تمهيد

تشهد السجون في بلدنا أزمة خطيرة تزداد تفاقمًا. فنحن نلقي بأعداد هائلة من الأشخاص المصابين بأمراض عقلية في المؤسسات العقابية ونسيء معاملتهم، ولا يعي الكثير من الناس عواقب ذلك. ولا يدرك آخرون كيف تصيب سياسات السجون الحالية السجناء الذين كانوا «أصحاء» فيما مضى بالصدمات، وتجعلهم غاضبين وعنيفين وعرضة لمشكلات انفعالية شديدة. ويلجأ بعض الناس إلى التفكير المتفائل بتعلقهم بفكرة حمقاء تقضي بأن الأزمة سيتم احتواؤها داخل جدران السجون. والحقيقة هي أن أزمة الصحة العقلية في السجون تسفر بالفعل عن أزمة عامة تزداد تفاقمًا بمرور الوقت. فنحن نجلس فوق قنبلة موقوتة، وإذا فشلنا في نزع فتيلها؛ فستكون العواقب وخيمة على السلامة العامة.

لقد أصبحت السجون أكبر المصحات العقلية وأكبر مزود للخدمات النفسية في الولايات المتحدة الأمريكية. تضاعف عدد السجناء الأمريكيين ثلاثة أضعاف منذ عام ١٩٨٠، وسوف يتضاعف مرة أخرى بحلول عام ٢٠٠٥ في حال استمرار التوجهات الحالية. في يوم ٣١ ديسمبر عام ١٩٩٦، بلغ عدد السجناء الأمريكيين مليونًا و١٨٢ ألفًا و١٦٩ سجينًا تحت الاختصاص القضائي الفيدرالي واختصاص الولايات، بالإضافة إلى ٤٤٠ ألف سجين في السجون المحلية. وفي الوقت نفسه، أدى كلٌّ من إخراج المرضى من المؤسسات العلاجية1 في نظام الصحة العقلية الحكومي والتغيُّرات في القانون التي تجعل من المستبعد اعتبار المرض العقلي للمدَّعى عليه عاملًا مخففًا عند إصدار الأحكام عليه، إلى وضع عدد غير مسبوق من الأمريكيين الذين يعانون من مشكلات نفسية خطيرة تحت طائلة نظام العدالة الجنائية.

ومع التوجه نحو إرسال المرضى إلى منازلهم من مستشفيات الأمراض العقلية، تراجع عدد المرضى المصابين بأمراض عقلية المودعين في المستشفيات من ٥٦٠ ألف مريض عام ١٩٥٥ إلى ما يقل عن ٨٠ ألفًا حاليًّا. وفي تلك الفترة الزمنية نفسها، ارتفعت نسبة السجناء الذين يعانون من اضطرابات عقلية خطيرة خمسة أضعاف، مقارنةً بمن يعانون من هذه الاضطرابات بين السكان العاديين. ويعاني عدد يتراوح بين ١٢٠ ألفًا و٢٠٠ ألف سجين من اضطرابات عقلية خطيرة؛ أي ما يزيد عن إجمالي عدد مرضى الوحدات الداخلية في مرافق العلاج النفسي غير العقابية. وفي الواقع، إذا أُخذ في الاعتبار كل الأمراض العقلية التي تتطلب تدخلًا مكثفًا للطب النفسي — بما في ذلك الحالات المؤدية إلى الإعاقة، لكنها غير ذهانية، مثل التوتر الشديد واضطراب توتر ما بعد الصدمة — فسنجد أن ما يزيد عن ٣٠٠ ألف سجين أمريكي يحتاجون إلى خدمات علاج نفسي مكثف.

ومعظم السجناء المصابين باضطرابات عقلية خطيرة وطويلة الأمد لا يعانون فقط من القصور الشديد في العلاج الذي يتلقونه، وإنما أيضًا من ظروف السجون المتزايدة في قسوتها. وبرامج علاج الصحة العقلية في المؤسسات العقابية، التي تعاني من قلة عدد الموظفين، لا تصل إلا إلى نسبة ضئيلة فقط من السجناء المصابين باضطرابات خطيرة. والكثير من السجناء الذين يعانون من أكثر الاضطرابات حدة يتم التغلب عليهم ببساطة من خلال الأدوية القوية المضادة للذهان والحبس في زنزاناتهم. تزيد الضغوط والصدمات الهائلة التي تتضمنها الحياة داخل السجن من تفاقم اضطراباتهم النفسية، وتجعل من تحديد كيفية سير أعراض أمراضهم (أي فرص الشفاء على المدى الطويل) أمرًا ميئوسًا منه. يُطلَق على السجناء المضطربين عقليًّا في ساحة السجن أسماء من قبيل «المجانين» و«غريبي الأطوار»، ويتعرضون للإيذاء من السجناء الآخرين. فينسحب بعضهم إلى زنزاناتهم حيث يؤدي الانعزال إلى تفاقم الأعراض لديهم، ويتفجر البعض الآخر غضبًا لينتهي بهم الحال في الحبس الانفرادي حيث يقل احتمال حصولهم على الرعاية النفسية الملائمة، ويؤدي الحرمان الحسي والاجتماعي إلى زيادة غضبهم وأوهامهم.

وظروف السجن القاسية لها أثر سيئ للغاية على الصحة العقلية لجميع السجناء. والسجناء الآخذة أعدادهم في الزيادة، الذين لديهم تاريخ سابق من الاضطرابات النفسية الخطيرة قبل إدانتهم، معرضون بشكل خاص للانهيار عند تعرضهم لقدر هائل من الضغط الذي تفرضه السجون شديدة الازدحام. والعديد من السجناء الآخرين، الذين لم يعانوا قط من أي اضطراب نفسي قبل دخولهم السجن، يكون رد فعلهم على الصدمات الهائلة التي تتسم بها الحياة في السجن هو ظهور أعراض الاضطرابات النفسية لديهم.

•••

وفيما يتعلق بآثار الازدحام الهائل في السجون، سنجد أن السجون الجديدة لا يمكن أن تُبنَى بالسرعة الكافية للتعامل مع التدفق الكبير للمدانين المحكوم عليهم بموجب أحكام الحد الأدنى الإلزامية وتشريع اعتياد الإجرام (إدانة المجرم بثلاث جرائم أو أكثر). فصارت الزنزانات الصغيرة المُعدَّة في الأساس لاستيعاب سجين واحد تستوعب سجينين. وصالات الألعاب الرياضية بالسجون أصبحت مهاجع مؤقتة تزدحم بالمئات من الأسرَّة المكوَّنة من دورين. وعلى مدار الأعوام ذاتها، حدث انفجار في أعداد السجناء بالسجون، وأُلغيت برامج التثقيف وإعادة التأهيل؛ ما جعل السجناء لا يتبقى لهم سوى عدد قليل أو معدوم من الأنشطة، بالإضافة إلى حرمانهم من أية فرصة لإعداد أنفسهم للحياة المستقيمة بعد إطلاق سراحهم. يصبح السجناء سريعي الهياج، ويزداد حنقهم، وتتصاعد التوترات العرقية بينهم، وتزداد انتهاكات الضعفاء وحالات الاغتصاب، بالإضافة إلى ازدياد أعداد السجينات والسجناء المودَعين في الحبس الانفرادي، واستمرار الغضب في التصاعد. لا عجب إذن أن يؤدي الازدحام إلى زيادات مذهلة في معدلات العنف والأمراض العقلية والانهيارات النفسية وحالات الانتحار.

يدرِّب السجن السجناء على الوضاعة؛ فكلما ازداد السجين وضاعة، ازدادت فرصته في البقاء على قيد الحياة. والسجناء المصابون بأمراض عقلية يعانون من صعوبة في التأقلم مع العُرف السائد في السجن؛ فإما أن يرهبهم موظفو السجن للوشاية بالآخرين وإما يتلاعب بهم السجناء الآخرون لفعل أشياء توقعهم في مشكلات خطيرة. وتزيد نسبتهم بين ضحايا الاغتصاب، ويزداد تأثرهم بالصدمات اليومية في حياة السجن، هذا فضلًا عن ارتفاع النسبة التي يمثلونها بين السجناء الموجودين في العزل العقابي والإداري أو وحدات الحبس المشدد. وفي ظل الازدحام الشديد بالسجون وإلغاء برامج إعادة التأهيل، تستمر الوضاعة دون توقف وتتفاقم، وينهار السجناء تحت الضغط، ويُودع عدد كبير من السجناء الحبس الانفرادي أو وحدات العزل.

وبدلًا من تعزيز برامج السجون للتخفيف من هذه التطورات المرعبة، يختار المُشرِّعون والمسئولون الإداريون في المؤسسات العقابية — الذين يخشون من اتهامهم بأنهم «يدللون السجناء» — بناء وحدات ذات إجراءات أمنية فائقة التشديد وعالية التقنية تزخر بكاميرات فيديو للمراقبة الدائمة للسجناء وأبواب تُفتَح وتُغلَق بالتحكم عن بُعد. وأي سجين لا يحسن التصرف أو لا يعجبه أسلوب إدارة السجن يمكن أن يُودع هذه الوحدات فترة طويلة للغاية من الوقت. ويقضي السجناء في هذه الوحدات نحو أربع وعشرين ساعة يوميًّا داخل زنزانة يحصلون على طعامهم فيها وينعزلون عن العالم ويجلسون في حالة من الخمول.

وإبقاء السجناء الذين من المحتمل إخلالهم بالنظام — أي مَن يعانون من اضطرابات نفسية واضحة ومَن يبدون مستقرين نسبيًّا — في هذا الحبس المشدد قد يوفر سلامًا مؤقتًا في ساحة السجن، لكن يؤدي ذلك إلى ظهور مشكلة جديدة؛ ألا وهي: ما الذي يجب فعله معهم عند خروجهم من الحبس المشدد؟ فلن تكون لديهم أنشطة تثقيفية أو إعادة تأهيل أو تدريب مهني أو تفاعلات اجتماعية أو تدريب على التحكم في الغضب. وظروف الاحتجاز في الحبس المشدد — بما في ذلك الحرمان الحسي والعزلة الاجتماعية والخمول التام — من المعروف أنها تثير حالة شديدة من الغضب والارتباك لدى أي شخص يُحجَز فيه، ولا سيما المعرضين للانهيارات الانفعالية. وفي جميع وحدات السجن ذات الإجراءات الأمنية فائقة التشديد التي تجولت فيها، فإن نسبةً تتراوح بين ثلث ونصف عدد السجناء تعاني من اضطراب عقلي خطير. والسجناء في هذه الوحدات الذين هم عرضة لاضطرابات نفسية تتفاقم لديهم الهلاوس والأوهام والقلق الذي يصل إلى حد الفزع. حتى بعض السجناء ضخام الجثة ممن يبدو عليهم الغلظة رأيت في أعينهم الفزع!

ثمة جهود تسير على قدم وساق لخصخصة السجون. ويصيبني هذا الأمر بالقلق الشديد لأسباب سأوضحها في الفصل الحادي عشر من هذا الكتاب. فعلى الرغم من أن النظم البيروقراطية الحكومية معرضة بالفعل لصور القصور القابلة للتنبؤ بها وغير قادرة على منع أنواع كثيرة من الانتهاكات، فإن الشركات الخاصة الهادفة للربح لديها منفعة مالية في تقليل عدد موظفي رعاية الصحة العقلية وإطالة مدد بقاء السجناء بالسجن. وتزداد الأرباح مع خفض الأجور (كأن يكون ذلك عن طريق عمل الأطباء النفسيين عن طريق الهاتف من المنزل بدلًا من الظهور في السجون للعمل في ورديات)، وزيادة عدد السجناء في السجون الصغيرة الحجم. لكن هذه المصلحة الشخصية الهادفة إلى إفشال السجناء تجعل من خصخصة السجون مجازفة خطيرة للغاية.

على مدار العقدين الماضيين، عمدت المحاكم إلى دراسة شكاوى السجناء عن الازدحام الشديد، وظروف السجن القاسية للغاية، والإجراءات التأديبية غير العادلة، والوحشية من جانب الحرَّاس، والإيداع طويل المدى دون وجه حق في الحبس المشدد في ظل ظروف شديدة القسوة، والقصور في الخدمات الطبية وخدمات الطب النفسي. والخلاصة التي ينبغي الوصول إليها في هذه الحالات هي: هل ظروف السجن القاسية تضر السجناء بما يكفي لأن تشكل انتهاكًا للدستور أو حقوق الإنسان أم لا؟ وهل خدمات الطب النفسي كافية لتكفل للسجناء المضطربين عقليًّا حقهم في العلاج أم لا؟

•••

لقد عملتُ خبيرًا في الطب النفسي في أكثر من اثنتي عشرة قضية جماعية تتعلق بظروف الاحتجاز في السجون، وجودة الرعاية الصحية ورعاية الصحة العقلية داخل هذه المؤسسات العقابية. وعملت أيضًا مستشارًا لقسم الحقوق المدنية بوزارة العدل الأمريكية ولمنظمة هيومَن رايتس ووتش في إطار التحقيقات التي أجرتها هاتان الجهتان في أنظمة السجون الحكومية. وقد منحتني هذه الأدوار فرصة يندر حصول أي شخص لا يعمل داخل السجون عليها؛ ألا وهي الدخول إلى السجون ومقابلة السجناء ومأموري السجون والموظفين بها.

وتفزعني دائمًا درجة العنف التي أشهدها أو أسمع عنها في السجون حاليًّا، بما في ذلك العنف بين السجناء، والاعتداءات من جانب السجناء على الحرَّاس، وحالات الضرب وإطلاق النيران على السجناء من جانب الحرَّاس. وعندما أتجول في السجون، ولا سيما وحدات الحراسة المشددة التي يُعزَل فيها السجناء داخل زنزانات على مدار اثنتين وعشرين أو أربع وعشرين ساعة يوميًّا، تصدمني درجة الذهان التي أراها — وتشمل تدهور حالات السجناء إلى حد الصراخ بألفاظ فاحشة، وإلحاق الجروح بأنفسهم، وتراشق الغائط — ولم يسبق لي رؤية ما يضاهيها أبدًا في أي مكان آخر طوال سنوات عملي طبيبًا سريريًّا على مدار خمسة وعشرين عامًا.

وِيلي واحد من بين الكثير من السجناء الذين يعانون من إصابة واضحة بالذهان، التقيت بهم في وحدات السجون ذات الإجراءات الأمنية فائقة التشديد (قمت بتغيير الأسماء في معظم الحالات حفاظًا على سرية أصحابها). عندما كان في الخامسة عشرة من عمره، حوكِم كشخص بالغ، وحُكِم عليه في ثلاث جنايات، وأُودع السجن. فقد اختطف وهو برفقة صبي آخر ثلاث سيدات تحت تهديد السلاح الأبيض في أثناء محاولتهما الهرب من وحدة علاج نفسي مؤمنة في عام ١٩٩٣. شأنه شأن الكثير من المدانين، تعرض ويلي لانتهاكات شديدة وهو صبي. ففي سن التاسعة، وفي أثناء رعايته لأخته الصغيرة في أحد المهرجانات، اختُطِفت أخته وقُتِلت. ولم يتجاوز ويلي قط هذه الخسارة، وكان يلوم نفسه دومًا على ما حدث. وبعد وفاة أخته بفترة قصيرة، بدأ في إلقاء الحجارة على السيارات من على الجسور العلوية للطرق السريعة، وإلقاء البيض على المنازل، وإشعال حرائق صغيرة، والهروب من المنزل، والتغيُّب عن المدرسة. وأقدم على العديد من محاولات الانتحار الجادة، بالإضافة إلى تعديه على غيره من الأطفال ومعلميه. في السنوات الأولى من مرحلة المراهقة، شُخِّصت حالته على أنها «فصام ارتيابي» و«تخلف عقلي»، وعُولِج بعقار هالدول، وهو دواء مضاد للذهان قوي للغاية. ووضِع في عنبر مغلق لاعتباره خطيرًا للغاية على نفسه وعلى الآخرين. وحتى في أثناء حصوله على هالدول، ظل يسمع باستمرار أصواتًا داخلية تأمره بمهاجمة الناس، وخاصةً النساء.

وعلى الرغم من ارتكاب وِيلي للجرائم وهو يعاني من ذهان واضح ويحاول الهروب من مستشفًى للأمراض العقلية، فقد اتُّهم بثماني جنايات. ومن خلال التفاوض على تخفيف العقوبة، أُسقِطت عنه التهم الخمس الأكثر خطورة، وأُدين في التهم الثلاث البسيطة نسبيًّا. كان الحكم الصادر ضده أنه «مدان ومريض عقليًّا». والقاضي، الذي رأى أن ذلك الصبي البالغ من العمر خمسة عشر عامًا والمضطرب عقليًّا والمصاب بتخلف عقلي يمثل تهديدًا على المجتمع، حكم عليه بعدة سنوات في السجن عن كل تهمة، على أن يقضي هذه المدد تباعًا في السجن.

وأثناء وجود ويلي في الحبس في انتظار المحاكمة، تعرض للاغتصاب من العديد من السجناء الأكبر سنًّا، والضرر الذي لحق بالمستقيم لديه كان شديدًا لدرجة تطلبت خضوعه لجراحة استبنائية (ترميمية). والكوابيس وتوارد التجارب القاسية السابقة المرتبطة بالاغتصاب على ذهنه ظلت جزءًا من أوهامه وهلاوسه إلى الآن. وأنا أكتب هذه الكلمات، يكون قد مرَّ على وجود ويلي في السجن ما يزيد عن خمسة أعوام، وعلى الرغم من صغر سنه، وإعاقته النفسية الشديدة، والحكم عليه بأنه مدان ومريض عقليًّا، لم يحصل في السجن إلا على قدر ضئيل للغاية من الرعاية الطبية النفسية. ونُقِل إلى وحدة الطب النفسي في السجن فترة قصيرة مرتين، وأُعطي وصفة طبية من الأدوية المضادة للذهان. لكنه تُرِك دون رقابة، وسرعان ما تورط في مشكلات انضباطية ودخل وحدة الحبس الانفرادي حيث عُزِل في زنزانته ثلاثًا وعشرين ساعة يوميًّا وكان يتناول وجباته وحده.

كان هناك طبيب نفسي واختصاصي نفسي يقومان بجولات في الوحدة. كل منهما كان يتوقف أمام باب زنزانة ويلي ويسأله عما يشعر به. أخبرني ويلي أنه لم يكن يتحدث إليهما إلا ببضع كلمات؛ لأن المكان كان يفتقر إلى الخصوصية، ولأنه كان لا يرغب في سماع السجناء الآخرين له وهو يتحدث عن مشكلاته العقلية. أضاف ويلي أنه في بعض الأحيان يرى الشياطين تترصده داخل الزنزانة ويسمع أصواتًا بداخله تأمره باغتصاب النساء وقتل نفسه. وخلال تلك الفترة، أصاب ويلي ذراعه وعنقه بجروح سيئة للغاية عدة مرات. وفي أحيان أخرى، في استجابة منه للهلاوس الآمرة التي يسمعها، كان يلقي بالغائط على الحرَّاس. وفي كل مرة يلقي فيها بالفضلات عليهم أو يرفض تنفيذ أمر ما، كان يُحكَم عليه بقضاء فترة أطول في الحبس الانفرادي الذي يجعله — حسب قوله — أكثر جنونًا. ويبدو الآن أنه سيبقى في وحدة الحراسة المشددة حتى موعد إطلاق سراحه عام ٢٠٢٥.2
تضم السجون3 بعض الأشخاص الذين يرتكبون جرائم عنيفة على نحو متكرر ويستحقون الإبقاء عليهم محتجزين فترات طويلة من الوقت. ويجب عدم تجاهل مخاوف الناس المفهومة بشأن المجرمين المحترفين في عالم الإجرام. وهؤلاء المجرمون، في الواقع، هم الذين يصبحون عادةً المعتدين في التسلسل الهرمي السيادي بالسجون، ويعتدون على السجناء الأضعف والأصغر سنًّا، ويجعلون الحياة بائسة بالنسبة إلى السجناء المضطربين عقليًّا. لكن على عكس المخاوف الناتجة عن تركيز وسائل الإعلام على أكثر السجناء عنفًا وانحرافًا، فإن ما يزيد عن نصف عدد السجناء حاليًّا لم يرتكبوا قط في حياتهم أية جريمة عنف. وإذا حصرنا العدد الإجمالي للحالات التي دخلت حديثًا إلى السجون بدلًا من النظر إلى تركيبة السجناء ككل، فسنجد أن نسبة المدانين بأعمال عنف ستقل إلى ٢٧ بالمائة؛ وذلك لأن هذه الفئة من المدانين يحصلون على أحكام أطول ويزداد عددهم داخل المؤسسة العقابية، بينما الأغلبية العظمى من السجناء يُدانون بجرائم غير عنيفة، مثل حيازة المخدرات وغيرها من الجرائم التي لا تتضمن أية ضحايا، ويُطلَق سراحهم بعد بضع سنوات؛ معنى ذلك أن ثلاثة أرباع مَن يدخلون السجن الآن لم يُدانوا بجريمة عنف واحدة!

وتتورط نسبة كبيرة من السجناء، خاصةً مَن يعانون من اضطرابات عقلية خطيرة، في متاعب قانونية تتعلق بالمخدرات والكحوليات، وما من دليل مطلقًا على أن حبس الناس خلف القضبان يجعلهم أقل عرضة لتعاطي المخدرات بعد إطلاق سراحهم. بل إن وضع السجناء، الذين لم يُدانوا من قبل بجرائم عنف في مثل هذه البيئة الجَهنميَّة عدة سنوات يجعلهم أكثر غضبًا ووضاعةً وأقل اهتمامًا بالآخرين عند إطلاق سراحهم. وعادةً ما يُطلَق سراح السجين بعد أقل من خمس سنوات. وخمسة وتسعون بالمائة من جميع السجناء يُطلَق سراحهم في النهاية، بالرغم من الأحكام الأكثر قسوة الصادرة ضدهم. فالأرجح أن وِيلي سيعود إلى الشارع في النهاية، ولك أن تتخيل مدى صعوبة تكيُّفه مع أبسط قواعد السلوك الاجتماعي المقبول بعد قضاء ثلاثين عامًا محبوسًا في زنزانة يعاني فيها من الهلاوس.

يتناول هذا الكتاب الجناة الذين بلغوا سن الرشد. لكنني أذكر بين الحين والآخر الجناة من القُصَّر. وجميع مَن أعرفهم ممن يعملون في نظام العدالة الجنائية يفضلون العمل مع هذه الفئة العمرية؛ نظرًا لزيادة احتمالية عودة القُصَّر إلى الطريق القويم وفرص النجاح في مساعدتهم على الخروج من تحت طائلة نظام العدالة الجنائية وبقائهم خارجه. وأنا أُومِن بأن الجهود الإصلاحية يجب أن تكون منصبة على الشباب، مثلما سأوضح في الفصل العاشر من الكتاب. بيد أن معظم خبراتي كانت في سجون البالغين؛ لذا فإن هذا ما أناقشه في الأساس.

معظم المجرمين العنيفين الأشداء تصدر ضدهم أحكام بالسجن المؤبد. والمشكلة الأكبر فيما يتعلق بالسلامة العامة هي أن عددًا أكبر من السجناء يُحكَم عليهم بالسجن في جرائم لا تنطوي على عنف، ومعظمها جنح بسيطة متعلقة بالمخدرات. وبعد قضاء بضعة أعوام في السجن يتعلمون خلالها أنه يجب عليهم اللجوء إلى العنف كي يتمكنوا من البقاء على قيد الحياة، سيواجهون صعوبة شديدة في احتواء غضبهم والتصرف على نحو لائق في المواقف الاجتماعية عند إطلاق سراحهم. وسواء أكان السجناء مضطربين عقليًّا أم لا، فإنهم يخرجون عادةً من الحبس وصدورهم تحتدم غضبًا وتثور ثائرتهم لأتفه الأسباب.

وفي هذا السياق، انزعجت عندما علمت أن معدل الاعتقالات للمرة الثانية4 (أي معدل إعادة اعتقال الأفراد الذين قضوا مدة عقوبة واحدة في السجن) قد ارتفع للغاية في الفترة ما بين عامي ١٩٨٥ و١٩٩٥، وهي الفترة نفسها التي شهدنا فيها تراجعًا في برامج إعادة التأهيل والتثقيف، وازدحامًا شديدًا في السجون، وظهورًا لوحدات الحبس ذات الإجراءات الأمنية فائقة التشديد. وثلث أعداد المحكوم عليهم بالسجن حاليًّا يعودون إلى السجون مرة أخرى بسبب مخالفتهم قواعد إطلاق السراح المشروط، وتعدِل هذه النسبة ضعف أعداد المدانين الذين كانوا يدخلون السجون نتيجة لمخالفتهم هذه القواعد منذ عشرة أو خمسة عشر عامًا مضت. وارتفاع معدل الاعتقالات للمرة الثانية والنسبة المتزايدة للمُطلَق سراحهم إطلاقًا مشروطًا الذين يعودون إلى الحبس؛ يشير إلى أن السجن في الأعوام الأخيرة يشجع في الواقع على الجريمة، ويقضي على فرص المجرمين السابقين في أن يحيوا حياة مستقيمة.

ليس من المستغرب حاليًّا أن يُطلَق سراح أي سجين مباشرةً من وحدة الحبس الانفرادي إلى المجتمع. وهناك بعض الحالات الخطيرة التي يرتكب فيها السجناء الذين يخرجون من هذه الوحدات مباشرةً إلى الشارع جرائم شنيعة للغاية. وسواء أكان السجناء السابقون قد قضوا مدة عقوبتهم في وحدة الحراسة المشددة أم لا، فإن الاحتمال الكبير لأن يصيروا أكثر عرضة لارتكاب الجرائم العنيفة بعد قضائهم بعض الوقت خلف القضبان له عواقب خطيرة على السياسة الاجتماعية والسلامة العامة.

ومن خلال تصوير السجناء والسجناء السابقين على أنهم مصادر خطر محتملة على السلامة العامة، قد يظن الآخرون بي أنني أتفق مع مَن يدعون أن جميع المجرمين يمثلون خطورة ويجب حبسهم لأطول فترة ممكنة. لكن ما أُومِن به بالفعل هو أن ما نفعله بالسجناء أثناء فترة حبسهم قد يكون له آثار سلبية للغاية على قدرتهم على التكيُّف بسلام مع الآخرين، سواء داخل السجن أم خارجه. وأعتقد أن هذا التأثير تزداد خطورته فيما يتعلق بالسجناء المضطربين عقليًّا. فالسجناء المصابون بأمراض عقلية، شأنهم شأن الأشخاص المصابين بمثل هذه الأمراض في المجتمع، ليسوا أكثر عرضة لانتهاج العنف إذا ما قُورنوا بالفئات الأخرى من السجناء. لكنني أخشى أن تشكل الفئة الفرعية من السجناء — التي تتعرض على نحو متكرر للصدمات والحرمان من العلاج النفسي الملائم في السجون، وتُودع وحدات الحبس الانفرادي العقابية — خطرًا على السلامة العامة بعد إطلاق سراحها.

أعتقد أن اشتداد قسوة الحياة داخل السجون — عن طريق وضع المزيد من السجناء في الوحدات ذات الإجراءات الأمنية فائقة التشديد أو مجرد تقييد الأنشطة التي يقومون بها كحرمانهم من رفع الأثقال ومن كتب القانون — لا يسفر إلا عن دفع المزيد من السجناء والسجينات إلى الجنون. سأقبل بمخاطرة أن يُفهم كلامي على نحو خاطئ وأن يُظن بي أنني أضفي شرعية على أحكام أشد قسوة لكي أثبت نقطة أكثر أهمية بكثير؛ وهي أن الأسلوب الذي نعامل به السجناء، سواء أكانوا يعانون من اضطرابات عقلية خطيرة أم لا، أحمق وخطير. وأرى أنه بإمكاننا، بدلًا من ذلك، وضع برامج من شأنها مساعدة الكثير من السجناء على تغيير مسارهم ومغادرة السجون ليصيروا مواطنين منتجين وملتزمين بالقانون.

•••

يعتقد مناصرو التوجُّه المنادي بإصدار أحكام أكثر قسوة على المدانين ووضع حد لما يسمونه «تدليلًا» للسجناء؛ أن ارتفاع معدل إعادة القبض على المجرمين وعودتهم للإجرام يرجع إلى ظهور نوع جديد من المجرمين شديدي الخطورة ولا سبيل إلى تقويمهم. ويرون أن الحل لمشكلة خروج السجناء من السجون وهم أكثر وضاعة وخطرًا هو الإبقاء عليهم محبوسين فترات أطول من الوقت، بل ومدى الحياة أيضًا. وإرشادات «اعتياد الإجرام» و«الحد الأدنى الإلزامي» للأحكام تتناسب تمامًا مع مبدأ «إيداع الجناة السجون وتجاهُلهم تمامًا».

لكن هناك العديد من المشكلات التي ينطوي عليها هذا التوجه، بدءًا من التكاليف الهائلة التي يتكبدها عامة الناس. فالتكلفة التي تقع على عاتق دافعي الضرائب جراء وضع عدد متزايد من المدانين في السجون وتقديم الخدمات الطبية وخدمات الصحة العقلية لهم صارت جسيمة. أصبح بناء السجون صناعة مزدهرة. ومعدل الإنفاق على المؤسسات العقابية على المستوى القومي زاد بمقدار ثلاثة أضعاف معدل زيادة الميزانية العسكرية على مدار الأعوام العشرين الأخيرة. وأكثر من ٦٠٠ سجن جديد شُيِّد منذ عام ١٩٨٠ بتكلفة تبلغ عشرات المليارات من الدولارات. وأنفق دافعو الضرائب الأمريكيون ١٠٠ مليار دولار عام ١٩٩٤ على نظام العدالة الجنائية. وكلَّف كذلك بناء كل زنزانة جديدة دافعي الضرائب ١٠٠ ألف دولار. وليست تكاليف الإنشاء سوى البداية فقط. فوفقًا لوزارة العدل الأمريكية، كل ١٠٠ مليون دولار يُنفَق على بناء السجون يُلزِم دافعي الضرائب إنفاقَ ١٫٦ مليار دولار على مدار العقود الثلاثة القادمة لإدارة هذه المؤسسات العقابية. ويتكلف إبقاء كل سجين خلف القضبان ما يزيد عن ٢٥ ألف دولار سنويًّا، أو ما يبلغ نحو ١٣٠ ألف دولار سنويًّا إذا كان السجين يعاني من اضطراب عقلي خطير ويحتاج رعايةً طبية نفسية أو إيداعًا بإحدى وحدات العزل.

لقد أثقلت الأعباء المالية كاهل الكثير من الولايات الأمريكية، ويصل الأمر إلى حدِّ ندرة الموارد اللازمة للتعليم العام والرعاية الصحية وخدمات حماية الأطفال وبناء الطرق وما إلى ذلك. تنفق ولاية كاليفورنيا بالفعل على المؤسسات العقابية ما يفوق نفقاتها على التعليم العالي، وسرعان ما سيصير ذلك الحال أيضًا في ولايات أخرى. والمدانون الذين صدرت ضدهم في الأساس أحكام في جرائم لا تنطوي على عنف سيتطلب الإبقاء عليهم خلف القضبان مدى الحياة نفقات عامة هائلة.

وبغض النظر عن عدد السجون التي نشيدها، فما من شيء يضمن لنا احتجاز جميع المجرمين. فمن المستحيل التعرف بدقة على جميع «العناصر الإجرامية»، ناهيك عن إلقاء القبض عليهم. فنسبة كبيرة من الجرائم يرتكبها الشباب من الجنسين الذين لم يسبق لهم دخول السجن قط، ولا يبدو أن احتمالية إصدار أحكام أكثر قسوة عليهم يمكن أن تردعهم عن الجريمة. على سبيل المثال، هناك عامل الإحلال؛5 بمعنى أن حبس تاجر المخدرات لن يقلل على الأرجح من الاتجار في المخدرات؛ وذلك لأن شخصًا أصغر سنًّا سيحل محل الشخص المقبوض عليه. وينطبق ذلك على كل الحالات بغض النظر عن عدد الشباب المعوزين الذين يُسجَنون. لكن الأمر برمته من المؤكد أنه يؤدي إلى اتساع دائرة السجناء الأصغر سنًّا. علاوةً على ذلك، لا تؤدي كل الجرائم ولا كل الاعتقالات إلى الإدانة، ومن ثم يبقى عدد هائل من الجناة في الشوارع، بغض النظر عن مدى قسوة نظام العدالة الجنائية وكَمِّ النقود التي ننفقها هباء عليه.
وفي الوقت الذي ازدادت فيه أعداد السجناء في المؤسسات العقابية زيادة هائلة في العقود الأخيرة، ظلت معدلات الجريمة مستقرة نسبيًّا. نعم، لقد حدث انخفاض ببضع درجات في المائة في أنواع معينة من جرائم العنف في السنوات القليلة الماضية، لكن هذا التحوُّل يتفق مع نموذج التقلُّبات البسيطة لأعلى أو لأسفل في معدل الجريمة المستقر نسبيًّا على مدار العشرين عامًا الأخيرة، ومن ثم لا يمكن تفسير ذلك بمعدل الحبس الذي تضاعف بمقدار ثلاثة أو أربعة أضعاف في الفترة نفسها. فلو كان حبس المزيد من الناس يؤدي إلى انخفاض معدلات الجريمة؛ لتوقعنا أن نشهد انخفاضًا حادًّا في معدلات الجريمة في الولايات التي بها أسرع معدل لزيادة أعداد السجناء. لكن، في الواقع، مقارنة معدلات الجريمة والحبس في الولايات الخمسين6 توضح عدم وجود أية علاقة بين معدلات الحبس والجريمة.

ثمة نبوءة محقِّقة لذاتها في منطق «القانون والنظام». فعندما يتعرض السجناء للإيذاء وتُترَك اضطراباتهم النفسية دون علاج، يفسر السجَّانون الغضب الذي يشعر به السجناء تجاه قسوتهم على أنه دليل على أن هؤلاء المجرمين الذين لا سبيل إلى تقويمهم يجب التعامل معهم بوحشية. وهذه النبوءة المحققة لذاتها هي التي توجه سياستنا الاجتماعية حاليًّا. على سبيل المثال، عندما يطالب حُكام الولايات والمُشرِّعون بضرورة أن تكون معدلات إشغال السجون مرتفعة قبل موافقتهم على تجديد التمويل اللازم لتشغيل هذه السجون، يظهر حافز قوي للإبقاء على المزيد من السجناء خلف القضبان.

والحبس واسع النطاق له آثار ضارة للغاية؛ فالحقوق الدستورية للجميع ستُنتهَك عند وضع الإجراءات الوحشية اللازمة للحفاظ على المزيد من المدانين خلف القضبان. هذا فضلًا عن أن المجتمعات التي ينحدر منها هؤلاء المدانون — التي تكون في الغالب مناطق حضرية منخفضة الدخول — يدمرها الحبس واسع النطاق لشبابها من الجنسين. والزجُّ بنسبة كبيرة من شباب أي مجتمع في السجن يمكن أن يؤدي إلى عدم الاستقرار الأسري ويعزز من الفشل الاجتماعي والسلوك الإجرامي لدى الجيل التالي. ومن الأمثلة المرعبة على هذه الحالة صَبِيَّان في العاشرة والحادية عشرة من عمرهما، ألقيا بطفل في الخامسة من عمره من نافذة الدور الرابع عشر بأحد أحياء السكن الاجتماعي الفقيرة في شيكاجو يوم ١٣ أكتوبر عام ١٩٩٤ ليلقى حتفه؛ وذلك لأن هذا الطفل رفض سرقة الحلوى من أجل هذين الصبيين. والدا هذين الصبيين المعتديين كانا آنذاك في السجن!

•••

إن أغلبية السجناء الذين يُجبَرون على قضاء فترة شبابهم في سجون جهنمية سيخرجون في وقت ما، ويعودون إلى مجتمعاتهم، ويشكِّلون تهديدًا أخطر على السلامة العامة مقارنةً بالتهديد الذي كانوا يشكِّلونه قبل دخولهم السجن. ونظرًا لأن نسبة كبيرة من السجناء يعانون من اضطرابات عقلية خطيرة؛ فإن إيداعهم في سجون شديدة الازدحام، وحرمانهم من الرعاية الطبية النفسية الملائمة، وتركهم ليصيروا ضحايا أو جناة في حوادث العنف يُعَد أمرًا أحمق ومكلفًا وخطيرًا. ومعظمهم أيضًا سيُطلَق سراحه في النهاية. لا أقصد هنا إخافة القارئ، وإنما أقول ذلك فقط لأنني أريد من القارئ أن يشاركني البحث عن أسلوب أكثر إنسانية في التعامل مع الجريمة والعدالة.

سأوضح لك في هذا الكتاب الرعب والظلم والوحشية وانعدام الإحساس والإهدار الهائل لأموال دافعي الضرائب وعدم فعالية النظام العقابي الحالي وفشله مع جميع السجناء، ولا سيما مَن يعانون من اضطرابات عقلية خطيرة. فهل هناك حاجة للعقوبات الأكثر قسوة وصور الحرمان الأكثر تعسفًا التي تنطوي عليها السجون حاليًّا؛ نظرًا لأن السجناء صاروا أكثر جنونًا وسوءًا من أي وقت مضى؟ أم أن الظروف القاسية ونقص العلاج المناسب للأمراض العقلية، وصور الحرمان القاسية هي الأمور التي تجعل السجناء أكثر عنفًا وذُهانًا وميلًا للانتحار؟ سأتناول هذا السؤال ببعض التفصيل. وسأقدم أيضًا مجموعة من التوصيات العملية لإصلاح السجون وإعادة التفكير في الغرض الذي تُنشأ من أجله «المؤسسات العقابية»، كما أقترح بعض الإرشادات التي تهدف إلى تقديم رعاية إنسانية فعَّالة للأفراد الذين يعانون من اضطرابات عقلية خطيرة.

الكتاب مُقسَّم إلى ثلاثة أجزاء. الجزء الأول يركز على أزمة الصحة العقلية خلف القضبان، ويتضمن وصفًا للمصابين بأمراض عقلية في السجون وبعض الأسباب التي زجَّت بعدد كبير منهم إلى السجن (الفصل الأول)، بالإضافة إلى مناقشة للصدمات والضغوط التي تؤدي إلى جنون الكثير من السجناء، بمن فيهم العديد ممن دخلوا السجن دون أن تكون لديهم أية مشكلة سابقة تتعلق بصحتهم العقلية (الفصل الثاني). وأقدم أيضًا تقييمًا نقديًّا لخدمات الصحة العقلية داخل المؤسسات العقابية المعاصرة (الفصل الثالث).

أما الجزء الثاني، فيركز على الظروف التي تجعل حياة السجناء عمومًا في حالة من البؤس الشديد، وتجعل حياة السجناء المضطربين عقليًّا لا تُحتمَل. وتتناول الفصول الخمسة لهذا الجزء الآثار النفسية للعنصرية في المؤسسات العقابية، حيث يمثل الملونون الأغلبية بين السجناء، والبيض الأغلبية بين الموظفين (الفصل الرابع)، إضافة إلى بعض الجوانب المميزة لتجربة النساء في السجون (الفصل الخامس)، والحقيقة البشعة للاغتصاب الذي يحدث داخل السجون وآثاره النفسية (الفصل السادس)، وأهمية الزيارات الجيدة للأحباء؛ كي يتمكن السجين من قضاء مدة عقوبته في سلام، ويحتفظ بصحته العقلية، وينجح في الاستقامة في حياته بعد إطلاق سراحه (الفصل السابع)، والمأساة المتكررة للانتحار في السجون (الفصل الثامن).

ويتناول الجزء الثالث سبل الحد من معاناة السجناء، وتعزيز سلامة المجتمعات. فيعرض الفصل التاسع موضوع القضايا الجماعية التي أدت إلى تحسين نظام العدالة الاجتماعية، ويشير هذا الفصل إلى بعض المعارك القانونية المهمة التي لم تُشن بعد، ويوضح أبرز جوانب القصور في التعويضات القانونية. ويناقش الفصل العاشر بعض متطلبات البرامج الناجحة لإعادة التأهيل وعلاج الأمراض العقلية، ويعرض توصيات لتطبيق الدروس المستفادة من هذه النجاحات في جميع أنظمة السجون.

أما في الفصل الحادي عشر، فسأدلي بدلوي في الجدل القائم حول العدالة الجنائية في الولايات المتحدة الأمريكية. فما هو الهدف الاجتماعي من الحبس أو ماذا يجب أن يكون؟ هل هو مجرد الانتقام ممن يخرقون القانون؟ أم أن هناك بعض الأمل في إعادة التأهيل؟ وهل ستستمر الحكومات في سحب دعمها المالي من مؤسسات التعليم والخدمة الاجتماعية، بينما تتوسع في ميزانيات المؤسسات العقابية؟ وهل سيدفعنا منطق القانون والنظام للاستمرار في «إبعاد» الفقراء والمعوزين عن المجتمع؟ أم أننا سنُشكِّل رؤية أكثر شمولية لأسلوب أفضل للتعامل مع الجريمة والتعامل مع أزمة الصحة العقلية خلف القضبان؟

•••

أتمنى أن يلفت هذا الكتاب أنظار الناس إلى بعض الانتهاكات والتجاوزات التي أشاهدها في كل مرة أدخل فيها أحد السجون. وأتمنى أيضًا أن يكون مساهمة نافعة في مناقشة عامة لا غنى عنها بشأن أهداف السجن، وما يشكل ظروفًا مقبولة للحبس، وكيف يمكننا تقديم خدمات صحة عقلية مناسبة في المؤسسات العقابية.

فإذا لم نتخذ إجراءً حاسمًا في الحال للقضاء على أزمة الصحة العقلية خلف القضبان، فسوف تتعرض السلامة العامة للخطر في السنوات القادمة. وسيستمر خروج سجناء ناقمين من السجن ونسبة كبيرة منهم تعاني من اضطرابات انفعالية خطيرة وغير مستعدة لأن تحيا حياة قويمة وتساهم بفعالية في الحياة المجتمعية، وسيعود الكثيرون منهم إلى حياة الجريمة. لكننا إذا توقفنا عن إنكار المشكلة، وفتحنا أعيننا على حماقة السياسات الحالية المطبقة في المؤسسات العقابية، فسوف تتسنى لنا فرصة تغيير أسلوب تعاملنا مع الجريمة تغييرًا جذريًّا والقيام بمحاولة جادة لإصلاح نظام العدالة الجنائية لدينا.

تيري إيه كوبرز
أوكلاند، كاليفورنيا
أغسطس ١٩٩٨

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤