النوادر السادسة

نوادر الخليفة المنصور

المنصور والرجل

دخل رجل على المنصور فقال له: تكلم بحاجتك، فقال: يبقك الله يا أمير المؤمنين. قال: تكلم بحاجتك فإنك لا تقدر على هذا المقام كل حين. قال: والله يا أمير المؤمنين ما أستقصرُ أجلك، ولا أخاف بخلك، ولا أغتنم مالك، وإن عطاءك لشرفٌ، وإنَّ سؤالك لدين، وما لامرئ بذل وجهه إليك خيبة أو شين. قال: فأحسن جائزته وأكرمه.

المنصور ومعن بن زائدة

قال المنصور لمعن بن زائدة: ما أظن ما قيل عنك من ظلمك أهل اليمن واعتسافك عليهم إلا حقًّا. قال: كيف يا أمير المؤمنين؟! قال: بلغني عنك أنك أعطيت شاعرًا لبيت قاله ألف دينار! فأنشده البيت، وهو:

معن بن زائدة الذي زيدت به
فخرًا إلى فخر بنو شيبان

قال: نعم يا أمير المؤمنين قد أعطيته ألف دينار، ولكن على قوله:

ما زِلْتَ يَوْمَ الهاشِمِيَّةِ مُعْلِمًا
بالسيف دون خليفة الرحمنِ
فمنعت حوزته وكنت وقاءهُ
من وقع كل مهند وسنانِ

قال: فاستحيا المنصور، وجعل ينكت الأرض بالمخصرة، ثم رفع رأسه، وقال: اجلس يا ابن زائدة.

المنصور وابن طاوس

بعث أبو جعفر المنصور إلى مالك بن أنس وإلى ابن طاوس؛ فدخلا عليه، وإذ هو جالس على فرش قد نضدت له، وبين يديه أنطاع قد بسطت، وجلادون بأيديهم السيوف لضرب رقاب الناس، فأومأ إليهما بالجلوس، وأطرق عنهما طويلًا، ثم التفت إلى ابن طاوس، فقال له: حدِّثني عن أبيك. قال: نعم، سمعت أبي يقول: قال رسول الله: «إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة رجل أشركه الله في حكمه؛ فأدخل عليه الجور في عدله»، قال مالك: فضممت ثيابي مخافة أن يملأني دمه.

ثم التفت إليه أبو جعفر، فقال: عظني يا ابن طاوس. قال: نعم، أما سمعت الله يقول: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ إلى قوله: لَبِالْمِرْصَادِ (الفجر: ٦–١٤)، قال مالك: فضممت ثيابي أيضًا مخافة أن يملأني دمه. فأمسك المنصور ساعة، ثم قال: يا ابن طاوس، ناولني الدواة. فأمسك ابن طاوس ولم يناوله إياها وهي في يده، فقال: ما يمنعك أن تناولنيها؟! قال: أخشى أن تكتب بها معصية لله فأكون شريكك فيها. فلما سمع المنصور ذلك قال: قوما عني. قال ابن طاوس: ذلك ما كنا نبغي. قال مالك: فما زلت أعرف لابن طاوس بعدها فضلًا.

المنصور وأبو جعفر

لما كتب أبو جعفر أمان ابن هبيرة، واختلف فيه الشهود أربعين يومًا، ركب في رجال معه حتى دخل على المنصور، فقال: إن دولتكم جديدة، فأذيقوا الناس حلاوتها، وجنبوهم مرارتها؛ لتسرع محبتكم إلى قلوبهم، ويَعْذُبَ ذكرُكم على ألسنتهم، وما زلت منتظرًا لهذه الدعوة. فأمر أبو جعفر برفع الستر بينه وبين الرجل، فنظر إلى وجهه، وباسطه بالقول حتى اطمأن قلبه، فلما خرج قال أبو جعفر: عجبًا من كل من يأمرني بقتل مثل هذا.

المنصور والشيخ الجريء

كان المنصور متطلعًا إلى الإحاطة بأمور الناس عمومًا، وإلى معرفة أحوال بني أمية خصوصًا؛ فبلغه أن من مشايخ أهل الشام شيخًا معروفًا، وكان بطانة لهشام بن عبد الملك بن مروان، فأرسل إليه المنصور، وأحضره بين يديه، وسأله عن تدبير هشام في حروبه مع الخوارج؛ فوصف له الشيخ ما دبر، وقال: فعل — رحمه الله — كذا وكذا، ودبر كذا وكذا. فقال له المنصور: قم عليك لعنة الله، تطأ بساطي، وتترحم على عدوي؟! فقال الرجل — وهو مولٍّ يريد الخروج: إن نعمة عدوك لقلادة في عنقي لا ينزعها إلا غال. فلما سمعه المنصور قال: ردوه. فلما رجع قال: يا أمير المؤمنين، إن أكثر الناس لؤمًا من لم يجعل دعاءه لمن أحسن إليه، وثناءه عليه وحمده لمعروفه عنده؛ وفاءً له، ولو أمكنني القدر وقدرني القضاء على الوفاء لهشام بأكثرَ من ذلك لوجدني أمير المؤمنين وافيًا لديه. فقال له المنصور: ارجع يا شيخ إلى إتمام حديثك، أشهد أنك نهيض حر وولد رشيد. ثم أقبل المنصور على حديثه إلى أن فرغ فدعا المنصور بمال وكسوة، وقال: خذ هذا صلة منا لك. فأخذ ذلك، وقال: والله يا أمير المؤمنين ما بي من حاجة، ولقد مات عني من كنت في ذكره؛ فما أحوجني إلى وقوفي على باب أحد بعده، ولولا جلالة أمير المؤمنين ولزوم طاعته وإيثاري أمره لما لبست نعمة أحد بعده. فقال المنصور: لله أنت لو لم يكن لقومك غيرك كنت أبقيت لهم ذكرًا مخلدًا ومجدًا باقيًا بوفائك لمن أحسن إليك. ثم أوصى المنصور برعاية أموره وقضاء حوائجه، وصار يذكره في خلواته ويستحسن ما صدر منه.

المنصور ورجل في المسجد

بينما كان المنصور يطوف بالكعبة ليلًا إذ سمع قائلًا يقول: اللهمﱠ إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض وما يحول بين الحق وأهله من الطمع.

فخرج المنصور وجلس في ناحية المجلس وأرسل إلى الرجل يدعوه، فصلى ركعتين واستلم الركن، ثم أقبل مع الرسول فسلم عليه بالخلافة، فقال له المنصور: ما الذي سمعتك تقول وتذكر من ظهور البغي والفساد في الأرض وما يحول بين الحق وأهله من الطمع؟! فوالله لقد حشوت مسامعي ما أمرضني. قال: يا أمير المؤمنين، إن أمنتني أنبأتك الأمور على جليتها وأصولها، وإلَّا أجادل عن نفسي. قال له المنصور: أنت آمن على نفسك. فقال: إن الذي داخله الطمع حتى حال بينه وبين إصلاح ما ظهر من البغي والفساد أنت. قال: ويحك! وكيف يداخلني الطمع والبيضاء في قبضتي والحلو والحامض عندي؟!

قال: وهل داخل أحدًا من الطمع ما داخلك؟! إن الله تعالى استرعاك المسلمين وأموالهم، وجعلت بينك وبينهم حجابًا من الجص والآجر، وأبوابًا من الحديد، وحجبة معهم الأسلحة، وأمرتهم أن لا يدخل عليك إلا فلان وفلان — سميتهم لهم — ولم تأمر بإيصال الملهوف، ولا الجائع ولا العاري ولا الضعيف ولا الفقير، وما أحد إلا وله في المال حق، فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك وآثرتهم على رعيتك وأمرت أن لا يحجبوا عنك تجبي الأموال فلا تعطيها، وتجمعها ولا تقسمها، قالوا: هذا خان الله، فما لنا لا نخونه وقد سخر لنا نفسه؟! فاتفقوا على أن لا يصل إليك من أخبار الناس إلَّا ما أرادوا، ولا يخرج لك عامل فيخالف أمرهم إلَّا أقصوه ونفوه؛ حتى تسقط منزلته ويصغر قدره، فلما اشتهر ذلك عنك وعنهم عظمهم الناس وهابوهم، فكان أول من صانعهم عمالك بالهدايا والأموال؛ ليتقووا بها على ظلم رعيتك؛ لينالوا به ظلم من دونهم، فامتلأت بلاد الله بالطمع بغيًا وفسادًا، وصار هؤلاء شركاءك في سلطانك وأنت غافل، فإن جاء متظلم حيل بينه وبين الدخول عليك، فإن أرادوا رفع قصته إليك عند ظهورك وجدك قد نهيت عن ذلك، وأوقفت رجلًا ينظر في مظالمهم، فإن جاء ذلك المظلوم إلى الرجل وبلغ بطانتك سألوا صاحب المظالم أن لا يرفع مظلمته؛ فإن المتظلم من له بهم حرمة، أجابهم خوفًا منهم، فلا يزال المظلوم يختلف إليه ويلوذ به ويشكو ويستغيث وهو يدافعه ولا يقبل عليه، وإذا جهد واضطر وأخرج وقف وصرخ بين يديك، فيضرب ضربًا شديدًا مبرحًا؛ ليكون نكالًا لغيره وأنت تنظر ولا تذكر، فما بقاء الإسلام على هذا؟! وقد كنتُ يا أمير المؤمنين أسافر إلى الصين، فقدمتها مرة وقد أصيب ملكها بسمعه فبكى بكاءً شديدًا؛ فعزاه بعض جلسائه، فقال: أما إني لست أبكي على ما نزل بي من ذهاب سمعي، ولكني أبكي لمظلوم يقف يصرخ بالباب فلا يُسمع صوته. ثم قال: أما إذا ذهب سمعي فإن بصري لم يذهب، نادوا في الناس أن لا يلبس ثوبًا أحمرَ إلا متظلم، ثم صار يركب الفيل طرفي النهار وينظر؛ هل يرى مظلومًا؟! فهذا مشرك بالله تعالى غلبت رأفته بالمشركين شح نفسه، وأنت تؤمن بالله واليوم الآخر غلبك شح نفسك، فإن كنت إنما تجمع المال لولدك فقد أراك الله في الطفل يسقط من بطن أمه وما له على الأرض مال، وما من مال إلا ودونه يد شحيحة تحويه، فما يزال الله — جلَّ وعلا — يلطف بذلك الطفل حتى تعظم رغبة الناس إليه، ولست الذي يعطي، بل الله يعطي من يشاء بغير حساب، وإن قلت: إنما أجمع المال لتشديد السلطان وتقويته، فقد أراك الله تعالى ببني أمية ما أغنى عنهم ما جمعوا من الذهب والفضة، وما أعدوا من الرجال والكراع والسلاح حين أراد الله بهم ما أراد، وإن قلت: إنما أجمعه لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنا فيها، فوالله ما فوق ما أنت فيه منزلة إلا منزلة لا تنال إلا بخلاف ما أنت عليه يا أمير المؤمنين، هل تعاقب من عصاك بأكثرَ من القتل أو الصلب؟! قال المنصور: لا. قال: فكيف تصنع يا أمير المؤمنين يوم القيامة عند لقاء الله — عز وجل — الذي خولك ملك الدنيا وهو لا يعاقب من عصاه من عبيده وعمل بخلاف ما أمر به في كتابه بالقتل، ولكن يعاقبهم في الخلود بالعذاب الأليم، وقد ترى ما عُقد عليه قلبك، وحملته جوارحك، ونظر إليه بصرك، واجترحته يداك، ومشت إليه قدماك، هل يغني ما شححت عليه من قلب الدنيا إذا انتزعه من يديك ودعاك إلى الحساب على ما خولك؟

فلما أتم الرجل كلامه والمنصور يتململ منه بكى بكاءً شديدًا ثم قال: يا ليت المنصور لم يخلق. ثم قال للرجل: يا ويحك! كنت أفكر في الانتقام منك عما جبهتني به، والآن قد رأيت العفو عن مقالتك لصدق مقصدك أولى، وشكرك على نصحك أحمد، فكيف احتيالي لنفسي والسلامة مع مؤاخذة الله تعالى على ما أوضحت؟

فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، إن للناس أعلامًا يفزعون إليهم في دينهم، ويرصنون بقولهم، فاتخذهم لك بطانة يرشدوك، واستعن بآدابهم وأقوالهم يسعدوك. قال المنصور: قد بعثت إليهم فهربوا مني! قال الرجل: خافوا منك أن تحملهم على طريقتك، فلم يرضوا بها، ولكن افتح باب مجلسك، وسهِّل حجابك، وانظر في أمور الناس، وانصر المظلوم، واقمع الظالم، وخذ الغنى والأموال مما حل وطاب، واقسم ذلك بالحق والعدل على أهله، وأنا الضامن لك أنك إذا فعلت ذلك أن يأتوك ويساعدوك على صلاح الأمة، فبينما هو والرجل في الحديث دخل المؤذنون، فسلموا عليه للصلاة، فقام وصلى، فلما فرغ من صلاته عاد فطلب الرجل فلم يجده، فما زال المنصور بعد ذلك يذكره، ويقول إذا ذكره: كرهت كلامه ثم حمدته وانتفعت به.

المنصور والرجل

أخبر أحمد بن موسى قال: ما رأيت رجلًا أثبت جنانًا، ولا أحسن معرفة، ولا أظهر حجة من رجل رفع فيه عند المنصور بأن عنده أموالًا لبني أمية؛ فأمر المنصور حاجبه الربيع أن يحضره، فلما حضر بين يديه قال المنصور: رفع إلينا أن عندك ودائع وأموالًا وسلاحًا لبني أمية، فأخرجها لنا لنجمع ذلك إلى بيت المال.

فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، أنت وارث لبني أمية؟ قال: لا. قال: فلِمَ تسأل إذن مما في يدي من أموال بني أمية ولست بوارث لهم ولا وصي؟! فأطرق المنصور ساعة ثم قال: إن بني أمية ظلموا الناس، وغصبوا أموال المسلمين. فقال الرجل: يحتاج أمير المؤمنين إلى بينة يقبلها الحاكم، تشهد أن المال الذي لبني أمية هو الذي في يديه، وأنه هو الذي غصبوه من الناس، وأن أمير المؤمنين يعلم أن بني أمية كانت لهم أموال لأنفسهم غير أموال المسلمين التي اغتصبوها على ما يتهم أمير المؤمنين. فسكت المنصور ساعة، ثم قال: يا ربيع، صدق الرجل، ما يجب لنا على الرجل بشيء. ثم قال للرجل: ألك حاجة؟ قال: نعم، قال: ما هي؟ قال: أن تجمع بيني وبين من سعى بي إليك، فوالله يا أمير المؤمنين ما لبني أمية عندي مال ولا سلاح، وإنما أحضرت بين يديك وعلمت ما أنت فيه من العدل والإنصاف واتباع الحق واجتناب المظالم فأيقنت أن الكلام الذي صدر مني هو أنجح وأصلح لما سألتني عنه.

فقال المنصور: يا ربيع، اجمع بينه وبين الذي سعى به، فجمع بينهما، فقال: يا أمير المؤمنين، هذا أخذ لي خمسمائة دينار وهرب، ولي عليه مسطور شرعي. فسأل المنصور الرجل فأقر بالمال، قال: فما حملك على السعي كاذبًا؟ قال: أردت قتله ليخلص لي المال! فقال الرجل: قد وهبتها له يا أمير المؤمنين لأجل وقوفي بين يديك وحضوري مجلسك، ووهبته خمسمائة دينار أخرى لكلامك لي، فاستحسن المنصور فعله وأكرمه وأعاده إلى بلده مكرمًا، وكان المنصور كل وقت يقول: ما رأيت مثل هذا الشيخ قط ولا أثبت من جنانه، ولا من حجتي مثله، ولا رأيت مثل حلمه ومروءته.

المنصور وصاحب الضيعة

غصب أحد الولاة رجلًا من العقلاء ضيعةً له، فشكاه إلى المنصور فقال له: أصلحك الله، أذكرُ حاجتي أم أضرب لك قبلها مثلًا؟ قال: بل اضرب لي قبلها مثلًا، قال: أصلحك الله، إن الطفل الصغير إذا نابه أمر يكرهه فإنه يغير إلى أمه؛ إذ لا يعرف غيرها، وظنًّا منه أنه لا ناصر فوقها، فإذا ترعرع واشتد فأوذي كان فراره وشكواه إلى أبيه؛ لعلمه بأن أباه أقوى من أمه على نصرته، فإذا بلغ وصار رجلًا ووقع به أمرٌ شكا إلى الوالي؛ لعلمه بأنه أقوى من أبيه، فإذا زاد عقله واشتدت شكيته شكا إلى السلطان؛ لعلمه بأنه أقوى من سواه، فإن لم ينصفه السلطان شكا إلى الله — عزَّ وجلَّ — وقد نزلت بي نازلة، وليس فوقك أحد أقوى منك، فإن أنصفتني وإلا رفعت أمرها إلى الله؛ إذ ليس فوقك إلَّا الله تعالى. قال: بل ننصفك. وأمر بأن يكتب إلى واليه برد ضيعته عليه.

عمارة والمنصور والرجل

جاء عمارة بن حمزة إلى الملك المنصور فأجلسه عنده، وكان ذلك في يوم نظره في المظالم، فقام رجل على قدميه ونادى بأعلى صوته: يا أمير المؤمنين، أنا مظلوم. فقال له: ومن ظلمك؟ فقال: عمارة بن حمزة هذا أخذ ضياعي وعقاري. فأمر المنصور أن يقوم من مجلسه ويساوي خصمه، فقال عمارة: يا أمير المؤمنين، إن كانت الضياع له فلا أعارضه فيها، وإن كانت لي فقد وهبتها له، ولا أقوم من مجلس أكرمني به أمير المؤمنين لأجل ضياع أو عقار.

المنصور وأحد ولد الأشتر

حكي إلى المنصور برجل من ولد الأشتر النخعي ذكر عنه الميل إلى بني علي بن أبي طالب والتعصب لهم، فأمر بإحضاره، فلما مثل بين يديه قال: يا أمير المؤمنين، ذنبي أعظم من نقمتك، وعفوك أعظم من ذنبي، ثم قال:

فهبني شيئًا كالذي قلت ظالمًا
فعفوًا جميلًا كي يكون لك الفضلُ
فإن لم أكن للعفو منك لسوء ما
أتيت به أهلًا فأنت له أهلُ

فعفا عنه.

المنصور وشبة بن عقال

جلس المنصور يومًا فقال: من يصف صالحًا ابني؟ وقد رشحه لأن يُوَلِّيَهُ بعض أمور؛ فكلهم هاب المهدي، فقال شبة بن عقال: لله دره ما أفصح لسانه! وأحضر جنانه! وأبلﱠ ريقه! وأسهل طريقه! وكيف لا يكون كذلك وأمير المؤمنين أبوه والمهدي أخوهُ؟! ثم أنشد:

هو الجواد فإن يلحق بشأوهما
على تكاليفه ما مثله لحقا
أو يسبقاهُ على ما كان من مهل
فمثل ما قدﱠما من صالح سبقا

فقال المنصور: ما رأيت مثله مخلصًا، مدحه وأرضاني.

إبراهيم بن هرمة والمنصور

يحكى عن المنصور أن الربيع بن يونس حاجبه قال له يومًا: يا أمير المؤمنين، إن الشعراء ببابك وهم كثيرون، وقد طالت أيام إقامتهم، ونفدت نفقاتهم. فقال: اخرج إليهم، واقرأ عليهم السلام، وقل لهم: من مدحنا منكم فلا يصفنا بالأسد؛ فإنما هو كلب من الكلاب، ولا بالحية؛ فإنما هي دويبة سيئة تأكل التراب، ولا بالحلي؛ فإنما هي حجر أصم، ولا بالبحر؛ فإنه ذو مخاوف، فمن كان ليس في شعره شيء من هذا فليدخل، ومن كان في شعره شيء من هذا فليصرف، فانصرف كلهم إلا إبراهيم بن هرمة؛ فإنه قال: أدخلني. فأدخله، فلما مثل بين يديه قال: يا ربيع، قد علمت أنه لا يجيبك أحد غيره، هات يا إبراهيم: فأنشده القصيدة التي أولها:

سرى نومه عني الصبا المتحاملُ
وأذن بالبين الحبي المزايلُ

حتى انتهى إلى قوله:

له لحظات في حقافي سديره
إذا كرﱠها فيها عقاب ونائل
فأما الذي أمنت أمنهُ الردى
وأما الذي خوفت بالثكل ثاكل

فرفع له الستر، وأقبل عليه مصغيًا إليه حتى فرغ من إنشادها، ثم أمر له بعشرة آلاف درهم، وقال: يا إبراهيم، لا تتلفها طمعًا في نيل مثلها، فما في كل وقت تصل إلينا وتنال مثلها منا، قال إبراهيم: ألقاك بها يا أمير المؤمنين يوم العرض وعليها خاتم الجهبذ.

المنصور العباسي وأبو عبد الله

كتب المنصور العباسي إلى أبي عبد الله بن جعفر الصادق (رضي الله عنه): لِمَ لا تغشاني كما تغشانا الناس؟ فأجابه: ليس لنا من الدنيا ما نخافك عليه، ولا عندك من الآخرة ما نرجوك له، ولا أنت في نعمة فنهنئك بها، ولا نعدها نقمة فنعزيك لها. فكتب المنصور إليه: تصحبنا لتنصحنا. فكتب إليه أبو عبد الله أيضًا: من يطلب الدنيا لا ينصحك، ومن يطلب الآخرة لا يصحبك.

المنصور وخالد وإيوان كسرى

كان المنصور تقدم بهدم إيوان كسرى وحمل نقضه إلى مدينة السلام، فقال له خالد: لا تهدم بناءً دلﱠ على فخامة قدر بانيه الذي غلبته، وأخذت ملكه فتعجز عنه، فيدل ذلك على عجز منك. فقال: هذا الميل منك إلى المجوس. وأمر بهدمه فعجز عنه، فقال: يا خالد، صرنا إلى رأيك. فقال: الآن أشير أن لا تكف عنه، فإن الهدم أيسر من البناء؛ لئلا تقول الناس: إنك عجزت عن هدم بناء بناه عدوك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤