الفصل الثالث

برنامج المعنى البراجماتي

(١) التحوُّل اللغوي ونهاية فلسفة الوعي

يزعم هابرماس أنه ابتكر طريقة جديدة لتناول الفلسفة الاجتماعية؛ طريقة تبدأ بتحليل استخدام اللغة؛ مما يجعل الأساس العقلاني لتنسيق الفعل يكمن في الكلام. ويربط هابرماس هذه الطريقة الجديدة بتحوُّل أكثر عمومية في الفلسفة يطلق عليه اسم «التحوُّل اللغوي». ميزت هذه العبارة أصلًا محاولات مختلفة قام بها مختلف فلاسفة القرن العشرين لحل الخلافات المعرفية والميتافيزيقية المستعصية ظاهرًا عن طريق دراسة الحقائق المفاهيمية المتأصلة في استخدامنا للُّغة. قامت الاستراتيجية الأساسية على معالجة أسئلة تتعلق بما هو موجود، وما يمكن التعرف عليه، وكيف يمكن التعرف عليه، باعتبارها أسئلة خاصة بما نعنيه، أو ما نشير إليه، وكيف نفعل ذلك. ويُطَبِّق هابرماس استراتيجية مثيلة على أسئلة متعلقة بطبيعة ما هو اجتماعي وإمكانية وجود نظام اجتماعي.

التحوُّل اللغوي عند هابرماس ليس مجرد تحوُّل باتجاه اللغة وحسب، بل هو تحوُّل يبتعد به عما يُسَمِّيه «نموذج فلسفة الوعي». وهما وجهان لعملة واحدة؛ ففلسفة الوعي تحدد نموذجًا فلسفيًّا عامًّا جدًّا يمكن اختزاله في القليل من الأفكار المميزة:
  • (١)

    «الذاتية الديكارتية»: الفكرة المألوفة التي مفادها أن ثمة شيئًا يُعرف بِاسْم الذات التي هي محل العقل المُتَصَوَّر كعالم ذهني داخلي من الأفكار والتصورات.

  • (٢)

    عادة ما تلازم الذاتية الديكارتية «الازدواجية الميتافيزيقية»: وهي فكرة أنَّ هناك نوعين من المادة؛ التفكير والكيان الممتد. وأحيانًا ما تعرف باسم «الازدواجية الديكارتية» أو «ازدواجية العقل والبدن»؛ لأن ديكارت كان يحسب العقل والبدن كِيانَيْنِ مختلفين أساسًا.

  • (٣)

    «ميتافيزيقا الذات-الموضوع»: هذه هي النظرة الأكثر عمومية ومفادها أن العالم هو مجموع الموضوعات التي تقف في مواجهة تعددية التفكير والذوات الفاعلة. وما يميز هذه الفكرةَ أن الذوات لا تُعتبر أجزاءً من العالم الذي تعمل عليه. (ليست كل النظريات المثيلة نسخًا من الازدواجية الميتافيزيقية. على سبيل المثال، يُحْدِث هيجل تحوُّلًا في نموذج الذات-الموضوع من الداخل، وذلك عن طريق تصور العالم على أنه نتاج روح ذاتية مفردة عارفة للذات؛ ولذا، فإنه يملك ميتافيزيقا ذات-موضوع أحادية.)

  • (٤)

    «التأسيسية»: من منظور محدود، تشير التأسيسية إلى المذهب المعرفي لمدرسة فيينا أو الوضعيين «المناطقة» الذي مفاده أن المعرفة راسخة في بيانات حسيَّة أو في فئة من العبارات الرصدية البدائية. ومن منظور عام، تشير التأسيسية إلى البحث المعرفي عن اليقين الذي يميِّز كثيرًا من الفلسفات الحديثة بداية من ديكارت وما بعده.

  • (٥)

    «الفلسفة الأولى»: فكرة أن الفلسفة، التي لا تفترض مسبقًا الحقائق الراسخة بفعل العلوم الطبيعية، مطلوبة لتقديم برهان على صحة أنماط البحث العلمي. وهي شائعة بين الفلاسفة التأسيسيين بالمعنى العام، ومنهم على سبيل المثال ديكارت وكانط اللذان يؤمنان بأن مهمة الفلسفة الأساسية تكمن في وضع معايير للمعرفة السليمة.

هناك فكرتان أخريان يربط هابرماس بينهما وبين فلسفة الوعي؛ وهما ترتبطان بشكل أكثر مباشرةً بالنظرية الاجتماعية.

  • (٦)

    «الذَّرِّيَّة الاجتماعية»: الفكرة الشائعة في قسم كبير من الفلسفة الاجتماعية والسياسية بأن الأفراد سابقون منطقيًّا ووجوديًّا وتفسيريًّا للواقع الاجتماعي أو السياسي أو الأخلاقي. واستنادًا لهذا الرأي، يتكون المجتمع من مجموع العلاقات التي تربط بين أفراده المحددين كاملي التَّكَوُّنِ السابقين للوجود الاجتماعي والسياسي. النقطة الجوهرية التي تميز الذرية الاجتماعية هي أنه رغم أن الأفراد لا يتشكلون بفعل علاقاتهم بعضهم ببعض أو بالمجتمع ككلٍّ، يتشكل المجتمع بفعل العلاقات التي تربط بين أفراده. ويترتب على ذلك أنه لا يُنظَر إلى المجتمع على أنه يحمل أي قيمة متأصلة فيه، وأن الانتماء إليه لا يُعتبر ذا قيمة أصلًا. بدلًا من ذلك، نجد أن المجتمع يوجد لخدمة المصالح والرغبات المسبقة لأفراده، والانتماء للمجتمع ذو قيمة أداتية وحسب.

  • (٧)

    «المجتمع ذاتٌ كبرى»: يمكن العثور على فكرةِ كوْنِ المجتمع ضربًا من ذاتٍ كبرى في أعمال أفلاطون وروسو وشيلر وهيجل وماركس ودوركايم. وتقوم الفكرة على أن المجتمع كلٌّ عضوي موحَّد، لا مجردُ تعددية أو مجموع أفراده، بل شخص جمعي نوعًا ما.

لا يدعي هابرماس أن كل فيلسوف ينتمي إلى هذا النموذج يقبل كل أفكاره المميزة. الواقع أنهم لا يستطيعون ذلك؛ لأن هذه الأفكار ليست مجموعة متسقة. الفكرتان السادسة والسابعة مثلًا تبدوان غير متسقتين تمامًا. القصد أن هذه الأفكار مؤثرة جدًّا وراسخة بشدة في الفلسفة الحديثة، وأن هابرماس يرفضها كلها.

وبالعمل في اتجاه خارج عن تحليل التحوُّل اللغوي ذاك، يمكننا تمييز بعض السمات العامة لفلسفة هابرماس. بدايةً، لا تصوِّر النظرية الاجتماعية لهابرماس العالمَ الاجتماعي باعتباره موضوعًا (أو مجموعة من الموضوعات) يقف في مواجهة مجموعة الذوات التي يتفاعل معها سببيًّا. وليس العالم الاجتماعي موضوعًا أو مجموعة من الموضوعات، وهو ليس تحديدًا شيئًا خارجنا، بل هو وسط نعيش فيه. إنه «داخلنا» بالطريقة التي نفكر ونحس ونتصرف بها بقدر ما نحن «داخله». هذا أمر تعلمه هابرماس من علاقته في شبابه بهايدجر. وثمة نقطة ثانية مهمة، وهي أن هابرماس لا يرى الفلسفة تخصصًا متميزًا يتمتع بالأولوية على العلوم الطبيعية؛ فمهمة الفلسفة العمل في تضافر مع العلوم الطبيعية والاجتماعية التي تستقي منها مادتها. وحيثما دعت الضرورة، قد تلعب الفلسفة دورَ البديل لما يسميه هابرماس «النظريات التجريبية ذات الادعاءات العمومية القوية»؛ أي إن لديها القدرة على سد الفراغات في العلوم الطبيعية بتقديم فرضيات للتأكيد التجريبي (الوعي الأخلاقي والفعل التواصلي). أخيرًا، تعطي النظرية الاجتماعية لهابرماس أفضلية للبعد الذاتي المشترك للواقع الاجتماعي. إن المجتمع ليس مجموع الذوات المفردة، كما أنه ليس وحدة عضوية تُيَسِّر فيها الأجزاء غاية الكل. فما هو اجتماعي، بحسب قوله، ليس «ذاتًا كلية» فحسب، بل إنه ليس حتى موحدًا أو متسقًا. وكما سيتضح لنا في الفصل الخامس، فما هو اجتماعي يكون بِنْيةً معقدة ومتعددة الأوجه بين ذواتية تشمل نطاقات متداخلة مميزة يتفاعل بداخلها الفاعلون.

(٢) نظرية المعنى البراجماتية عند هابرماس

بالنظر إلى التحوُّل «اللغوي» عند هابرماس من وجهة نظر إيجابية، سنجده تحوُّلًا «براجماتيًّا» أيضًا بالقدر نفسه. يحاول هابرماس أن يُحدِث تحوُّلًا في النظرية الاجتماعية بمساعدة ضرب خاص من نظرية المعنى؛ أي النظرية البراجماتية للمعنى. في السبعينيات، توصل هابرماس متأثرًا بكارل-أوتو آبل زميله بجامعة فرانكفورت إلى رأي مفاده أن المعنى اللغوي لم يستنفده المعنى الافتراضي، وأن للمعنى «بنية مزدوجة أدائية-افتراضية»، أو أن المعنى الافتراضي والبراجماتي كانا متلازمين. ولتقدير هذا الموقف وأثره على نظرية هابرماس، سندرس كلًّا مما سبق على حدة.

(٢-١) المعنى الافتراضي

بحسب النظرية القياسية الشائعة للمعنى حاليًّا، يتألف معنى الجملة من شروط صحتها، وفهم معنى جملة من الجمل ما هو إلا معرفة ما يجعلها صحيحة أو خاطئة. ولقد ثبت أن نظرية المعنى المشروطة بالصحة مُحْكَمة ومفيدة. فمن ناحية، هي قادرة على تفسير الحقيقة المميزة المتعلقة باللغة؛ ألا وهي أنه من بين عدد محدود من المفردات والعبارات ذات المغزى والقواعد النحوية التي تحكم المزج بينها، يمكن تشكيل عدد لا نهائي من الجمل الجديدة المفيدة الأكثر تعقيدًا. ويفسر ذلك بدوره علة فهمنا لمعنى الجمل التي لم نسمعها من قبل قط.

ولكن، ثمة صعوبة واحدة تشوب نظرية المعنى النموذجية المشروطة بالصحة؛ ألا وهي أنها تبدو منطقية لجزء محدود من اللغة وحسب، وهو الجزء الافتراضي أو الوصفي. ولا بأس بها في تأكيدات على غرار «الثلج أبيض»، لكنها لا تناسب تعبيرات مثل «كيف حالك؟» يبدو من العبث أن نزعم بأنه لمعرفة معنى التعبير «كيف حالك؟» يتعين على المرء معرفة الشروط التي بموجبها تكون جملة «كيف حالك؟» صحيحة (أو خاطئة). هناك الكثير من الأمثلة الشبيهة نرى فيها اللغة ذات معنًى، مع أنه يبدو من الغريب الزعم بأن معنى الجُمَل أو أجزاء الجُمَل يعول على شروط صحتها. ولهذا السبب، يعتقد هابرماس أن علم الدلالة المشروط بالصحة موصوم ﺑ «مغالطة وصفية»؛ فهو يقع في خطأ توسعة نطاق نظرية المعنى التي تسري دون مشكلة على بعض أجزاء اللغة؛ ألا وهي الافتراضات، التي لها حقًّا وظيفة وصفية أو تمثيلية، بحيث تناسب اللغة بأسرها. وهذا واحد من الأسباب التي دعت هابرماس لتفضيل نظرية المعنى البراجماتية.

(٢-٢) المعنى البراجماتي

نظرية هابرماس للمعنى براجماتية لأنها لا تُرَكِّز على ما «تقوله» اللغة، بل على ما «تفعله»؛ فهي نظرية ﻟ «استخدام» اللغة. وينطلق هابرماس من تعريف للُّغة عند كارل بوهلر (١٨٧٩–١٩٦٣)، المُنَظِّر اللغوي الألماني، باعتبارها «أداة ينقل بها المرء فكرة للآخر عن العالم.» وينسب بوهلر ثلاث وظائف للُّغة تُقابل منظور المتكلم والمخاطب والغائب على الترتيب؛ ألا وهي: الوظيفة «المعرفية» لتمثيل الحال، ووظيفة «الالتماس» لتوجيه الطلبات إلى المُتلقِّين، والوظيفة «التعبيرية» للإفصاح عن تجارب المتكلم. ويوضح مخطط بوهلر الطبيعة الثلاثية للتواصل.

fig9
شكل ٣-١: نموذج الأورجانون لدى كارل بوهلر للُّغة.

يزعم بوهلر أن أي حدث من أحداث استخدام اللغة ينطوي على ثلاثية قوامُها المتكلم والمستمع والعالم، وأن نظرية اللغة يجب أن تعاملهم جميعًا بإنصاف. ويوافقه هابرماس الرأي؛ فهو يعتقد أنه من الخطأ أن ينصبَّ تركيز نظرية المعنى المشروط بالصحة حصريًّا على الوظيفة المعرفية، بينما يتجاهل الوظيفتين الأخريين المتمثلتين في العلاقة بين المتكلم والمستمع. ومن ثَم، فهي لا تستطيع أن تقدم تفسيرًا وافيًا لكيفية استخدام اللغة بعدة طرق مختلفة ليتواصل بعضنا مع بعض ولتنسيق أفعالنا.

يطور هابرماس هذه الفكرة قائلًا إن الوظيفة البراجماتية للكلام هي الانتقال بالمتحاورين إلى نقطة فهم مشتركة، وتحقيق الإجماع الذاتي المشترك، وأن هذه الوظيفة تتمتع بأفضلية على وظيفة الدلالة على واقع العالم. وبينما تتبنى نظرية المعنى المشروط بالصحة الفرضياتِ باعتبارها الوحدات اللغوية الأساسية الحاملة للمعنى، تتبنى نظرية المعنى البراجماتيةُ الملفوظاتِ باعتبارها الوحدات اللغوية الأساسية الحاملة للمعنى. ويتكون اللفظ من كلمات ينطقها المتكلم ويتلقاها المستمع في موقف بعينه ولسبب محدد؛ على سبيل المثال، «النافذة مفتوحة». والفرضية هي المحتوى أو الفكرة التي تمثلها الكلمات، وهي «أن النافذة مفتوحة». في المواقف الواقعية، دائمًا ما تُطمَر الفرضيات في الملفوظات. لا يرفض هابرماس نظرية المعنى المشروط بالصحة بالمرة، بل إنه ينكر أولًا أنها يمكن أن تكون تفسيرًا عامًّا للمعنى، وينكر ثانيًا كونها الضرب الأساسي للمعنى. ويرى بدلًا من ذلك أن المعنى والفهم من الأفضل تناولهما عبر تحليل للوظيفة البراجماتية للكلام:

لا يعرف المرء ماهية فهمِ معنَى تعبيرٍ لغوي إذا لم يكن يعرف أساسًا كيف يستغله للوصول إلى فهم مشترك مع الآخر حيال شيء ما.

«براجماتيات التواصل»

(٢-٣) الإجماع والاتفاق

يزعم هابرماس أن الوظيفة الأساسية للكلام هي تنسيق أفعال جمهور الفاعلين المفردين، وإتاحة المسارات الخفية التي يمكن للتفاعلات أن تتجلى فيها بطريقة مُنَظَّمَة وخالية من الصراعات. ويمكن للُّغة أن تفي بهذه الوظيفة نظرًا لغايتها (أو مرادها) المتأصلة المتمثلة في الوصول إلى الفهم أو تحقيق الإجماع. ويرى هابرماس حقيقة لا مراء فيها؛ أن «الوصول إلى فهم يكمن في كلام البشر باعتباره مرادًا له» (نظرية الفعل التواصلي، المجلد الأول). ويستخدم هابرماس الكلمة الألمانية Verständigung إشارة إلى عملية الوصول إلى فهم أو اتفاق، وعبارة rationales Einverständnis إشارة إلى نتيجة هذه العملية؛ ألا وهي الإجماع أو الفهم العقلاني الذي يتم التوصل إليه. وتنبع هذه الكلمات من الفعل sich verständigen الذي يمكن أن يعني «أن يجعل المرء نفسه مفهومًا للآخر»، لكنه يمكن أن يعني أيضًا «الوصول إلى اتفاق مع الآخر». وهذا ازدواج مهم إذا ما نظرنا إلى حقيقة أن الاصطلاح محوري في تفسير النظام الاجتماعي. فيما يلي، سأستخدم كلمة «إجماع» كمراوغة مقبولة، لكننا ينبغي أن نحتاط فلا نغفل عن هذا الازدواج.
تنص نظرية هابرماس على أن المعنى البراجماتي للكلام يتألف من الطريقة التي يعمل بها الكلام على تشكيل إجماعٍ بين ذواتيٍّ مشترك بين المتحاورين؛ إجماعٍ يشكل أساس أفعالهم المترتبة عليه. ورؤية هابرماس هي أن الكلام يفي بهذه الوظيفة؛ لأن معنى الملفوظات يعتمد على الأسباب. وأُسمِّي هذه الفكرةَ الأطروحةَ العقلانية؛ لأن وجهة النظر القائلة إن المعاني تتكئ على الدواعي هي صورة من صور العقلانية. ويسمي هابرماس وجهة النظر هذه «أساس صحة المعنى»، وهي تسمية أكثر دقة نوعًا ما، لكنها أيضًا يمكن أن تكون مضللة بسبب الطريقة الغريبة التي يستخدم بها اصطلاح «الصحة». وذلك لأن هابرماس يستخدم هذا الاصطلاح بطريقة براجماتية لا بالمعنى الصوري-المنطقي. في المنطق الاقتراحي، تشير الكلمة نفسها، «الصحة»، إلى علاقة استنباطية حامية للحقيقة بين العبارات المُحكمة الصياغة. إن ما يطلِق عليه هابرماس اسم الصحة (Getlung أو Gültigkeit) شيء مختلف إلى حدٍّ ما؛ فهو العلاقة الوثيقة بين الأسباب والإجماع، أو بحسب تعبيره، «العلاقة الداخلية مع الأسباب» (نظرية الفعل التواصلي، المجلد الأول، الفصل التاسع).

النقطة المحورية فيما أسميه أطروحة هابرماس العقلانية هي أن المعنى البراجماتي لأحد الألفاظ يعتمد على صحته؛ أي على الإجماع الذي يقدم أسبابًا يمكن أن يستشهد بها المتكلم. علاوة على ذلك، يزعم هابرماس أن معنى الأفعال والملفوظات والفرضيات عام أو مشترك بالضرورة، وأن هذا يرجع إلى أن المعنى يعتمد على الأسباب التي هي بدورها عامة أو مشتركة بالضرورة. وتعتمد المعاني المشتركة على أسباب مشتركة. (يمكن أن يرى المرء هنا كيف تُعيد نظرية المعنى البراجماتية لهابرماس صياغة فكرة الدعاية في تعبير اصطلاحي مختلف كل الاختلاف، وعلى مستوًى نظري أكثر تجريدًا من أعماله السابقة.)

لنُلقِ الآن نظرة أكثر تمحيصًا على تفاصيل النظرية. يقول هابرماس إن أي فعل كلاميٍّ مُخْلِص يطرح ثلاثة ادعاءات مختلفة لصحته: ادعاء صحة حقيقته، وادعاء صحة صوابه، وادعاء صحة صدقه. هذه هي الالتزامات التي شهدناها في نهاية الفصل السابق. وادعاءات الصحة «ضرورية» من حيث إنها تُفهَم دومًا على اعتبار أنها طُرحت أثناء فعل الكلام؛ لا يمكننا أن نجعل الآخرين يفهموننا ونشارك في حوار هادف دون افتراضات مسبقة، وإقناع الآخرين بالإيمان بأننا صادقون، وأن ما نقوله صواب وحقيقي. وانطلاقًا من كون ادعاء الصحة التزامًا بالتبرير، فهو التزام بتقديم الأسباب المناسبة. ويدعي هابرماس أنه في أي فعل تواصلي، يجب أن يقدِّم المتكلم ادعاءات الصحة الثلاثة كلها. ووفقًا لنوع فعل الكلام — سواء أكان تأكيدًا، على سبيل المثال، أم طلبًا أو تصريحًا — ثمة ادعاء صحة وحيد هو الذي يُطْرَح كفكرة على المستمع، أو ادعاء صحة وحيد يستوعبه المستمع.

عندما يطرح المتكلم ادعاءً بصحة حقيقة قول ما، على سبيل المثال «الثلج أبيض»، فهو يوحي بأن هناك أسبابًا وجيهة لتصديق ادعائه، وأنه يستطيع، إذا دعت الحاجة، أن يقنع المستمعَ بصحته على أساس هذه الأسباب. سيفهم المستمع التأكيد في ضوء هذه الأسباب. وهذه نقطة أقل مباشرةً مما تبدو في الواقع. فالسؤال هنا: عندما أطرح ادعاء بصحة حقيقة عبارة «الثلج أبيض»، هل أدعي أن محتوى التأكيد — أن الثلج أبيض — صحيح، أم أن الملفوظ نفسه — «الثلج أبيض» — صحيح؟ بدايةً، لم يحدد هابرماس؛ فالمتكلم — حسب زعمه — «يستطيع بشكل عقلاني تحفيز المستمع من أجل قبول فعله الكلامي؛ لأنه … يستطيع أن يضطلع بتقديم «ضمانة» توفير … أسباب وجيهة يرد بها على نقد المستمع لادعاء الصحة» (نظرية الفعل التواصلي، المجلد الأول). موقفه الحالي هو أن الحقيقة تُلتمس لمحتوًى ما يُقال وللفظ المنطوق في آن واحد.

وادعاءات صحة الصواب — إذا وُجدت — أكثر تعقيدًا بكثير. يزعم هابرماس أنه عندما يطرح المرء ادعاءً بصحة صواب كلام ما، فإنه يدعي صواب العرف الكامن وراء الكلام. على سبيل المثال، إن قلت إن «السرقة إثم»، فإنني أزعم ضمنيًّا أني أستطيع تقديم حجج تقنع مُحاوري بأن السرقة إثم. ثمة مَكمنانِ للصعوبة هنا. أولهما أن هابرماس يعتقد أن التصريحات الأخلاقية مثل «السرقة إثم» ليست افتراضات حقيقية، ولا تحمل قيم الحقيقة في طياتها. فالقول بأن «السرقة إثم» طريقة تُضمر وراءها مقولة «لا تسرقْ»، وليس من المنطقي القول بأن «لا تسرق» عبارة صحيحة أو خاطئة بما أننا لا نستطيع أن ننسب الحقيقة أو الزيف إلى صيغة الأمر؛ ولذا، فإن محتوى المقولة الأخلاقية «القتل إثم» يشبه فرضية «أن القتل إثم»، لكن هذه طريقة مراوِغة للقول بأن العرف الأساسي الذي تعبر عنه صيغة الأمر «لا تقتل» مُبَرَّر. ويترتب على ذلك أن ادعاء صحة الصواب يجب أن يكون ادعاءً بصواب العرف الأخلاقي الضمني؛ أيِ التزامًا بتقديم الأسباب التي تبرر هذا العُرف.

موطن التعقيد الثاني يكمن في أن «الصواب» هنا كلمة ملتبسة؛ فمن الممكن أن تعني المناسب أو المُبَرَّر أو المسموح به أخلاقيًّا أو المطلوب أخلاقيًّا. والتقدم بادعاء صحة صواب شيء ما يمكن أن يوازي الادعاء بأنَّ عُرفًا من الأعراف مناسب في الموقف المعني؛ ويمكن أن يوازي الادعاء بأن ذاك العُرف مُبَرَّر، ويمكن أن يعني الادعاء بأن الأفعال التي يحددها العُرف مباحة أو مطلوبة. ويبدو أن رأي هابرماس هو أن التقدم بادعاء صحة صواب شيء ما يوازي الادعاء بأن العرف الكامن وراءه مُبَرَّر، على أساس ضرب خاص جدًّا من المنطق وثيق الصلة بالخلقية. وعندما يتم تطبيق العُرف تطبيقًا صحيحًا في موقف بعينه، سيكون واضحًا لجميع المعنيين إن كان الفعل مسموحًا به أو محظورًا أو مطلوبًا.

يكفي هذا القدْر فيما يتعلق بادعاءات صحة الصواب الآن. سأتناولها بالنقاش مرة أخرى في الفصل السابع. تنص الأطروحة العقلانية على أن المعنى يعتمد على الصحة؛ لأنه لفهم معنى الكلام الملفوظ، يتعين على المستمع أن يكون قادرًا على استحضار (وقبول أو رفض) الأسباب المتعلقة بتبريره في ذهنه. النقطة الأساسية هنا هي أن السبب والصحة، لا الحقيقة، هما اللذان ينجزان العمل كله. فبدلًا من القول بأنه لفهم معنى فرضية ما، يجب أن أعرف الشروط التي تجعلها إما صوابًا أو خطَأً، يزعم هابرماس أنه لفهم معنى الكلام الملفوظ (والأمر نفسه ينطبق على الأفعال)، يجب أن أكون قادرًا على أن أستحضر في ذهني، وأقبل أو أرفض، الأسباب التي من الممكن الاستدلال بها لتبريره. يقول هابرماس: «إننا نفهم معنى فعل الكلام عندما نعرف ما يجعله مقبولًا» (نظرية الفعل التواصلي، المجلد الأول).

(٢-٤) الفهم والمعنى

حتى الآن عكفتُ على عرض ما يسميه هابرماس براجماتيته الشكلية كنظرية للمعنى. ولعلكم لاحظتم أننا أخذنا نناقش مسائل خاصة بالمعنى بالتوازي مع مسائل متعلقة بالفهم. ولا عجب في ذلك إذا ما نظرنا إلى أن أحد أسباب ابتكار هابرماس لنهجه الجديد للنظرية الاجتماعية هو حل مشكلة فهم المعنى. يعتقد هابرماس أن نظرية المعنى ينبغي أيضًا أن تكون نظرية للفهم، وإلا فستُجَرِّد مسألة المعنى من السياق الذي يعطي فيه المتكلم المستمع شيئًا ليفهمه. وبتعبير آخر، يعتقد هابرماس أن المعنى علاقة بين ذواتية لا علاقة موضوعية. (لاحظ كيف تمثل نظريته للمعنى رفضه لفلسفة الوعي. استنادًا لرأي هابرماس، المعاني لا تحددها علاقة المتكلم بالعالم الخارجي، بل علاقته بمحاوريه؛ فالمعنى في الأساس يوصف بأنه بين ذواتي، لا موضوعي، وليس علاقة ثنائية القطب بين الكلمات والأشياء.)

استنادًا لرأي هابرماس، هناك أربعة عوامل لفهم معنى الكلام الملفوظ:
  • (١)

    إدراك معناه الحرفي.

  • (٢)

    تقييم المستمع لنيَّات المتكلم.

  • (٣)

    معرفة الأسباب التي يمكن الاستدلال بها لتبرير الكلام ومحتواه.

  • (٤)

    قبول هذه الأسباب؛ ومن ثم ملاءمة الكلام.

لنفترض أنني قلت لجاري ذات يوم مشمس من أيام الشتاء في يورك: «الأمطار تهطل في سيدني.» رغم أنه يدرك المعنى الحرفي للجملة — شروط صدقها — فإنه لا يمكن، على هذا الأساس وحده، القول بأنه فهِمها؛ لأنه لا يعي القصد وراء قولي إياها. لنفترض أن جاري أخبرني بأنه يدرس فكرة الهجرة إلى أستراليا. سيكون لديه الآن قرينة على نيَّاتي. ربما أنني أحذره كصديق من أن الأوضاع ليست أحسن حالًا على الدوام هناك. ورغم ذلك، فقد ينتابه القلق إذا ظن أنني لا أستند على أساس فيما أوردته عن أحوال الطقس، وقد لا يصدقني. لنفترض الآن أنه اكتشف أنني كنت أتحدث لتوِّي مع أخي المقيم بأستراليا على الهاتف. سيستحضر حينئذٍ الأسباب الداعية لما تلفظتُ به؛ ومن ثم سيفهمه فهمًا وافيًا. ولكي يتحقق له ذلك، يتعين عليه أن يستحضر ذهنيًّا الأسباب وراء كلامي ويقبلها، أو يدرك ادعاء صحتها بأنها حقيقية.

(٢-٥) الاعتراضات

تعرضَت نظرية المعنى عند هابرماس لنقد لاذع تجاوز ما تعرض إليه أي برنامج آخر. لقد سبق وأثرنا بعض الأسئلة المحيرة: بمَ ترتبط ادعاءات صحة الحقيقة؟ هل ترتبط بالتأكيد أم بالمحتوى المؤكد أم بكليهما؟ وبمَ ترتبط ادعاءات صحة الصواب؟ هل ترتبط بالملفوظات أم الأفعال أم بالأعراف الكامنة وراءها؟ ما هو مفهوم الصواب الساري في هذه الحالة؟ لا يسعني الخوض في كل التعقيدات المتنوعة التي خرجت ردًّا على هذه الانتقادات. ولكن، من الخطأ أن نترك النظرية البراجماتية للمعنى دون أن نتوقف لتناول أبرز اعتراضيْن عليها.

يرتكز الاعتراض الأول على الازدواجية في معنى اصطلاحَيْ هابرماس Verständigung وEinverständnis. إن الادعاء بأن النظام الاجتماعي يعتمد على تفاهمات ومعانٍ مشتركة يختلف كل الاختلاف عن الادعاء بأن النظام الاجتماعي يستند إلى اتفاق بين ذواتيٍّ. فقد لا ترقى التفاهمات والمعاني المشتركة إلى الاتفاقات. زعم كثير من المنظرين الاجتماعيين، كمؤيدي العقود الاجتماعية، أن النظام الاجتماعي قائم على الاتفاقات، وأن ثمة أسبابًا تدعو للحفاظ على هذه الاتفاقات. لكن الزعم بأن النظام الاجتماعي يعول على المعاني والتفاهمات المشتركة وحدها شيء آخر تمامًا، وأكثر إثارة للدهشة إن صَحَّ. عادة ما كان هابرماس يلام على استنتاجه المفتقر إلى المنطقية والقائل إن أفراد المجتمع، بمجرد فهم كلٍّ منهم مغزى الآخر، سيلتزمون بالقواعد الاجتماعية والأخلاقية نفسها.

يهاجم الاعتراض الثاني النظرة المثيرة للجدل التي ترى أن هناك ثلاثة ادعاءات صحة مميزة؛ أحدها للحقيقة والثاني للصواب والثالث للصدق. يرفض هابرماس فكرة أن هناك نوعًا واحدًا فقط للمعنى — ألا وهو المعنى المشروط بالصحة — وأن الجمل التي لا تشتمل على شروط صحتها — مثل «كيف حالك؟» أو «لا تسرق!» — لا معنى لها عمليًّا. لكن البديل — وهو أن هناك ثلاثة أنواع من ادعاء الصحة — يبدو أقل جاذبية. لنفكر في إحدى الجمل المختلطة، مثل «صفعَتْني على وجهي، الأمر الذي لم يكن مسموحًا». يبدو وكأن الجزء الأول من العبارة يطرح ادعاءً بصحة الحقيقة، بينما يطرح الجزء الثاني ادعاء بصحة الصواب. كيف لنا إذن أن نفهم معنى الجملة بأكملها؟ تمزج اللغة الطبيعية بسلاسة بين سمات معيارية ومعرفية وتعبيرية: جملة «انتحل الطالب أفكار كتابي!» قد تُقرِّر واقعًا فورًا، وفي الوقت نفسه تعبِّر عن موقف استنكاري؛ نظرًا لمخالفة معيار محدد، وتكشف عن مشاعر ذاتية. من الواضح أن نظرية هابرماس للفهم تنتقد هذه الجوانب المتنوعة، وتنسبها إلى أبعاد صحة مختلفة.

ورغم أن هذه الانتقادات هادفة، فيجب ألا ننسى أن تقصيات هابرماس في اللغة والمعنى والحقيقة اعتُبِرَت دراسة تمهيدية لنظريته الاجتماعية. فقد كان اهتمامه بما تستطيع نظريات المعنى والفهم أن تقدمه للنظرية الاجتماعية دومًا أكثر بكثير من اهتمامه بما يمكن أن تقدمه النظرية الاجتماعية لها؛ ومن ثم فقد نزع إلى أن ينتقي بعنايةٍ أجزاءً من فلسفة اللغة يمكن أن تخدم أغراضه. ولا ينبغي أن نخضع لإغراء إنكار فلسفة هابرماس برمتها على أساس أن ثمة أخطاءً أو مفاهيمَ خاطئة في نظريته للمعنى. يجب أن نركز بدلًا من ذلك على ماهية الأفكار المتعمقة التي تسمح نظرية المعنى البراجماتية بإضافتها للنظرية الاجتماعية والأخلاقية والسياسية.

(٣) التواصل والخطاب

تتيح مفاهيم الفعل التواصلي والخطاب رابطًا جوهريًّا بين نظرية هابرماس البراجماتية للمعنى ونظريته الاجتماعية والأخلاقية. تتلخص الفكرة حتى الآن في أن معنى فعل الكلام يعتمد على ادعاء صحته. وتعمل ادعاءات الصحة كضمانة على أن المتكلم يستطيع أن يسوق أسبابًا داعمة من شأنها إقناع محاوره بقبول كلامه الملفوظ. غالبًا ما يحظى الضمان بالقبول ضمنيًّا من قِبَل المستمع، ويكفي لتنسيق تفاعلاتهما. ويكفل ذلك فِعلًا تواصليًّا ناجحًا. عندما يفهم شخص ما طلبًا شفهيًّا بسيطًا ويذعن له، فإن المتكلم والمستمع، بتوصلهما إلى إجماع، ينتقلان بسلاسة من التواصل إلى الفعل، ويتم تنسيق الأفعال ضمنيًّا بواسطة ادعاءات الصحة.

ولكن، ماذا يحدث عندما يتعطل التواصل؟ ماذا يحدث عندما يرفض المستمع ادعاءً بالصحة؟ عندما يطلب المستمع من المتكلم أن يبرر ادعاءً بالصحة بإبداء أسباب له، ينتقل الفاعلون نتيجة الخلاف من موقف فعل إلى موقف خطاب. والخطاب تواصل عن التواصل؛ إنه تواصل يتأمل الإجماع المنقطع في سياق الفعل. لنفترض أنك طلبت مني ألا أدخن في مكتبي أثناء وجودك فيه، فرفضتُ النزول على رغبتك لأنني أعلم أنك أيضًا تدخن. سوف أسألك عن الأسباب الداعية لطلبك. ربما تجيب بأنك أقلعت مؤخرًا عن التدخين ولا تريد أن تعود إليه مجددًا. في هذه الحالة، ربما أقبل سببك وأطفئ سيجارتي. استنادًا لوجهة نظر هابرماس، فإننا شاركنا في الخطاب (وإن كان موجزًا)، وتوصلنا إلى إجماع مدفوع بالعقلانية (هذه العبارة هي الترجمة الإنجليزية المقبولة للمصطلح rationales Einverständnis)، وعُدنا بسلاسة إلى سياق الفعل.

هناك أربع نقاط مهمة ينبغي ملاحظتها عن الخطاب. أولًا: الخطاب ليس مرادفًا للُّغة أو الكلام، لكنه اصطلاح فني لشكل تأمليٍّ من الكلام يهدف إلى التوصل إلى إجماع مدفوع بالعقلانية (نظرية الفعل التواصلي، المجلد الأول). ويهدف الخطاب دومًا في المقام الأول إلى الإجماع المدفوع بالعقلانية، حتى لو لم يكن هناك أي إجماع يلوح في الأفق. ثانيًا: لا يدل اصطلاح «الخطاب» على شكل نادر وغير مألوف من النشاط اللغوي الذي يمارسه في المقام الأول الفلاسفة والمتحذلقون، بل يسلط الخطاب الضوء على ممارسة الجدل والتبرير الشائعة التي تدخل في نسيج الحياة اليومية. ورغم ذلك، فالخطاب ليس لعبة لغوية واحدة من بين ألعاب لغوية كثيرة؛ وذلك لأن الخطاب، بحسب هابرماس، يشغل مكانة مميزة في العالم الاجتماعي. ويفترض هابرماس أن الخطاب هو الآلية الافتراضية لتنظيم الصراعات اليومية في المجتمعات الحديثة. وهذه الفرضية تجريبية؛ إذ تستند إلى الملاحظة. إن وظيفة الخطاب هي تجديد أو علاج إجماع فاشل، وإعادة ترسيخ الأساس العقلاني للنظام الاجتماعي. وهذه الفرضية إصلاحية؛ إذ تستند إلى تحليل لممارسة الخطاب.

fig10
شكل ٣-٢: الأنواع الثلاثة للخطاب.

ثالثًا: يرتبط مفهوم الخطاب ارتباطًا وثيقًا بمفهوم ادعاء الصحة. فالخطاب يُستهل بطعن من قبل المستمع للمتكلم؛ إذ يطلب إليه أن يبرر ادعاءه بالصحة. وبما أن هناك ثلاثة أنواع لادعاء الصحة (الحقيقة والصواب والصدق)، فهناك ثلاثة أنواع مقابلة للخطاب: النظري والأخلاقي والجمالي.

على سبيل المثال، فالخطاب الذي يسعى إلى تبرير ادعاءٍ بصحة الصواب، بطلبك أن أكف عن التدخين، يمثل بحسب نظرية هابرماس خطابًا أخلاقيًّا-عمليًّا. وأي خطاب ينشأ من طعنٍ في ادعاءٍ بصحة الحقيقة هو خطاب نظري. (يجب أن يتحرى المرء الحيطة هنا؛ فالمصطلح «نظري» مستخدم بمعنًى أكثر شمولًا من المعتاد.)

النقطة الرابعة والأخيرة هي أن الخطاب نشاط شديد التعقيد والانضباط وليس كلامًا شفهيًّا في متناول الجميع؛ وهذا لأن المحاجَّة ممارسة تتشكل تبعًا لقواعد قابلة للتحديد والصياغة. يشير هابرماس إلى هذه القواعد باعتبار أنها «صبْغ الفرضيات المسبقة البراجماتية للخطاب بصبغة مثالية»، أو اختصارًا «قواعد الخطاب».

(٤) قواعد الخطاب

يحدد هابرماس ثلاثة مستويات من القواعد. على المستوى الأول، نجد القواعد المنطقية والدلالية الأساسية كمبدأ عدم التعارض وشرط الاتساق (الوعي الأخلاقي والفعل التواصلي). وعلى المستوى الثاني، هناك المعايير التي تحكم الإجراء، كمبدأ إخلاص النية؛ أي إن كل مشارك يجب أن يقوم بتأكيدِ ما يؤمن به صدقًا؛ ومبدأ المساءلة؛ أي أنْ يقوم المشاركون — نزولًا على طلب الآخر — بتبرير ما يؤكدونه أو بتقديم أسبابٍ لعدم تقديمهم تبريرًا. وعلى المستوى الثالث، هناك المعايير التي تُحَصِّن عملية الخطاب من الإرغام والكبت وعدم المساواة، وتضمن أن «القوة الحرة للحجة الأفضل» هي التي ستنتصر. وتتضمن القواعد التالية:
  • (١)

    كل شخص لديه القدرة على الكلام والفعل يُسمح له بالمشاركة في الخطاب.

  • (٢)

    (أ) يُسمح لأي شخص بالتشكيك في أي تأكيد أيًّا كان.

      (ب) يُسمح لأي شخص بطرح أي تأكيد أيًّا كان ضمن الخطاب.

      (ﺟ) يُسمح لأي شخص بالتعبير عن آرائه ورغباته واحتياجاته.

  • (٣)

    لا يجوز منع أي متكلم، سواء بإرغامه بقوة داخلية أو خارجية، من ممارسة حقوقه المنصوص عليها في البندين ١ و٢ أعلاه.

«الوعي الأخلاقي والفعل التواصلي»

يسمي هابرماس قواعد الخطاب «الفرضيات المسبقة البراجماتية» لأنها فرضيات مسبقة ضمنية لممارسة الخطاب. وقواعد الخطاب أقل شبهًا بقواعد لعبة تكوين الكلمات أو الشطرنج، المكتوبة في مكان ما، وأكثر شبهًا بقواعد النحو اللُّغوية. ويستطيع المرء أن يتبع هذه القواعد تمامًا دون أن يكون قادرًا على التصريح بكُنْهِها أو دون أن يدري أنه يتبعها. ويصر هابرماس على أن هذه الفرضيات المسبقة للخطاب «ضرورية»؛ وذلك لأنه لا أحد ممن يشارك في الخطاب — في عملية طرح الأسباب واستقبالها — يستطيع أن يتفادى افتراض هذه الفرضيات. إن الانخراط في الخطاب يستدعي أن يلتزم المرء بإخلاص النية، وأن يبرر ما يقول، وألا يناقض نفسه، وألا يستثني غيره من المشاركين، وما إلى ذلك. وهذه الفرضيات ضرورية من ناحية أخرى أيضًا. فيما يتعلق بالفاعلين في المجتمعات الحديثة، لا يوجد بديل متاح للتواصل والخطاب كوسيلة لحل الصراعات؛ فهي وسيلة راسخة جدًّا في نسيج المجتمع، وفي شخصية الأفراد.

وأخيرًا، فقواعد الخطاب «نزَّاعة إلى المثالية» من حيث إنها توجه المشاركين نحو النموذج المثالي للإجماع المدفوع بالعقلانية. إن الخطاب الذي يُستمع فيه إلى كل المَعْنيين، والذي لا تُستثنى أي حجة فيه من الاعتبار اعتباطيًّا، والذي تكون الغلبة فيه لقوة الحجة الفضلى وحدها؛ سيفضي، إذا باء بالنجاح، إلى إجماع على أساس أسباب مقبولة للجميع. وفي عالم الواقع حين يكون الوقت محدودًا والمشاركون عرضة للخطأ، ستُقَرِّب الخطابات وحسب هذه المُثُل بدرجة أكبر أو أقل. ومع ذلك، فمن الممكن أن يكون لها أثر تنظيمي يتمثل في ضمان الإحاطة والشمولية وغياب الخداع والقسر. هذه المُثُل تنظيمية، لكنها أيضًا حقيقية بقدر ما تكون ممارسة المحاجَّة الراسخة فيها هذه المثل حقيقية.

السؤال المتعلق بكيفية تحديد المرء لقواعد الخطاب صعب. يعتقد هابرماس أن المرء يستطيع أن يدلل على أن كل قاعدة فرضية مسبقة أصيلة لا مناصَ منها للخطاب بفعل التناقض الذاتي الأدائي. جُمَل مثل «الجو ممطر، لكنني لا أصدق ذلك» أو «الثلج أبيض، لكنه ليس حقيقيًّا أن الثلج أبيض» تنطوي على مفارقة؛ وذلك لأنه فور أن يلفظها المتكلم، فإنه يطرح ضمنًا ادعاءً بالصحة ينكره محتواها صراحة. ويزعم هابرماس بأن المعنى البراجماتي لمثل هذه الجمل يتعارض مع معناها الافتراضي. وفي سياق مماثل، يرى هابرماس أن عبارات مثل «وصَلْنا إلى إجماع مدفوع بالعقلانية باستبعاد أشخاص بعينهم من الخطاب» تحتوي على تعارض ذاتي أدائي. وبهذه الطريقة، فإن ذريعة الدحض الذاتي الأدائي يمكن استخدامها لتبرير القاعدة الأولى، وهكذا بالنسبة لكل قاعدة من قواعد الخطاب. ومن الممكن التحقق إن كانت إحدى القواعد هي بالفعل واحدة من قواعد الخطاب أم لا بالنظر إلى ما إذا كان إنكارها الصريح يولِّد دحضًا ذاتيًّا أدائيًّا أم لا.

(٥) نظرة عامة على الصحة والحقيقة والصواب

إذا جمعنا الأجزاء كلها جنبًا إلى جنب — أطروحة الإجماع والأطروحة العقلانية وفكرة الخطاب — فسنركز بقدر أكبر على المفهوم البراجماتي للصحة عند هابرماس. وأدق وسيلة وأكثرها جلاءً يمكننا بها تحقيق ذلك هي المعادلة الشرطية التالية للصحة-الإجماع:
الصحة الإجماع: فيما يتعلق بأي كلام ملفوظ «ك»، إذا كان «ك» صحيحًا، فإن «ك» قابل للإجماع المدفوع بالعقلانية.

هذه المعادلة محاولةٌ مني لأن أقدِّم على نحو أكثر شكليةً بنيةَ مبدأ الصحة عند هابرماس. لكن الأمر يستدعي الحذر؛ فلن تجد هذه المعادلة أو المعادلتين التاليتين في كتابات هابرماس. إنها مجرد طريقة موجزة جدًّا (آمل ذلك) ومفيدة للإحاطة بملاحظات هابرماس المبعثرة والمتشعبة نوعًا ما عن الصحة والحقيقة والصواب، ولبيان العلاقة التي تربط كلًّا منها بالأخرى.

إن التلفظ بلفظ ذي مغزًى أو التواصل هو طرح ادعاء بالصحة؛ أي إن المرء يقدم أسبابًا يمكن أن يقبلها المشاركون في خطاب يدور وفق القواعد سالفة الذكر. لا يكتفي هابرماس بزعم أن الصحة، لا الحقيقة، هي المفهوم الكامن وراء نظرية المعنى فحسب، بل يذهب إلى أن الحقيقة نفسها يمكن فهمها كشرط من شروط تلك الفكرة العامة الكامنة عن الصحة. ما يعنيه هو أن مفهوم الحقيقة له نفس الصلة بالأسباب ونفس الوظيفة البراجماتية للوصول إلى الإجماع:
الحقيقة الإجماع: فيما يتعلق بأي كلام ملفوظ «ك»، إذا كان «ك» حقيقيًّا، فإن «ك» قابل للإجماع المدفوع بالعقلانية.
علاوة على ذلك، يزعم هابرماس أن الصواب يمكن أيضًا فهمه كشرط للفكرة الكامنة الأساسية؛ ولذا، فإن مفهوم الصواب يمكن حصره في معادلة مختلفة بعض الشيء:
الصواب الإجماع: فيما يتعلق بأي معيار «م»: إذا كان «م» صوابًا، فإن «م» قابل للإجماع المدفوع بالعقلانية.

عندما أقول كلامًا أخلاقيًّا، فإنني أؤيد ضمنًا المعيارَ الكامن وراء الفعل. وكما أُلزم نفسي — في فعل تأكيد الكلام — بحقيقة الكلام، فعندما ألفظ جملة «السرقة إثم»، فإنني أؤيد المعيار الكامن وراءها «لا تسرق». وجهة النظر الأساسية هي أن أبعاد الصحة المختلفة — التأكيدات من ناحية، والأفعال الأخلاقية وأفعال الكلام من ناحية أخرى، والفرضيات والعناصر الأدائية — لها نفس البنية ونفس الوظيفة البراجماتية.

ينتهي هابرماس إلى أن مفهومَي الحقيقة والصواب متناظران، وتثبت المعادلات الواردة أعلاه كيف يُفترض بالتناظر أن يكون؛ إنه يكمن في جزء شرطي فيه الصحة والحقيقة والصواب على الترتيب على الجانب الأيمن من المعادلة، والإجماع المدفوع بالعقلانية على الجانب الأيسر. وأيًّا ما كان يُزعم صحته أو حقيقته أو صوابه، يمكن بالضرورة أن يحظى بموافقة المشاركين في خطاب يجري على نحو ملائم. والعلاقة «ضرورية» بمعنًى براجماتي خاص وحسب؛ ألا وهو أن المتحدثين والمستمعين والفاعلين بصفة عامة لا يستطيعون الفرار من هذه العلاقة. وتدلل صلة «إذا … فإن» على معنًى ضمنيٍّ براجماتيٍّ، لا معنًى منطقيٍّ.

وأخيرًا، يقدم لنا هابرماس أيضًا تفسيرًا لهذا التناظر. فالحقيقة والصواب متناظران؛ لأنهما شرطان لمعيار دقة واحد: الحقيقة والصواب ينتميان إلى الصحة. سأستعرض المزيد من الصواب وعلاقته بالحقيقة، وسأسهب في تناول فكرة الخطاب لاحقًا. والآن علينا أن ننتقل إلى برنامج النظرية الاجتماعية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤