النوادر الثالثة

نوادر القضاة

مرزبان والخراساني والقاضي

باع رجل من خراسان جمالًا إلى مرزبان المجوسي وكيل جعفر بثلاثين ألف درهم، فمطله بثمنها وعوقه عن سفره؛ فطال ذلك على الرجل فأتى إلى بعض أصحابه وشاوره؛ كيف يعمل؟ فقال: اذهب إلى مرزبان، وقل له: أعطني ألف درهم، وأحل عليك بالمال الباقي، وأسافر إلى خراسان، فإذا فعل فعرفني حتى أشير عليك. ففعل الرجل وأتى إلى مرزبان، فأعطاه ألف درهم فرجع إلى الرجل فأخبره، فقال له: عد إليه، وقل له: إذا ركبت غدًا فاجعل طريقك على القاضي حتى أوكل رجلًا يقبض المال منك في دفعات، وأروح أنا إلى خراسان، فإذا جاء وجلس إلى القاضي فادِّع بمالك كله، فإذا أقرَّ حبسه القاضي وأخذت مالك منه، فرجع الخراساني إلى مرزبان وسأله ذلك؛ فأجابه، فقال: انتظرني غدًا بباب القاضي، فلما ركب من الغد قام إليه الرجل، وقال: إن رأيت أن تنزل إلى القاضي حتى أوكل بقبض المال وأروح؟

فنزل مرزبان فتقدما إلى القاضي، وكان حفض بن غياث، فقال الرجل: أصلح الله القاضي، لي على هذا تسعة وعشرون ألف درهم. وادَّعى عليه، فقال له حفص: ما تقول يا مجوسي؟ قال: صدق، أصلح الله القاضي. قال: قد أقر لك. قال: يعطيني مالي وإلا الحبس. فقال المرزبان: يا مجوسي ما تقول؟ قال: هذا المال مع السيدة أم جعفر. قال له: يا أحمق، تعد ثم تقول هذا على السيدة! ما تقول يا رجل؟! قال: إن أعطاني مالي وإلا حبسته. فقال حفص: يا مجوسي ما تقول؟ قال: المال على السيدة. قال حفص: خذوا بيده إلى الحبس. فلما حبس بلغ الخبر به إلى أم جعفر؛ فغضبت، وبعثت إلى السندي، وقالت: وجه بمرزبان إليَّ وعجل. فأسرع السندي، فأخرجه من الحبس، وبلغ الخبر إلى حفص أن مرزبان قد أخرج، فقال: أحبس أنا ويخرج السندي؟! والله لا جلست للقضاء أو يُرد مرزبان إلى الحبس. وغلق باب بيته، فسمع السندي ذلك فجاء إلى السيدة أم جعفر، فقال: الله الله فيَّ! فإن حفصًا ممن لا تأخذه في الله لومة لائم، وأخاف من أمير المؤمنين الرشيد يقول لي: بأمر من أخرجته؟ رديه إلى الحبس وأنا أكلم حفصًا فيه. فأجابته، وردته إلى الحبس، وقالت أم جعفر للرشيد: قاضيك هذا أحمق حبس وكيلي، واستخف به، اكتب إليه ومره لا ينظر في الحكم، فأمر لها بالكتاب، وبلغ حفصًا ذلك، فقال للرجل: أحضر لي شهودًا لأسجل لك على المجوسي بالمال. وجلس حفص وسجل على المجوسي، فجاء خادم السيدة ومعه كتاب الرشيد، فقال: هذا كتاب أمير المؤمنين. فقال: اسمع ما يقال لك. فلما فرغ حفص من السجل أخذ الكتاب من الخادم وقرأه، وقال: اقرأ على أمير المؤمنين السلام، وأخبره أن كتابه ورد وقرأته، وقد أنفذت الحكم عليه، فقال الخادم: قد عرفت والله ما صنعت؛ أبيت أن تأخذ كتاب أمير المؤمنين حتى تفرغ مما تريد، والله لأخبرت أمير المؤمنين بما فعلت. فقال له حفص: قل له ما أحببت، فجاء الخادم وأخبر هارون الرشيد بذلك، فضحك وقال للحاجب: مر لحفص بن غياث بثلاثين ألف درهم. فركب يحيى بن خالد فاستقبل حفصًا منصرفًا عن مجلس الحكم، فقال: أيها القاضي، قد سررت أمير المؤمنين اليوم، وقد أمر لك بثلاثين ألف درهم، فما كان السبب في هذا؟! فقال حفص: تمم الله سرور أمير المؤمنين وأحسن حفظه وكلاءته، ما زدت على ما أفعل كل يوم. قال: ومع ذلك؟ قال: لا أعلم أني سجلت على مرزبان المجوسي بمال وجب عليه. فقال يحيى: فمن هذا سر أمير المؤمنين. قال حفص: الحمد لله كثيرًا، من أقام بحقوق الشريعة ألبسه الله رداء المهابة.

ابن عيسى الوزير والقاضي أبو عمرو

كان أبو الحسن علي بن عيسى الوزير يحب أن يبين فضله على كل أحد، فدخل عليه القاضي أبو عمرو في أيام وزارته وعلى القاضي قميص جديد فاخر غالي الثمن، فأراد الوزير أن يخجله؛ فقال: يا أبا عمرو، بكم اشتريت شقة هذا القميص؟ قال: بمائة دينار. فقال أبو الحسن: أنا اشتريت شقة قميصي هذا بعشرين دينارًا. فقال أبو عمرو: إن الوزير أعزه الله تعالى يجمل الثياب فلا يحتاج إلى المبالغة فيها، ونحن نتجمل بالثياب فنحتاج إلى المبالغة فيها؛ لأننا نلابس العوام، والوزير أعزه الله تعالى يخدمه الخواص، ويعلمون أن تركه ذلك لمثلي إنما هو عن قدرةٍ.

الأزدي ومحمد بن داود والجارية

قال القاضي أبو عمر محمد بن يوسف الأزدي: كنت أساير أبا بكر محمد بن داود الإمام الأصفهاني ببغدادَ، وإذا بجارية تغني من شعره هذه الأبيات:

أشكو عليل فؤاد أنت متلفه
شكوى عليل إلى ألفٍ يعللهُ
سقى يزيد على الأيام كثرته
وأنت في عظم ما ألقى تقلله
الله حرم قتلي في الهوى سفهًا
وأنت يا قاتلي ظلمًا تحلله

فقال محمد بن داود: كيف السبيل إلى استرجاع هذا؟ فقلت: هيهات! سارت به الركبان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤