لا يتجزأ من الصورة التي زلزلت أركان حياتي، على أن نداءها ظلَّ مستبدًا طاغيًا، وسيطرَ عليَّ سيطرة كاملة حتى اعتبرتُ نفسي أسيرًا في يد قوة لا تعرف الرحمة ولا الهوادة، ومن ناحيتها كانت فاتنة بفطرتها كلسان من اللهب، ومعتزة بنفسها وبقومها، تكاد تسبغ قداسة على التراب الذي منه جاءت کوردة برية، حتى حياءها الأنثوي كان غشاء شفافًا، لا ضعفًا متأصِّلًا أو رخاوة طبيعية، ومنذ اللحظة الأولى شعرت بأنني حيال أنثى قوية، لا عمر لها، تتدفق منها الفتنة والسحر والتحدي، وأنني أستسلم في رحابها كاشفًا عن ضعفي بقوة وعنف؟ وأنني أجرى كمطارد أو مجنون فاقد الوعي والحذر، واشتُهر أمري بين صحبي الجُدد فأطلقوا عليَّ «الرجل السعيد» و«الرجل الضعيف السعيد» وانهالت عليَّ التحذيرات والوصفات معًا.

ولم يُنسني شهر العسل عملي الجديد، فنشطت له بهمة عالية، ووجدتني هيابًا بعض الشيء وأنا أدسُّ نفسي في بيئة جديدة، وأناس جدُّهم في الحياة لهو ولعب، وكانوا يستقبلونني هاتفين: أهلًا بحفيد الراوي!

وهو نداء له مغزاه، تبعني كظلي في كل مكان أختلف اليه، تردَّد في الخرنفش، في تخت محمد شكرون، في الجوقة التي تم الاتفاق على أن تعمل معي حين الحاجة، وأخذتُ أحفظ وأتدرَّب بسرعة استعدادًا للتخت والجوقة معًا، وفي شهر العسل نفسه اشتركتُ مع التخت في إحياء حفل زفاف بالدرب الأحمر، ارتديتُ البدلة لأول مرة والطربوش حتى صاح محمد شكرون: تبارك الخلاق فيما خلق!

وارتبكتُ وأنا أخوض أمواج المدعوِّين والمتفرِّجين، وكنت أحد اثنين في التخت لا يستعملان إلا حنجرتهما ويجلسان خاليي اليد من أي آلة، وقدَّم لي محمد شكرون قدح نبيذ قائلًا: إنه ضروري جدًّا وإلا انحبس صوتك.

في أسبوع واحد عرفتُ النبيذ والمنزول، وردَّدتُ الغناء بقوة وانضباط، وكنتُ الصوت الثاني في التخت ولا جدال، وقد نفخت في السنِّيدة روحًا جديدة هزَّت التخت بالجلجلة والطرب وهو يقدم:

يا ما انت واحشني وروحي فيك.

ولقينا استحسانًا كبيرًا، وضمن الاستحسان أصابَتْني غمزة من سكران فصاح: «يخلق من ظهر العالم فاسد»، وضجَّ المكان بالضحك حتى مال محمد شكرون نحوي وهمس: اضحك مع الضاحكين.

وقد فكَّرتُ فيما قال الرجل فيما بعدُ طويلًا، الناس يتصوَّرون أنني كنت شيخًا طيبًّا ثم فسدتُ فانقلبتُ سنِّيدًا في تخت أغني وأتعاطى النبيذ والمنزول، كلا، ليس الأمر كذلك، لقد غيرتُ مهنتي هذا كلُّ ما هنالك، استبدلت بمهنة التدريس أو الوعظ مهنة أخرى هي الغناء، أما روحي فقد ارتفعت درجات وقلبي لم يفسد ولم يتزعزع إيماني، وجدي نفسه هو القائل إن الزبال نفسه يستطيع أن يكون إنسانًا إلهيًّا، ولعلي كنت محمولًا بتيار عواطفي الصاخب في ذلك الحين، فلم أدرك أبعاد تجربتي كما أدركتها فيما بعدُ، أو كما أُدركها اليوم، ولكنني رغم ذلك ثُرتُ على قول السكران واعتدتها دعابة عربيدة وظالمة، على أيِّ حال بدأتُ عملي الجديد بثقة ونجاح ولكن كان عليَّ أن أنتظر وقتًا ليس بالقصير لكي أنشد التواشيح النبوية كصاحب جوقة له وزنه، أما سعادتي فقد غطَّت على النجاح وعلى كلِّ شيء، سعادتي الزوجية، وكنت بها فخورًا، أنوه بأسرارها في كافة المناسبات، وبفضائل الحياة الزوجية ومزاياها الطيبة، حتى ضُرب بي المثل، وفي غمرة السعادة لم أنظر إلى الحياة في بيتي الصغير بعين ناقدة ولا حتى محايدة، واستقبلت أولى آيات الأمومة بما يشبه الوجد الديني.

حقًّا كانت توجد لحظات خائنة حتى في أيام السعادة الخالصة …

ولكن ما هي اللحظات الخائنة؟

هي اللحظة التي تنفصل فيها عن تيار حياتك، فتقف على ربوة فوق الشاطئ لتراقبه بدهشة.

في تلك اللحظة كنت أشعر بأن ثمة شخصًا قد ضحك عليَّ، قد جرَّعني مقلبًا.

وأسأل نفسي عما حدث.

أو أنظر إلى مروانة بذهول وأجد رغبة طارئة للانتقام منها.

ما معنى ذلك؟

كأنني أمقتها فجأةً وبلا مقدِّمات.

ولكنها لم تكن إلا لحظة عابرة، كتقلُّص عضلة طارئ، ثم يعود التيار إلى مجراه السعيد المبلَّل بأنفاس العشق المستعر.

وأعجب لطاقتي في معاشرة الفوضى، فأنا لا أتذمَّر على حين مروانة لا تُحسن تنظيف الشقة، ولا طهي الطعام، وتمضي حافيةً، نصف عارية منتفشة الشعر، تتحدى الخيال، وتناقر الهواء، وتسحبني من يدي لزيارة أمها وقريبها العجوز في معسكر الشياطين ليضحك المخرِّف ويقول لي: ألم يكن الأفضل أن تعمل إمامًا لجامع؟

أو يبارك بطن زوجتي قائلًا للجنين: شرفنا وكن قاتلًا، فقد ضقنا باللصوص والمهرِّبين!

ويسخر من أصلى الكريم قائلًا: مَن جدك الراوي؟ .. أنا جدك الحقيقي، واهِبُك هذه المرأة الجميلة التي تمتص قذائف غرائزك الشريرة.

فأقول له: جدي من رجال الله.

فيُقهقه قائلًا: نحن رجال الله حقًّا، الله المنتقم الجبار خالق الجحيم والزلازل، انظر إلى هؤلاء (مشيرًا إلى معسكر المتشرِّدين) إنهم رجال الله، صورة منه في جبروته وانتقامه.

والتقيت في تلك الأيام بجارة أمي في بين السورين، عرفتُها ولم تعرفني، اعترضتُ طريقها وقدمتُ لها نفسي، ذهلَتْ ودعَتْ لي طويلًا، وتذكرت أنني لم أكن أعرف اسم أمي كما أن بهجة لم تكن تعرفه، كنت أناديها «أم» فتجيب، حتى أعجزها الموت عن الإجابة، وسألتُ الجارة عن اسمها فقالت: ليرحمها الله .. كان اسمها سكينة!

وشعرت بإغراء في طرح المزيد من الأسئلة عن أصلها وتاريخها ولكنني أخمدته، ربما احترامًا للذكرى، وشددتُ على يدها ومضيتُ في سبيلي، هكذا عرفتُ اسم أمي مصادفة.

وسوف أنجب من الذكور أربعة، وسوف تمضي الحياة بعد انطفاء شعلتها، وسوف تجيء أيام الجفاف والجفاء والوحشية.

طالما سرَّني أن يُقال هذا الفتى الذي هجرَ قصر النعيم ينشد الحب والحرية.

وطالما استعذبتُ موقف مروانة المحب من الطقاطيق التي أحفظها لتخت محمد شكرون، بقدر ما رحمتُ موقفها الكاره من القصائد والتواشيح التي أُعدُّها لجوقتي الخاصة.

وطيلة الوقت كنت أقاوم الفقر بالعمل والنبيذ والمنزول، وشعرتُ بأن المعركة تستغرقني من الفجر حتى الفجر.

وتأوَّهتُ قائلًا: أي عبودية!

وجاءت أيام الجفاف والجفاء والوحشية.

ها هي مروانة قوية متحدية سليطة اللسان طويلة اليد كأنما خُلقت لتقاتل.

وقلتُ لها مرة: للرجل احترامه.

فقالت لي: وللمرأة احترامها.

ثم قالت بوحشية: لا يوجد رجال خارج عشش الترجمان.

فقلت محزونًا: أهذا جزاء مَن أعدَّ لكِ البيت والأثاث؟

فصاحت بي: إني أكره رائحة البيوت!

وأوغلنا السير في أيام الجفاف والجفاء والوحشية.

وتابعني محمد شكرون بأسى، وقال: إني أخاف الحب الجنوني وأفضِّل الاعتدال.

فقلتُ بحزن لم يدرك مداه: إني ضحية الشهوة العمياء.

– الحياة الزوجية تمُرُّ بحالات مَرَضية حتمية، تحتاج إلى حكمة الأطباء.

فقلت بامتعاض: لقد دخلت منطقة اليأس!

ذلك أنني وجدت أن الشركة تتحول إلى معركة، مُضمَرة حينًا ومُعلَنة حينًا، وأن مروانة إذا تجرَّدَت من رمز الإثارة الجنونية فإنما تتمخض عن لا شيء البتة، أو تتمخض عن ذئبة.

وهي إذا غضبت حطَّمَت ما بين يدَيها، مزَّقَت ملابسي، طوَّحَت بكراسة الأغاني والتواشيح من النافذة، التحمَتْ معي في عراك، وأصيحُ بها: إنكِ أبغض إليَّ من الموت.

فتصيح بي: إنك أبغض من القيح.

وقد تمتدُّ فترات البغضاء، وقد تتسلَّل إليها الهدنة بفضل الأولاد غالبًا، وعند ذاك قد تشتعل انفعالات الرغبة من جديد، اشتعالات خاطفة، تُعيد ذكرى الأحلام من بعيد، أجل من بعيد.

•••

وسألته باهتمام: ولكن ماذا أفسد حياتك الزوجية؟

– ألم أوضِّح ذلك في سياق الحكاية؟

– كلا فيما أعتقد، ما زلتَ في حاجة إلى تحديد أسباب واضحة.

– إن الذي ربطني بها حال جنونية، فلما زالَتْ وجدتُني مع امرأة لا أعرفها ولا أجد مبررًا لبقائها معي، ولا شكَّ أن سلوكي العام نمَّ عن مشاعري الدفينة، فأثارها من ناحية أخرى.

فقلت: تزول حال الجنون ولكن يبقى الأولاد!

– الأولاد أطالوا عمر زواجي، ولكنهم لم يؤمِّنوه ضد الخواء، مروانة مجرَّد إثارة، ليست امرأة، لا هي ربة بيت ولا هي أم ولا هي سيدة بالمعنى، وصفاتها الجوهرية خليقة بأن تخلق منها رجلًا، بل قاطع طريق.

– وهي ألم تحبك؟

– لا أظن، ربما فَوْرة جنونية عابرة، أو مغامرة استطلاعية، لم أكن أمثِّل الرجل الذي يمكن أن تحلم به، لقد جمع زواجنا بين مغامرَين، وكان عليه أن يموت بمجرد أن تتحول المغامرة إلى روتين … أظن الأمر واضحًا؟

– أجل، شكرًا.

– وكان لي أحلامي الخفية، كنت أحلم بالهروب من الواقع، من البيت، أحلم بالتوحُّد فحتى أولادي كانوا يختفون من رؤيا الحلم، ولكن إلى أين؟ وكان عملي لا يترك لي مجالًا للنظر إلى فوق، فأوساط المنشدين لا قمة لهم يتطلعون إليها، إلى ذلك فالله لم يهبني القناعة والرضى بالمقسوم.

والأهم من ذلك أنني لم أكن أحلم وحدي، أجل كانت مروانة تحلم أيضًا، وتمسكَّت بالغضب عقب مشاجرة، وسُدت الأبواب في وجه الصلح، وتحدَّتْني بنظرة باردة وهي تقول: يجب أن نعيد النظر في حياتنا.

ولمست في نبرتها تصميمًا حيًّا، فانقبض صدري وتمتمت: حياتنا؟

– أقول لك صراحة إنه من الظلم أن نكلف هذا البيت بأن يجمعنا أكثر من ذلك.

فتابعت أصوات الأولاد، المتلاحمة بإشفاق وقلت: كل الأزواج يفعلون ذلك.

فقالت بهدوء مخيف: ولكني أريد أن أذهب.

فسألتها ببلاهة: إلى أين؟

– إلى أهلي!

تماسكت رغم حنقي وتساءلت: ألا تعجبك الحياة في هذا البيت؟

فأجابت بقوة: كلا، أنت تتوهم أنك صاحب فضل، هذا هو نقصك!

– أظنني ضحيتُ بالكثير.

– إني أولى الضحايا!

– اسمعي …

ولكني أمسكتُ تجنُّبًا للشجار فصاحت: لقد كرهتُ هذه الحياة حتى الموت!

فنفختُ قائلًا: الأولاد .. الأولاد.

– من حقي أن آخذهم معي.

– لكي ينشئوا في عشش الترجمان؟

– لكي ينشئوا رجالًا!

– إنك لمجنونة!

– أنت المجنون وأقسم على ذلك، لا عاقل يعيش من حنجرته كالنساء!

– لا أمل يُرجى من مناقشتك!

– دعني أذهب.

– ولكن عليكِ أن تتركي لي الأولاد.

– ماذا تفعل بهم؟ إنك تستيقظ من نومك قبيل العصر، ولا ترجع إلى بيتك إلا مع الفجر أو بعده، وعلى حالٍ لا يعلم بها إلا الله، فكيف يعيشون؟ هل تعني حقًّا ما تقول؟

فشعرت بالقهر وقلت: لذلك يجب أن يبقى هذا البيت من أجلهم.

– إني أرفض ذلك …

ولم ينتهِ الحوار بحسم الموضوع.

فكرتُ بالأولاد طويلًا، أيقنتُ أنه لا حياة لهم معي، وأن عليَّ أن أتحلى بالصبر من أجلهم مهما كلفني ذلك، غير أن مروانة حسمَتِ الأمر بطريقتها الخاصة، فرجعتُ عند فجر يومٍ لأجد البيت خاليًا لا يتردَّد فيه نفس، وذهبتُ من توي إلى عشش الترجمان، فبلغتها مع الصباح الباكر.

وجاءتني أم مروانة بوجه متجهِّم وقالت لي: اذهب بسلام وافعل ما يفعله الرجال ولو مرة!

قلت لها: الأولاد.

قالت بازدراء: إنهم أولادنا!

وجاء العجوز في ثلة من الرجال المفترسين وقال: أنت رجل خائب، فارجع إلى بيتك.

وهمهم الرجال بألفاظ مبهمة فلم يغَبْ عني الخطر المحدِّق بي، وعاد العجوز يقول: طلِّق، أعطها حقها كاملًا، وإذا كان الشرع يعطيك حقوقًا الآن أو مستقبلًا فإني أنصحك بأن تنزل عنها صونًا لحياتك، ارجع قبل أن تطلع الشمس على وجهك، فقد أُقدِمُ على شر كبير إذا رأيتك في ضوء الشمس.

وذهبت من توِّي لأطلِّق …

وأجَّلتُ التفكير في المشكلة لحين بلوغ البكري السنَّ التي أستحقه فيها، تأجيل أو هروب إذا شئت، كنتُ على يقين من أنني لن أطالب بأولادي بجدية حقة، معنى ذلك من ناحيةٍ أن أخاصم قومًا يتخرَّج في معسكرهم عتاة مجرمي القاهرة، ومعناه من ناحية أخرى أن أعيدهم إلى حياةٍ لا أملَ لأيِّ قَدْر من الرعاية فيها، فهؤلاء الأولاد، من حفدة الراوي قد كُتب عليهم الضياع حيثما كانوا، ولن تُكتب لهم النجاة إلا إذا كُتبت للمجتمع كله، وبصورة حاسمة، هكذا ذهبَتْ مروانة طاوية معها قصة الحب والجنون والخيبة، وقصة الجفاف والبغض، لم يبقَ منها إلا ذكرى الشهوة المذهلة، والقوة المتحدية، والعجرفة الصلبة، وهي مثل العاصفة مخيفة وضارة ومثيرة للإعجاب، وبضياع الأولاد تسلَّلَ الأسى إلى أعماق نفسي ليقيم في حجرة الأحزان ملتحمة بذكريات أمي وأبي.

ولم يكن ممكنًا أن أواصل الحياة بهوادة كأن لم يقع شيء.

وكان محمد شكرون يتابعني بحذر وإشفاق، فسألني ذات يوم: حتى متى تمضي في ترديد الأغاني وتعاطي النبيذ والمنزول؟

مع وجود مروانة والأولاد كان ثمة حياة متكاملة أيًّا تكن، أما الآن فالسؤال يبدو معقولًا، وقلتُ له وأنا لا أعني ما أقول: حتى الموت!

فقال جادًّا غاية الجد: آنَ لك أن ترجع إلى جدك.

قلت: لقد انتهى الشيخ جعفر الراوي.

– يمكن أن يبدأ من جديد، علينا أن نحاول.

– إني أرفض المحاولة.

– عن كبرياء؟

– بل عن تسليم بالواقع الحي.

– أي واقع يا رجل؟

– إنه لا يرضيني، ولكني رفضت المهنة الدينية رفضًا لا رجوع فيه، الحياة التي رسمها جدي لي مرفوضة تمامًا، وهو لن يقبلني — إذا قبلني — إلا بشرط الرجوع إليها.

– لعله يمنحك حريتك الشخصية؟

– كلا، إنك لا تعرفه كما أعرفه، وإني أرفض أن أعرض نفسي لتجربة ذليلة.

فقال بإخلاص لا يداخلني فيه شك: إنك صديق عزيز، ومن واجبي أن أصارحك بأنك تمارس حياة لا تليق بك، فلا أنت مطرب ولا أنت ملحِّن، ويجب أن تفكر في مستقبلك بجدية أكثر.

– هذا مُمكِن بعيدًا عن جدي!

– أراك غير سعيد الآن.

– ربما، ولكنني قمت بمغامرة جنونية سأظل فخورًا بها ما حييت، وإني فخور أيضًا بأنني أتكيَّفُ مع أي مستوى للحياة دون تذمُّر أو ضعف، تجدني طافحًا بالبشر والقوة سواء عشت حياة الأعيان أو حياة الصعاليك، وها أنا أتمسك بالصعلكة وأرفض محاولة الرجوع إلى حياة القصر، أرفض أن أكون شيخًا محترمًا وزوجًا نبيلًا وممارسًا للطقوس والتقاليد الرفيعة، لا لأنني أختار ذلك بإرادتي الحرة ولكن احترامًا لرؤيا جدي وطمعًا في تركته.

– وماذا عن مستقبلك؟

– سأفكِّر جديًّا في دراسة الموسيقى والتلحين عند الشيخ طاهر البندقي، إذ لا يمكن أن تمضي الحياة بلا طموح.

كانت مروانة رمزًا للحياة الماضية، كما كانت العُذر الثابت لتقبل حياة عادية بلا طموح، فلما ذهبَتْ وجدتُ نفسي عاريًا.

وكان عليَّ أن أعيد النظر في حياتي!

وفي تلك الفترة القلقة من الحياة عرفتُ هُدى صديق.

٦

كان محمد شكرون يُحيي حفلًا في حديقة لبتون، وفي الاستراحة دُعي مع أفراد تخته إلى مقابلة هدى هانم صديق في بنوارها، وكانت تنتظرنا وعلى شفتَيها ابتسامة مليئة بالثقة، وعلى مقربة منها تجلس سيدة شديدة السمرة بدا من تأدُّبها أنها وصيفة.

راعني أول ما راعني بهاء منظرها، وأناقتها المحتشمة، واعتزازها بنفسها الذي لا يجاوز حدود الأدب، وهالة من الجاذبية الرصينة، أما جمالها الأنثوي فيتركَّز في عينَيها السوداوين واستدارة وجهها، وكانت على وجه اليقين في الحلقة الرابعة.

ترك منظرها في نفسي أجمل الأثر، ووقفتُ بين الزملاء الكهول مزهوًّا ببدلة جديدة وبصحة وشباب وقامة فارعة.

دعتنا للجلوس وأمرت لنا بالمرطبات، وقالت موجِّهة الخطاب لمحمد شكرون: صوتك عذب، وتختك ممتاز، إني من أسرة تعشق الأصوات الجميلة.

فلهج محمد شكرون بالشكر، ونوَّه بذكرى المغفور له والدها الذي يحتفظ له أهل الفن بأجمل الذكريات، قال: طالما سمعتُ أستاذي الشيخ طاهر البندقي يقول عن قصره إنه كان مَعْقل الموسيقى الشرقية.

فابتسمَت الهانم في رضى، والتقَتْ عينانا أكثر من مرة، فقال محمد شكرون مشيرًا إليَّ في مباهاة: زميلي جعفر حفيد سيد الراوي.

فتساءلَتْ باهتمام: حقًّا؟!

– إنه يهيم معنا حبًّا في الفن.

– جميل، ولكن هل يرضى الراوي الكبير عن ذلك؟

فأجبتُ: ندر أن يرضى جدٌّ عن حفيد!

ونظرَت السيدة نحو محمد شكرون قائلة: سوف نتقابل عما قريب.

انصرفنا سعداء، وفسَّرَ لي محمد شكرون قولها قائلًا: هذا يعني أننا سنُدعى قريبًا لإحياء حفل في بيتها.

وقال لي باهتمام: إنها من آل صديق، كريمة الرجل العظيم، أرملة واسعة الثراء والثقافة.

وصمت قليلًا ليزن كلامه ثم قال: أعتقد أنها مالت إليك.

انبعث في نفسي طرب، وسألته: ألك خبرة بتأويل نظرات النساء؟

– أجل لمحتها أكثر من مرة في أثناء الغناء وهي تنظر نحوك حتى قبل أن تعرف نسبك.

– ليصدق حدسك يا صديقي.

فقال محذِّرًا: ولكنها سيدة محترمة.

فقلت محتجًّا: يا للأسف!

وفكَّرت بها مليًّا، إنها شيء نفيس بلا شك، ولا يقلِّل من قيمتها أنها تكبرني على الأقل بعشر سنوات، بل زادها ذلك ملاحة في نظري، أما الجنون الذي اجتاحني ذات يوم، فيبدو أنه لا يتكرر.

وقال لي محمد شكرون: يا لها من فرصة!

– ماذا تقصد؟

– امرأة ممتازة كالقشدة.

– هَبْني لم أحبها؟

– أهذا ممكن؟ ألم تشم رائحتها المسكرة؟

فضحكتُ عاليًا، وكان محمد شكرون قد أحبَّ راقصة وتزوَّج منها ووُفِّق في حياته الزوجية غاية التوفيق.

•••

وذهبنا إلى بيت آل صديق بالحلمية احتفالًا بختان طفل، ذكَّرني السلاملك والحديقة بقصر جدي، ولكن الحديقة كانت أصغر، كما أن سور البيت كان قصيرًا لا يحجبه عن العالمين، وأُقيم لنا سرادق مكشوف في الحديقة التي عبقت بشذا زهر البرتقال، مما يدلُّ على أن الوقت كان ربيعًا.

وغنَّى محمد شكرون بانبساط حقیقي، وردَّدنا الغناء بحماس غير عادي، وارتفع صوتي وأنا أردِّد:

كان قلبي عليك عليك قلبي.

وعقب الوصلة الثانية اندلع النبيذ في رأسي وتسلطن المنزول فجلستُ تحت شجرة برتقال في إعياء.

وجاءت هدى هانم صديق تتفقَّد أحوالنا وتُجاملنا، فقمت لها وأنا أكاد أترنَّح، فتمتمَتْ: أنتَ في حال!

فقلتُ ممتنًّا: هذا ما يفعله بي السرور.

وأمرَتْ لي بقدح ليمون بالصودا، ثم قالت: تعجبني روح المغامرة!

فأدركت أنها تشير إلى صعلكتي في تخت محمد شكرون، فقلت: إني أقرِّر مصيري بإرادتي الحرة.

فابتسمتْ قائلة: المغامرة الحقة في رأس الإنسان!

– ماذا تعنين يا سيدتي؟

فتجاهلَت السؤال وقالت: ترامت إليَّ أنباء مثيرة عن خلافك مع جدك.

فقلت باستسلام: ها هي شهرة ضلالي تذيع بين الصفوة.

فابتسمت ابتسامة جذابة وذهبَتْ.

وشعرتُ بأن باب حياة جديدة ينفتح لي رويدًا.

وعقب السهرة مضى بي محمد شكرون إلى مقهى باب الخلق، قال لي بجدية: علينا أن نتدبر أمرنا.

فتساءلت متخابثًا: أي أمر أيها البلبل؟

– لا تتغابَ، عرفت من وصيفتها أنهم عرفوا عنك كل شيء.

– كل شيء!

– السؤال له مغزاه الكبير.

– والجواب له عواقبه الوخيمة!

– رغم كل شيء …

وحدَّقَ فيَّ باهتمام ثم واصل: رغم كل شيء فأنت مدعوٌّ إلى لقاء في حديقة لبتون، إني مُكلَّف بإبلاغك.

فذهلت وتمتمت: هذا يفوق تصوُّري!

– ولكنه الواقع دون زيادة.

– أجل.

– علينا أن نتفق على خطة.

– ولكنك لم تسألني عن عواطفي؟

– لا أظنها عدائية!

– طبعًا.

– يكفي هذا، وفي اعتقادي أن الهانم وقعَتْ كما وقعتَ أنت ذات يوم.

– لا تبالغ.

– خبِّرني، ألا يُسعدك أن تتزوَّج منها؟

– أنت تتخيل أنها تفكِّر في الزواج؟

– إنها ترفض العلاقات غير المشروعة.

– تتزوج من صعلوك؟!

– إني أعرف قصة أمير هجر قصره ليتزوج من صعلوكة.

فضحكتُ، فسألني: ماذا عن قلبك؟

– إني معجَب بها، بشخصيتها وجمالها، لا شك أن الارتباط بها يسعدني.

– هذا هو الحب، أو هو نوع من الحب، أو هو استعداد طيب للحب.

– ليكن.

– إذن، فعليك أن تبدأ احترامًا لكرامتها.

– مزيدًا من الشرح من فضلك.

– لقد بدأت هي خطوات ثابتة، وها هي تدعوك للقاء، فهل تذهب لتنتظر كالبنت أن تفاتحك هي بحبها؟ .. كلا .. يجب أن تكون أنت البادئ، احترامًا لكرامتها كما قلتُ.

– أترى ذلك؟

– المسألة ذوق أولًا وأخيرًا، لا تنسَ التضحيات المتوقَّعة من ناحيتها، حقًّا إنها سيدة نفسها، وأغنى الأسرة، ولكن حتمًا ستتمزق أواصر قُربى وعلاقات أسرية بسبب الزواج، لا شك في ذلك .. وإنها لشجاعة لأنها ستصمد في وجه ذلك كله.

– لولا أنني مررت بتجربة مشابهة لما صدقتُ الواقع.

– بلى، ولكنك مررتَ بنفس التجربة، ولا تنسَ أنها تريدك وأنت مقطوع السبب بالراوي، والزوج السابق لمروانة وأبو أربعة أبناء بعشش الترجمان، إنه المستحيل عندما يصير مُمكِنًا.

وفكَّرتُ في الأمر من شتى جوانبه بعد أن وجدتُ من عقلي وقلبي اقتناعًا به، فقلت: إذا وقع هذا الزواج المذهل فسأجد نفسي مضطرًّا إلى التخلي عن العمل في التخت؟

– هذا واجب لا شك فيه.

– ولكن كيف أرضى بألا يكون لي عمل إلا زوج الهانم؟!

فقال بثقة: سيكون لك عمل، لا أدرى الآن ماذا يكون، ولكن توجد أعمال كثيرة تحتاج إلى رأس المال والمجهود البشري، وأنت تملك هذا المجهود؟

ثم وكأنه يشجعني: هاك مغامرة جديدة أيها المغامر الأعظم.

فقلت بفتور: المغامرة الحقة استجابة لنداء مجنون، أما هذه الخطوة فتتحقَّق في رحاب الروية، وتحسب بالتفكير والمنطق، أنتقل بها من حال إلى حال.

– إلى حال أفضل!

ليكن، إني أجري كالعادة وراء الجديد المثير، معي قدرتي العجيبة على التكيُّف والاستهانة بالصعاب، ألستُ أعيش وكأنني نسيتُ أبنائي الأربعة رغم أن جرح القلب لا يريد أن يندمل؟!

وذهبت إلى لقاء هدى في الموعد المضروب بحديقة لبتون.

أقبلتُ عليها بشجاعة وثبات وثقة بالنفس، فذابت الفوارق وتمَّ لقاء بين رجل وامرأة.

جلسنا حول منضدة تحت سقيفة، على حين جلست «أم حسين» الوصيفة غير قريب، ورغم عظمتها الذاتية اعتراها شيء من الارتباك، فقالت: أرجو ألا أكون أزعجتك بدعوتي؟

فقلت بثقة: كوني على يقين من أنها جاءت مُحقِّقة لأحلامي.

فتساءلت برقة أنثوية: حقًّا؟

– كنت أتمناها، ولا أدري كيف أحقِّقها.

– حقًّا؟ .. ولكن .. ولكن لماذا؟

– هذا حديث يطول، ولكن يحسن بي أن أقنع بالاستماع.

فقالت بلهفة: لا أهمية لذلك، لماذا كنت تتمناها؟

فقلت بصوت دافئ: كما يجدر برجل أحبَّكِ من كل قلبه.

فأسبلَتْ جفنَيها موردة الخدَّين، والتفَّتْ بالصمت في جو من القبول والرضى والسعادة.

– أجل من كل قلبي.

تذكرت الموقف فيما بعد فلم أجد فيه ما يستحق الخجل، كان عقلي وقلبي مقتنعين بها، كنت مُرحِّبًا تمامًا بالارتباط بها، وبلا أدنى طمع في مالها، ومن ناحية أخرى فإن حبها لي — وهو مؤكَّد — يقتضي ذلك الاعتراف من ناحيتي تحية لكرامتها، فضلًا عن ذلك كله، فإنني لم أكذب أو لم أكذب بالقدر الذي يجعلني كذابًا.

وناقشنا مستقبلنا بكل صراحة، قلت: لن يتصل ما انقطع من علاقة مع جدي.

وقلت أيضًا: قد لا يحرمني ميراثي كله.

ثم قلت بوضوح: سأكون تعيسًا لو عشت بلا عمل.

فقالت بهدوء باسم: هذه الهموم لا تخلق عقبة حقيقية في طريق الحب، أما جدك والميراث فلا يهمني، وأما العمل فإني أعلم أن الرجل لا يعيش بلا عمل.

ثم وهي تضحك: ولكن هل تعتبر عملك في التخت عملًا حقيقيًّا؟

– كان حركة في مغامرة أكبر، هذا كل ما هنالك.

– أوافقكَ كلَّ الموافقة.

ولقد فكرت في حبنا طويلًا.

من ناحيتي صادفت سيدة جميلة، كريمة الأصل، مثقَّفة، عاقلة رصينة، واعدة بمعاشرة سعيدة، فمِلتُ إليها كما ينبغي لي، وأحببت فكرة الارتباط بها.

أما من ناحيتها فكيف يمكن تبرير هذا الحب؟ إني ضائع، طريد، شبه عاطل، شبه جاهل، لا مستقبل لي، فكيف يمكن تبرير هذا الحب؟

لكنها كانت هي في الواقع التي تحب حبًّا حقيقيًّا، حبًّا بلا مبرِّر، فوق التبريرات والأفكار، ولعل هذا الحب لا يخلو من رغبة في انتشالي من الضياع وإعادة خلقي من جديد، فكما توجد في الحب سادية وماسوشية، توجد كذلك أحيانًا أمومة ورغبة حميمة في الإنقاذ.

هذه أفكار عن الحب الذي ربطني بهدي، فانتهى بعقد قراننا بعد أن مزَّقَ أواصر أسرتها.

لم أكن وقتذاك أفهمه بهذا الوضوح الذي يتبدَّى لي به اليوم، أما في حينه فقد فسرتُه التفسير الذي يُرضي شبابي وغروري، ويعوضني عن الإهانة التي لحقَتْني من جرَّاء هجر مروانة لي.

وودعتُ محمد شكرون وزملائي من أفراد التخت، كما ودعتُ أفراد فرقتي الدينية، وكانوا متطوعين يعملون مع أكثر من منشد ثانوي تبعًا لظروف العمل، ودُعي الجميع إلى حفل زفافي الذي أحياه محمد شكرون، وانبسطنا غاية الانبساط وكأننا نودِّع عهد النزق ونصفيه.

وقلت لمحمد شكرون: لن يفرِّق بيننا شيء.

فاغرورقت عيناه وهو يقول: معاذ الله يا أعز الناس.

وتم الاحتفال في بيت الحلمية — بيت هدى — فلم يشهده من أسرتها أحد، واقتصر على الجارات، وأمل محمد شكرون أن يعلن جدي رضاه على نحو ما، خطاب أو هدية أو طاقة ورد، ولكن لم نلقَ من ناحيته إلا الصمت.

وكان محمد شكرون قد زاره لمناسبة عيد الهجرة، وقال له وهو يقبِّل يده: فُرِض عليَّ أن أنهي إلى فضيلتكم أنباء حسنة عن جعفر.

فتجاهل جدي قوله تمامًا، فقال محمد شكرون: إنه يبدأ حياة جديدة مع سليلة الشرف هدى هانم صديق.

ولكنه واصل تجاهله وفتح موضوعًا جديدًا لا صلة له بي.

غير أن محمد شكرون قال لي: لقد لمستُ رغم ذلك تأثُّره، مثل: تقبُّض يده على المسبحة عندما جاء ذكرك، وعندما ترزق بمولود فاذهب به إليه ليباركه.

ولكنني لم أكن أهتم برضى جدي.

ولم أكن أخلو من انفعالات حنق عليه.

استقبلتُ شهر العسل الثاني في حياتي، الأيام الهنيئة التي تمضي في رحاب العاطفة الخالصة والحب المتكامل، ينعم فيها الزوجان بعطلة سعيدة قبل أن يرجعا إلى الحياة ليتغلغلا في أعماقها أكثر.

وجدتني على رغمي أقارن بين مروانة وهدى.

امرأتان مختلفتان جدًّا، مروانة عبقرية في لعبة الجسد، ترجع الرجل إلى عهد الفطرة، أما هدى فترجع الجسد إلى مستوى القلب، ورغم أنني لم أحترق، إلا أنني شعرت بطمأنينة ورسوخ ودوام، ورغم مشاعري الفياضة وحناني المتدفِّق، فقد افتقدتُ جحيم مروانة الأبدي.

وفي توقيت رائع قالت لي هدي: أودُّ ألا تبقى يومًا أكثر بلا عمل.

فقبَّلْتها امتنانًا، فقالت بحذر: وحتى إدارة أملاكي لا تُعتبر عملًا مُقنِعًا ولا هي ترضي طموحي.

فتساءلتُ برقة: إذن لكِ طموح؟

– ألا تحب أن تكمل دراستك الأزهرية؟

– كلا.

– لماذا وجَّهكَ جدك تلك الوجهة؟

– إنه ذو تفكير خاص وسوف أحدِّثك يومًا عن رأيه في الإنسان الإلهي.

– سأصارحكَ بما أفكِّر فيه، يجب أن تدرس في بيتك.

– دراسة نظامية؟

– نعم، حتى البكالوريا، ثم تتخصَّص في دراسة عليا، مثل الحقوق مثلًا، وتعمل محاميًا ذات يوم!

– يلزمني عشر سنوات.

– لم لا؟ التعلُّم في ذاته عمل، وأنت في الخامسة والعشرين، وستجد فيها ميزة لاستيعاب الدراسة.

ففرحتُ بالفكرة وقلت: إني أحب التعلُّم، ولن يهمني ما فاتني من عمر، ثم إنني أريد عملًا لا وظيفة بالمعنى التقليدي.

وسرعان ما بدأت بعزم جديد.

خرجتُ من عصر البطالة المقنَّعة والبطالة الحقيقية، وغطى التعلُّم على إحساسي بأنني زوج بلا عمل، وبخاصة وأنني لم أعترف بإدارة الأملاك كعمل حقيقي، فهي لم تكن تعني أكثر من تحصيل إيجارات، والإشراف على إجراء بعض الترميمات والتجديدات أو توكيل بعض المحامين عند الضرورة.

وحققتُ تقدُّمًا مذهلًا، واستعنتُ أحيانًا ببعض المدرسين.

وفي أوقات الراحة كنا — أنا وهدى — نختلف إلى المسرح أو صالات الطرب، فهي مُغرَمة بذلك كله.

وكنت أشرب رغم تأفُّفها فتقول لي برجاء: اشرب، ولكن لا تسكر.

أما المنزول فقد أخذَتْ عليَّ عهدًا بألا أقربه، وكلما رأتني جالسًا مع محمد شكرون ذكَّرتني بالعهد، ولكني نبذته بإرادة قوية، وعبَرْتُ الفترة الحرجة بعزم صادق، حتى ضحك محمد شكرون وقال لي: إنك شيطان في تكيُّفك مع العربدة، ملاك في تكيُّفك مع الاستقامة.

فقلت له: إني مصمم على أن أكون شيئًا.

مارست حياة رائعة، استعادت من ناحيةٍ سعادتي في أسطورة أمي، كما استعادت، من ناحية أخرى، النقاء الذي نعمتُ به في بيت جدي، ولكن تفشى فيها القلق المنبعث من رغبة حادة في تحقيق الذات.

أريد أن أكون شيئًا، ولكن ما عسى أن يكون هذا الشيء؟ القانوني الضليع؟ أم المحامي الناجح؟

الحق أني فُتنت بموادِّ الدراسة المتنوِّعة، واستوعبتُها بمقدرة شخص ناضج، وانجذبتُ لها بأقوى مما انجذبتُ إلى علوم الدين، وكنت أحفظ المقرَّر وأفيض عنه فيما يهمني من فروع المعرفة، فقرأت كثيرًا في التاريخ والفلسفة والنفس والاجتماع، ومضيت أمتلئ بحب الحقيقة.

•••

وقهقهَ عاليًا ثم قال لي: تصوَّر الرحلة من أحلام العفاريت إلى حب الحقيقة! .. ما رأيك؟

فقلت: رحلة عظيمة.

أعجبني بصفة خاصة المنهج العلمي الذي يتحقَّق به أكبر قدر من الدقة والموضوعية والنزاهة، هل نستطيع أن نفكِّر بنفس الأسلوب في سائر شئون الحياة؟ لنعرف المجتمع والوطن والدين والسياسة بنفس الدقة والنزاهة الموضوعية؟

وكانت هدى تساعدني، فهي مُثقَّفة، حاصلة على شهادة مدرسة أجنبية، درستْ مبادئ العلوم والرياضة والآداب واللغات، كما درست العربية على مدرس خصوصي، وهي غاية في الذكاء والاستيعاب، وقد ساعدتني أكثر مما ساعدني أيُّ مدرس خصوصي.

وكانت تقول لي: الشهادة لا تهم في ذاتها ولكنها الوسيلة الوحيدة المعترف بها للعمل، ثم إنها تضفي على الدراسة جدية أكثر.

ولم تفترْ همتها في مساعدتي حتى بعد أن تغيَّر مزاجها العام بالحمل والوحم.

جمعنا، رغم فارق السن والعلم، حب يزداد مع الأيام رسوخًا، وهو بمأمن من النزوات وردود الفعل العنيفة.

لقد انتقلتُ من الفوضى والمخدرات إلى حياة زوجية نقية، وتحصيل للمعرفة بلا حدود، في نظام دقيق أفقدني الكثير من مظاهر الحرية السطحية، ولكنه فتح لي أبواب الحرية المضيئة التي يسمو بها الإنسان على ذاته بالوعي، الوعي الذي يسعد به الإنسان الحر حتى وإن أبصر بقوة أكثر مأساة الحياة الخافية.

•••

وهنا قاطعته قائلًا: حدِّثني عن تجربتك مع الحقيقة والحرية والمأساة.

فقال ضاحكًا: إلى مَن تُوجِّه كلامك؟ إنك في الواقع تخاطب إنسانًا لا وجود له، لم يبقَ منه إلا الخرابة التي تجالسك الآن في مقهى ودود بالباب الأخضر، لقد مات، لقد دفنت أكثر من شخص عاشوا في جسدي متتابعين ولم يبقَ إلا هذه الخرابة.

وضحك مرةً أخرى، ثم واصل: ولكنها خرابة غنية بالآثار على أي حال.

وتنحنح ثم قال: لقد عشقتُ العقل وقدَّستُه فأحببتُ تبعًا لذلك الحقيقة، العقل هو ما يعمل بالمنطق والملاحظة والتجربة ليصل إلى حكم نقي تمامًا مما يخلُّ بالمنطق والملاحظة والتجربة، وهو ما أسميته بالحقيقة.

وهذا العقل يُعتبَر مخلوقًا حديثًا نسبيًّا إذا قيس بالغرائز والعواطف، فالذي يربط الإنسان بالحياة غريزة، والذي يربطه بالبقاء غريزة، والذي يربطه بالتكاثر غريزة، ودور العقل في كل أولئك هو دور الخادم الذكي.

حسن، كيف يمكن أن ينقلب الوضع؟

أي أن يُقرِّر العقل أولًا ثم يستغل الغرائز لخدمته.

هل يمكن أن يقتنع فرد بضرورة فيُقرِّر قتل نفسه؟ إن الذين يقتلون بدافعٍ من غرائزهم لا حصر لهم، ولكن لم يقتل أحد بدافع من تفكيره الخالص النزيه النقي، إذن فقد عشقتُ العقل وحلمت طيلة الوقت بسيادته المُطلَقة باعتباره أشرف هدية إلهية لنا، أحلم بألا يكون لنا من مُحرِّك إلا العقل، ولا هدف إلا العقل، ولا سلوك إلا من وحي العقل، أحلم بحياة عقلية خالصة يستوي العقل فيها على عرش السيادة على حين تستكنُّ الغرائز على أرض الطاعة والعبودية، حلمت بأن نشطب من قاموسنا جملًا مثل «أعرف بقلبي» أو «ألهمتني عواطفي» أو «التعبير الوجداني للحياة»، وصببت غضبي على حجم الشعور واللاشعور، وجبل فرويد المطمور تحت الماء إلا قمته، إذ إن المسألة ليست مسألة حجم ولكنها مسألة القيمة أولًا وأخيرًا، أردتُ لقمة الإنسان — عقله — أن يحكم وأن يسيطر، حتى في شئون الغذاء والجنس، والحب نفسه، أي قيمة له إذا لم يقتنع به العقل تمامًا؟ الحب الأعمى سيظل أعمى ويتمخَّض بعد الإشباع عن خواء، مكرِّرًا مأساتي مع مروانة، لذلك أتمنى أن يلعب العقل دوره في حياتنا الحميمة كما يلعبه في المعمل، وبنفس اليقظة والنزاهة والموضوعية، ويجب بالتالي أن تتغير أغانينا وأشواقنا وأحلامنا.

ولا أزعم أنني استطعت أن أرتفع إلى هذا المستوى، بل لعلَّ عجزي كان عنصرًا هامًّا في المأساة، كما أنني لا أدعو إلى تجاهل الغرائز أو الاستهانة بها، ولكن أتشوَّف إلى تجنُّب آثارها المدمرة على الحقيقة، تصوَّر أن نقيم أنفسنا دون خضوع للأنانية، أن نقيم أوطاننا بلا تأثر بما ندعوه الوطنية، وبصفة عامة أصبح الإنسان العاقل حلمي كما كان الإنسان الإلهي من قبل.

قلت له: هذه الصورة العقلية للعالم صوَّرها أناس في كتبهم في صورة مخيفة.

– أعلم ذلك، لأنهم عالجوها بقلوب رومانتيكية مريضة وسخيفة، ولكني أومن بأن العقل سيغني الإنسان ذات يوم عن غرائزه وعواطفه فتصبح جميعًا مثل الزائدة الدودية.

– ولكن كيف انقلبتَ هذا الانقلاب الخطير من النقيض إلى النقيض؟

– كما قلت لك من قبل إني أتحرك في الحياة بالطفرة، لقد اكتشفت عالم العقل فجأةً ففُتنت به، وأيقنت أنني كنت أغامر في خواء، وأني مدعوٌّ الآن حقًّا للمغامرة في عالم الفكر، هذه هي المغامرة الحقة.

فسألته باهتمام: وماذا عن الحرية؟

– مثل المغامرة، تمارسها أحيانًا كمتعة للغرائز كما استمتعتُ بمروانة والنبيذ والمنزول، هي عبودية متنكِّرة في لباس حر، الحرية الحقيقية وعي بالعقل ورسالته وأهدافه وتحديد الوسائل بحرية الإرادة وتنظيمها التنظيم الدقيق الذي يُجريها مجرى القيود، فهي حرية في لباس عبودية، وجرَتْ حياتي على هذا النحو في رحاب بيت المنيل، فثمة ساعات للمذاكرة، وساعات للقراءة الحرة، وساعات للمناقشة والنزهة والحب، على طريق طويل رفعتُ على ساريته راية العقل.

وهنا قلت له: هلا حدثتَني الآن عن المأساة؟

فنفخَ وهو يقول: انتظر قليلًا، فثمة مأساة خاصة، ولكني أودُّ أن أعرض عليك رؤياي عن مأساة عامة أولًا، هي مأساة الإنسان العاقل، فقبل خلق العقل كان الإنسان مُنسجِمًا مع ذاته وحياته، حياة صراع قاسية، ولكن يبدو ألا حيلة له فيها، مثله مثل أي حيوان آخَر، فلما أن وهب العقل، وشرع يخلق الحضارة، حمل أمانة جديدة، مسئولية لا مفرَّ منها، وفي الوقت نفسه هو غير أهل لتحمُّلها، بدأ يدرك النظرة الشاملة، وأن حياته على الأرض هي حياة رجل واحد رغم التناقض الظاهري، ولكنه كان وما زال يمرُّ بفترة انتقال تتواجد فيها الغرائز والعقل معًا، فما يقول به العقل تعارضه الغرائز، وما يزال النصر مقررًا حتى اليوم للغرائز، على الأقل في الحياة العامة، لم يظفر العقل بالسيادة المطلقة إلا في العلم، فيما عدا ذلك فهو يخضع للغرائز، حتى ثمار العلم نفسه تلتهمها الغرائز، وعلى حين يحتفظ العقل بلغته الخاصة في مجال البحث فاللغة التي تستجيب لها الملايين ما تزال هي لغة العواطف والغرائز، أغاني الجنس والوطن والعنصرية والأحلام السخيفة والأضاليل، هذه هي المأساة العامة، ولن تنقشع سحبها الحمراء إلا حين يعلو صوت العقل وتتراجع الغرائز نحو الذبول والفناء.

أما مأساتي الخاصة فنشأت من الصراع بين عقلي وبين إيماني الراسخ بالله.

واعترضني السؤال، كيف تصون إيمانك إذا أردتَ أن تجعل من العقل هاديك ومرشدك؟!

تزعزعتْ ثقتي في الإيمان الخالص كما تزعزعتْ في لغة القلب.

وعلى العقل أن يحلَّ بقوته هذه المشكلة.

والقول بأنه لم يُخلق لذلك اعتراف بالعجز ليس إلا، واقتراحُ بديلٍ له نسميه القلب أو البداهة اعتراف آخَر بالإفلاس.

•••

– وماذا قال لك عقلك؟

– عجز تمامًا عن إدراكه أو تصوُّره، ولكنه لم يجد مفرًّا من افتراض وجوده، وهذه هي المأساة، وإذا قرَّر أناس أن المشكلة مُفتَعلة، وأنه يمكن أن نعيش دون التفكير فيها، فقدَ كلُّ شيء معناه مهما خلقنا له من معنى بقوة الخيال والإرادة والشجاعة، وإني لأحسد الذين يعيشون عيشة كبيرة ويموتون راضين بلا إله.

وكاشفتُ هدى بهمومي، وهي مؤمنة ايمانًا بلغ من قوته أنها لم تبالِ يومًا بالصلاة أو الصوم، فقالت لي: لا يمكن تقبُّل الكون بغيره، ألا ترى إلى عمليات الخلق المتواصلة تحت أعيننا في عوالم النبات والحيوان والإنسان؟ فلا يمكن الشك في قوة الخلق.

قلت لها: أريد علاقة حميمة واقتناعًا لا مفر منه مثل ١ + ١ = ٢.

فقالت هدى: نحن نتكلم عن القلب كنبعٍ للإيمان، ولكن تذكَّرْ أن الله لم يعبده إلا الإنسان العاقل، فالعقل في الواقع هو أساس الإيمان، ولكن عجزه النسبي عن إدراكه — مع حرصه عليه — جعله يُرجع الإيمان به إلى عضو آخَر؛ هروبًا من التناقض.

فقلت لها: لقد أدرك الإنسان الحياة والموت والخوف فافترض عقله فرضًا لينقذ الأمل، وحتى موسى نفسه أراد أن يرى الله!

•••

عند ذاك سألته: ماذا عن إيمانك اليوم يا جعفر؟

فطوَّح برأسه إلى الوراء مُرسِلًا بصره الضعيف نحو جدول النجوم الجاري بين مئذنة الحسين من جهة وأسطح البيوت العتيقة من جهة أخرى وتمتم: إني عاجز عن الكفر بالله!

•••

ثم واصل حديثه قائلًا: تقدَّمتُ في الدراسة، أحرزت النجاح بعد النجاح، اتسعت مداركي، تنوَّعتْ ثقافتي، أنجبت أربعة ذكور، عشت فترة تُعتبَر من أغنى وأسعد فترات حياتي.

وكان محمد شكرون هو الذي يوصل النفقة الشرعية إلى أم مروانة، وعندما بلغ ابني الأكبر السن التي أستحقه فيها قررتُ أن أسترده، وخاطبتُ في ذلك هدى فلم تمانع، والحق يُقال، ولكن تبيَّن لي أن مروانة تزوجت، وأنها رحلت هي والأولاد إلى إحدى الواحات، بل قيل إنها رحلت إلى ليبيا، واشتد حزني طويلًا.

ولم تهُن صداقتي بمحمد شكرون، كنا نصلي الجمعة معًا في جامع الحسين ثم نتناول الغداء في الحلمية، وقد اقتصر إسلام شكرون على صلاة الجمعة والامتناع عن الخمر في رمضان، وكان يؤكد لي أن الفنانين أمثاله سيُحاسبون حسابًا ملطفًا تراعى فيه ظروف حياتهم ومتطلبات مهنتهم، وكان نجاحه كمطرب من الدرجة الثانية قد تأكَّدَ، كما أن ألحانه الشعبية ذاعت وطُبعت في أسطوانات ناجحة، وقد انتقل هو وأسرته إلى روض الفرج ولكنه لم ينجب ذرية.

وقد ظلَّ صديقي الوحيد حتى تعرفتُ على زملاء من خان جعفر ممَّن سبقوني في التعليم وعملوا محامين ومدرسين، وقد أفدتُ منهم في دراستي، ولم يقِفْ أثرهم عند هذا الحد كما سوف ترى.

وسعدت بالأبناء أكثر من أي شيء آخَر، كانوا آيات في الجمال والصحة والنضارة، وكان البكري صورة طبق الأصل من جده الراوي.

أما جدي نفسه فما عرفت عنه إلا اليسير مما كان يبلغني عن طريق محمد شكرون.

طعن الشيخ في السن، اعتكف في بيته بصفة شبه دائمة عدا الخروج لصلاة الجمعة، وخصَّص ليلة واحدة لاستقبال الأصدقاء والمريدين، وأحيانًا تستغرقه الشيخوخة فيُخيَّل إلى من يعاشره أنه نسي همومه الماضية والراهنة، فبتُّ أشك في أن أبقى مجرَّد ذكرى في روحه.

وتتابع النجاح والتفوُّق والسنون حتى نلتُ درجة الليسانس في الحقوق.

وأتمَّتْ هدى نعمتها عليَّ ففتحتْ لي مكتبًا للمحاماة في ميدان باب الخلق، وأثثته بمكتبة غنية وحجرة استقبال فاخرة، لا يوجدان عادة إلا في مكاتب كبار المحامين!

هكذا بدأتُ مرحلة جديدة من الحياة.

٧

كان وكيل المكتب هو محور النشاط فيه، فهو سمسار قضايا صغيرة تليق بمحامٍ مبتدئ، وأنا أعمل في الواقع كتابع له وفي نطاق نشاطه.

ولكن مكتبي صار ملتقى للأصدقاء الذين اتخذتُ منهم مرشدين في دراستي القانونية، وكانوا في الأصل أقران طريق من بعيد، وفي ذلك الملتقى الدائم تم الغزو السياسي لروحي.

أودُّ أن أقول لك إنني لم أكن مقطوع الصلة بالسياسة كما قد تظن، ففي بيت جدي كان يزوره فيمَن يزورونه قوم من رجال السياسة، وكانوا جميعًا ذوي طابع واحد، فهم يمجدون الصفوة التي يجب أن تحكم لخير الصفوة والرعاع والوطن.

وكان الحديث يدور كثيرًا حول الدستور، لا باعتباره أساس الحكم للشعب، ولكن باعتباره وثيقة تمنحهم شرعية الحكم، وتؤكد ذاتهم في مواجهة الحاكم، وكان الميدان لا يشغله إلا الحاكم والصفوة.

وكانوا يستحوذون على إعجابي بفخامة منظرهم وشواربهم الكثة ولحاهم المُهذَّبة، وكانوا يتحاورون بهدوء وتؤدة، ويتكلمون كثيرًا عن العلم والتعليم والبعثات وتجديد الفكر الديني، ولم يخفوا احتقارهم للغوغاء وحكم الغوغاء، وأكدوا على حاجة الشعب إلى التربية الطويلة والتوعية المتواصلة حتى يحق له قدر من المشاركة المتواضعة في الحياة السياسية.

وسمعت جدي يتساءل مرة: إذن فالسياسة في نظركم مثل التصوُّف مضنون بها على غير أهلها؟

وجاء الجواب بالإيجاب، فتساءل جدي: ومَن يرعى مصالح الغوغاء؟

وكان الجواب: نحن أصحاب المصالح الحقيقية، فنحن أهل الزراعة والتجارة والصناعة، أما الغوغاء فحاجتها لا تعدو حرفة للرزق وبعض الخدمات.

ومِلتُ في ذلك الوقت إلى الاقتناع بتلك النظرية، والتسليم بها كوسيلة ناجعة لانتظام الأمور، وحمدت الله على انتمائي في النهاية إلى الصفوة لا الغوغاء.

وقد مرَّت بنا أيام مثيرة، تعالى فيها اسم الشعب حتى ملأ الفضاء، وتدفقَتْ أمواج المظاهرات من الغوغاء كالطوفان، فراقبتها من فوق السطح بذهول وسرور.

بيد أنني لم أنفعل بالسياسة بقوة ملحوظة أبدًا، وآمنت بأنه يمكن أن أبلو الحياة حلوها ومُرَّها من غير أن أطرق للسياسة بابًا.

•••

في مكتبي بميدان باب الخلق غزَتْني السياسة بعنف لأول مرة، وعلى غير توقُّع.

اصطرعت في حجرة مكتبي أفكار الليبرالية والاشتراكية والشيوعية والفوضوية والسلفية الدينية والفاشستية، وجدتني في دوَّامة صاخبة دارَ بها رأسي، وعملًا بمبدئي في تقديس العقل، نزعتُ إليه أسأله الرشد وسط ذلك الطوفان.

وذات يوم سألني الأستاذ «سعد كبير» ونحن بصدد استعراض المذاهب، وسوف أقتصر على ذكر اسمه لخطورة الدور الذي لعبه في حياتي، ولتفاهة أثر الآخَرين، سألني: ما أنت؟

فقلت بعد تردُّد: لا شيء.

فقال بحنق وكان شديد الحساسية والعصبية رغم ذكائه وشمول ثقافته: إنه الموت.

– ولكني دارس مجتهد ممَّن يُقدِّسون العقل.

– وهل يتم للعقل مضمونه دون أن يُبدي رأيه في نظام الحكم البشري؟

– ولكن .. ولكن السياسية مصالح.

– المصالح تهدي الرجل العادي إلى حزبه، ولكنَّ العقل يستطيع بنوره أن يميِّز بين الحق والباطل.

فتساءلت مبتسمًا: أين تُوجِّهني مصالحي فيما تظن؟

– ولكنَّك بالعقل تستطيع أن تتجاوز موقفك.

– على أي حال يجب أن أُعطَى مهلة أطول للتفكير.

وأفضيتُ بهمومي إلى هُدى، باعتبارها الصديق الأول الذي لا أخفي عنه شيئًا، فقالت بلا تردُّد: ألاحظ أن السياسية مفسدة للعقل.

فقلت لها وكأنما أعلن عما يضطرم في أعماقي: ذلك يتوقف على العقل نفسه.

فقالت لي بإيمان: في السياسة يجد العقل نفسه في محنة.

– ربما، ولكن لن يكون الحل في الهرب.

الحق أن التفكير أصبح جزءًا لا يتجزأ من حياتي، وما سمعته في مكتبي قد تحدَّاني بعنف، فرُحتُ أتساءل عن معنى ذلك كله، ورغم عواطف الصداقة المتبادلة فإنني لم أشكَّ في أن بعضهم ينظر إلى «وضعي الطبقي» نظرة عدائية أصيلة، وبالتبعية جعلت — لأول مرة — أنظر إلى هذا الوضع باعتباره مثار نزاع سياسي اجتماعي، كأنما استيقظت فجأة لأجد نفسي مستلقيًا فوق فوهة بركان.

أجل، فإنني بصفتي حفيد الراوي أنتمي إلى الطبقة الإقطاعية، وعليه فمصلحتي تتفق مع حكم الصفوة، ولعلها لا تتناقض بحدة مع السلفية الدينية، ولكني لا أتفق مع الليبرالية الشعبية، وأما الشيوعيون والاشتراكيون فهم أعدائي الطبيعيون، مثل عداوة القط والفأر، هكذا فكَّرتُ، ثم تساءلت هل يتيسر لي رغم ذلك أن أحكِّم العقل بنزاهة بين هذه المذاهب؟ أو تخونني العواطف فأستخدمه كعبد ذكي؟

بوسعي أن أوثر السلامة بتجنُّب السياسية ولكنني آمنت بأن ذلك لا يتفق بحال مع احترام العقل وتقديسه.

السياسة هي الحياة.

ولم ينقطع الحوار بيني وبين «سعد كبير» فقد وجدت في موقفه التحدي الحقيقي الذي يواجهني بكل صلابة.

قلت له مرة: السياسة عالَم رحيب، مفاتنه مُوزَّعة على جميع المذاهب.

فتقلَّص وجهه الأسمر، دقيق القسمات، وقال: مغفور لك تردُّدك، فلا بد للفكرة من مهلة حضانة.

– صبرك، إني أجد في الصفوة نُبلًا وثقافة وعراقة تاريخية؟

– ممكن في نظام اجتماعي عادل أن يرتفع كافة الأفراد إلى مرتبة الصفوة.

فتفكَّرتُ مليًّا ثم قلت: وفي الليبرالية حرية وقيم وحقوق للإنسان آية في الجمال؟

– استُغِلَّ ذلك كله لخدمة طبقة معينة.

فقلت بالإخلاص نفسه: وفي الشيوعية عدالة كاملة تجد المذاهب البشرية في مناخها تفتحها وازدهارها.

– لعلَّ هذا أقل ما يُقال فيها!

– وفي الدين مزايا متوازنة لا تُعَدُّ ولا تُحصى.

ففقد أعصابه هاتفًا: اللعنة!

فقلت دون مبالاة بعصبيته: لا بد من الحقيقة ولو طال التخبُّط.

وكانت هدى في الحقيقة ليبرالية أصيلة ترى في النظام الإنجليزي مثلها الأعلى، وكانت تتابع تأمُّلاتي باهتمام مشوب بالقلق حتى سألتها: لمَ تقلقين يا هدى؟

فقالت لي بصراحة: التفكير في السياسة قد يُتبَع بنشاط سياسي، وهو أمر لا يخلو من خطورة.

فقلت لها متنهِّدًا: الأمان جميل ولكن في الحياة أشياء أهم من الأمان.

– لذلك أشعر أحيانًا بأن بيتي السعيد أصبح مُهدَّدًا.

فقبَّلتها وأنا أقول: كوني شجاعة كعهدي بكِ دائمًا.

– أصبحت الموضة هذه الأيام أن يؤمن الشباب بالشيوعية.

– ولكني أفكِّر يا عزيزتي، فلا تهمني الموضة بحال من الأحوال.

وواليت الدراسة والتفكير.

•••

وهنا قهقهَ عاليًا بصوت أزعج النائمين والهائمين في الحارة التاريخية، فسألته: ماذا يُضحكك؟

– سأعترف لك بسِرٍّ لم أبُحْ به لإنسان، ولا لزوجتي الصديقة.

– حقًّا؟!

– خطر لي ذات مرة أنه تُوجَد أوجُه شبَه بين حياة النبي وحياتي!

وتريَّث قليلًا، ولكني لم أعلِّق، فواصل حديثه: فقد تُوفِّي والدي وأنا دون الوعي، وتُوفِّيَت أمي وأنا لم أكَدْ أجاوز الخامسة من عمري، فتكفَّلني جدي، ثم تصوَّرتُ خروجي من قصر جدي نوعًا من الهجرة.

– ولكن النبي لم يهاجر من أجل المغامرة.

– كلا .. كلا .. إنه تشابُه وليس تطابقًا، ثم جاء زواجي من سيدة ذات حسَب ونسَب تكبرني في العمر، وكيف وجدت في المناخ الذي هيَّأَتْه لي فرصة طيبة للدراسة والتفكير، تأملت ذلك فخطر لي أنني سأكون صاحب رسالة أيضًا.

فتساءلت ضاحكًا: رسالة دينية؟

– لتكن رسالة من نوع جديد، ولكن سرعان ما فتنَتْني الفكرة، فبتُّ أسيرًا لها، وواليت الدراسة والتفكير.

وكنت أحذِّر نفسي دائمًا من خدع الغرائز والعواطف لأنقِّي تفكيري من كلِّ شائبة.

ووصلتُ إلى أولى النتائج، وهي أن نظامنا الاجتماعي غير معقول، ظالم، وأنه مسئول عن أدوائنا من الفقر والجهل والمرض، وأنني لستُ من الصفوة كما توهَّمتُ كثيرًا، ولكنني فرد من عصابة، واحتجَّتْ هدى على هذا الوصف، ونوَّهَتْ بشرف أجدادها، ولكنني أخذتُ في تحليل أسباب الثراء من الهِبات والانتهازية والاستغلال والعسف والقوة حتى اقتنعَتْ بأنه لا يوجد ثراء مشروع بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة.

وشجَّعني سعد كبير قائلًا: هذا اتجاه طيب يَعِد بخاتمة طيبة، ولكن عليك أن تبدأ بالمادية الجدلية والمادية التاريخية.

فقلت بثقة: إني أقف موقفًا واحدًا من جميع الفلسفات، والفلسفة الماركسية ليست إلا فلسفة من الفلسفات، فلماذا تتحوَّل إلى عقيدة، ولماذا تفرض نفسها بالقوة والدكتاتورية؟

– ليست فلسفة من الفلسفات، ولكنها أُنزِلَت من سماء التأمُّل النظري لتُطبَّق على حياة الناس، ولتعطي للبشرية أملًا جديدًا، فهي تستحق أن تكون عقيدة.

فقلت مُتملمِلًا: الجزم بالمادية ليس أقوى في شرعة العقل من الجزم بالله.

فقال بازدراء: ما زلتَ مثاليًّا.

فهتفتُ بغضب: لا ترمِ بالصفات الغريبة والتزم بالمناقشة الموضوعية.

فرجع إلى الهدوء وقال: ادرس، يلزمك مزيد من الدراسة.

فقلت: ولكنني غير مُقتنِع بالنظرية، على حين أنني أرى العدالة الاجتماعية بديهية لا تحتاج إلى نظرية.

وانقطعتُ زمنًا للدراسة والتفكير.

وصار صدري معتركًا لصراعٍ كالجحيم.

في ذلك الوقت لم أستمتع بصداقة زوجتي إلا قليلًا، ولم أهنأ بملاعبة أبنائي إلا خطفًا، ولاحَتْ لعيني فكرة الرسالة كقوةٍ واعدة ومسيطرة، ومتواضعة في الوقت نفسه؛ لأنني نذرتُ نفسي لإنقاذ البشرية في مصر فحسب!

وكنت أفكِّر وأعاود التفكير، وأوجِّه إلى نفسي التحذير تلو التحذير من أن ينزلق تفكيري في مزالق العاطفة أو العقائد الموروثة.

ولكي تتضح لي الأمور قرَّرتُ أن أسجِّل أفكاري على الورق.

فسألته باهتمام: وفعلتَ؟

– نعم.

– هل طبعتها في كتاب؟

– كلا، سبقَتْني الأحداث.

– أتذكر خلاصتها؟

قال وهو يضحك: عرضت تاريخًا موجزًا للمذاهب السياسية والاجتماعية، من الإقطاع حتى الشيوعية، ثم عرضت مشروعي الذي يقوم على أسس ثلاثة: أساس فلسفي، مذهب اجتماعي، أسلوب في الحُكم، أما الأساس الفلسفي فمتروك لاجتهاد المريد، له أن يعتنق المادية أو الروحية أو حتى الصوفية، والأساس الاجتماعي شيوعي في جوهره، يقوم على الملكية العامة، وإلغاء الملكية الخاصة والتوريث، والمساواة الكاملة، وإلغاء أي نوع للاستغلال، وأن يكون مثَلُه الأعلى في التعامل «من كلٍّ على قَدْر طاقته، ولكلٍّ على قَدْر حاجته»، أما أسلوب الحكم فديمقراطي يقوم على تعدُّد الأحزاب وفصل السلطات وضمان كافة الحريات — عدا حرية الملكية — والقيم الإنسانية، وبصفة عامة يمكن أن تقول إن نظامي هو الوريث الشرعي للإسلام والثورة الفرنسية والثورة الشيوعية.

وأعطيت نسخة من المخطوط للأستاذ سعد كبير وأنا أقول: هاك رأيي.

فتناوله بدهشة وهو يتمتم: حقًّا؟!

فقلت بإصرار: ولن تخيفني نُعُوتك المشهورة، برجوازي .. تصالُحي .. تجميعي، فمن حقي أن أنشئ مذهبًا جديدًا إذا لم أقتنع بالمذاهب القائمة.

فلاحَتْ في عينَيه نظرة ارتياب وقال: بشرط أن تُنشئ حقًّا لا أن تُلفِّق.

فقلت غاضبًا: جميع المذاهب أخذٌ وعطاء.

وقرأ سعد كبير المخطوط في مكتبي حتى فرغ منه في حوالي الساعتَين أو أكثر، ثم تنهَّد طويلًا وتمتم: لا فائدة!

فانتظرتُ متوثِّبًا فعاد يتمتم وكأنما يحادث نفسه: سمك لبن تمر هندي!

فقلت له: أفصِح.

فقال بعصبية: تلفيق .. أحلام يقظة .. خيال .. تجميع ما لا يجتمع .. لا شيء.

– أهذا هو رأيك النهائي؟

– ماذا تتوقع؟

– أتوقع أن تقتنع برأيي.

– ثم ماذا؟

– ثم نكوِّن جمعية .. هيئة .. حزبًا.

فضحك ضحكة باردة وتمتم: يا للخسارة!

فقلت محتدًّا: إنكم مسلوبو الإرادة والتفكير!

فقال بجدية تامة: أنت تعلم على الأقل أننا جادُّون، وأننا نحمل رءوسنا على أكُفِّنا، وأننا نؤمن بالإنسان!

– إني أومن بالإنسان أكثر منك، لا أصدِّق أن مؤمنًا حقًّا بالإنسان يمكن أن يقتنع بنظام دكتاتوري، وإني جادٌّ أيضًا، وعلى استعداد لحمل رأسي على كفي.

– ماذا تنوي أن تفعل؟

– سأكوِّن جمعية أو حزبًا.

وقام سعد كبير وهو يقول بفتور: لنا رجعة ورجعة ورجعة.

وقبل أن أشرع في الدعوة إلى تكوين الجمعية شاورت زوجتي في الأمر، فانزعجَتْ جدًّا، وكانت قد قرأت المخطوط بعناية، وقالت: إنك قانوني، وتعلم أن دستور البلاد يعتبر الشيوعية جريمة.

فقلت: الشيوعية شيء ومذهبي شيء آخَر.

– إنك تدعو إلى نظام اجتماعي شيوعي وهذا هو ما يهم القانون وواضعيه.

– يمكن أن أغيِّر صياغة البند الثاني؛ فإني أجد مثلًا أن كلمة الاشتراكية مقبولة، ثم إنني مؤمن بالله رغم أنني لا أريد فرض الإيمان على أحد، وأخيرًا فإنني مستمسك بالنظام الديمقراطي كما يُمارَس في الغرب، ألا يُبعِد كلُّ ذلك الشبهة عني؟

– لا أظن يا عزيزي، فإني أراك في الواقع شيوعيًّا قُحًّا في الأمر الجوهري الذي يهم مَن يملكون ومَن لا يملكون.

– المسألة أنكِ يا هدى لا تؤمنين بي.

– إني ديمقراطية، وأرى الديمقراطية نظامًا لا ينقصه كي يبلغ الكمال إلا الرعاية الإنسانية لجماهير الشعب! وأنه لا يداخلني شكٌّ في أن المواطن الإنجليزي مثلًا يتمتع بحياة أفضل من المواطن الروسي.

– أما أنا فلا أشاركك الإيمان بذلك.

فقالت بشيء من الاستياء: حسن، طالما اتفقنا في كل شيء، والآن آنَ لنا أن نختلف!

وكان سعد كبير يحاول من ناحيته إقناعها بالماركسية.

كان الأصدقاء يتناولون العشاء كثيرًا على مائدتنا، ودعوت محمد شكرون معهم، ولكنه لم يرتح إلى صحبتهم وتلقَّى مناقشاتهم بالتثاؤب.

وأظن أنه يجب أن تعرف شيئًا أكثر عن سعد كبير، لقد كان أحد الأصدقاء الذين يجتمعون في مكتبي للمناقشة، يُمثِّلون في مجموعهم جميع المذاهب، حتى المذهب الإقطاعي البائد، ولكنه كان أشدهم حماسًا وتفاعُلًا مع مصيري، كان محاميًا مبشِّرًا، راسخًا في مادته، ذا ثقافة واسعة، ومقدرة في الجدل والمحاضرة، وكان ذا طبيعة حادة متماسكة، شديد اليقين بما يؤمن لحدِّ التعصُّب الأعمى، من الذين يعملون بكل قواهم في اتجاه واحد، ولا يتوانى عن تحطيم خصمه بكل الوسائل البلاغية والمناورات الغريبة التي تثير ثائرة مَن يحترم العقل ويُقدِّسه مثلي.

وقد لمحتُ في عينَي هدى إعجابًا به واستسلامًا لجدله الحماسي العنيف.

وذات يوم قال لي محمد شكرون: أصحابك لا يُعجبونني.

فقلت له متودِّدًا: ولكنهم طيبون.

فقال بفتور: ربما، لكن المدعو سعد كبير ليس بالطيب.

– ولكنه رجل ممتاز بكل معنى الكلمة.

– ربما .. لكنه أذكى مما يجب.

فضحكت مؤمنًا بقوله، فعاد يقول: لا تفتح بيتك لكل مَن هبَّ ودبَّ.

فآنستُ من صوته ما يشبه الاحتجاج أو التحذير، فاشتعل وجداني وسألته: ماذا تعني يا شكرون؟

فقال متهرِّبًا: المسألة أنني لا أرتاح إليه.

فقلت بحدة شديدة: أفصِح!

– إنه من النوع المُعتَدِّ بنفسه، ولكنه ليس أهلًا للثقة.

– إنك تقصد أشياء أكثر من ذلك.

– أبدًا، وأقسم على ذلك برأس الحسين!

بعد ذلك الحوار لم أرجع إلى طمأنينتي السابقة، وجعلتُ أراقب ما يدور حولي بدقة وسوء ظن، وفي الوقت نفسه أبَتْ عليَّ كرامتي أن أغيِّر من نظام الأشياء، ولو بدرَ مني أمر كهذا لأغضبتُ بلا شك سيدة أبيَّة مثل هدى، ولسقطتُ في نظرها، ولكني جعلتُ أراقب وأحترق من شدة الانتباه والقلق، كان ينهمك في الحديث معها، فتنهمك معه، ووضح لي أن أسلوبه في الحوار يُعجبها ويبعث فيها حيوية دافقة، وأنها تبدو في شوق دائم إلى المزيد منه.

وقلت لها في أعقاب سهرة: لن أدهش إذا اعترفتِ لي فجأةً بأنك شيوعية!

فابتسمت متسائلة: أغرَّكَ إقبالي على حديثه؟

– وتأثُّركِ به.

– إنه شخص ممتاز ولذلك فإنني أرثي له!

كانت هدى في ذلك الوقت في الخمسين أو جاوزَتْها بقليل، وكان سعد كبير في الثلاثين، ولم يكن بقي في قلبي لها إلا صداقة عميقة، ورغم ذلك ركبني الهم، ورحتُ أتساءل عما عناه محمد شكرون، هل رأى أكثر مما رأيتُ، هل كتم عليَّ أشياء، هل تُعاني هدى أزمة من أزمات الشيخوخة؟ ولكنها كانت وما زالت مثالًا للعقل والرزانة، ولم أعثر من ناحيته على إشارة واحدة تستحق الريبة، لا إشارة ولا حركة ولا كلمة، ورغم ذلك كله اهتزَّ عقلي المقدَّس، وسقطتُ فريسة لانفعالات مُبهَمة.

ثم اجتاحَتْني المأساة، كأنها زلزال، غير مسبوقة بأسباب واضحة.

•••

وصمتَ مليًّا فتساءلت: المأساة؟

فضحك ولم ينبس، فعدتُ أتساءل: المأساة … ماذا قلت؟

– وقعت المأساة وأنا أتأهَّب لتكوين الحزب.

– ثم ماذا؟

– وأتهيَّأُ لخوض غمار المعركة مُتحدِّيًا اليسار واليمين معًا.

وواصل حديثه مُتنهِّدًا: كنا مجتمعين في مكتبي أنا وسعد كبير مُنفردَين، وجرى الحديث، حادًّا من ناحيته كالعادة، وحادًّا من ناحيتي على غير العادة.

قال ثائرًا: إنك تتوهَّم أنك صاحب مذهب ميتافيزيقي اجتماعي سياسي، إن أي مذهب خليق بأن يستغرق عمرًا كاملًا في تكوينه، ولكن القارئ يطَّلع على المذاهب كلها في عام أو عامَين، وقد يتراءى له أن يقوم بعملية انتخاب من المذاهب، يظنُّها تفكيرًا، وهي ليست إلا عملية انتخاب للجمع بين متناقضات يستطيعها أيُّ مخلوق، ويمكن بهذه الطريقة أن يكون لدينا مذاهب بعددِ غيرِ الأُمِّيِّين في العالَم!

وصِحتُ به على غير توقُّع منه: وَقِح .. قليل الأدب!

نظرَ إلى بذهول وتمتم: ماذا؟

فصِحتُ بإصرار: وَقِح .. قليل الأدب!

فتساءل بحنق: أنسيتَ أنك تخاطب أستاذك؟!

وثبتُ عليه.

لطمته، لكمني، اشتبكنا في صراع مخيف، لم يُوجَد مَن يُخلِّص بيننا، كنتُ أقوى منه وكان أكثر شبابًا، ولما بدأتُ ألهث تناولت قطَّاعة الورق …

•••

وصمتَ مليًّا.

ورحتُ أتخيَّل المنظر.

ثم واصلَ حديثه: صورة وجهه لا يمكن أن تُنسى، أعني بعد أن غرزتُ النصل الحادَّ في عنقه، وجهه وهو ينطفئ هابطًا إلى قرارة الظلمة، وهو يتخلَّى عن المعركة ويستسلم للمجهول، وهو يتخلَّى عن الجدل والذكاء والمجد وكل شيء.

هتفتُ: قتلتَ يا جعفر؟

– أصبح جعفر الراوي قاتلًا.

– يا للخسارة!

– وقفتُ أتأمَّل جثته الملقاة بين المكتب والكنبة الجلدية في ذهول بارد سرمدي، وأنا أشعر بأنني تخفَّفتُ دفعة واحدة من كافة أعباء الحياة وانفعالاتها، ثم غصت فجأةً إلى أعماق دنيا العِلم فرأيتُ من كوة في جدارها المتهافت شبح المأساة وهو يجري بعيدًا عني، في كونٍ آخَر مضاد لا تربطني به صلة بشرية، وسمعتُ صوتًا، لعله صوتي أو صوت آخَر يهتف مذبوحًا: «یا عقلي المقدَّس، لماذا تخلَّيْتَ عني؟»

– يا للخسارة!

– من رئاسة حزب إلى التأبيدة!

وبعد صمت ثقيل قصير سألته: أكان للقتل ما يُبرِّره؟

– من ناحيةٍ، فللقتل ما يُبرِّره دائمًا، ومن ناحية أخرى فلا شيء يمكن أن يُبرِّر القتل.

– أعني هل وجدتَ في شكوكك ما يُبرِّر القتل؟

– لا شيء البتة، صدِّقني، وجاء انهيار زوجتي حزنًا عليَّ مؤكِّدًا لحماقتي، كأن المأساة قد وقعَتْ لتسخر من عابد العقل ومُقدِّسه، هذا كلُّ ما هنالك.

– وهل ورد في المحكمة ذِكرٌ لشكوكك؟

– كلا، أبيتُ ذلك كلَّ الإباء، فصُوِّرَ الموضوع في المحكمة باعتباره نزاعًا بين شيوعِيَّين أدَّى إلى القتل .. وكنت في السجن أصرُّ على اعتباري مجرمًا سياسيًّا، ولكني اعتُبِرتُ مجرَّد قاتل، وحتى اليوم فإني مُصِرٌّ على أني مجرم سیاسي، ما رأيك؟

– لعلك مجرم نصف سياسي!

– ولكن لولا السياسة لما وقعَتِ الجريمة أصلًا.

– ربما .. ولكن ماذا كان موقف جدك؟

– قبيل الحادث بأيام جاءني محمد شكرون وأخبرني أن جدي مريض جدًّا، واقترح عليَّ أن أزوره مُصطحِبًا زوجي وأبنائي، شاورتُ هدى في الأمر فرحَّبَتْ به جدًّا، وأجَّلتُ الزيارة ليوم الجمعة ولكن الجريمة وقعَتْ مساء الخميس، ولم يَصِلني من ناحيته رسول أو رسالة، ولا عرفت حتى إن كان علم بجريمتي.

المهم أني طالبت في السجن باعتباري مجرمًا سياسيًّا، رغم أنه لا توجد تفرقة في المعاملة بين المجرم السياسي والمجرم العادي، واشتُهِرتُ بذلك، فصرتُ به دعابةً، واعتُبر أحيانًا شغبًا تعرَّضتُ بسببه لعقوبة الجلد، وقد زارَتْني هدى مرةً واحدة.

فتساءلتُ باهتمام: هل انقطعَتْ بعد ذلك؟

– انتقلَتْ إلى جوار ربها!

ثم واصل: حزنت جدًّا، وقلقتُ على الأبناء جدًّا، ثم أخبرني شكرون أن عمة والدتهم تكفَّلتْ بهم وأنهم سافروا إليها في المنيا ليبقوا تحت رعايتها، ولا شك أنهم نسوني سريعًا كما نسيتُ أمي في مثل سنِّ أكبرهم، وفي زيارة تالية أخبرني محمد شكرون أنه سيقوم برحلة فنية في شمال أفريقيا، فانقطعَتْ أخباره عني حتى اليوم، مات جعفر الراوي، ومات العالم الخارجي.

واصلتُ الجهاد في السجن داعيًا إلى مذهبي الجديد، فاصطدمتُ بجهل وسلبية وسخرية، حتى مأمور السجن دعوتُه، وكان يعطف على أصلي ومهنتي وسوء حظي.

وفي السجن ضعف بصري، وأُصِبتُ بأمراضٍ شتَّى، وخرجت وحالي كما تراني أمامك.

٨

خرجتُ وحالي كما تراني أمامك، خرابة من الخرابات.

عجوز مريض، نصف أعمى يحمل حفنة من الذكريات لا تُصدَّق.

ولكني لم أفقد صفاء الذهن ولا قوة الإصرار، ولم ينطفئ في قلبي سحر الآراء.

وقلت لو أعثر على محمد شكرون فقد أجدُ فيه الخيط الذي يوصلني إلى قلب الأشياء، ولكني لم أعثُرْ له على أثَر، ولم أصادف أحدًا يعرفه، وكأنه لم يُطرِب بصوته جيلًا من الناس، وفي معهد الموسيقى الشرقي أخبرني أحدهم بأنه — محمد شكرون — أقام في المغرب ثم انقطعَتْ أخباره.

وذهبتُ إلى قصر الحلمية، فوجدت مكانه عمارة شاهقة تملكها شركة تأمين، وكنت قد ورثتُ عن زوجتي مبلغًا محترمًا من النقود، أنفقتُ أكثره في السجن في شراء السجائر وخلافه، ولم يكَدْ يبقى منه شيء ذو بالٍ.

وذهبت أيضًا إلى عشش الترجمان، ولكني لم أجِدْ لها أثرًا، لقد اجتاحها العمران، فتحوَّلتْ إلى حي وبستان ومحطة بنزين.

وعثرتُ على زملاء غير قليلين، بعضهم على المعاش، وبعضهم ما زال يعمل في المحاماة، وأصارحك بأنه لم يتهرَّب مني أحد، واستقبلني بعضهم بحرارة، منهم مَن لا يزالون على حماسهم الأول لعقائدهم، ومنهم مَن شغلته الحياة ومطالبها.

ولكن أين أبناء مروانة وأين أبناء هدى؟

وقررتُ أنه لا خير يُرجى من الاهتداء إليهم، وأنني يجب أن أتركهم دون إزعاج، ويطيب لي أحيانًا أن أتخيَّل حيواتهم وحياة أحفادي منهم، أجل يُوجَد بينهم الآن قُطَّاع طرق، وقضاة، ولعلهم أكثر مما أتصوَّر، ولعلي أصادفهم في تخبُّطي فلا أعرفهم ولا يعرفونني.

ولما فرغتُ من هذه الأمور العاجلة فكَّرتُ في إمكان استئناف الجهاد في سبيل مذهبي، وتكوين الحزب، غير أنني اصطدمت بعقبات ليس من اليسير تذليلها، منها سِنِّي الطاعنة وضعفي الشديد، وسحنتي التي أصبحَتْ تثير الرثاء، بل وأحيانًا الاشمئزاز.

إن الزعيم كما تعلم يجب أن يحوز شخصية ذات قوة وجاذبية معًا، فضلًا عن ذلك فإن ميدان السياسة حافل بالشخصيات ذوات الحيوية والتأثير، فقلت أسجِّل نظريتي في كتاب فإن أعجزني ذلك، ولا بد أن يُعجزني، فإنني سأدعو إليها حيثما أسير، وقد يتبنَّاها عني شخصٌ أقدَرُ على نشرها وتحقيقها مني.

عند ذاك بدا لي أنه لم يبقَ لي إلا الراحة القهرية القصيرة التي تسبق الراحة الأبدية.

•••

ولاذ بالصمت مليًّا ثم تمتمَ بهدوء: طالَعَني من الماضي وجه الراوي.

هممتُ بالحديث ولكنه بادَرَني قائلًا: لم أكن أشكُّ في وفاته، ولكن ما مآل ثروته وقصره؟ .. ووقفتُ تحت سور القصر الشاهق وهو قائم كالجبل، وتسللتُ إلى العطفة نحو الباب الكبير، فأدهشني أن أجده مواربًا!

وصمتَ لحظات ثم قال: دفعتُ الباب قليلًا ودخلت فرأيت منظرًا لم أتوقَّعْه، لم أتصوَّرْه، لم يجرِ لي في خاطر، لا الحديقة هناك ولا السلاملك، لا أخلاط العبير، ولا زقزقة العصافير، ولكن خرابة مترامية، وأكوام من النفايات، ونفر من الصعاليك!

فهتفتُ مستغربًا: كيف … هل هُدم؟

– لا شيء إلا الخراب يحيط به جدار شاهق وباب عظيم، ونظر إليَّ الصعاليك بحذر وارتياب، فضربت الأرض بقدمي، ورحتُ أبحث عن أحدٍ حيٍّ من مريدي جدي، وفي أثناء بحثي وتجوالي علمتُ أن الراوي توفي بعد سجني بعام واحد، وبأنه أوقفَ ثروته كلها على الخيرات دون أن يُخصِّص لي مليمًا واحدًا، ولا لأحد من ذريتي، أما القصر فقد أُلقِيَتْ عليه قنبلة في إحدى الغارات الجوية، ثم أُزيلَتْ أنقاضه، هذه هي القصة كلها من أولها لآخِرها، وأدركتُ في الحال أنني لن أظفر براحة في الراحة القهرية القصيرة التي تسبق الراحة الأبدية، ولكنني قررتُ أن أجعل بيتي في الخرابة المتخلفة عن قصر جدي، وأني أنام فيها عادةً ما بين الفجر والضحى كصعلوك من الصعاليك.

وضحكَ ضحكة قصيرة ثم سكت وهو ينفخ، فقلت برثاء: شيخوخة غير سعيدة!

فهتفَ بكبرياء: كلا، إني أرفض الرثاء والعطف، تذكَّرْ دائمًا أنك تخاطب عظيمًا من الرجال، ومن أسباب عظمته السحرية أنه قادر على التكيُّف مع أقسى الظروف والأحوال، فيخوضها بكل تعالٍ وابتسام!

وآمنتُ بقوله، ولكنني قلت: على أيِّ حال، فإن الإعانة الشهرية التي …

فقاطَعَني بحدة: لقد اتخذتُ فيها قرارًا!

– لم أظنك جادًّا فيما قرَّرتَ.

– ولكني جادٌّ كلَّ الجد!

– أتعني أنك لن تكتب الالتماس؟

– قطعًا.

– ولكنه الجنون عينه!

– سَمِّه كما تشاء، لقد حرمَني الراوي من تركته، وإني أرفض أن أتسوَّل منها مليمًا واحدًا!

– ولكنك يا جعفر عجوز وضعيف، وفقير، وسرعان ما تنفد النقود المتبقية لديك.

– أعرف هذا حرفًا حرفًا ولكني أعنَدُ من الراوي نفسه.

– دعني أكتب الالتماس بنفسي.

– إني أرفض.

– ولكن …

– إني أرفض الكلام حول هذا الموضوع!

وساد الصمت، وكان التعب قد نالَ منه مُحدِّثًا، كما نال مني مُستمِعًا.

وتثاءبتُ، فضحك قائلًا: إني لا أتثاءب قبل الفجر.

فتمتمت بفتور: عفارم.

– إني صعلوك مُتجوِّل، أغادر خرابة الراوي لأهيم على وجهي في الطرقات، من مرجوش إلى الخرنفش إلى النحاسين إلى خان جعفر، في كل مكان لي ذكرى ونجوى، وفي الحلمية ذكريات، وفي ميدان باب الخلق يخفق قلبي، وفي كل مكان أدعو دعوة صريحة إلى مذهبي، أدعو البشرية إلى إنقاذ نفسها.

– مذهبك؟

– أجل.

– علانية؟!

– أجل.

– يجب أن تحذر المتاعب.

– إني لا أخشى المتاعب.

وقلت لنفسي إن هيئته لا توحي بأي جدية فلا خوف عليه.

واستنمنا إلى الصمت مُرهقَين.

وفي لحظة من التخدير والأسى انطلقَ صوت المؤذن يعانق أمواج الظلام.

وتمطَّى جعفر قائلًا بصوته الرنان الخشن: آنَ لنا أن نذهب.

سِرنا جنبًا إلى جنب، اخترقنا القبو إلى الميدان، وهمس جعفر: لتمتلئ الحياة بالجنون المقدَّس حتى النفَس الأخير.

وكان رأسي يطن بحديث الليل الطويل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤