الفصل الثاني

لماذا يُصاب الكثير من السجناء باضطرابات عقلية؟

تُودع أعداد متزايدة من الجناة ممن لديهم تاريخ سابق من الإصابة بالأمراض العقلية المؤسسات العقابية. هذا فضلًا عن أن الظروف القاسية بالسجون تسفر عن معاناة المزيد من السجناء من حالات انهيار أو انتحارهم. والقصور في تشخيص الأمراض العقلية وعلاجها خلف القضبان يؤديان إلى حالات مزمنة وأكثر حدة من المرض. ومن العوامل المُهيِّئة للإصابة بالمرض العقلي الصدمات القوية التي يتعرض لها المرء في مرحلة الطفولة المبكرة،1 ويشير السجناء عمومًا إلى قدر هائل من الصدمات الحادة التي تعرضوا لها في الماضي. وتظهر على عدد كبير من السجناء أيضًا العلامات والأعراض المعتادة لاضطراب توتر ما بعد الصدمة، بينما يأتي رد فعل مجموعة كبيرة أخرى من السجناء على الصدمة التي يتعرضون لها في صورة أنواع أخرى من الاضطراب النفسي. ويؤدي كذلك ازدحام السجون إلى تفاقم العنف، ويجعل الحياة بداخلها بائسة للجميع، ولا سيما السجناء الذين تعرضوا لصدمات في الماضي ويعانون من اضطراب توتر ما بعد الصدمة (أو يكونون عرضة له) وغيره من الأمراض العقلية الخطيرة الأخرى.

ومن الجولات واللقاءات العديدة التي قمت بها، تبرز صورة واحدة مُركَّبة للسجين الذي يعاني من اضطراب عقلي؛ وهي أن هذا السجين عانى في مرحلة مبكرة من حياته من صدمات شديدة ومتكررة، وواجه صعوبة هائلة في التكيُّف مع الضغط الذي تفرضه عليه ظروف السجن القاسية، فأساء التصرف، وأُودعَ وحدة العزل العقابية حيث أسفر الخمول والعزلة عن إصابته باضطراب عقلي. وهذه الصورة المُركَّبة تعكس المحنة التي يعاني منها عدد كبير من السجناء الذين يجدون أنفسهم محاصرين في دوامة من الجنون واليأس تزيد فيها حالاتهم سوءًا شيئًا فشيئًا.

(١) حياة مليئة بالصدمات

نحن نعلم أن حياة الأطفال في الأحياء الفقيرة مليئة بالصدمات. وتلعب الصدمات المبكرة دورًا في التسبب في جميع أنواع الاضطرابات العقلية لهم، بما فيها اضطراب توتر ما بعد الصدمة، والذهان، والاكتئاب الحاد. ونظرًا لأن الغالبية العظمى من السجناء ينحدرون من أحياء فقيرة، فليس من المُستغرَب أن يتضمن تاريخهم الكثير من الصدمات. وللأسف، تشتمل حياتهم في السجن على قدر هائل من الصدمات أيضًا. في واقع الأمر يمكن للصدمات اليومية في حياة السجن — من الناحية النفسية — أن تثير الصدمات السابقة في حياة السجين. والجمع بين الصدمات القديمة والجديدة قد يكون له تأثير مدمر على الصحة العقلية للسجناء.

عادةً ما يُغفَل تشخيص اضطراب توتر ما بعد الصدمة في السجن. فقلما يعبأ موظفو السجن بالدور الذي تلعبه الصدمة المبكرة في التسبب في جميع أنواع الاضطرابات العقلية الخطيرة. هذا فضلًا عن عدم وعيهم في أغلب الأحيان بخطر عودة الصدمة للسجين في السجن، فيما يتعلق بتوقعات سير المرض لدى السجين وإمكانية تكيفه بعد إطلاق سراحه من السجن الذي عاودته الصدمة فيه.

(١-١) الصدمة في مرحلة الطفولة

يواجه أطفال الأحياء الفقيرة قدرًا هائلًا من الصدمات أو يشهدونها. فبحلول الوقت الذي يصل فيه الأطفال الأمريكيون من أصل أفريقي إلى المرحلة الثانوية، يكون قد شهد ٣٥ بالمائة منهم حادث طعن، وشاهد ٣٩ بالمائة منهم شخصيًّا حادث إطلاق نيران، ورأى نحو ٢٥ بالمائة شخصًا ما وهو يُقتل، ووقع ٤٦ بالمائة منهم ضحية جريمة عنف واحدة على الأقل. وأطفال الأسر منخفضة الدخل من جميع الأعراق في الولايات المتحدة يواجهون قدرًا مذهلًا من العنف الأسري كضحايا للاعتداء البدني أو العاطفي، أو كشهود على عنف الأزواج مع زوجاتهم أو العكس. ويتنامى إلى علمنا أيضًا قدر هائل من حالات الاعتداء الجنسي بين الأطفال الذين يعانون من الفقر. والفقر نفسه يسبب الصدمات، إن لم يكن يسفر عن العنف أيضًا.

والصبية الذين يتعرضون — سواء أكانوا ضحايا أم شهودًا — للعنف وغيره من الصدمات الأخرى المرتبطة بالعيش في الأحياء الفقيرة يأتي رد فعلهم عادةً لهذه الصدمات في صورتين؛ فإما أنهم يلجئون إلى العزلة وإما يغضبون ويتصرفون بعنف ويتجهون إلى المشكلات ويُوقِعون أنفسهم فيها. وبينما يغلب على الصبية إصابتهم باضطرابات سلوكية، يغلب على الفتيات اللاتي تعرضن للصدمات الإصابةُ بالاكتئاب أو التوتر. والعديد من الأطفال الذين عانوا من صدمات متكررة يصيرون غير قادرين على التركيز في الفصول الدراسية والاجتهاد في دراستهم؛ ومن ثم يفشلون عادةً في المدرسة. ومقارنةً بالأقران الذين يبلون بلاءً حسنًا في الدراسة، ينجرف عدد أكبر من هؤلاء الأطفال الذين تعرضوا للصدمات إلى طرق الإجرام المرتبطة عادةً بتعاطي المخدرات، ويُلقَى القبض بالتأكيد على عدد منهم في النهاية. وبالوضع في الاعتبار الموارد المتناقصة في التعليم العام وخدمات الصحة العقلية العامة، يكون شباب الأحياء الفقيرة، الذين يتصرفون بعنف، أكثر عرضةً للعقاب من العلاج. بعبارة أخرى، تُعَد صدمات الطفولة إحدى الآليات المتسببة في زيادة أعداد أفراد الطبقات الدنيا من المجتمع وذوي البشرة الملونة زيادة هائلة في الزنزانات والسجون.

تنحدر الغالبية العظمى من السجناء من أحياء تنخفض فيها الدخول وترتفع فيها مستويات الجريمة، ويشير هؤلاء السجناء إلى صدمات وحالات عنف ممتدة ومتكررة منذ الطفولة. ونسبة كبيرة من المراهقين الذكور الذين يمارسون الاعتداء الجنسي تعرضوا أنفسهم للاعتداء الجنسي في طفولتهم. فثمانٍ وستون بالمائة من الجناة الشباب في برامج أوريجون العلاجية تعرضوا للاعتداء في طفولتهم أو شهدوا تعرض أمهاتهم للاعتداء. ونسبة المعتدين الذين تعرضوا في طفولتهم للاعتداء البدني أعلى بكثير، وقد ثبت أن العنف الأسري منتشر في تاريخ المراهقين الذين يتسمون بالعنف. وتزيد احتمالية ممارسة العنف الأسري لدى الرجال الذين شهدوا مثل هذا العنف بين والديهم ثلاث مرات مقارنةً بمن ينشئون في أسر أقل عنفًا. وتوصلت دراسة حديثة في ماساتشوستس2 إلى أن احتمالية ارتكاب الأطفال، الذين يعيشون في منازل تشهد عنفًا، لجرائم العنف تبلغ ضعف احتمالية وقوع ذلك بين الأطفال الذين لم يتعرضوا لصدمات، فضلًا عن أن احتمالية انتحارهم تزيد بمعدل ست مرات، وارتكابهم للعنف الجنسي بمعدل أربع وعشرين مرة. وما يزيد عن ٤٠ بالمائة من السجينات تعرضن لاعتداء بدني أو جنسي قبل إلقاء القبض عليهن.

ويشير أغلب السجناء المحكوم عليهم بالإعدام إلى تعرضهم لطفولة مليئة بالصدمات الحادة. وتظهر هذه القصص في التقارير السابقة للحكم عليهم والفحوصات النفسية التي يخضعون لها أثناء إجراءات الاستئناف. ولقد قرأتُ العديد من هذه التقارير وكتبتُ الكثير منها أيضًا، واشتملت عادةً على آباء مدمنين على الكحول، واعتداء من جانب أحد الأبوين على الآخر، واعتداء بدني وجنسي على الطفل، وعنف بالشوارع، وما إلى ذلك. وجميع الرجال الذين التقيت بهم وكانوا مدانين بالقتل ومحكومًا عليهم بالسجن مدى الحياة أو الإعدام أظهروا غضبًا شديدًا من الأسلوب الذي تمت معاملتهم به طوال حياتهم.

بالتأكيد ليس جميع الأفراد الذين نشئوا في أحياء ترتفع فيها مستويات الجريمة تظهر لديهم أعراض اضطراب توتر ما بعد الصدمة أو أي اضطرابات عقلية خطيرة أخرى، ولا يُقدِم جميعهم على حياة الجريمة. لكن بالرغم من أن عددًا كبيرًا من شباب الأحياء الفقيرة يتجنبون الإعاقة النفسية ونظام العدالة الجنائية برمته، تظل حقيقة أن عددًا كبيرًا منهم يتورط في مشكلات خطيرة. ولا أعني هنا أن المرض النفسي لدى المجرمين هو السبب الوحيد وراء جرائمهم، وإنما يلعب أيضًا انتشار الفقر والتمييز العنصري وسوء النظام التعليمي بسبب قلة الموارد وارتفاع نسبة البطالة دورًا في هذه المأساة الاجتماعية. ومع ذلك، تتزايد الأدلة التي تربط بين ارتفاع مستوى الصدمات التي يتعرض لها الأطفال في الأحياء الفقيرة وزيادة معدل السلوك الإجرامي بين النساء والرجال الذين ينشئون في هذه الأحياء.3

(١-٢) السجناء المصابون باضطراب توتر ما بعد الصدمة

تلعب الصدمة دورًا هائلًا في حياة الأفراد الذين من المحتمل أن يصبحوا مجرمين. لكن عندما ينتهي الحال بهؤلاء الأفراد في السجن، فكثيرًا ما لا يُلتفت إلى الصدمة التي تعرضوا لها في حياتهم السابقة. وإذا ظهرت عليهم علامات أو أعراض اضطراب توتر ما بعد الصدمة، فإنهم لا يخضعون للعلاج الكافي بانتظام؛ إذ — ببساطة — تتسم خدمات الصحة العقلية داخل المؤسسات العقابية بالقصور. ومن المعروف أن اضطراب توتر ما بعد الصدمة يسوء إذا تُرِك دون علاج، ولا سيما إذا كان الفرد المصاب بالصدمة معزولًا وغير قادر على التعامل مع ردود الفعل الانفعالية التالية لهذه الصدمة.

لا يعني ذلك أنه يجب اعتبار اضطراب توتر ما بعد الصدمة سببًا للحكم ببراءة الجاني في القضايا الجنائية بحجة الجنون أو حتى نقص الأهلية. فلا تزال هذه المسألة محل نقاش، ولن أتناولها هنا. لكن سواء أرغب المجتمع أم لم يرغب في الأخذ بعين الاعتبار كون المجرم لديه تاريخ سابق من التعرض للصدمات، فإننا نحتاج بلا شك إلى التوقف كثيرًا قبل تعريض الجناة — الذين تعرضوا لصدمات في السابق — لصدمات أخرى حادة لا داعي لها أثناء إقامتهم في المؤسسات العقابية.

رون رجل أمريكي من أصول أفريقية يبلغ من العمر سبعة وأربعين عامًا ينفذ حكمًا بالسجن لأكثر من مائة عام عقابًا للجريمة الوحيدة التي ارتكبها في حياته، وهي قتله زوجته وأبناءه. بعد عودة رون من الحرب في فيتنام، تزوج وعمل في أحد المصانع وعاش مع زوجته وأبنائه. لكن الشركة التي كان يعمل بها نقلت أعمالها إلى الخارج للتقليل من تكلفة الأيدي العاملة، فأغلقت المصنع المحلي، وخسر رون وظيفته. في إحدى الليالي، أسرف رون في شرب الخمر، وشبَّ شجار بينه وبين زوجته. صرخت في وجهه، فصعد إلى الطابق العلوي ليحضر سلاحه وعاد ليطلق النار عليها وعلى أبنائه. مضى على هذه الجريمة ما يزيد عن عشرين عامًا، وهو الآن يجلس في زنزانة بالسجن وقد استحوذت جريمته على تفكيره بالكامل.

يتمتع رون بشخصية لطيفة وفصيحة. وعلى الرغم من أن السجون ذات الإجراءات الأمنية المشددة تُخصَّص عادةً للمجرمين المعروف عنهم انتماؤهم للعصابات أو مَن يعانون من مشكلات في الانضباط، أودِع رون أحد هذه السجون بسبب طول مدة عقوبته. وقد أخبرني بأنه يقضي معظم وقته في الزنزانة وهو يفكر في زوجته وأطفاله. من الواضح أنه يعاني من الاكتئاب، وتظهر عليه أيضًا أعراض مرض الوُهام. ويشكو كذلك من الكوابيس التي تقضُّ مضجعه معظم الليالي. ويقول لي إنه يعاني من توارد التجارب القاسية السابقة على ذهنه، ويشعر عادةً بتخدر جسده، ويصاب بنوبات هلع، بالإضافة إلى أنه سريع الغضب والاهتياج. ويتعذر عليه التركيز بالرغم من محاولته التفكير في شيء آخر غير عائلته عن طريق قراءة كتاب تقع عليه يده. ويشعر، كذلك، بأنه منعزل تمامًا عن السجناء الآخرين. وشهد طبيبان نفسيَّان في أثناء محاكمة رون بأنه كان يعاني بوضوح من الذهان عند قتله أسرته. وثمة ملاحظة واحدة في ملفه داخل السجن تفيد باحتمالية إصابته باضطراب توتر ما بعد الصدمة، بالإضافة إلى حالة ذهانية متكررة. وبالرغم من ذلك، لم يتلقَّ سوى قدر ضئيل للغاية من العلاج في السجن. وهو يشعر بأنه بحاجة لمن يتحدث معه وإلا «فسوف ينفجر! أو ينتحر!» على حد قوله.

هناك العديد من الأسباب وراء القصور في تشخيص اضطراب توتر ما بعد الصدمة وعلاجه في السجون. ومن بين الأسباب الفنية وراء القصور في تشخيص هذا الاضطراب افتراض الأطباء السريريين إصابة المريض بمرض واحد فقط. فالكثير من الأبحاث السريرية قائمة على الافتراض بأن السجين يعاني من اضطراب واحد فقط، وليس اثنين؛ لذا، إذا ظهرت على المريض علامات أو أعراض الذهان، تُشخَّص حالته على هذا الأساس، ويتوقف البحث عن أي أمراض نفسية أخرى. لكنَّ ثمة احتمالًا كبيرًا بأن يجمع أي شخص بين الذهان واضطراب توتر ما بعد الصدمة — كما هو الحال مع رون — ومن المرجح أيضًا أن تنشأ حالة ذهانية بسبب التعرض لصدمة ما. في الواقع، يُغفَل عن عدد كبير من حالات اضطراب توتر ما بعد الصدمة بين السجناء؛ لأن عددًا هائلًا منهم تتدهور حالتهم في النهاية لتصير ذهانًا، ومن ثم يَغفل الأطباء السريريون عن الصلة بين الأعراض النفسية والصدمات، السابقة والحالية.

ثمة أسباب هيكلية أيضًا وراء القصور في تشخيص اضطراب توتر ما بعد الصدمة في السجون. على سبيل المثال، في أية مؤسسة تندر فيها مصادر خدمات الصحة العقلية، يقتصر الاهتمام السريري على المرضى ذوي الميول الانتحارية الشديدة والمصابين باضطرابات حادة للغاية دون غيرهم. فيتلقى موظفو الرعاية الصحية العقلية تعليمات بتجاهل الصور البسيطة من الجنون والتركيز على «الأمراض العقلية الخطيرة»، مثل الفصام والاضطرابات الوجدانية الخطيرة والحالات التي تشكل خطرًا مباشرًا لحدوث انتحار. وبالرغم من أن اضطراب توتر ما بعد الصدمة، واضطراب الهلع، والرهاب الاجتماعي، وغير ذلك من صور المرض العقلي «غير الخطيرة» يمكن أن تتسبب في معاناة وعجز واضحين، يميل موظفو الرعاية الصحية العقلية المُثقلون بالأعباء إلى تجاهلها، كما لو كان لسان حالهم يقول: «لماذا نُشخِّص ما لا نملك الموارد لمعالجته؟»

(١-٣) نوعان من ردود الأفعال تجاه الصدمة

ثمة صورتان لمجموعتين من السجناء تبرزان دومًا في ذهني، وهما: العدد الكبير من النساء والرجال الذين يبقون في أسرَّتهم مع إطفاء الأنوار في منتصف النهار، والمجموعة الكبيرة من السجناء الذين يُحتجَزون في وحدات الحبس الانفرادي المعزولة. عندما أتحدث مع السجناء الذين يؤثرون البقاء في زنزاناتهم معظم الوقت، يقولون لي إن الخروج إلى ساحة السجن ليس آمنًا، وإنهم يرغبون في البقاء بمفردهم كي يتمكنوا من قضاء مدة عقوبتهم دون الدخول في أية مشكلات. لكن هذا هو بالضبط التقيُّد الاجتماعي والعاطفي الذي يتبع التعرض لصدمة حادة. فالعديد من هؤلاء السيدات والرجال يصابون بالاكتئاب ويتعرضون لبعض الأعراض التسلطية والمُقيدة لسلوكهم المرتبطة بتوتر ما بعد الصدمة. والبعض منهم يميل إلى الانتحار. لكن العزلة الاختيارية منطقية في هذه الحالة بسبب الوضع الخطير الذي يجد السجناء أنفسهم فيه وقلة خيارات العلاج الجيد.

على الجانب الآخر، تتبع مجموعة أخرى من السيدات والرجال أسلوب تكيف مختلفًا. فعند تعرضهم للازدراء أو سوء المعاملة، يلجئون إلى العنف اللفظي والجسدي تجاه المجرمين والحراس على حدٍّ سواء الذين يسيئون إليهم. وينتهي بهم الحال عادةً إلى إيداعهم الحبس المشدد. وقد يذهب البعض إلى أن هؤلاء السيدات والرجال لديهم نزعة عدائية متأصلة بداخلهم. فهم يتهمون الحراس دائمًا بمضايقتهم وإجرائهم تفتيشًا غير ضروري للزنزانات وإثارتهم المشكلات وتحريضهم على العنف، وما إلى ذلك. ويبدو على الأرجح أن نسبة كبيرة من هؤلاء السجناء لو كانوا في مكان أقل إثارة للتوتر، ما كانوا ليثوروا بهذا القدر. لكننا إذا وضعنا مجموعة من السيدات والرجال ممن تعرضوا في الماضي للصدمات ويتسمون بسرعة الغضب في وضع مثير للخوف، مثل ساحة سجن مزدحم بالسجناء، فسوف ينتهي الحال بعدد كبير منهم إلى الشجار أو الرد على موظفي السجن، ثم الحبس الانفرادي.

يمكن أن يكون خرق القواعد علامة على اضطراب توتر ما بعد الصدمة. لكن موظفي السجن لا ينظرون إلى هذا الخرق على أنه أحد أعراض المرض العقلي، ويفرضون غالبًا على من يرتكبه عقابًا بدلًا من إخضاعه للعلاج. وما إن يُصنَّف السجين بأنه مثير للمشكلات حتى يقع في مزيد منها. ويكمن جزء من المشكلة في «سمعتهم» التي ينبغي عليهم المحافظة عليها، وجزء آخر في اعتياد الحراس توجيه أصابع الاتهام إلى مثيري المشكلات المعروفين في حالة حدوث أية مشكلة. لكن الحبس المشدد هو على الأرجح أسوأ علاج يمكن إخضاع أي شخص يعاني من اضطراب توتر ما بعد الصدمة له. تظهر في هذه الحالة النبوءة القديمة المحققة لذاتها؛ وهي أن الحبس المشدد يزيد من سرعة الغضب والانفعال لدى السجناء الذين تعرضوا لصدمات من قبل، ويعتبر الحراس الغضب المتزايد دليلًا على أنهم كانوا محقين عندما أَودعوا هؤلاء السجناء الحبس الانفرادي.

والانطباع الذي تشكَّل لديَّ خلال جولاتي بالسجون هو أن عددًا كبيرًا من السيدات والرجال، الذين يبقون في زنزاناتهم مع إطفاء الأنوار طوال اليوم وعددًا كبيرًا أيضًا من المحبوسين في العزل التأديبي، تظهر عليهم العلامات والأعراض الخاصة باضطراب توتر ما بعد الصدمة وغيره من الاضطرابات العقلية الأخرى الناتجة عن الصدمات. ويجب أن نتذكر هنا أن رد فعل الأطفال، الذين تعرضوا للصدمات، يتخذ صورتين عادةً: اللجوء إلى العنف والدخول في مشكلات أو الانسحاب إلى الانهزامية والاكتئاب. ويبدو أن أنماط الطفولة تستمر طوال العمر. ولقد اكتشفت في مقابلاتي مع مئات السجناء ظهور بعض السمات الأساسية المميزة لاضطراب توتر ما بعد الصدمة أو جميعها على عدد كبير من السيدات والرجال المسجونين.

(١-٤) الصدمة والاضطرابات العقلية الحادة

تتخذ ردود الأفعال تجاه الضغط النفسي صورًا عدة. والحالة التقليدية لاضطراب توتر ما بعد الصدمة تشمل توارد التجارب القاسية السابقة على الذهن والكوابيس ونوبات الهلع وتفاعلات الإجفال المتفاقمة وفرط الحذر والخَدَر وغير ذلك من صور التقيد الانفعالي الأخرى. لكن إذا تعرض الشخص، الذي لديه ميل للإصابة بصور الانهيار الانفعالي «الخطيرة»، لصدمة حادة؛ فقد يؤدي ذلك إلى التعجيل بانهياره الذهاني أو الاكتئابي بدلًا من المتلازمة التقليدية المعروفة باسم اضطراب توتر ما بعد الصدمة. تتداخل الصور التسلطية مع الهلاوس والأوهام، ونغفل عن الصلة بين الصدمة والانهيار. على سبيل المثال:

قضى روبرت بعض الوقت في مستشفًى للأمراض العقلية بالولاية قبل إلقاء القبض عليه وإدانته. بدا بصحة عقلية جيدة في مرحلة وجوده بمركز استقبال السجن، لكنه تعرض بعد ذلك للاغتصاب على يد مجموعة من السجناء. ولم يبلغ عن الحادث خوفًا من الانتقام، لكنه سرعان ما بدأ يرى هلاوس وأوهامًا. وعندما صارت أعراض الذهان واضحة عليه، ولاحظ الحراس أخيرًا حالته، أُرسِل إلى طبيب نفسي وصف له أدوية مضادة للذهان.

يسفر تجاهل آثار الصدمة على السجناء عن مخاطر مؤكدة. والخطر الذي يتعرض له السجناء هو أن الصدمات المتكررة التي يضطرون لتحملها أثناء السجن تزيد من سوء حالاتهم النفسية وتوقعات سيرها. وللأمر أيضًا عواقب اجتماعية وخيمة. ففي النهاية، معظم هؤلاء المدانين يُطلَق سراحهم بعد انتهاء مدة العقوبة، ونحن نعلم من واقع خبرتنا مع المحاربين القدامى في حرب فيتنام الذين يعانون من اضطراب توتر ما بعد الصدمة، أنه قد تكون هناك إعاقة واكتئاب مزمنان، بالإضافة إلى العديد من حالات الانتحار؛ ومن ثم، تكون هناك حالات هياج عنيف غير مبرر من الناحية الظاهرية وغير متوقع. والسجناء الذين عانوا من صدمات حادة ومتكررة في الماضي يكونون عرضة للمعاناة من ردود فعل انفعالية موهِنة عند تعرضهم لصدمات جديدة. ونظرًا لأن ظروف السجن القاسية والحبس الانفرادي يفرضان صدمات حادة للغاية على معظم السجناء، فإن هذا المزيج المُهلِك بين الصدمات السابقة والحالية هو أحد أهم أسباب معاناة الكثير من السجناء من اضطرابات عقلية خطيرة حاليًّا.

(٢) الازدحام4 والظروف القاسية الأخرى

مع التزايد الهائل في أعداد السجناء منذ عام ١٩٨٠، تفاقم ازدحام السجون في معظم المؤسسات على المستوى الفيدرالي ومستوى الولايات، ولا يزال الوضع يزداد سوءًا، حتى مع جميع التفويضات ببناء السجون التي تقدمها مشاريع قوانين مكافحة الجريمة على مستوى الولايات والمستوى الفيدرالي. فتمتلئ الكثير من السجون بنسبة تتراوح بين ١٥٠ إلى ٢٠٠ بالمائة من سعتها الاستيعابية الأساسية. وانتشرت كذلك الزنزانات المشتركة. واكتظت المهاجع بما يفوق قدرتها على الاستيعاب. في السجون القديمة، تبلغ مساحة الزنزانة القياسية ستة أقدام عرضًا وثمانية أقدام طولًا، مع وجود حوض ومرحاض في الجهة المقابلة لباب الزنزانة، بالإضافة إلى سرير واحد يمتد من الباب إلى الطرف المواجه له تقريبًا. وأي رجل ضخم البنية يتوجب عليه الاستدارة بجانبه ليسير بجوار حافة السرير. وفي حالة وجود سجينين بالزنزانة واستبدال سرير بدورين بسرير فردي، يلزم على أحد السجينين البقاء في السرير بينما يسير الآخر إلى المرحاض أو الباب. هذا علاوة على أن العديد من غرف التجمع وصالات الألعاب الرياضية قد تم تحويلها إلى مهاجع مؤقتة.

هناك عدد متزايد من الأبحاث التي تربط بين الازدحام وزيادة انتشار العنف والاضطرابات النفسية والانتحار. ففي عام ١٩٦٢، أثبت كالهون وجود علاقة لدى الفئران بين الازدحام وزيادة معدلات وفاة صغار الفئران والعنف والتفكك الاجتماعي. ومنذ ذلك الحين، عمد الباحثون إلى دراسة آثار الازدحام على البشر في السجون وغيرها من الأماكن المغلقة. وقد وجدوا أن الأشخاص الذين لديهم ميل للسلوك الاندفاعي وخرق القواعد والاضطرابات النفسية يسوء حالهم عند تعرضهم للازدحام. والازدحام نفسه صدمة لا تُطاق. هذا فضلًا عن أن تزايد العنف يؤدي إلى الكثير من الصدمات الجديدة، ولا سيما للمجرمين سريعي التأثر ممن يعانون من اضطرابات عقلية.

يزيد احتمال تعرض السجناء، الذين لديهم تاريخ سابق من الإصابة بالانهيارات النفسية، للانتكاسات. ويشكو العديد من السجناء الآخرين أيضًا، الذين لم يعانوا من قبل من أي اضطراب نفسي خطير، من أعراض نفسية مثيرة للقلق للمرة الأولى. وترتفع معدلات الانتحار مع ازدياد حالات العنف والانهيار الانفعالي.

(٢-١) كيف يؤثر الازدحام على السلوك؟

إن آثار ازدحام السجون واضحة لأي زائر. ففي بعض سجون الولايات التي تجولت بها، يتم تسكين عدد يتراوح بين ١٠٠ إلى ٢٥٠ سجينًا في أسرَّة من دورين مجاورة لبعضها البعض في صالة ألعاب رياضية بحجم ملعب كرة السلة. تفتقر هذه المهاجع الضخمة إلى الخصوصية. وتكون هناك طوابير أيضًا لاستخدام المرحاض أو الهاتف. وتكون هناك بالطبع الشجارات والنزاعات الحتمية التي تنشأ في ظل هذه الظروف.

عند دخولي أحد هذه المهاجع المُستخدَمة كبديل مؤقت، كان أول ما صدمني مستوى الضوضاء، بما في ذلك الصياح المستمر، وإلقاء ضباط الأمن الأوامر على السجناء أو ندائهم الأسماء بصوت عالٍ، وصوت مياه شطف المراحيض البالغ عددها عشرة أو اثني عشر مرحاضًا مثبتة بطول جدار واحد من جدران صالة الألعاب الرياضية. يشير السجناء إلى أن الضوضاء لا تتوقف أبدًا، وهناك «دائمًا شخص ما يتشاجر معك». وتُترَك الأنوار مضاءة عادةً طوال الليل لأسباب أمنية على الأرجح. ويخبرني السجناء بأنهم يواجهون صعوبات في النوم. هذا فضلًا عن أن الطعام يُقدَّم إليهم في مهاجعهم؛ ما أدى إلى ظهور الصراصير والفئران. وتكون النتيجة انفجار الغضب، واندلاع المشاجرات، وتفاقم حالات الاعتداء على الآخرين.

إذا وضِع السجناء في زنزانات، حتى لو كانت مشتركة مع سجناء آخرين، فيمكنهم الهرب إلى الزنزانة وغلق الباب؛ ما يمنحهم راحة مؤقتة من الوحشية التي قد تشهدها ساحات التجمع والأفنية. لكن السجين المُجبَر على العيش في مهجع مزدحم لا ينعم أبدًا بمثل هذه الراحة. ويكون عدد السجناء أكبر بكثير مما يمكن لموظفي الأمن الإشراف عليه على نحو ملائم. عند دخولي إحدى المرات إلى مهجع صغير للغاية ومزدحم يضم اثني عشر رجلًا، ويجب على المرء الاستدارة فيه بالجانب لحشر نفسه بين الأسرَّة، أوضح لي أحد السجناء قائلًا: «كان هذا المكان يحتوي في السابق على أربعة أسرَّة فقط. وكانت هناك مساحة فارغة بالأرضية، وكان بإمكان الحارس الذي يمرُّ بالمكان التحقق من المكان بأكمله. أما الآن، ومع وجود اثني عشر سريرًا بدورين في المكان، لم يعد باستطاعة الحارس رؤية أي شيء من الرواق، ومن الممكن أن يغتصب السجناء أي شخص في أحد الأسرَّة الخلفية دون أن يتمكن أحد من ردعهم.»

يَزيد التوتر من نزعة السجناء الأقوى لإيذاء الآخرين الأضعف. فعندما يكون مهجع مزدحم في صالة ألعاب رياضية هو موقع مركز الاستقبال الذي يبقى فيه المجرمون الجدد إلى أن يجري تصنيفهم وتوزيعهم على مباني الزنزانات، لا يكون هناك مكان للهروب أمام السجين الجديد الخائف. وإذا كان غير قادر على الدفاع عن نفسه أمام السجناء الأقوى، فسيتعرض لخطر الضرب أو الاغتصاب أو ما هو أسوأ من ذلك. وما إن يوصَم السجين بأنه ضعيف حتى يتعرض لاعتداءات متكررة من السجناء الآخرين.

ومع تزايد الازدحام، يزداد معدل نقل السجناء من مؤسسة عقابية إلى أخرى حسب توافر الأسرَّة الفارغة. ويكون لدى السجناء في كل مؤسسة سجلات متابعة أقصر في المعتاد، وبذلك قلما يكون هناك قادة لا يعترض عليهم أحد بين السجناء الأقوياء ومن ثم تزداد المعارك بينهم. وعلى المعتدي الدخول في مشاجرات أكثر، وربما اغتصاب عدد أكبر من السجناء أيضًا، لمجرد أن يتمكن من البقاء على قيد الحياة؛ ويمثل ذلك أحد أسباب ارتفاع مستوى العنف في السجون. والسجناء الذين لديهم تاريخ سابق من المرض العقلي ومَن هم عرضة للانهيار أو محاولة الانتحار في ظل إكراههم بشدة على العنف يعانون من صعوبة شديدة بوجه خاص في التأقلم مع الأجواء المزدحمة. فيتعرض بعضهم للاعتداء من الآخرين، بينما يجد آخرون صعوبة في التحكم في انفعالاتهم العدائية، وينزوي آخرون في زنزاناتهم في محاولة منهم للبقاء بعيدًا عن المتاعب.

لا شك أن ثمة آثارًا مماثلة يتعرض لها موظفو السجن الذين ينبغي عليهم البقاء ورديات كاملة في نفس الأماكن المزدحمة. ومع تزايد الازدحام، يزداد معدل عمل هؤلاء الموظفين في مهام ودوريات مختلفة، ويُنقَل السجناء بمعدلات أكبر إلى وحدات أخرى، وتكون النتيجة أن السجناء والموظفين لا يعرف بعضهم بعضًا بالقدر الكافي ولا تنشأ بينهم ثقة كافية أيضًا. وكلما ازداد عدد السجناء في مكان معين، ازدادت المخاطر على الحراس الذين يجب عليهم التجول بين السجناء من دون سلاح (حتى لا يتمكن السجناء من مهاجمة الحارس والاستيلاء على سلاح خطير منه).

يعترف ضباط السجون صراحةً بأن المؤسسة المزدحمة أخطر وأكثر صعوبة في العمل بها من السجون ذات الأعداد الأقل من السجناء المألوفين على نحو أكبر والأكثر قابلية للتحكم فيهم. وكلما ازداد توتر ضباط السجون بشأن أمنهم، ازداد احتمال أن يكون رد فعلهم دفاعيًّا وعنيفًا عند مواجهتهم مقاومة أو استهزاءً من جانب السجناء. ويشير العديد من موظفي السجون إلى شعورهم بالإنهاك عند العمل في سجون كبيرة مزدحمة للغاية. ويعترف آخرون بأن التوتر يجعلهم يعكسون ما لديهم من إحباط على السجناء. وتقل رغبتهم وقدرتهم على الانتباه لشكاوى السجناء بشأن مشكلاتهم النفسية، ويزيد كذلك احتمال ردهم على أي خرق للقواعد من جانب السجناء المصابين بأمراض عقلية عن طريق إصدار إنذارات تأديبية ضدهم.

يخلق الازدحام، كذلك، العديد من الأسباب الأخرى لتفاقم الأوضاع. على سبيل المثال، تزداد مدة الانتظار لمقابلة الطبيب أو طبيب الأسنان. وتكون الزيارات محدودة أيضًا في السجون المزدحمة، ويرجع ذلك على الأقل إلى نقص عدد الأماكن في مناطق الزيارة وعدم قدرة الموظفين المنهكين على إنجاز مهام الزيارات بالسرعة المطلوبة. ويفتقر إعداد الطعام إلى الاهتمام اللازم؛ نظرًا لزيادة عدد السجناء الذين يجب على طاقم العمل بالمطبخ خدمتهم. هذا علاوةً على أنه نظرًا لأن التوتر يؤدي إلى المزيد من الشجار الذي ينتهي عادةً بنوع من الإجراءات التأديبية، يودع المزيد من السجناء الحبس الانفرادي أو أي نوع آخر من العزل أو الحبس الأمني. ويحفل السجن بأكمله بقدر أكبر من الهياج الانفعالي.

(٢-٢) ظروف قاسية أخرى

مع الازدحام يأتي الافتقار الشديد للخصوصية. وهذا الافتقار متأصل بدرجة معينة في السجون لأسباب أمنية. لكن الاختراقات الدائمة للخصوصية تتجاوز في النهاية الحد الضروري لها، وتتسبب في صدمات حادة للسجناء. ومن الأمثلة على ذلك التفتيش المتكرر والمفاجئ للزنزانات الذي يحدث عادةً عند شعور موظفي السجن بأنهم في خطر؛ لأن عددهم أقل من عدد السجناء في السجون الكبيرة المزدحمة. أيضًا يشمل التفتيش الذاتي عادةً أوامرَ بالتجرد من الملابس وفحصًا للمواضع الحساسة بالجسم. وجميع أنشطة السجناء في المراحيض تكون موضع فحص. والسجناء الذين يعانون من جنون الارتياب ومَن لديهم نزعة للشعور بالخزي يجدون صعوبة في التكيُّف مع هذا الإجراء الروتيني.

يصاحب الازدحام كذلك ارتفاع شديد في مستوى الضوضاء، وتدهور في الظروف الصحية، وخمول. الضوضاء في حد ذاتها يمكن أن تتسبب في صدمات للناس. فقد أظهرت التجارب أن الناس المعرضين لمستويات أعلى من الضوضاء (الصادرة من الطرق السريعة أو مواقع الإنشاءات القريبة منهم أو وحدات السجن) تظهر عليهم حالات أعلى من التوتر والأعراض الانفعالية الأخرى. ونحن نتحكم، بوجه عام، في مستوى الضوضاء الذي نتعرض له. فيمكننا، على سبيل المثال، إغلاق الباب أو الانتقال إلى غرفة أخرى لتجنب صوت الاستِرْيو، أو إلى الجزء الخلفي من المنزل إذا كانت أعمال البناء قائمة في الشارع. لكن في السجن، لا يملك المُدان سوى قدر ضئيل من التحكم في تحركاته، بالإضافة إلى قدر ضئيل أو منعدم من التحكم في مستوى الضوضاء. وعجز السجين عن تعديل مستوى الضوضاء يجعله في مواجهة جديدة مع عجزه وقلة حيلته، ويساعد ذلك في تفسير زيادة حالات الاكتئاب والاضطرابات العقلية الأخرى في المؤسسات المزدحمة.

تتدهور كذلك النظافة الصحية مع الازدحام. وفي معظم السجون التي زرتها، كانت النظافة الصحية دون المستوى إلى حدٍّ بعيد. ففي السجون القديمة، المراحيض مُثبَّتة على نحو يجعل المخلفات التي يتخلص منها أحد السجناء في مرحاضه ينضح بها مرحاض السجين المجاور له أو حوضه. والمياه الساخنة لا تتوافر غالبًا للاستحمام. وفي أحد مباني الزنزانات، لاحظت استخدام خرطوم حدائق بدلًا من الدُّش المعطل، في منتصف فصل الشتاء. وفي أحد السجون، الذي احترقت فيه الكافيتريا وسوِّيت بالأرض في أثناء أحد أحداث الشغب قبل عامين، كان الهيكل المحترق لا يزال موجودًا ومتصلًا بالكافيتريا الجديدة. والهيكل المحترق والمتعفن، وكذلك الحوائط المتعفنة للكافتيريا الحالية، كانت مكانًا ملائمًا لعيش الصراصير وغيرها من الهوام. بعض مطابخ السجون صحية نسبيًّا، والبعض الآخر قذر ومثير للاشمئزاز. وعندما سألت أحد السجناء العاملين في مطبخ سجن يفتقر إلى النظافة الصحية عن الصواني المعدنية المُحمَّلة بالشحوم والفضلات التي لاحظت وجودها في المطبخ، أخبرني بأن العمل في الكافيتريا دخله منخفض للغاية ويؤثر سلبًا على علاقة المرء بالآخرين، والسجناء الذين يتولون هذا العمل لا يهتمون بالنظافة والجوانب الصحية.

لاحظت أيضًا وجود الصراصير في أغلب السجون التي زرتها، ولا سيما وحدات العزل التي يُقدَّم فيها الطعام للسجناء في الزنزانات والمهاجع المؤقتة. وفي إحدى وحدات الإجراءات الأمنية المشددة لاحظت استلقاء الرجال على أسرَّتهم في الزنزانات المظلمة والصراصير تزحف فوقهم، وسمعتهم يقولون إن هذا الأمر شائع للغاية على نحو يجعلهم لا يهتمون بإبعادها عن أجسامهم. ولاحظت أيضًا إقامة العديد من السجناء للأشراك وإمساكهم بالعشرات من الصراصير في زنزاناتهم في خلال يوم أو اثنين. علاوةً على ذلك، لاحظت وجود فضلات الحمَام داخل مباني الزنزانات بالسجن حيث تدخل الطيور إلى الزنزانات عن طريق النوافذ المكسورة التي لم يتم إصلاحها.

ومشكلات النظافة الصحية، إلى جانب سوء التهوية والتدفئة غير الملائمة (على سبيل المثال، في مباني الزنزانات المكونة من خمسة طوابق، تكون الطوابق العلوية حارة على نحو لا يُطاق، بينما تكون الطوابق السفلية باردة للغاية في فصل الشتاء)، تعني تأذي السجناء من الرائحة الكريهة الدائمة للمخلفات البشرية والحيوانية، وتعرضهم للخطر المتزايد للعدوى وتفشي الأمراض. ويزيد كل ذلك من الأثر الصادم للحبس. ويصعب على السجين المضطرب انفعاليًّا تحمله.

وفي السجون التي يكون فيها التعداد أعلى بكثير من القدرة الاستيعابية المُقدَّرة للسجن، ينتشر الخمول. ومما يزيد من تفاقم تأثير الازدحام وقف البرامج التعليمية والتأهيلية أو تقليصها، وهو ما حدث أثناء السنوات ذاتها التي حدثت فيها زيادة هائلة في أعداد السجناء. فانخفض عدد الوظائف ذات القيمة في السجون، وتحولت صالات الألعاب الرياضية إلى مهاجع، وقَلَّت مِن ثَم المرافق الترفيهية. وأدى تزايد العنف إلى المزيد من حالات الحبس المشدد وإطالة مدته، مع خرق عدد كبير من السجناء للقواعد وإرسالهم إلى الحبس الانفرادي؛ ما يعني فقدانهم لوظائفهم وإمكانية الوصول إلى الفصول الدراسية والمكتبة والساحة الرئيسية للسجن. تزيل بعض الولايات أيضًا ألعاب الأثقال من ساحات السجون. وبالطبع مع انخفاض أعداد الوظائف ذات القيمة في السجون وبرامج إعادة التأهيل، يقل النشاط التدريبي والإنتاجي للسجناء، ويزداد الخمول، بالإضافة إلى تراجع الأمل في تمكنهم من النجاح في حياتهم بعد الخروج من السجن.

المنطق يخبرنا بأن جميع السجناء يتحملون مدة عقوبتهم في السجن على نحو جيد وتزيد احتمالية نجاحهم في العيش باستقامة بعد إطلاق سراحهم، إذا كان السجن في أثناء فترة بقائهم فيه ذا مساحة ملائمة، وكانوا ينعمون فيه ببعض الخصوصية والتحكم في مستوى الضوضاء الذي يتعرضون له، وكان مستوى النظافة الصحية مناسبًا، وكان هناك عدد معين من البرامج والأنشطة الهادفة. لكن مع الازدحام الشديد، واشتراك السجناء في الزنزانات، والافتقار إلى التحكم في الظروف المادية، وحالة الخمول المفروضة على السجناء، يتعرض عدد أكبر منهم للصدمات، ويعانون من الانهيارات النفسية، وينتحرون. والصدمات، التي يعاني منها السجناء خلف القضبان، تُذكِّرهم أو تحيي فيهم الصدمات العديدة التي تعرضوا لها في مراحل مبكرة من حياتهم. ويجد العديد من السجناء المضطربين عقليًّا صعوبة في الابتعاد عن المتاعب، وينتهي الحال بعدد كبير منهم في إحدى وحدات الحبس المشدد.

(٣) الانهيار في الحبس الانفرادي

بحلول منتصف ثمانينيات القرن العشرين، أسفر الازدحام الشديد بالسجون وتوقف البرامج التعليمية والتأهيلية أو تحجيمها عن ارتفاع مستوى الاضطرابات العنيفة والانهيارات النفسية في السجون الأمريكية. وبدلًا من محاولة علاج مشكلتي الازدحام والخمول، اختارت السلطات العقابية بناء وحدات الحراسة المشددة الحديثة أو ما يُعرَف بوحدات الحبس الانفرادي حيث يبقى السجناء، الذين لا يمتثلون للأوامر أو يعبرون عن آرائهم بعنف، ثلاثًا وعشرين ساعة أو أكثر يوميًّا بداخلها، ويستمر ذلك عادةً لسنوات. ويضم حاليًّا واحد وأربعون سجنًا فيدراليًّا وسجنًا بالولايات وحدات حراسة مشددة. ويسفر العزل والخمول الجبريَّان في هذه الوحدات عن ظهور أعراض المرض العقلي الخطير على العديد من النساء والرجال الذين اتسمت حالتهم بالاستقرار في السابق. أما الأفراد الذين يعانون بالفعل من الاضطرابات العقلية، فتكون بيئة العزل أمرًا لا يُطاق بالنسبة إليهم على الإطلاق.

في الوقت نفسه، تودَع نسبة كبيرة من السجناء الذين يعانون من مشكلات نفسية وحدات العزل. بعبارة أخرى، يسيء هؤلاء السجناء التصرف بسبب مرضهم العقلي، لكن نظرًا لعدم خضوعهم للتشخيص والعلاج الملائمَيْن، يُعاقَبون بقضاء مدة في الحبس الانفرادي. وإذا حاولوا الانتحار أو تشويه أنفسهم، يُعاقَبون بقضاء مزيد من الوقت في العزل العقابي، والسبب هو محاولتهم إيذاء أنفسهم على نحو منافٍ للقانون.

(٣-١) الاحتفاظ بعقلك في بيئة جنونية

يقع سجن بيليكان باي وسط غابة من أشجار السيكويا عند الحد الساحلي بين كاليفورنيا وأوريجون. وعند قيادة السيارة في هذه الغابة الغنَّاء، يصل المرء فجأة إلى بقعة أرض خالية من الأشجار يقع في منتصفها بناء خرساني ضخم يشبه المستودعات ويحيط به بضع مئات الياردات من الحصى. أخبرني الحراس في هذا السجن أن الهدف من هذا الحصى هو إصدار قدر كبير من الضوضاء عند محاولة أي سجين الهرب أثناء ركضه عليه. ومباني السجن مصنوعة من الخرسانة وقوالب البناء الإسمنتية، بما في ذلك الجدران والأسقف. والنوافذ القليلة صغيرة الحجم لا يمكن فتحها. هذا فضلًا عن حظر تعليق أي شيء على الجدران. شُيِّد هذا السجن في ثمانينيات القرن العشرين ليحل محل وحدات الحبس المشدد، مثل مركز التأديب المشدد في سان كوينتن ووحدات الحبس المشدد بسجني فولسوم وسوليداد.

أحد الهياكل الخرسانية بهذا السجن مُخصَّص للفئة العامة من السجناء. وثمة هيكل آخر يمثل وحدة الحبس الانفرادي؛ وهي وحدة متطورة تتألف من أقسام، كل منها مكوَّن من صفوف تمتد من كبائن التحكم، مثل البرامق الممتدة من قلب العجلة. ويجلس ضباط الأمن في كبائن المراقبة المزودة بنوافذ كبيرة وشاشات فيديو تسمح لهم بمراقبة صفوف الزنزانات والسجناء الذين يشغلونها، مع فتح وغلق الأبواب بالتحكم عن بُعد. هذا فضلًا عن عدم دخول إضاءة طبيعية إلى السجن، وعدم إطفاء الأنوار الصناعية على مدار اليوم. يبدو المكان نظيفًا للغاية وعلى درجة عالية من الفاعلية.

يُسمَح للسجناء — الذين يشغل أغلبهم الزنزانات أزواجًا — بالخروج فُرادى أو أزواجًا في المرة للذهاب إلى أماكن الاستحمام أو إلى المنطقة الصغيرة المغلقة المسماة «الساحة». تخلو هذه الساحة من التراب، ومن أي شيء آخر سوى الأرضيات والجدران الخرسانية؛ فلا تعلوها السماء، وإنما يعلوها سقف بلاستيكي معتم. هذا فضلًا عن احتوائها على عدد قليل من المعدَّات الترفيهية، أو خلوها تمامًا منها. ويفسر ضباط السجون ذلك بأن هذه المعدَّات تزيد من المخاطر الأمنية. ويتناول السجناء وجباتهم في الزنزانات التي يلزم عليهم البقاء فيها ما يقرب من أربع وعشرين ساعة يوميًّا. ويرفض الكثيرون منهم الخروج إلى الساحة في الساعات القليلة التي يُتاح لهم فيها ذلك أسبوعيًّا، ويقضون من ثم مدة أطول في الزنزانات. والتصميم الهندسي للمباني يحد من التواصل البشري. فلا يمكن للسجناء رؤية زملائهم في الزنزانات المجاورة، ولا يمكنهم التحدث مع أي شخص سوى رفاقهم في الزنزانة، على أن يكون ذلك دون صياح. والأسباب التي تدفع الضباط لزيارة الزنزانات قليلة، فيما عدا توصيل الطعام؛ ومن ثم يكون الرواق المواجه لأبواب الزنزانات خاليًا في أغلب الأوقات. ويخلو المكان من الألوان على نحو مخيف في الأنحاء كافة، ليلًا ونهارًا.

يصف لي سجين أمريكي من أصول أفريقية، قضى عامين في وحدة الحبس الانفرادي بهذا السجن، تجربته في المكان قائلًا:

أشعر أحيانًا بالقهر، وأُصاب بالارتعاد والعصبية والانفعال إلى أقصى حدٍّ ممكن. في الواقع، أنا لا أسمع أصواتًا، لكنِّي أشعر فقط بأنني عاجز عن التنفس، وبأن الزنزانة تزداد ضيقًا. أفزع، وأشعر بالحصار، ويدق قلبي بقوة، وتتزايد هذه الأعراض بمرور الأيام. أشعر أنني أختنق. وفي اليوم التالي، وقبل أن أدرك ما يحدث، أجد نفسي ألكم زميلي في الزنزانة. إن وحدة الحبس الانفرادي هي التي تتسبب في تعصبي على هذا النحو. لا يوجد شيء مثل هذا في السجون الأخرى. فأنا هنا أشعر أنني في مربًّى للكلاب، في عزلة عن الحياة نفسها. أشعر أنني في تابوت أو قبر [يضع يده على قلبه]، لا توجد أية علامات تدل على الحياة في هذا المكان. في السجون الأخرى، يمكنني أن أرى بعض صور الحياة من النافذة، لكن هنا لا توجد أية نوافذ. وأثَّر ذلك فيَّ على مدار السنوات التي قضيتها هنا؛ وهذا ما يتسبب في حدوث المشكلات بيني وبين زميلي في الزنزانة، فلم أتعرض لمثل هذه المشكلات من قبل في حياتي. هذه البيئة تجعلني عدائيًّا؛ والسبب شعوري بالدونية كإنسان — أسلوب بناء المكان غريب — لم أذهب إلى أي سجن يشبهه من قبل.

في إحدى المرات التي ذهبت فيها لزيارة طبيب العيون، خرجت من المكان. وشعرت بأنني ولِدت من جديد، انظر، أنا حي! لكنني عندما عدت، شعرت بالاكتئاب والحزن. في السجن الآخر، كنت أشعر بالسعادة لكوني حيًّا بالرغم من الحبس. أما هنا، فأنت لا ترى أي شيء على الإطلاق سوى القوالب الخرسانية فحسب. ولا ترى الشمس، حتى في الزنزانة لا يمكنك رؤية ضوء الشمس. في حقيقة الأمر، لا يوجد أي مظهر من مظاهر الحياة. وأعتقد أن للأسلوب الذي بُني به المكان أثرًا نفسيًّا على السجناء؛ إذ يصاب الكثيرون منهم بالجنون. ووحدة التحكم في العنف ممتلئة بهؤلاء المجانين [وحدة التحكم في العنف هي قسم بوحدة الحبس الانفرادي يُضاف إليها باب بلاستيكي بالجانب الخارجي من باب الزنزانة لمنع البصق وإلقاء الأشياء، وربما أيضًا لكتم صوت السجين داخلها]. ويؤثر هذا الأمر في أنفسهم تأثيرًا حادًّا، فتثور ثائرتهم. ومن بين الأمور العديدة التي لم أرها في السجون الأخرى شجارات الزنزانات. فلم أرَ من قبل هذا الكم الكبير منها؛ وذلك بسبب زيادة عدد السجناء الغاضبين هنا. إن تصميم المكان هنا يجعل كل تركيز السجين منصبًّا على زميله بالزنزانة؛ ومن ثم تحدث الشجارات. فأنت لا ترى الشمس … لم أرَ شجارات زنزانات مثل الشجارات التي تحدث هنا؛ إن السجناء يتعرضون هنا لإصابات خطيرة نتيجة لذلك.

هذا الرجل ثاقب الفكر إلى حدٍّ بعيد ويتمتع بقدر كبير مما يسميه الأطباء السريريون «قوة الأنا»، وهي المتطلب الضروري للنجاة في بيئة قاسية بقدر قسوة وحدة الحبس الانفرادي في سجن بيليكان باي. ولا أعتقد أنه مصاب بالذهان، بالرغم من معاناته من اضطراب هلع حاد للغاية. تخيل ما يمكن أن يحدث لسجين آخر لا يملك قوة الأنا التي يتمتع بها هذا الرجل، وغير قادر على الحفاظ على تواصله مع الواقع في ظل هذه الدرجة من التوتر.

(٣-٢) متلازمة وحدة الحبس الانفرادي

إن أي سجين يوضَع في بيئة ضاغطة مثل وحدة الحراسة المشددة — سواء أكان لديه استعداد خاص للانهيار العقلي أم يبدو عليه أنه عاقل تمامًا — يبدأ في النهاية في فقدان تواصله مع الواقع وتظهر عليه علامات التدهور النفسي وأعراضه، حتى إن لم تؤهله هذه الأعراض لتشخيص الإصابة بالذهان. كتب لي سجين انتقل مؤخرًا إلى وحدة الحبس الانفرادي في سجن بيليكان باي ما يلي: «لقد بدأت يا عزيزي في التحدث مع نفسي، وشعرت بالخوف وضحكت بصوت عالٍ، وبدأت أفكر في أنه لا بأس من أن أردَّ على نفسي، أم هل ينبغي عليَّ أن أتحدث فقط؟» يتحدث أغلب السجناء الذين التقيت بهم في وحدات الحبس الانفرادي عن عجزهم عن التركيز، وزيادة توترهم، وإصابتهم بالتوهان المتقطع والارتباك، ومعاناتهم الأوهام، ونزعتهم للانفجار في وجه أقرب شخص منهم عند وصولهم إلى «نقطة الانهيار».

فحص الطبيب النفسي ستيوارت جراسيان عددًا كبيرًا من السجناء في أثناء إقامتهم في وحدات الحبس الانفرادي المنعزل، واستنتج أن هذه الوحدات — شأنها شأن بيئات الحرمان الحسي التي تمت دراستها في ستينيات القرن العشرين — تؤدي عادةً إلى الذهان. حتى السجناء الذين لا يصابون صراحةً بالذهان يبلغون عن إصابتهم بعدد من الأعراض المشابهة للذهان، بما في ذلك التوتر مجهول السبب، وفرط الاستجابة للمثيرات الخارجية، والتشتت الإدراكي والهلاوس، والشعور بالأوهام، والصعوبة في التركيز والتذكر، وحالات الارتباك الحادة، وظهور التخيلات العدائية الأولية، وأوهام الاضطهاد، والإثارة الحركية، والانفعالات الهدَّامة العنيفة والمشوهة للذات، والتراجع السريع في الأعراض عند انتهاء العزل. وأطلق جراسيان على هذه المجموعة من الأعراض «متلازمة وحدة الحبس الانفرادي».5
لا يُستثنَى من هذه المعاملة القاسية السجينات. فوحدة الحبس الانفرادي الخاصة بالسيدات في لكسينجتون بولاية كنتاكي كانت وحدة عزل صغيرة تحت الأرض أدارها مكتب السجون الأمريكي مدة عامين. وأُغلِقت في أغسطس عام ١٩٨٨ استجابةً للاحتجاجات الدولية ضد انتهاكات حقوق الإنسان التي كانت تُمارَس في هذه المنشأة. لكن الحكومة الفيدرالية فتحت وحدة مماثلة في فلوريدا، بالإضافة إلى فتح العديد من الولايات الأخرى مثل كاليفورنيا لوحدات حراسة مشددة للسجينات أيضًا. وعلاوةً على كل صور التوتر التي يتعرض لها السجناء الذكور في ظل ظروف مشابهة، تواجه السجينات الإناث في وحدات الحراسة المشددة6 استراق النظر الدائم إليهن والتحرش الجنسي بهن على يد موظفي السجن الذين يكون أغلبهم من الذكور. وقد لاحظ الطبيب النفسي ريتشارد كورن أعراضًا مشابهة تمامًا للأعراض التي ذكرها جراسيان عند السيدات غير المصابات بالذهان والمجبرات على الخضوع لحبس انفرادي طويل المدى في وحدة الحبس الانفرادي في لكسينجتون. وتضمنت قائمة الأعراض التي ذكرها ريتشارد كورن رُهاب الأماكن المغلقة، والتفاعل الغاضب المزمن، والاكتئاب المكبوت البسيط إلى الحاد، وظهور أعراض الهلوسة، والانسحاب النفسي الدفاعي، وبرود المشاعر، وفقدان الشهية، والتوعك العام، وتفاقم المشكلات الصحية الموجودة سلفًا، والاضطرابات البصرية، وخفقان القلب.
ثمة أهمية لما إن كان سجين الحبس الانفرادي متعلمًا أو لا. فعدد كبير من السجناء لم يكملوا دراستهم الثانوية، و٤٠ بالمائة منهم يعانون من الأمية الوظيفية7 (بمعنى أنهم — على سبيل المثال — لا يستطيعون كتابة خطاب يوضحون فيه خطأً ما في إعداد الفواتير). وتبلغ هذه النسبة ضعف نسبة الأمية الوظيفية على المستوى القومي. وتسمح بعض وحدات الحبس ذات الحراسة المشددة بالمذياع والتلفاز، لكن السجين يجب أن يكون قادرًا على شراء أحد هذه الأجهزة أو تأجيرها. وحتى إن فعل ذلك، فقد يُسحَب منه الجهاز لانتهاكه قواعد الانضباط. ولك أن تتخيل قضاء نحو أربع وعشرين ساعة يوميًّا في زنزانة دون أي تفاعلات اجتماعية، ودون مذياع أو تلفاز. ويخبرني الكثير من السجناء أن القراءة والكتابة هما النشاطان الوحيدان المتاحان لهم بجانب التمرينات الرياضية. فإذا كان السجين غير قادر على القراءة أو الكتابة، فما الذي يمكنه فعله؟ يدفع الملل الكثير من السجناء إلى الخبل، إن لم يكن إلى ذهان واضح.

(٣-٣) العقوبة غير العادية

ما إن يُصنَّف السجين المريض عقليًّا على أنه مثير للمشكلات ويُصدِّق موظفو الصحة العقلية على الحالة حتى يتلو ذلك انتهاكات رهيبة. فيودع هؤلاء السجناء أقسام العزل والحبس الانفرادي في السجون حيث يُحرَمون من معظم صور التعبير عن النفس. ويبدأ بعضهم في الصياح، أو الدخول في شجارات، أو إلقاء الفضلات البشرية على بعضهم البعض أو على الحراس. وعند تطرف تصرفات أحد الطرفين، يُظهِر الطرف الآخر على الأرجح تطرفًا أيضًا. فيطبق الضباط عمليات إخراج السجناء بالقوة من زنزاناتهم، وهو إجراء وحشي يُخرَج فيه السجناء المتمردون من زنزاناتهم بالقوة.

وتحدث عمليات إخراج السجناء بالقوة في الحبس المشدد ووحدات الحراسة المشددة أو في مباني الزنزانات التي يخضع فيها السجناء المصابون بأمراض عقلية للحبس الانفرادي المشدد. وعندما يرفض أي سجين في هذه الأماكن اتباع أي أمر أو يصبح شرسًا، يقتحم خمسة ضباط أو ستة يرتدون الخوذات وملابس مبطنة عند الأطراف وسُترات مضادة للرصاص الزنزانة وراء دروع من البلاستيك المقوى، ويُثبِّتون السجين المتمرد قبالة الحائط، ثم يكبلونه بالأصفاد ويخرجونه من زنزانته. ومن واقع مراجعتي للعديد من التقارير عن هذه الأحداث، تُساء معاملة السجين عادةً، وعلى نحو شديد في بعض الأحيان؛ الأمر الذي يؤدي في النهاية بكثير من الحالات إلى دخول السجين المستشفى مصابًا بعدة إصابات.

لقد راجعت المئات من تقارير أحداث إخراج السجناء من الزنزانات بالقوة في السجون بالعديد من الولايات الأمريكية. وفي تقارير الأحداث، توجد مساحة مخصصة للضابط كي يكتب فيها السبب الذي أدى إلى استدعاء فريق إخراج السجين بالقوة. وفي التقارير التي راجعتها، كان السبب الأكثر شيوعًا هو رفض السجين الامتثال لأوامر الخروج من زنزانته. ومن الأسباب المتكررة أيضًا رفض السجين إعادة صينية الطعام الخاصة به. ولك أن تتخيل الموقف: الضابط يقول للسجين عبر قضبان الزنزانة: «تعالَ إلى هنا وضع يدك في الأصفاد!» فيجيب السجين المضطرب عقليًّا: «لن آتي إليك بأي حال من الأحوال ولن أعطيك فرصة الانقضاض علي!» فيحذر الضابط السجين ويستدعي فريق إخراج السجناء بالقوة من الزنزانات.

يكون السجين محبوسًا بالفعل في الزنزانة؛ ما يدفع للتساؤل عن ضرر الانتظار حتى يصير السجين أقل مقاومة أو استدعاء طبيب نفسي ليرى هل كان بإمكانه إعادة المريض العقلي المتمرد إلى رشده؟ يمكن أيضًا للضباط التفكير في طلب إعادة السجين للصينية كي يتمكن من الحصول على الطعام مرة أخرى. لكن يبدو الأمر وكأن الضباط يتعجلون في تنفيذ عمليات إخراج السجناء بالقوة من زنزاناتهم. ففي ليلة واحدة في شهر يونيو عام ١٩٩٢، شهد سجن بيليكان باي بكاليفورنيا أكثر من خمسين عملية إخراج للسجناء بالقوة من الزنزانات!

في أحيان كثيرة قبل أن يدفع فريق إخراج السجناء بالقوة السجين، يطلقون عليه سهم صدمات كهربائية من بندقية يظل السهم متصلًا بها عن طريق سلك رفيع. وعند اتصال السهم بجسم السجين، يُرسل شحنة كهربائية تفقد السجين وعيه. والسجناء المصابون بأمراض عقلية في هذه الظروف يكونون أول مَن يبدءون في الصياح وتراشق الغائط، وتزيد نسبتهم بين السجناء الذين يُطلَق عليهم سهام الصدمة الكهربائية ويُخرَجون من الزنزانات بالقوة.

وقد وقعت حالات وفاة نتيجة للصدمات الكهربائية بين السجناء الذين يحصلون على أدوية ذات تأثير نفسي. فمن الآثار الجانبية لعقاقير الأمراض النفسية تَغيُّر التوصيل الكهربائي في القلب وخفض عتبة النوبات لدى المرء. فكل فرد لديه عتبة للنوبات، وهي مقدار النشاط الكهربائي في المخ الذي يؤدي إلى نوبات الصرع الكبيرة. والأدوية، مثل ثورازين وهالدول ومضادات الاكتئاب، معروفة بأنها تخفض هذه العتبة، ويمكن أن تتسبب أيضًا في اضطراب نبض القلب؛ ومن ثم، فإن السجين الذي يحصل على أدوية للعلاج النفسي تزيد احتمالية إصابته بالنوبات أو معاناته من عدم انتظام ضربات القلب مقارنةً بالسجناء الآخرين عند تعرضه للصدمات الكهربائية. وهذه التطورات قد تؤدي إلى الوفاة، ولا سيما إذا لم تكن الاستجابة للعقَّار مثالية.

تعددت حالات الوفاة نتيجة للصدمات الكهربائية بين السجناء الذين يحصلون على أدوية لعلاج الأمراض النفسية قبيل قضية جيتس ضد دوكماجين عام ١٩٨٩، وهي دعوى جماعية تتعلق بجودة الرعاية الطبية والنفسية وعلاج السجناء المصابين بمرض الإيدز في مرفق الرعاية الطبية في كاليفورنيا بمدينة فاكافيل. وفي أثناء شهادتي كخبير في هذه القضية، أوضحتُ آليةَ الوفاة نتيجة للصدمات الكهربائية، وسبب زيادة خطر حدوث ذلك لدى المرضى المصابين بأمراض نفسية. فأصدر القاضي حكمًا بعدم استخدام الصدمات الكهربائية مع أي سجين يحصل على أدوية لعلاج الأمراض النفسية. واعتقدتُ أن هذه نهاية المشكلة.

لكن بعد بضعة أعوام من حكم القاضي، عرفت من محامي بعض السجناء أن موظفي السجون لم يعودوا يستخدمون الصدمات الكهربائية في أثناء عمليات إخراج السجناء المصابين بأمراض نفسية من الزنزانات بالقوة. لكنهم صاروا يستخدمون بدلًا منها أسلحة مكافحة الشغب، وهي أسلحة قذائف تشبه البنادق وتطلق أسطوانات مطاطية فئة ٣٧ملم. وعند استخدام قوات الشرطة لهذه الأسلحة في المظاهرات، يطلقون القذائف منها على حشد من الناس من على مسافة خمسين أو مائة قدم. أما في السجن، فيطلقون القذائف منها على السجين أو يوجهونها بحيث تصيبه بعد ارتدادها من أحد الجدران في حدود زنزانة تبلغ مساحتها ستة أقدام في ثمانية. ولقد طُلِب مني حضور جلسة استماع رسمية لتقديم رأيي في هذا الإجراء.

أوضحت في هذه الجلسة أن استهداف أي سجين من هذه المسافة القريبة باستخدام سلاح لمكافحة الشغب يؤدي إلى خطر الوفاة نتيجة لصدمة بدنية. على سبيل المثال، يؤدي ضرب شخص ما على الرأس أو في العين أو حتى في البطن إلى زيادة خطر التعرض لإصابة بالرأس أو للعمى أو تمزق الطحال على الترتيب. وهذا النوع من إطلاق القذائف يؤدي بلا شك إلى ضرر انفعالي ويزيد من سوء حالة السجين الذي يعاني من اضطرابات نفسية. على سبيل المثال، السجين الذي يعاني من الأوهام سيُدمج هذا الإطلاق للنيران عليه في نظام الأوهام لديه، ويشعر بمزيد من الارتياب والغضب، ويكون من ثم أكثر عرضة لمزيد من التدهور الانفعالي. وحتى إذا هدأ مباشرةً بعد إفقاده وعيه باستخدام القذيفة المطاطية، فسيسفر الغضب الشديد وجنون الارتياب المتزايد عن سوء اضطرابه النفسي وتوقعات سير المرض لديه. حتى السجناء غير المصابين بجنون الارتياب يعانون أيضًا من الصدمة. ولقد أشرت في الجلسة إلى تحدثي إلى العديد من السجناء الذين تمَّ إخراجهم من زنزاناتهم على هذا النحو، وكانوا يعانون من توارد التجارب السابقة القاسية على الذهن والكوابيس والأرق ونوبات الهلع. وشبَّهت عمليات إطلاق القذائف وإخراج السجناء بالقوة من الزنزانات بالعلاج القاسي الذي كان يخضع له السجناء في مستشفيات الأمراض العقلية التي اتسمت بالرعب والتعذيب في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات من القرن العشرين.

(٣-٤) انهيار السجناء المصابين بأمراض عقلية إثر الإجهاد

في حالة عدم وجود أمر محكمة يحظر على وجه التحديد إيداع السجناء المصابين بأمراض عقلية في وحدات الحبس الانفرادي، يتم إيداع عدد كبير منهم في هذه الوحدات بالفعل. ولقد أخبرني الطبيب النفسي الذي يعمل في وحدة الحبس الانفرادي بمؤسسة واباش فالي العقابية في إنديانا بأن نحو ٥٠ بالمائة من السجناء الذين يبلغ عددهم نحو ٣٠٠ سجين في هذه الوحدة يعانون من اضطرابات عقلية خطيرة. وهذه النسبة الكبيرة ليست مصادفة. فكما أوضحت في الفصل الأول، ثمة حلقة مُفرَغة تؤدي إلى وصول عدد كبير من السجناء المضطربين إلى الحبس المشدد العقابي ومن ثم إلى وحدة الحبس الانفرادي.

علاوةً على ذلك، فإن الظروف التي تؤدي إلى إصابة السجناء الأصحاء نسبيًّا بمتلازمة وحدة الحبس الانفرادي تسفر عن انهيارات ذهانية لدى السجناء الذين لديهم تاريخ من الاضطرابات العقلية الخطيرة، أو لدى السجناء الذين لم يعانوا من قبل من أي انهيار لكنهم عرضة له عند زيادة التوتر والصدمات بدرجة بالغة. وبالتدقيق في قائمة الأعراض التي وضعها جراسيان، أذهلني التشابه بينها وبين أعراض الفصام وغيره من الحالات الذهانية الأخرى. وحتى السجين الذي لديه أنا قوية بما فيه الكفاية للنجاة في الحبس الانفرادي من دون انهيار، يُبلِغ عادةً عن عرض أو أكثر من أعراض متلازمة وحدة الحراسة المشددة. لكن العديد من السجناء يعجزون عن الحفاظ على سلامتهم العقلية في ظل هذه البيئة القاسية.

في جولة قمت بها عام ١٩٨٢ في مركز ميشيجان للبرامج المركزة في مقاطعة ماركيت، سرت في طابق يحتوي على ستة عشرة زنزانة تضم بعضًا من أكثر السجناء صعوبة في التحكم بهم. وفي هذه الوحدة، كانت الأبواب تُفتَح وتُغلَق بالتحكم عن بُعد من محطة الحراس، لكن بدلًا من استخدام شاشات الفيديو لمراقبة أنشطة السجناء، كان الحراس يسيرون في ممشًى فوق الزنزانات وينظرون إلى السجناء من فوق. وكان الهدف من هذا التصميم الهندسي للمكان هو الحد من التواصل بين الحراس والسجناء. وغرابة هذه الوحدة تحديدًا اتضحت بمجرد دخولنا «الطريق الحر» بين الزنزانات. فقد أقام جميع السجناء حواجز خلف القضبان أمام الزنزانات. وعند سيري في الطابق وتحدثي مع العديد من السجناء المقيمين فيه، بدأت أظن أن الكثير من السجناء في هذا الطابق يعانون من حالات ذهان حادة.

كان هناك سجين في ذلك المركز منفعلًا للغاية ويصيح بكل قوته متحدثًا عن مكيدة يدبرها الحراس والمخبرون والعملاء الفيدراليون لحرمانه من رجولته. فتحدثت مع السجين الموجود في الزنزانة المقابلة مباشرةً لزنزانة هذا الرجل الغاضب، وسألته عن سبب إقامته حاجزًا من الورق المقوى والشراشف لتغطية واجهة زنزانته. فأوضح لي أن السجين الذي كان يصرخ غالبًا ما كان يلجأ إلى قذف «المادة البرتقالية» (كوب أو زجاجة مليئة بمزيج من البول والبراز) على أية زنزانة غير مغطاة بالحواجز. ونظرًا لوجود العديد من السجناء المصابين بالذهان في هذا الطابق، ولأن العرف السائد يفرض الانتقام في حالة الهجوم، صار قذف «المادة البرتقالية» عملًا روتينيًّا يوميًّا، حتى للسجناء العاقلين. وبالمثل، في جميع وحدات الحراسة المشددة التي تجولت بها، يُعَد التراشق بالغائط أمرًا شائعًا، ومن الصعب على الطبيب النفسي نفسه تحديد السجناء المصابين حقًّا بالذهان بين أولئك الذين يتراشقون بالغائط.

من الخصائص الأخرى لمتلازمة وحدة الحراسة المشددة اختفاء الأعراض بمجرد خروج السجين من البيئة القاسية التي يوجد فيها. ولقد لاحظت هذه الظاهرة عند التقائي بسجين واحد مرتين، مرة في وحدة الحراسة المشددة بسجن بيليكان باي في يناير عام ١٩٩٢، ومرة أخرى في بيئة أقل قسوة بكثير، وهي مرفق الرعاية الطبية بكاليفورنيا في مدينة فاكافيل. في سجن بيليكان باي، كان السجين يعاني من ذهان حاد ويحصل على جرعة زائدة من الأدوية المضادة للذهان. كان واضحًا أن هذا الرجل الأبيض الأشعث النحيل ذا الشعر الطويل يهلوس في أثناء لقائي الأول معه في وحدة الحراسة المشددة، ولم يستطع التركيز أو التفكير بوضوح. لكنه أظهر نوعًا من الحديث المتداخل غير الواضح، ونوعًا من الإرهاق البدني، وهما أمران يصاحبان الجرعة الزائدة من الأدوية المهدئة أو مضادات النوبات المنظمة للحالة المزاجية (وقد كان يأخذ هذين النوعين من الأدوية). أخبرني ذلك السجين بأنه لا يأكل كثيرًا خشية أن يكون هناك من يحاول تسميمه — بعبارة أخرى، ظل يعاني من الأوهام بالرغم مما يحصل عليه من أدوية — لكنه كان ينام معظم اليوم بسبب الآثار الجانبية للأدوية. ومع ذلك، بدا في نظري منفعلًا للغاية، مع نظرة محدقة لم أرها إلا في الحالات الحادة للغاية من الذهان. وفي تلك المرة بدا عليه نوع من التشتت في التفكير، وهو أحد أعراض الفصام الرئيسية. وعندما رأيته في المرة الأولى في شهر يناير عام ١٩٩٢، كان قد مر على وجوده في وحدة الحراسة المشددة نحو ستة أشهر، وكان من المفترض أن يظل فيها بضعة أشهر أخرى.

أما في لقائنا الثاني في مرفق الرعاية الطبية في أكتوبر عام ١٩٩٢، بدا هذا الرجل أقل اضطرابًا، وقال لي إنه استمتع بوجوده في مكان مخصص للمرضى الخارجيين المصابين بأمراض نفسية. ولم يبدُ عليه أي انفعال، كما لم تكن نظرته غريبة، ولم يبد عليه أيضًا أنه يحصل على كمية كبيرة من الأدوية. راجعت ملفه الطبي واكتشفت أنه كان يحصل على جرعات أقل بكثير من الأدوية المضادة للذهان مقارنة بما كان يُوصف له عندما كان في وحدة الحراسة المشددة. ومن خلال مقابلتي مع هذا الرجل مرة أخرى في بيئة أقل قسوة، اتضح لي أن بيئة وحدة الحراسة المشددة أدت إلى تفاقم حالته الذهانية، وأنه في أثناء وجوده في هذه الوحدة ظلت جرعات الأدوية التي يحصل عليها تزداد باستمرار في محاولة للتكيف مع الأعراض الناتجة عن التوتر الذي كان يتعرض له. وأسفرت الجرعات العالية من الأدوية في وحدة الحراسة المشددة عن آثار جانبية لديه، من بينها النعاس والكلام المتداخل. بعد بضعة أشهر من زيارتي له في شهر يناير، نُقل هذا السجين إلى مرفق الرعاية الطبية (بعد قضائه عامًا في الحبس الانفرادي) وسُمِح له بالخروج من زنزانته للاندماج الاجتماعي مع الآخرين تحت المراقبة. وفي هذه البيئة الأكثر ألفة، تراجعت الأعراض التي كان يعاني منها بوضوح، واستطاع الاعتماد على كمية أقل من الأدوية، وكان ذلك السبب وراء تحسن حالته العقلية تحسنًا كبيرًا عند التقائي به للمرة الثانية.

•••

ذكرتُ ثلاثة أسباب مهمة وراء معاناة العديد من السجناء من اضطرابات نفسية خطيرة؛ وهي: الصدمات السابقة في حياتهم، والازدحام وغيره من ظروف السجن القاسية، والحبس في وحدات الحراسة المشددة التي تؤدي إلى الإصابة بالذهان. وفي العديد من أسوأ حالات الاضطراب العقلي التي رأيتها، تجتمع هذه العوامل الثلاثة. فالسجين الذي يعاني من اضطراب عقلي خطير في وحدة الحراسة المشددة يصرح عادةً بتعرضه لصدمة في مرحلة مبكرة من حياته، وبعجزه عن تحمل الحياة في سجن مزدحم دون أن يخرق القواعد أو يدخل في مشاحنات، ويصرح كذلك بإثارة الظروف القاسية للحبس الانفرادي لأعراض أكثر خطورة لديه وتسببها في المزيد من سوء سلوكه الناجم عن شعوره باليأس، بل وفي زيادة مدة بقائه في الحبس الانفرادي.

والسجناء الأقل قدرة على تحمل الصدمات يزداد تعرضهم لها عادة، وتكون النتيجة — لدى عدد صادم من الحالات — هي العجز والانهيار النفسي الحاد. ويزداد الضرر الذي يتعرض له الفرد عندما تكون خدمات الصحة العقلية غير مناسبة. وفي الفصل التالي، سوف أناقش الانخفاض الحاد في مستوى جودة خدمات الصحة العقلية في معظم السجون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤