النوادر الرابعة

نوادر الخليفة هارون الرشيد

الرشيد والمجنون

مرﱠ الرشيد بدير في ظاهر الرقة، فلما أقبلت مواكبه أشرف أهل الدير ينظرون إليه، وفيهم مجنون مسلسل، فلما رأى هارون رمى بنفسه بين يديه، وقال: يا أمير المؤمنين، قد قلت فيك أربعة أبيات، أفأنشدك إياها؟ قال: نعم، فأنشد:

لحظات طرفك في العدى
تغنيك عن سل السيوف
وغريم رأيك في النهى
يكفيك عاقبة الصروف
وسيول كفك بالندى
بحر يفيض على الضعيف
وضياء وجهك في الدجى
أبهى من البدر المنيف

ثم قال: يا أمير المؤمنين، هات أربعة آلاف درهم أشتري بها كبيسًا وتمرًا. فقال هارون: تدفع له. فحملت إلى أهله.

الرشيد والأعرابي

ركب الرشيد في بعض أسفاره ناقة فطلع عليه أعرابي، فناشده:

أغيثًا تحمل الناقـ
ـة أم تحمل هارونا؟
أم الشمس أم البدر
أم الدنيا أم الدينا؟
ألا كل الذي قلتـ
ـه قد أصبح مأمونا

فأمر له بعشرة آلاف درهم.

عبد الله العمري والرشيد

قال رجل لعبيد الله العمري: هذا هارون الرشيد في الطواف قد أُخلي له المسعى. فقال له: لا جزاك الله عني خيرًا، كلفتني أمرًا كنت عنه غنيًّا. ثم جاء إليه، فقال له: يا هارون. فلما نظر إليه قال: يا عم. قال: كم ترى ها هنا من خلق الله؟ فقال: لا يحصيهم إلا الله عز وجل. فقال: اعلم أيها الرجل أن كل واحد منهم يُسأل عن خاصة نفسه، وأنت واحد تُسأل عنهم كلهم، فانظر كيف تكون؟ فبكى هارون وجلس، وجعلوا يعطونه منديلًا، منديلًا للدموع، ثم قال له: وفيمَ؟ قال: إن الرجل ليسرع في مال نفسه، فيستحق الحجر عليه، فكيف فيمن أسرع في مال أمة عظيمة؟!

الرشيد ومالك وسفيان بن عيينة

وجه الرشيد إلى مالك بن أنس ليأتيه فيحدثه، فقال مالك: إن العلم يؤتى. فصار الرشيد إلى منزله، فاستند معه إلى الجدار، فقال: يا أمير المؤمنين، من إجلال الله تعالى إجلال العلم، فقام وجلس بين يديه، وبعث إلى سفيان بن عيينه، فأتاه، وقعد بين يديه وحدثه، فقال الرشيد بعد ذلك: يا مالك تواضعنا لعلمك فانتفعنا به، وتواضع لنا علم سفيان فلم ننتفع به.

الرشيد والعباس والفضل بن عياض

قصد الرشيد زيارة الفضل بن عياض ليلًا مع العباس، فلما وصلا بابه سمعاه يقرأ: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (الجاثية: ٢١)، فقال الرشيد للعباس: إن اتفقنا بشيء فهذا، فناداه العباس: أجب أمير المؤمنين. فقال: وما يعمل عندي أمير المؤمنين؟! ثم فتح الباب وأطفأ السراج، فجعل هارون يطوف حتى وقعت يده عليه، فقال: آه من يد ما ألينها إن نجت من عذاب يوم القيامة! ثم قال: استعد للجواب يوم القيامة، إنك تحتاج أن تتقدم مع كل نفس بشرية. فاشتد بكاء الرشيد، فقال العباس: اسكت يا فضل، فإنك قتلت أمير المؤمنين! فقال: يا هامان، إنما قتلته أنت وأصحابك! فقال الرشيد: ما سماك هامان إلا وقد جعلني فرعون! ثم قال له الرشيد: هذه ألف دينار أرجو أن تقبلها مني. فقال: لا حاجة لي بها ردﱠها على من أخذتها منه. فقام الرشيد وخرج.

الدهري وأبو حنيفة عند الرشيد

حكي أن دهريًّا جاء إلى هارون الرشيد وقال: يا أمير المؤمنين، قد اتفق علماء عصرك — مثل أبي حنيفة — على أن للعالم صانعًا، فمن كان فاضلًا من هؤلاء فمرهُ أن يحضر ها هنا، حتى أبحث معه بين يديك، وأثبت له أنه ليس للعالم صانع، فأرسل هارون الرشيد إلى أبي حنيفة؛ لأنه كان أفضل العلماء، وقال: يا إمام المسلمين، اعلم أنه قد جاء إلينا دهريٌّ وهو يدﱠعي نفي الصانع، ويدعوك إلى المناظرة. فقال أبو حنيفة: أذهب بعد الظهر. فجاء رسول الخليفة، وأخبر بما قاله أبو حنيفة، فأرسل إليه ثانية، فقام أبو حنيفة وأتى إلى هارون الرشيد، فاستقبله هارون، وجاء به، وأجلسه في الصدر، وقد اجتمع الأركان والأعيان، فقال الدهري: يا أبا حنيفة لِمَ أبطأت في مجيئك؟ فقال أبو حنيفة: قد حصل لي أمر عجيب فلذلك أبطأت؛ وذلك أن بيتي وراء دجلة، فخرجت من منزلي وجئت إلى جنب دجلة حتى أعبرها، فرأيت بجنب دجلة سفينة عتيقة معطلة قد افترق ألواحها، فلما وقع بصري عليها اضطربت الألواح وتحركت واجتمعت وتوصل بعضها ببعض وصارت السفينة صحيحة بلا نجار ولا عمل عاملٍ، فقعدت عليها وعبرت وجئت إلى ها هنا! فقال الدهري: اسمعوا أيها الأعيان ما يقول إمامكم وأفضل زمانكم! فهل سمعتم كلامًا أكذب من هذا؟! كيف تحصل السفينة المكسورة بلا عمل نجار؟! فهو كذب محض قد ظهر من أفضل علمائكم! فقال أبو حنيفة: أيها الكافر المطلق، إذا لم تحصل السفينة بلا صانع ونجار فكيف يجوز أن يحصل هذا العالم من غير صانع؟! أم كيف تقول بعدم الصانع؟! فعند ذلك أمر الرشيد بضرب عنق الدهري، فقتلوه.

الرشيد والجارية والتنوخي

قال التنوخي: كان عند الرشيد جارية من جواريه وبحضرته عقد جوهر، فأخذ يقلبه، ففقده، فاتهمها به، فسألها عن ذلك، فأنكرت، فحلف بالطلاق والعتاق والحج، فصدقته، فأقامت على الإنكار، وهو متهم لها، وخاف أن تكون خرجت في يمينه، فاستدعى أبا يوسف، وقصﱠ عليه القصة، فقال أبو يوسف: خلني مع الجارية وخادم معنا حتى أخرجك من يمينك، ففعل ذلك، فقال لها أبو يوسف: إذا سألك أمير المؤمنين عن العقد فأنكريه، فإذا أعاد عليك السؤال فقولي: قد أخذته. فإذا أعاد عليك، فأنكري. وخرج، فقال للخادم: لا تقل لأمير المؤمنين ما جرى. وقال للرشيد: سلها يا أمير المؤمنين ثلاث دفعات متواليات عن العقد؛ فإنها تصدقك، فدخل الرشيد فسألها فأنكرت أول مرة، وسألها ثانية فقالت: نعم قد أخذته. فقال: أي شيء تقولين؟ فقالت: والله ما أخذته، ولكن هكذا قال لي أبو يوسف. فخرج إليه فقال: ما هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين، قد خرجت من يمينك؛ لأنها أخبرتك أنها قد أخذته، وأخبرتك أنها لم تأخذه، فلا يخلو أن تكون صادقة في أحد القولين، وقد خرجت أنت من يمينك. فسرّ ووصل أبا يوسف، فلما كان بعد مدة وجد العقد.

عبد الملك بن صالح والرشيد

دخل عبد الملك بن صالح دار الرشيد فلقيه إسماعيل بن صبيح الحاجب، فقال: اعلم أنه ولد لأمير المؤمنين ابنان فعاش أحدهما ومات الآخر، فيجب أن تخاطبه بحسب ما عرفناك. فلما صار بين يديه قال: سرَّك الله يا أمير المؤمنين فيما ساءك، ولا ساءك فيما سرَّك وجعلها واحدة بواحدة تستوجب من الله زيادة الشاكرين وجزاء الصابرين.

ابتهال الرشيد

قال إبراهيم بن عبد الله الخراساني: حججت مع أبي سنة حج الرشيد، فإذا نحن بالرشيد واقف حاسر حافٍ على الحصباء، وقد رفع يديه وهو يرتعد ويبكي ويقول: يا رب أنت أنت وأنا أنا، أنا العوﱠاد بالذنب وأنت العوﱠاد بالمغفرة، اغفر لي. فقال لي أبي: انظر إلى جبار الأرض، كيف يتضرع إلى جبار السماء؟!

الرشيد وجارية الناطقي

قال الأصمعي: ما رأيت الرشيد مبتذلًا قط إلَّا مرة كتبت إليه عنان جارية الناطقي رقعة فيها:

كنت في ظل نعمة بهواكا
آمنًا منك لا أخاف جفاكا
فسعى بيننا الوشاة فأقرر
ت عيون الوشاة بي فهناكا
فسعي لغير ذا كان أولى
بك في حقنا جعلت فداكا

فأخذ الرقعة بيده — وعنده أبو جعفر الشطرنجي — فقال: أيكم يشير إلى المعنى الذي في نفسي، فيقول فيه شعرًا، وله عشرة آلاف درهم؟ فظننت أنه وقع بقلبه أمر عنان، فبادره أبو جعفر قائلًا:

مجلس يُنسب السرور إليه
بمحب ريحانه ذكراكا

فقال يا غلام: ابدرهُ، قال الأصمعي، وقلت:

لم ينلك الرجاءُ أن تحضريني
وتجافت أمنيتي عن سواكا

قال: أحسنت والله يا أصمعي، لها ولك بهذا البيت عشرون ألفًا.

بكر بن حماد وهارون الرشيد وعنان

قال بكر بن حماد الباهلي: لما انتهى إليﱠ خبر عنان، وأنها ذكرت لهارون، وقيل: إنها أشد الناس. خرجت معترضًا لها، فما راعني إلا الناطقي — مولاها — وقد ضرب على عضدي، فقال لي: هل لك فيما سنح من طعام أو شراب ومجالسة عنان؟! فقلت: ما بعد عنان مطلب، ومضينا حتى أتينا منزله، فعقل دابته ثم دخل، فقال: هذا شاعر يا عنان يريد مجالستك اليوم؟ فقالت: لا، والله إني كسلانة! فحمل عليها بالسوط، ثم قال لي: ادخل. فدخلت ودمعها يتحدر كالجمان في خدها، فطمعت بها، فقلت:

هذي عنان أسبلت دمعها
كالدر إذ ينسلﱡ من خيطه

ثم قلت: أجيزي. فقالت:

فليت من يضربها ظالمًا
تجف كفاه على سوطه

فقلت لها: إن لي حاجة. فقالت: هاتها. قلت لها: بيت وجدته على ظهر كتابي لم أقرضه ولم أقدر على إجازته. قالت: قل. فأنشدتها:

فما زال يشكو الحب حتى حسبته
تنفس في أحشائه فتكلما

قال: فأطرقت ساعة، ثم أنشدت:

ويبكي فأبكي رحمة لبكائه
إذا ما بكى دمعًا بكيت له دما

قلت لها: فما عندك في إجازة هذا البيت:

بديع حسن بديع صد
جعلت خدي له ملاذا

فأطرقت ساعة، ثم قالت:

فعاتبوه فعنفوه
فأوعدوه فكان ماذا

الرشيد والراعي النبيه

كان لراعي مواشٍ دعوى على رجل، فأتى الرشيد يشكو خصمه، وبعد أن بسط دعواه قال: وعلى كل حال الأمر لله ثم لدولتكم؛ فاحكموا بهذه الدعوى حسب ما تقتضيه حكمتكم، وأنا متخذكم لي كالسطل والكلب؛ فإنهما عوني وملجئي! فلما سمع الرشيد ذلك قال له: ماذا تقول؟! فأعاد ما قاله؛ فاستشاط الرشيد غضبًا، وأمر حاجبه للحال أن يوثق الراعي بالحبال ويودع السجن ليقتله في اليوم التالي، فلما بلغ الوزير ذلك سأل الرشيد العفو عن الراعي، وأنه لو لم يكن ذا ذكاء وعقل ثاقب لما وصفه بما وصف، والتمس منه أن يسلمه الراعي مدة وجيزة؛ ليدرسه قليلًا، وحينئذٍ يمثله في نادي الرشيد ويطلب إليه أن يصفه، فإن عاد وقال ما قاله قبلًا يضرب عنقه وإلا يكرمه.

فأجاب التماسه وسلمه الراعي، فمضى به إلى بيته، وقال له: ماذا حملك على وصف الملك بالسطل والكلب؟ قال: اعلم يا مولاي أنني لم أُخطئ بذلك؛ فإن السطل هو الإناء الذي أحفظ به الحليب، والكلب هو الذي يحرس المواشي من الوحوش، وبما أنهما الواسطة الوحيدة لمعيشتي وصفته بهما. فعجب الوزير من ذكائه، وأخذ يدرِّسه أصول العربية برهة من الزمان، ثم أحضره أمام الرشيد لإتمام وعده له، أما الرشيد فأمر أحد أصحابه أن يسل سيفه، ويقبل ليضرب عنق الراعي إذا عاد فوصف الملك بما وصفه قبلًا، فامتثل وسار نحو الراعي وهو مشهر الحسام، فلما رآه أنشد:

يا من حوى ورد الرياض بخدهِ
وحكى قضيب الخيزران بقدِّه
دع عنك ذا السيف الذي جردته
عيناك أمضى من مضارب حده
كل السيوف قواطعٌ إن جُردت
وحسام لحظك قاطع في غمدِه
إن شئت تقتلني فأنت محكم
من ذا يطالب سيِّدًا في عبدِه

فلما سمع الرشيد شعره أخذه الانذهال، وتحير مما كان، وكيف اكتسب ذلك الراعي من العلم أجمله في وقت يسير؟! وحدثه بما وصفه به قبلًا؟ فأجابه الراعي: إنني لم أخطئ قبلًا بوصفي إياك بذينك الوصفين؛ فإنهما سند حياتي، ولست أعيش إلا بهما، فحسنت لديه فطنة الرجل وأكرمه.

هارون الرشيد وأبو معاوية

كان هارون الرشيد يتواضع للعلماء، قال أبو معاوية الضرير — وكان من علماء الناس: أكلت مع الرشيد يومًا، فصبﱠ على يديَّ الماء رجل، فقال لي: يا أبا معاوية، أتدري من صبَّ الماء على يدك؟ فقلت: لا يا أمير المؤمنين. قال: أنا. فقلت: يا أمير المؤمنين، أنت تفعل هذا إجلالًا للعلم؟ قال: نعم.

الأعرابي والرشيد والكاتب

دخل أعرابي على الرشيد فأنشده أرجوزة مدحه بها وإسماعيل بن صبيح يكتب كتابًا بين يديه، وكان من أحسن الناس خطًّا وأسرعهم يدًا، فقال الرشيد للأعرابي: صف الكاتب. فقال:

رقيق حواشي العلم حين بكوره
يريك الهوينا والأمور تطير
له قلما بؤسٍ ونُعمى كلاهما
سحابته في الحالتين درورُ
يناجيك عما في ضميرك خطه
ويفتح باب النجح وهو عسيرُ

فقال الرشيد: قد وجب لك يا أعرابي عليه حق كما وجب لك علينا، يا غلام، ادفع له دية الحر، فقال إسماعيل: وعلى عبدك دية العبد.

ابن السماك وهارون الرشيد

قال ابن السماك: بعث إليَّ هارون الرشيد، فلما انتهيت إلى باب القصر، أخذ بي حارسان، فأعجلاني في دهليز القصر، فلما انتهيت إلى باب القاعة لقيني خصيان، فأخذاني من الحارسين، فأعجلا بي إلى قاعة القصر، فانتهيت إلى البهو الذي هو فيه فقال لهما هارون: ارفقا بالشيخ، فلما وقعت بين يديه، قلت: يا أمير المؤمنين ما مرﱠ بي منذ ولدت أتعب من يومي هذا، فاتق الله في خلقه، وأنصحك لنفسك في رعيتك؛ فإن لك مقامًا بين يدي الله تعالى أنت فيه أذلُّ من مقامي هذا بين يديك، واتق الله واعلم أنه قادر عليم. فاضطرب على فراشه حتى نزل إلى مصلى بين يدي فراشه، فقلت: يا أمير المؤمنين، هذا ذلُّ الصفة، فكيف لو رأيت ذل المعاينة؟! فكادت نفسه تخرج، فقال يحيى للخصيين: أخرجوه فقد أبكى أمير المؤمنين.

الرشيد والرجل

أحضر الرشيد رجلًا؛ ليوليه القضاء، فقال له: إني لا أحسن القضاء، ولا أنا فقيه. فقال له الرشيد: فيك ثلاث خصال: لك شرف؛ والشرف يمنع صاحبه من الدناءة، ولك حلم؛ يمنعك من العجلة، ومن لم يعجل قلﱠ خطؤه، وأنت رجل تشاور في أمرك، ومن شاور كثر صوابه، وأما الفقه فنضم إليك من تتفقه به، فولي فما وُجد فيه تقصير.

الرشيد والمرأة

دخلت على الرشيد امرأة وقالت له: أتمَّ الله أمرك، وفرﱠحك فيما أعطاك، لقد قسطت بما فعلت زادك الله رفعة. فلما سمع قولها التفت إلى أرباب دولته، وقال: أعلمتم ما قالت المرأة؟ وما القصد من كلامها؟ فقالوا: ما فهمنا من كلامها إلَّا دعاءً لحضرتك بالخير. فقال: لا بل دعاء عليﱠ. فقالوا: وكيف ذلك يا أمير المؤمنين؟! فقال: أما قولها: «أتم الله أمرك» أرادت به قول الشاعر:

إذا تمﱠ أمر بدا نقصه
توقع زوالًا إذا قيل تمَّ

وأما قولها: «فرَّحك الله بما أعطاك» أرادت بقوله تعالى: حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً (الأنعام: ٤٤). وأما قولها: «لقد قسطت بما فعلت»: أرادت قوله تعالى: وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (الجن: ١٥)، وأما قولها: «وزادك رفعة»: أرادت به قول الشاعر حيث يقول:

ما طار طير وارتفع
إلا كما طار وقع

ثم التفت إلى المرأة، وقال لها: ما حملك على هذا الكلام؟ قالت: إنك قتلت أهلي وقومي. فقال: ومن أهلك وقومك؟ فقالت: البرامكة. فأراد أن يجزيَها ببعض العطايا فلم ترضَ، وذهبت في حال سبيلها.

الرشيد وابن المهدي وعبد الملك بن صالح

قال إبراهيم بن المهدي: كنت عند الرشيد، فأتاه رسولٌ معه أطباق عليها مناديل ورقعة، فأخذ يقرأ الرقعة ويقول: وصله الله وبرَّه. فقلت: يا أمير المؤمنين، من هذا الذي أطنبت في مدحه؛ لنشاركك في جميل ذكره؟ فقال: عبد الملك بن صالح. ثم كشف عن الأطباق فإذا هي فواكه! فقلت: يا أمير المؤمنين، ما يستحق هذا الوصف إلا أن يكون في الرقعة ما لا نعلمه. فرمى بها إليَّ، فإذا فيها: «دخلت يا أمير المؤمنين إلى بستان لي قد عمرته بنعمتك، وقد أينعت فواكهه، فحملتها في أطواق قضبان، ووجهت بها إلى أمير المؤمنين ليصل إليﱠ من بركة دعائه مثل ما وصل إليﱠ من نوافلِ بِرِّهِ»، فقلت: وقال في هذا الكلام ما يستحق الدعاء؟! فقال: أوما تراه كنى بالقضبان عن الخيزران؛ وهي اسم أمنا؟!

أبو العتاهية والرشيد

حبس الرشيد أبا العتاهية الشاعر، فكتب على حائط الحبس:

أما والله إن الظلم شومٌ
وما زال المسيء هو الظلومُ
إلى دَيَّان يوم الدين نمضي
وعند الله تجتمع الخصومُ
ستعلم في المعاد إذا التقينا
غدًا عند المليك مَن الظلومُ؟!

فقرأ الرشيد ذلك، فبكى بكاءً مرًّا، ودعا بأبي العتاهية؛ فاستحله، ووهب له ألف دينارٍ وأطلقه.

الرشيد والعابد

حجﱠ الرشيد فبلغه عن عابد بمكة مجاب الدعوة معتزل في جبال تِهامة، فأتاه هارون الرشيد، فسأله عن حاله، ثم قال له: أوصني ومرني بما شئت؛ فوالله لا عصيتك. فسكت عنه ولم يرد عليه جوابًا، فخرج عنه هارون، فقال له أصحابه: ما منعك إذ سألك أن تأمره بما شئت وحلف أن لا يعصيك أن تأمره بتقوى الله والإحسان إلى رعيته؟ فخط لهم في الرمل: إني أعظمت الله أن يكون يأمره فيعصيه، وآمره أنا فيطيعني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤