النوادر الثانية عشرة

متفرقات من نوادر الخلفاء

الخليفة وحامل الجرة

استدعى بعض الخلفاء شعراء مصر، فصادفهم شاعر فقير، كان بيده جرةٌ فارغة ذاهبًا بها إلى البحر ليملأها ماءً فتبعهم إلى أن دخلوا دار الخلافة، فبالغ الخليفة في إكرامهم والإنعام عليهم، ورأى ذلك الرجل والجرة على كتفه، ونظر إلى ثيابه الرثة، فقال: من أنت؟ وما حاجتك؟ فأنشد:

ولما رأيت القوم شدوا رحالهم
إلى بحرك الطامي أتيت بجرتي

قال: املئوا له جرته ذهبًا وفضة. فحسده بعض الحاضرين، وقال: هذا فقير مجنون لا يعرف قيمة هذا المال وربما أتلفه وضيعه! فقال الخليفة: هو ماله يفعل به ما يشاء، فملئت له، وخرج إلى الباب، ففرقها على الجميع، وبلغ الخليفة ذلك فاستدعاه، فعاتبه على ذلك، فقال:

يجود علينا الخيِّرون بمالهم
ونحن بمال الخيرين نجودُ

فأعجبه ذلك، وأمر أن تملأ له عشر مرات، وقال: الحسنة بعشرة أمثالها.

المعتضد بالله وقطر الندى

لما زُفَّت قطر الندى بنت خمارويه بن أحمد بن طولون إلى المعتضد بالله أحبها حبًّا شديدًا، وإنه وضع يومًا رأسه في حجرها فنام، فتلطفت في إزالة رأسه من حجرها، ووسدته، وخرجت من البيت، فلما استيقظ ناداها فأجابته من قرب، فقال: سلمت نفسي إليك فذهبت عني؟! فقالت: والله لم أزل كالفة لأمير المؤمنين. قال: فما أخرجك عني؟! قالت: إن مما أدبتني به أني لا أجلس مع النيام، ولا أنام مع الجلوس. فاستحسن ذلك منها.

عبد الرحمن القوصي والملك المظفر

اتفق أن الذكي عبد الرحمن القوصي حضر مجلسًا عند الملك المظفر قبل أن يلي حماة فأنشد:

متى أراك ومن تهوى وأنت كما
تهوى على رغمهم روحين في بدنِ
هناك أنشد والآمال حاضرة
هنئت بالملك والأحباب والوطنِ

فوعده إذا ملك حماة أعطاه ألف دينار، فلما ملكها أنشده:

مولاي هذا الملك قد نلته
برغم مخلوق من الخالقِ
والدهر منقاد لما شئته
وذا أوان الموعد الصادقِ

فدفع له ألف دينار وأقامه معه، ولزمته أسفار وهو بخدمته، فأنفق فيها المال الذي أعطاه إياه ولم يحصل بيده زيادة عليه، فقال:

ذاك الذي أعطوه لي جملة
قد استردوه قيلًا قليل
فليت لم يعطوا ولم يأخذوا
وحسبنا الله ونعم الوكيل

فبلغ ذلك الملك المظفر، فأخرجه من دار كان قد أنزله بها، فقال:

أتخرجني من كسر بيت مهدم
ولي فيك من حسن الثناء بيوتُ
فإن عشت لم أعدم مكانًا يضمني
وإن مت تدري ذكر من سيموت

فحبسهُ المظفر، فقال: ما ذنبي إليك؟ قال: «حسبي الله ونعم الوكيل»، ثم أمر بخنقه، فلما أحس بذلك، قال:

أعطيتني الألف تعظيمًا وتكرمة
يا ليت شعري أم أعطيتني بدمي

أبو العباس والأعرابي

خرج أبو العباس أمير المؤمنين متنزهًا بالأنبار، فأمعن في نزهته، وانتبذ من أصحابه طواف خباء لأعرابي، فقال له الأعرابي: ممن الرجل؟ قال: من كنانة. قال: من أي كنانة؟ قال: من أبغض كنانة إلى كنانة! قال: فأنت إذًا من قريش؟ قال: نعم. قال: فمن أي قريش؟ قال: من أبغض قريش إلى قريش! قال: فأنت إذًا من ولد عبد المطلب؟ قال: نعم. قال: فمن أي ولد عبد المطلب أنت؟ قال: من أبغض ولد عبد المطلب إلى ولد عبد المطلب! قال: فأنت إذًا أمير المؤمنين! السلام عليك يا أمير المؤمنين. فاستحسن ما رأى منهُ وأمر له بجائزة.

الخليفة والأصمعي

من ألطف ما اتفق أن بعض الخلفاء كان يحفظ الشعر من مرة، وعنده مملوك يحفظه من مرتين، وجارية من ثلاث مرات، وكان بخيلًا جدًّا، فكان الشاعر إذا أتاه بقصيدة قال له: إن كانت مطروقة بأن يكون أحد منَّا يحفظها نعلم أنها ليست لك فلا نعطيك عليها جائزة، وإن لم نكن نحفظها فعطيتك وزن ما هي فيه مكتوبة. فيقرأ الشاعر القصيدة، فيحفظها الخليفة من أول مرة ولو كانت ألف بيت، ويقول للشاعر: أسمعها عليّ فإني أحفظها! وينشدها بكمالها، ثم يقول: وهذا المملوك أيضًا يحفظها — وقد سمعها المملوك مرتين: مرة من الشاعر، ومرة من الخليفة فيحفظها ويقرأها — ثم يقول الخليفة: وهذه الجارية التي وراء الستر تحفظها أيضًا — وقد سمعتها ثلاث مرات: مرة من الشاعر، ومرة من الخليفة، ومرة من المملوك، فتقرأها بحروفها — فيخرج الشاعر صفر اليدين، وكان الأصمعي من جلسائه وندمائه، فنظم أبياتًا مستصعبة، ونقشها في أسطوانة، ولفها في ملاءة، وجعلها على ظهر بعير، ولبس جوخة بدوية مفرجة من وراء ومن قدام، وضرب له لثامًا لم يبن منهُ غير عينيه، وجاء إلى الخليفة، وقال: إني امتدحت أمير المؤمنين بقصيدة. قال: يا أخا العرب إن كانت لغيرك فلا نعطيك لها جائزة، وإن كانت لك نعطيك زنة ما هي مكتوبة فيه. قال: قد رضيت. وأنشد:

صوت صفير البلبل
هيج قلب الثملِ
الماء والزهر معًا
مع حسن لحظ المقل
وأنت حقًّا سيدي
وسؤددي وموللي
وطاب لي نوح الحما
م قوققو بالزجل
قد فاح من لحظاتها
عبير ورد الخجل
قلت وصوص وصوص
فجاء صوت من علِ
وقال لا لا لا للا
وقد غدا مهرولي
وفتية يسقونني
قهيوة كالعسل
شممتها في أنففي
أذكى من القرنفلِ
في بستتان حسن
بالزهر والسرولل
والعود دندن دندن
والطبل طبطب طبلي
والرقص ارطب طبطب
والماء شقشقشقلي
شووا شووا شووا
على وريق السفرجل
وغرد القمري يصيح
من ملل من مللي
فلو تراني راكبًا
على حمار أعزل
أمشي على ثلاثة
كمشية المرتجل
والناس قد ترحمني
في السوق بالتعلل
والكل كع كع ككع
خلفي ومن حويللي
لكن مشيت هاربًا
من خشية في عقللي
إلى لقاء ملكٍ
معظم مبجل
يأمر لي بخلقه
حمراء كالدململ
أجر فيها مأربًا
ببغدد كالدلدل

فلما فرغ من إنشادها بهت الملك فيها ولم يحفظها الخليفة؛ لصعوبتها، ثم نظر إلى المملوك فأشار إليه أنه ما حفظ منها شيئًا، وفهم من الجارية أنها ما حفظت منها شيئًا، فقال الخليفة: يا أخا العرب، إنك صادق، وهي لك بلا شك، فإني ما سمعتها قبل ذلك، فهات الرقعة التي هي مكتوبة فيها حتى نعطيك زنتها. فقال: يا مولاي إني لم أجد ورقًا أكتب فيه، وكان عندي قطعة رخام من عهد أبي وهي ملقاة في الدار ليس لي بها حاجة فنقشتها فيها! ولم يسع الخليفة إلا أن أعطاه زنتها ذهبًا، فنفد جميع ما في خزانة الملك من المال، فأخذ الأصمعي ذلك وانصرف، فلما ولى، قال: يغلب على ظني أن هذا الأعرابي هو الأصمعي! فأحضره وكشف عن وجهه، فإذا هو الأصمعي، فتعجب من صنيعه، ورجع عما كان يعامل به الشعراء، وأجراهم على عوائد الملوك.

أبو النواس وأحد الخلفاء

حكي عن أبي النواس أنه دخل على أحد الخلفاء فوجده جالسًا وإلى جانبه جارية سوداء، تدعى خالصة، وعليها من أنواع الحلي والجواهر ما لا يوصف، فصار أبو النواس يمتدحه، وهو يسهو عن استماعه، فلما خرج كتب على الباب:

لقد ضاع شعري على بابكم
كما ضاع درٌّ على خالصه

فمرت الجارية، فقرأت البيت، فأطلعت الخليفة عليه، فغضب الخليفة، وأمر بإحضار أبي النواس، وكان مختبئًا وراء الباب، فمسح العينين اللتين في لفظة «ضاع»، وأُحضر بين يديه، فقال له ما كتبت على الباب؟ قال: كتبت:

لقد ضاء شعري على بابكم
كما ضاء درٌّ على خالصه

فأعجبه ذلك، وأنعم عليه، فخرج أبو النواس وهو يقول: لله درك من شعر؛ قُلِعَتْ عيناه فأبصر!

هشام والرجل

لما مات هشام بن عبد الملك بكى ولده عليه، فقال أحدهم: جاد لكم هشام بالدنيا وجدتم عليه بالبكاء، وترك لكم ما كسب وتركتم عليه ما اكتسب، ما أسوأ حال هشام إن لم يغفر الله له!

الخليفة والمسجون

حبس بعض الخلفاء شخصًا على غير ذنب، فبقي سنين عديدة، فلما حضرته الوفاة كتب رقعة، وقال للسجان: سألتك بالله أني إذا مت فأوصل هذه الرقعة إلى الخليفة، فمات، فأخذها إليه، فإذا مكتوب فيها: أيها الغافل! إن الخصم قد تقدم والمدعى عليه بالأثر، والمنادي جبريل والقاضي لا يحتاج إلى بينة.

ابن السكيت والمعتز بالله

قال ابن السكيت: أحضرت لتعليم المعتز بالله، فقلت له: بأي شيء نبدأ اليوم؟ فقال: بالخروج، فقلت: نعم، فعدا من بين يدي وعثر على المرمر، فقال:

يموت الفتى من عثرة بلسانهِ
وليس يموت المرء من عثرة الرجلِ

فقلت للمتوكل: جئتم بي لتأديبه وهو آدب مني، فأمر لي بعشرة آلاف درهم.

هشام وأحد الشرفاء

غضب هشام على رجل من أشراف الناس فشتمه، فوبخه الرجل، فقال: أما تستحي أن تشتمني وأنت خليفة الله في أرضه؟! فأطرق هشام واستحى، وقال له: اقتص. قال: إذًا سفيه مثلك! فقال: خذ عن ذلك عوضًا من المال. قال: ما كنت لأفعل. قال: فهبها لله. قال: هي لله ثم لك. فنكس هشام رأسه، وقال: والله لا أعود لمثلها.

ذخر الدولة والمعتمد

قال ذخر الدولة: استدعاني المعتمد على الله محمد بن عباد الأندلسي ليلة قد ألبسها البدر رداءه وأوقد فيها أضواءه، وهو على البحيرة الكبرى، والنجوم قد انعكست فيها، تخالها زهرًا، وقابلتها المجرة، فسالت فيها شهرًا، وقد أرجت نوافح الند، وماست معاطف الرند، وحسد النسيم الروض، ففشى بأسراره، وأفشى حديث آسه وعراره، ومشى مختالًا بين لبات النور وأزراره، بدمع منسجم، وزفرات تترجم، فلما نظرت إليه استدعاني، وقربني، وشكى إليَّ من الهجران ما استغربته، وأنشد:

أيا نفس لا تجزعي واصبري
وإلَّا فإن النوى متلفُ
حبيب جفاكِ وقلب عصاكِ
ولاحٍ لحاكِ ولا ينصف
شجون منعن الجفون الكرى
وعوضنها أدمعًا تنزف

فانصرفت عنه، ولم يعلمني بقصته، ولا كشف لي عنه غصته.

الشبلي وأمير المؤمنين

قال الشبلي في مجلس وعظه: لله الهيبة، فسمعه شاب فصرخ صرخة فمات، فخاصمه أولياؤه إلى السلطان، وادعوا عليه أنه قاتل ابنهم، فقال له السلطان: ما تقول؟ فقال: يا أمير المؤمنين، روح حنت؛ فرنت؛ فدعيت؛ فأجابت، فما ذنبي؟! فبكى أمير المؤمنين، ثم قال لأوليائه: خلوا سبيله فلا ذنب له.

المعزي والحسن والخليفة

كان الحسن بن علي يومًا جالسًا فجاءه رجل وسأله شيئًا من الصدقة، ولم يكن عنده ما يسد به رمقه فاستحيا أن يرده، فقال: ألا أدلك على شيء يحصل لك منه البر؟ فقال: ماذا تدلني عليه؟ قال: اذهب إلى الخليفة، فإن ابنته توفيت، وانقطع عليها، وما سمع من أحد تعزية؛ فعزه بهذه التعزية يحصل لك بها الخير. فقال: حفِّظْنِي إياها. قال: قل له: «الحمد لله الذي سترها بجلوسك على قبرها، ولا هتكها بجلوسها على قبرك»، فذهب إلى الخليفة وعزاه بهذه التعزية؛ فسمعها، فذهب عنه الحزن فأمر له بجائزة، وقال: بالله عليك أكلامك هذا؟ قال: لا، بل كلام فلان. فقال: صدقت؛ فإنه معدن الكلام الفصيح. وأمر له بجائزة أخرى.

عدل عضد الدولة

وقال أيضًا: بلغني عن عضد الدولة أنه كان في بعض أمرائه شاب تركي، وكان يقف عند روزنة ينظر على امرأة فيها، فقالت المرأة لزوجها: قد حرم عليﱠ هذا التركي أن أتطلع في الروزنة؛ فإنه طول النهار ينظر إليها، وليس فيها أحد، فلا يشك الناس أن لي معه حديثًا، وما أدري كيف أصنع؟ فقال زوجها: اكتبي إليه رقعة، وقولي فيها: لا معنى لوقوفك فتعال إليﱠ بعد العشاء إذا غفل الناس في الظلمة، فإني خلف الباب. ثم قام وحفر حفرة طويلة خلف الباب، ووقف له فلما جاء التركي فتح له الباب فدخل، فدفعه الرجل فوقع، وطموا عليه، وبقي أيامًا لا يدرى ما خبره؟ فسأل عنه عضد الدولة؛ فقيل له: ما لنا به خبر، فما زال يعمل فكره إلى أن بعث يطلب مؤذن المسجد المجاور لتلك الدار، فأخذه أخذًا عنيفًا في الظاهر، ثم قال له: هذه مائة دينار خذها وامتثل ما آمرك، إذا رجعت إلى مسجدك فأذن الليلة بالليل واقعد في المسجد، فأول من يدخل عليك ويسألك عن سبب إنفاذي إليك فأعلمني به. فقال: نعم، ففعل ذلك، وكان أول من دخل ذلك الشيخ، فقال له: قلبي عليك، وأي شيء أراد منك عضد الدولة؟ فقال: ما أراد مني شيئًا، وما كان إلا الخير، فلما أصبح أخبر عضد الدولة بالحال فبعث إلى الشيخ، فأحضره ثم قال له: ما فعل التركي؟ فقال: أصدقك الخبر، لي امرأة رشيدة مستحسنة، كان يراصدها ويقف تحت روزنتها، فرحت — من خوف الفضيحة بوقوفه — ففعلت به كذا وكذا. فقال: اذهب إلى دعة الله، فما سمع الناس ولا قلنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤