الفصل الرابع

العُنصريَّة: خطر يهدد الصحة العقلية

إن التمييز العنصري في عمليات القبض على المجرمين والحُكم عليهم يؤدي إلى تباين عنصري هائل في تركيبة فئات السجناء داخل السجون. فيتمتع الحُرَّاس — الذين يكون أغلبهم من البيض — بقدر من السلطة داخل السجون لا يتساوى مع سلطتهم في المجتمع خارج أسوار هذه السجون. ويُنظَر عادةً إلى جميع التفاعلات الاجتماعية من منظور العِرق. وفي البيئة التي تكون فيها الاختلافات العرقية واضحة للغاية، وتسودها الظروف القاسية، يصبح موضوع العرق النواة التي تنشأ منها التوترات والمشكلات.

والعنصرية السافرة التي لا تلقى أية معارضة يكون لها آثار مدمرة على الصحة العقلية للسجناء. فيُصاب الكثير من السجناء ذوي البشرة الملونة بالجنون نتيجة للعنصرية وافتقارهم الملاذ الذي يمكنهم اللجوء إليه. وما يزيد الطين بلَّة أن هناك تمييزًا عنصريًّا في تفسير الجنون نفسه. والسجناء السود، الذين يعانون الغضب والانهيارات الانفعالية، يزيد احتمال إلقائهم في الحبس الانفرادي وحرمانهم من علاج الأمراض العقلية الملائم مقارنةً بأقرانهم من البيض.

(١) العلاقات العنصرية في السجون1

تتسم الاختلافات العرقية في السجون بوضوحها الشديد؛ فالغالبية العظمى من السجناء من ذوي البشرة الملونة، بينما نجد أن نسبة كبيرة من موظفي السجون تتمثل في البيض الذين يفتقرون نسبيًّا إلى الخبرة في التعامل مع الملونين، ويرجع ذلك إلى أن معظم السجون تُبنَى بعيدًا عن المراكز الحضرية وتوظِّف الكثير من السكان المحليين. وعند حدوث وقائع وحشية، يكون الدافع وراءها على الأرجح عُنصريًّا. وعلى الرغم من صعوبة تحديد أي التُّهم يستند إلى أسس قوية في كثير من الأحيان، فإن هناك من الأدلة ما يؤكد الانطباع العام بأن العنصرية تمثل مشكلة كبيرة. لكن مأموري جلسات الاستماع وأعضاء لجان الاستئناف يكونون عادةً من البيض، ويشكو السجناء من الظلم البيِّن في هذا الأمر.

(١-١) التباين العنصري في إصدار الأحكام

تتغلغل العنصرية في نظام العدالة الجنائية. فمقارنة بالبيض، تزيد احتمالات إيقاف الشرطة للملونين وتفتيشها لهم وإلقائها القبض عليهم، كما تزيد احتمالات أن يتولى الدفاع عن هؤلاء الملونين محامو الدفاع المجاني الذين يتعاملون مع قدر هائل من القضايا؛ ومن ثم يُدانون، ويحصلون على حكم قاسٍ. وأكثر من ٣٠ بالمائة من الذكور الأمريكيين من أصل أفريقي ممن تتراوح أعمارهم بين ٢٠ و٢٩ عامًا خضعوا لمراقبة نظام العدالة الجنائية عام ١٩٩٤، سواء بوجودهم داخل المحابس والسجون أو بوضعهم تحت المراقبة أو بخضوعهم لنظام إطلاق السراح المشروط.

وفي بعض المناطق الحضرية، تكون هذه النسب صادمة على نحو أكبر بكثير. على سبيل المثال، ٤٢ بالمائة من الرجال السود الذين تتراوح أعمارهم بين ١٨ و٣٥ عامًا في واشنطن العاصمة يخضعون لمراقبة نظام العدالة الجنائية في أي يوم بعينه، بينما تبلغ هذه النسبة في بالتيمور ٥٦ بالمائة. ويُلقَى الأمريكيون من أصل أفريقي في السجون بمعدل ١٩٤٧ فردًا من بين كل ١٠٠ ألف مواطن أمريكي من أصل أفريقي، في مقابل ٣٠٦ فردًا من بين كل ١٠٠ ألف من المواطنين البيض. ويمثل السود بالفعل ما يزيد عن ٥٠ بالمائة من السجناء بالسجون، بينما يمثل الأمريكيون ذوو الأصول اللاتينية ١٥ بالمائة من هؤلاء السجناء. هذا فضلًا عن أن نسبة الأمريكيين الأصليين في السجون كبيرة للغاية أيضًا. وتشير إحصائيات اللجنة الوطنية للعدالة الجنائية إلى أنه في عام ٢٠٢٠ سيكون نحو ٣٣٫٣ بالمائة من الأمريكيين من أصل أفريقي و٢٥٫٦ بالمائة من ذوي الأصول اللاتينية الذين تتراوح أعمارهم بين ١٨ و٣٤ عامًا قد سُجنوا.

ويزداد هذا التباين مع تشديد العقوبة. فتشير تقارير مركز قضايا الأحداث والعدالة الجنائية في سان فرانسيسكو إلى أنه في أول عامين من تفعيل قانون كاليفورنيا لاعتياد الإجرام (إدانة المجرم بثلاث جرائم أو أكثر)، بلغت نسبة الأمريكيين من أصل أفريقي بين من حصلوا على أحكام لارتكابهم الجرائم للمرة الثالثة ٤٣ بالمائة، على الرغم من أنهم يمثلون ٧ بالمائة فقط من عدد سكان الولاية و٢٠ بالمائة ممن أُلقي القبض عليهم. علاوةً على ذلك، تبلغ نسبة السود بين المحكوم عليهم بالإعدام في جميع أنحاء الولايات المتحدة ٤٠ بالمائة. وفي بنسلفانيا، يمثل السود ١٣١ سجينًا من إجمالي ٢١٠ سجناء محكوم عليهم بالإعدام، أي ما يعادل ٦٢ بالمائة.

وقد تزايد التباين العرقي في إصدار الأحكام على نحو سريع منذ منتصف الثمانينيات من القرن العشرين وإعلان «الحرب على المخدرات». ففي الوقت الذي ارتفع فيه معدل السجن في سجون الولايات بتهم المخدرات بنسبة ٣٠٦ بالمائة بين عامي ١٩٨٥ و١٩٩٥، ازدادت نسبة السجناء المدانين بهذه التهمة من الأمريكيين من أصل أفريقي بنسبة ٧٠٧ بالمائة.

وليس من الصعب فهم السبب وراء ذلك. فعلى سبيل المثال، يفرض التشريع الفيدرالي أحكامًا أكثر قسوة بمعدل خمسة أضعاف لتهمة حيازة الكوكايين الصلب وبيعه، مقارنةً بالأحكام المتعلقة بمسحوق الكوكايين. وتسعون بالمائة ممن يُلقَى القبض عليهم في جميع أنحاء الولايات المتحدة لحيازتهم الكوكايين الصلب من الأمريكيين من أصل أفريقي، في حين أن ٧٥ بالمائة ممن يُلقَى القبض عليهم لحيازتهم مسحوق الكوكايين يكونون من البيض. وثماني قضايا من بين كل عشر قضايا في المحكمة الفيدرالية تتضمن أمريكيين من أصل أفريقي، بينما تبلغ نسبة تورط هذه الفئة في قضايا مسحوق الكوكايين ٣٣ بالمائة. وعلى الرغم من أن نسبة الأمريكيين من أصل أفريقي تقل عن ١٣ بالمائة من إجمالي عدد السكان، وأن نحو ١٣ بالمائة منهم يُلقى القبض عليهم لحيازتهم المخدرات، تبلغ نسبة هؤلاء بين المدانين بحيازة المخدرات ٥٥ بالمائة وبين مَن يحصلون على أحكام في هذه القضايا ٧٤ بالمائة.

(١-٢) التوترات العنصرية داخل السجون

شهدت نسبة الملونين في السجون ارتفاعًا على مدى عدة عقود. ففي عام ١٩٣٠، بلغت نسبة البيض بين جميع الحالات التي دخلت السجون ٧٥ بالمائة، بينما بلغت نسبة الأمريكيين من أصل أفريقي ٢٢ بالمائة. وفي عام ١٩٩٢، كانت نسبة البيض الذين دخلوا إلى السجون ٢٩ بالمائة، والأمريكيين من أصل أفريقي ٥١ بالمائة، والأمريكيين من أصل لاتيني ٢٠ بالمائة.

وداخل السجون، تزداد نسبة الملونين بارتفاع مستوى الإجراءات الأمنية. فالسجون ذات الحد الأدنى من الإجراءات الأمنية تتضمن عددًا أكبر من البيض، بينما تشتمل السجون ذات الإجراءات الأمنية المشددة على عدد أكبر من الملوَّنين. والسجناء المودَعون في وحدات الحبس الوقائي يكون أغلبهم من البيض، بينما تبلغ نسبة السود وذوي الأصل اللاتيني في وحدات الحراسة المشددة ٩٠ أو ٩٥ بالمائة.

إن العِرق هو السمة المميزة للأفراد والجماعات خلف القضبان. والعزل الاختياري على أساس العرق لا يُصرَّح به عادةً، لكنه حتمي. فيخبرني الشباب من المجرمين أنهم حتى لو كان لديهم أصدقاء مُقرَّبون من أعراق مختلفة في الشوارع، فقد تعلموا سريعًا عند دخولهم السجن البقاءَ مع أبناء جنسهم. ويوضح لي أحد السجناء هذا الأمر قائلًا: «من الخطورة بمكان أن ترتبط داخل السجن بأشخاص يختلفون عرقيًّا عنك، حتى لو كنت على معرفة بهم خارج السجن.»

ويُصدَم المرء على الفور عند رؤيته التفرقة العنصرية الصارمة في ساحات السجون ذات الإجراءات الأمنية المشددة. فنجد في أحد أركان ساحة السجن السجناء السود يرفعون الأثقال، بينما يتجمع البيض في ركن آخر، وذوي الأصول اللاتينية يتبادلون أطراف الحديث أو يمررون كرة القدم بينهم في منطقة أخرى بالساحة. وفي أي وقت تنشب فيه التوترات أو يبدو أن عراكًا على وشك الحدوث، يسرع على الفور الشاردون والمنعزلون الذين كانوا يتجولون في الساحة فُرادى أو أزواجًا لينضموا إلى أقرب جماعة من أبناء جنسهم يمكنهم الوصول إليها. ويتعرض الكثير من السجناء المضطربين عقليًّا للمشكلات؛ لعدم تمكنهم من إدراك أن ثمة نزاعًا عرقيًّا على وشك الحدوث، ولعجزهم عن الانضمام إلى الجماعة التي ينتمون إليها بالفعل.

في إحدى وحدات الحراسة المشددة في إنديانا، تحدثت مع سجين أبيض مرسوم على ساعده وشم يحمل الحروف الثلاثة KKK (التي تشير إلى عبارة «كو كلوكس كلان» وهو اسم يُطلق على المنظمات المؤمنة بسيادة البيض على الأعراق الأخرى). قال لي هذا السجين: «لا أكِنُّ في الحقيقة أية ضغائن تجاه السود. لكنني أعتقد فحسب أنه من الأفضل أن يلتزم كل امرئ بالجماعة التي ينتمي إليها. وأرى أن كلا الجانبين يمارسان العنصرية. هناك ضابط أسود في دورية الصباح هو المسئول عن إخراجنا إلى ساحة السجن. هذا الضابط يجعل دائمًا السجناء البيض يخرجون إلى الساحة مبكرًا في الصباح؛ ما يجعلنا نتخلى عن الوقت الذي نقضيه في الساحة إذا شعرنا بالرغبة في النوم وقتًا أطول. لكنه على الجانب الآخر يرسل السجناء السود إلى الساحة في وقت متأخر من النهار كي يتمكنوا من النوم وقتًا أطول ويستمتعون أيضًا بالوقت المخصص للساحة. هذه الأمور الصغيرة هي التي تثير الغضب دومًا بين البيض والسود.» لا يوجد، في الواقع، في هذه الوحدة تحديدًا سوى ضابطين أو ثلاثة من أصل أفريقي، بينما تضم العشرات من الضباط البيض. لكن الفكرة هي أن العرق له أهمية كبيرة لدى الجميع.

والسلوك العنصري قد يكون غير واضح. فعلى سبيل المثال، أخبرني سجين أبيض بحالات اتسم فيها ضابط معين بقدر أكبر من التساهل مع أحد السجناء البيض أو السود، بينما افترض سجين آخر أن السبب وراء ذلك يرجع إلى العرق؛ فبدأ الاثنان في الشجار، وأصدر الضابط ضدهم إنذارين لخرقهم القاعدة التي تحظر الشجار. وفي أحد السجون التي زرتها في ميشيجان، كان هناك صفان لتقديم الطعام في كافتيريا خاصة بالسجناء ككل. وكانت القاعدة غير المُفصَح عنها هي أن يقف السود في أحد الصفين ليحصلوا على الطعام الذي يقدمه لهم السود، بينما يقف البيض في الصف الثاني ليحصلوا على الطعام الذي يقدمه لهم البيض. والنتيجة الحتمية لذلك هي أن السود يشكون من أن كمية الطعام المقدمة في صف البيض أكبر من المقدمة إليهم، في حين يشكو البيض من أن كمية الطعام المقدمة في صف السود أكبر من تلك المقدمة إليهم.

وقد تكون التفرقة العنصرية واضحة للغاية أيضًا بحيث تعكس العلاقات العرقية السائدة في المجتمع. على سبيل المثال، في كثير من السجون يشغل السجناء البيض النسبة الأكبر من الوظائف والمهام ذات الدخل الأعلى مثل النجارة وصناعة الأدوات والمكعبات وصيانة الماكينات، في حين أن الوظائف الأقل شأنًا ودخلًا وقيمةً من حيث التدريب على الوظائف التي سيشغلها السجين بعد إطلاق سراحه — مثل العمل في كافتيريا ووظائف الحمَّالين وحرَّاس المباني — يشغلها غالبًا السجناء من الأقليات. فيتعلم البيض المهارات ويتولون عادةً مهام رقابية، في حين يُوكَل إلى السود والأقليات الأخرى أعمال أكثر وضاعة، ويحتلون مكانة أدنى في التسلسل الهرمي بالسجن، هذا إن حظوا بفرصة العمل في الأساس (تجدر الإشارة هنا إلى أن نسبة كبيرة منهم يخضعون للعزل الأمني).

والمواقف العنصرية من جانب الحرَّاس يمكن أن تتسبب في اضطراب ونزاع انفعالي لدى السجناء الملونين، على سبيل المثال:

اعتاد أحد السجناء السود في أحد السجون ذات الإجراءات الأمنية المخففة على الخروج من البوابة الأمامية للسجن لأداء عمله المتعلق بتنظيف المكان المحيط بمبنى السجن وتهيئته. كان يخرج من السجن، ويؤدي عمله، ثم يدخل مرة أخرى إليه تحت إشراف مباشر من حارس أسود كان مسئولًا عن فريق عمله. وعندما كان يدخل من البوابة، كان يمر بجهاز لكشف الأدوات المعدنية، ويخضع للتفتيش عن طريق تحسس ملابسه، ثم يُسمَح له بالمرور. وفي أحد الأيام، وجد السجين حارسًا جديدًا أبيض اللون بدلًا من الحارس الأسود عند دخوله السجن بعد دورية عمله. فأمره ذلك الحارس الجديد بخلع ملابسه تمامًا والانحناء والمباعدة بين ساقيه.

أخبر السجين الضابط بأنه يمر كل يوم من البوابة، ولا يغيب عن نظر أفراد الأمن في أثناء وجوده بالخارج؛ ولذلك لا حاجة لخضوعه لهذا الإجراء. انصرف مشرف السجين إلى الردهة بضع لحظات، فصار السجين وحده مع الحارس الجديد. فتحدث معه الحارس بقسوة وقال له وهو يصر على أسنانه: «هل ترفض تنفيذ الأمر، أيها السجين؟»

قال لي السجين: «فعلت كل ما في وسعي لأمنع نفسي من الفتك به. لقد كان ذلك الضابط العنصري يحاول فقط إذلالي حتى أعرف مَن السيد في المكان. وكنت على وشك ضربه؛ لكنني لو كنت فعلت ذلك لأُودعت الحبس الانفرادي فترة طويلة جدًّا؛ ومن ثم أذعنت في النهاية للفحص.»

اتسم الرجل الذي أخبرني بهذه القصة بالاستقرار الانفعالي. لكن ماذا لو كان شخصًا يعاني اضطرابًا انفعاليًّا مُتقطِّعًا ويعلم أن السبيل الوحيد أمامه لتجنب الوقوع فريسة الغضب وتفكك الشخصية وما يترتب على ذلك من أوهام هو تجنب كل التفاعلات التي قد تثير غضبه. هذا الشخص ما كان ليجد سبيلًا لتجنب هذه المواجهة البغيضة مع الحارس، وكان استقراره العقلي سيتعرض على الأرجح للخطر.

يستخدم الضباط البيض الكثير من الوسائل غير الرسمية للتمييز ضد السجناء الملونين. على سبيل المثال، عندما تجوَّل فريق منظمة هيومن رايتس ووتش،2 الذي كنت أحد أعضائه، في وحدة الحبس الانفرادي بمؤسسة واباش فالي العقابية في إنديانا في يوليو من عام ١٩٩٧، اكتشفنا سجينًا أسود محبوسًا في زنزانة مغطاة برسوم جرافيتي عنصرية، امتلأت جدرانها بعبارات عنصرية كُتبت بأحرف بارزة مثل «السيادة للبيض» وكُتِبت على المرآة عبارة مسيئة للسود هي «اللعنة على جميع الزنوج!» فوق السرير، كان هناك رسم لشخص عنصري مُقنَّع ينتمي لمنظمة كو كلوكس كلان المناهضة للسود، إلى جانب صليب كبير معقوف. من الواضح أن هذا النوع من المعاملة يؤثر سلبًا على صحة السجين العقلية، ولا سيما إذا كان عرضة للإصابة بجنون الارتياب. أخبرنا هذا السجين بأنه نُقِل إلى هذه الزنزانة قبل ذلك اليوم بستة أيام، بعد أن دخل في جدال مع حارس أبيض. وسأل فريق المنظمة الضباط عن هذه الحالة، فكان الرد أن السجين نُقِل إلى هذه الزنزانة؛ لأنها كانت الوحيدة المتوافرة في ذلك الوقت.

بالطبع، ليس جميع الحرَّاس عنصريين، والسجناء الملونون سرعان ما يقرُّون بأن بعض الحرَّاس عادلون جدًّا. لكنهم يشتكون، مع ذلك، من أن العُرف السائد بين ضباط السجن يجعل من الصعب للغاية على «الضباط الجيدين» التدخل عندما يتحرش «ضابط سيئ» بأحد السجناء أو يعامله بقسوة. ولقد أُخبِرت بحالات يثير فيها ضابط أبيض شجارًا عمدًا مع سجين أسود، فيحاول السجين الدفاع عن نفسه أو تحاشي الضربة، ويواصل الضابط الأبيض توجيه الضربات للسجين الأسود، ولا يتمكن الضابط الأسود الذي يشاهد كل ما يحدث من فعل أي شيء لإيقاف هذا الهجوم العنصري.

قلما وُجد في السجون التي تجولت فيها نوع من التدريب حول التنوع الثقافي والعلاقات بين الأعراق. ويجهل الضباط عادةً المصطلحات المتعلقة بالعلاقات العرقية. ويشكو السجناء الملونون باستمرار من أن الضباط البيض لا يفهمونهم، ولا يعرفون كيف يتحدثون مع السود أو ذوي الأصول اللاتينية. ويشعرون أيضًا بأن معظم موظفي السجن يتعاملون معهم باستعلاء ويطلقون عليهم أسماء مهينة. وعندما تُترَك العنصرية والتوترات بين الأعراق لتستشري، يزداد خطر تعرض السجناء من جميع الأعراق لكافة صور الهجوم والتحرش والهياج الانفعالي العنيف والاضطرابات العقلية.

(١-٣) العِرق والعصابات

إن سياسات السيطرة على العصابات في السجون3 تزيد عادةً من التوترات العرقية. فعصابات السجون ليست لها قوائم بأسماء أفرادها؛ ومن ثم، يخضع تحديد السجناء الذين ينتمون للعصابات للتخمين من قِبل موظفي الأمن. ويحصلون على معلومات عن هذا الشأن من جهات تطبيق القانون في المجتمع، ويراقبون العلاقات بين السجناء في غرف التجمع وفي ساحات السجون، بالإضافة إلى حصولهم على معلومات ممن يشون بزملائهم في السجن. ويتبقى لهم بعد ذلك التخمين.

ولا شك أنه في ظل هيمنة البيض على وظائف موظفي الأمن في السجون وسيادة الأقليات بين السجناء، تظهر الأفكار النمطية العرقية. ولا يدرك الكثير من الموظفين البيض المعنى الحقيقي للمصافحات المعتادة التي تحدث بين السجناء، ولا يفهمون جيدًا السبب وراء ارتباط الملونين بعضهم ببعض. فالسجين الأسود غير المنتمي لأية عصابات قد يرتبط بسجناء سود آخرين، بمن فيهم مَن يُعرَف عنهم انتماؤهم لعصابات معينة؛ لأن وجوده معهم أكثر أمانًا له من دخوله إلى نطاق ما يسيطر عليه ذوو الأصول اللاتينية أو البيض. وقد يتبادل السجين الأسود أيضًا المزاح مع أفراد العصابات ويصافحهم لمجرد أنهم جميعًا نشئوا في نفس الحي. لكن الحارس الأبيض، الذي لا يعرف الكثير من المعلومات عن السجناء، يستنتج على الأرجح أن التآخي والمصافحة يعنيان الانتماء إلى إحدى العصابات.

وعندما يخبر السجين الحراس — الذين يتهمونه خطأً بأنه ينتمي إلى إحدى العصابات — بأنه ليس عضوًا في هذه العصابات، يكون رد الحرَّاس عليه: «حسنًا، لا بأس. لكنك إذا لم تكن عضوًا في أية عصابة، يجب عليك إذن إخبارنا باسم شخص ما ينتمي إليها كي لا نلقي بك معهم في الحبس الانفرادي.» وإذا وشى السجين بأحد أفراد هذه العصابات، تعرَّض بشدة لمخاطر الانتقام منه؛ لذا، فإن السجين الذي يختار الوشاية يعطي الحراس عادةً اسم سجين منعزل عن الآخرين أو يعاني مرضًا عقليًّا، ويفتقر إلى العلاقات والقدرة اللازمتين للانتقام.

لا أعني بذلك أنه في حال وجود نظام موثوق به للتعرف بدقة على أفراد العصابات، يكون عزل هؤلاء السجناء في وحدات حراسة مشددة استراتيجية فعالة للتحكم في العنف بالسجون. وإنما أتفق في هذا الشأن مع الكثير من الباحثين في علم الإجرام، الذين يرون أن هذه الطريقة برمتها المتعلقة بالسيطرة على العصابات تعاني نوعًا شديدًا من القصور وتسفر عن نتائج عكسية. ومن النتائج المؤسفة للسياسات الهادفة لفرض الحجر على أفراد العصابات في وحدات الحراسة المشددة أن عددًا كبيرًا من السجناء المضطربين عقليًّا ينتهي بهم الحال حتمًا في هذه الوحدات، بينما يبقى الكثير من السجناء المنتمين للعصابات بالفعل خارجها. لكنني لن أتناول مسألة السياسات هنا. النقطة التي أريد إيضاحها الآن هي أنه فيما يتعلق بالانتماء للعصابات، تؤدي الأفكار النمطية العرقية إلى كثير من الخطأ في تحديد هوية المنتمين للعصابات.

يرى السجناء في وحدات الحراسة الأمنية المشددة أن الحراس البيض يُصنِّفون السجناء الملونين على أنهم أعضاء في عصابات دون توافر أدلة كافية على ذلك. ويخبرني السجناء الأمريكيون من أصل أفريقي، وذوو الأصول اللاتينية، أن الحراس البيض يخافون من الرجال الملونين الأشداء؛ لذا، ومثلما يفعل ضباط الشرطة في المجتمعات التي ينتمي إليها هؤلاء الحرَّاس، يتعاملون بقسوة مع أكثر الفئات التي يخشونها. وسواء أكانت التهم بالتمييز العرقي مُبرَّرة أم لا في كل حالة على حدة — إذ ثمة عدد من السجناء أعضاء بالفعل في عصابات — فمن الواضح تمامًا أن السياسات الهادفة لاحتواء العصابات تؤدي إلى زيادة نسبة الملونين في وحدات الإجراءات الأمنية والحراسة المشددتين.

ولقد سمعت الكثير من الاتهامات عن حراس يحثون السجناء الذين ينتمون لعرق معين أو عصابة محددة، على ضرب أو قتل سجناء ينتمون لعرق آخر أو عصابة أخرى. وتكون دائمًا كلمة السجناء في مقابل كلمة الحرَّاس. بيد أنه في بعض الحالات، تصل أدلة سوء المعاملة إلى وسائل الإعلام. على سبيل المثال، أذاع برنامج «ستون دقيقة» الأمريكي مقطع فيديو يوم ٣٠ مارس عام ١٩٩٧ يظهر فيه الحراس في سجن كوركوران بكاليفورنيا ذي الإجراءات الأمنية المشددة، وهم يُرغِمون سجينين أسودين وآخرين من أصول لاتينية على الدخول إلى ساحة السجن والشجار؛ نظرًا لأنهم كانوا ينتمون إلى عصابتين متنافستين. وادُّعيَ أن بعض الحرَّاس في سجن كوركوران — بموافقة ضمنية من المشرفين عليهم — كانوا يُخرجون عن قصد سجناء يُعرف عنهم معاداة بعضهم الشديدة لبعض إلى الساحة في نفس الوقت، على الرغم من أن الحراس كانوا يدركون أن هؤلاء السجناء قد يتشاجرون حتى الموت، بل كانوا يتراهنون على نتيجة هذا الشجار.

في لقاء مع دكتور كوري وينستن، قال سجين مصارع4 فاز بإحدى عشرة مباراة في السجون: «لقد عرفت من الضباط أن هناك مراهنات مالية على فوزي، بل وشكرني بعضهم أيضًا؛ لأنني جعلتهم يجنون بعض المال.» وعندما كان يتضح مَن الفائز في مثل هذه المباريات، كان الحرَّاس يطلبون من السجناء التوقف على الفور. وإذا لم يتوقف السجناء عن الشجار في الحال، كان الحراس يطلقون عليهم النار. وأُطلِقت النار على أكثر من خمسين سجينًا على هذا النحو منذ افتتاح السجن عام ١٩٨٨، ولقي سبعة منهم مصرعهم.

انزعج ضابطان من الأسلوب الذي أُجبِر به السجناء على الشجار والموت من أجل الترفيه عن الحرَّاس، فأبلغا مكتب التحقيقات الفيدرالي بما لديهما من معلومات. وادعى اتحاد ضباط شرطة السجون وإدارة المؤسسات العقابية بكاليفورنيا في ردهما على هذه الاتهامات أن الحرَّاس في كوركوران كانوا يتبعون فقط سياسة الإدارة؛ ولذا يجب عدم إدانتهم بسوء السلوك في العمل. وهذه نقطة مهمة، فإدارة المؤسسات العقابية تفصل عادةً بعض الضباط السيئين بعد أي حادث قد يدمر سمعة الإدارة. وبالادعاء أن الحراس في كوركوران كانوا يتبعون السياسة فحسب — المتمثلة في هذه الحالة في أمر توجيهي إداري صادر في عام ١٩٨٩ لوضع حد للفصل العنصري الذي كانت تشهده من قبل الساحات الخاضعة للحراسة المشددة — عرَّضت السلطات العقابية نفسها للتهمة المنطقية تمامًا بأن سياساتهم المتعمدة، وليس مجرد سوء التصرف من جانب الحرَّاس، هي التي أدت إلى النزاع بين الأفراد المنتمين لأعراق مختلفة ووفاتهم. وفي فبراير عام ١٩٩٨، اتهمت وزارة العدل الأمريكية ثمانية حراس بانتهاك الحقوق المدنية للسجناء في كوركوران.

(١-٤) الافتقار إلى ملاذ يمكن اللجوء إليه

كانت أغلب القصص التي سمعتها من السجناء تسير على نفس المنوال تقريبًا: يتعرض سجين أسود للضرب على يد أحد الضباط البيض أو بعضهم، ويتهم الضابط السجين برفضه تنفيذ أمر ما وإهانته ضابطًا، فيشكو السجين من أنه قد تعرض للظلم من جانب ضباط عنصريين لأنه أسود. ويكون حكم لجنة الاستماع ضد السجين. ويُحكَم عليه بقضاء مدة في العزل العقابي.

ولجنة الاستماع، التي يقتصر أعضاؤها على موظفي السجن فحسب، يكون أغلبها من البيض. وهذا في حد ذاته لا يثبت الانحياز العرقي لإجراءات هذه اللجنة، وإنما مثلما أخبرني أحد السجناء مؤخرًا: «كيف لنا أن نضمن أن الضباط والمستشارين لا يتخذون قرارًا مسبقًا بأن أي سجين أسود يَمْثُل أمامهم مذنب لمجرد أن الضابط الذي كتب إنذارًا ضده أبيض؟ لن يكون أمامي أي سبيل للاعتراض على هذا النوع من العنصرية أو الاستئناف على قرارهم. فهم لا يسمحون لي حتى بإحضار سجين آخر كشاهد لي أو محامٍ للدفاع عني.»

لا ريب أن السجناء السود يهاجمون بالفعل في بعض الأحيان ضباطًا بيضًا. لكن ثمة حالات أخرى أيضًا يضرب فيها الضباط السجين ثم يتهمونه بإهانة ضابط كي يخفون جريمة ضربهم له. وإذا كانت هناك عملية استماع تأديبية عادلة، لتوقعنا أن يكون قرار هذه العملية ضد السجين مرة وضد ضابط السجن مرات أخرى. والحقيقة هي أنه في معظم السجون، تصدر نسبة تتراوح بين ٩٠ و١٠٠ بالمائة من الأحكام ضد السجناء؛ ما يثير التساؤل بشأن عدالة هذا الإجراء. والأهم من ذلك أنه عندما يدرك معظم السجناء أن عملية الاستماع غير عادلة وأنه ليس لديهم حق حقيقي في الاستئناف، تستفحل صور الاستياء من العنصرية المتأصلة في هذه العملية، وتتأثر سلبًا الصحة العقلية للسجناء.

(٢) الآثار الانفعالية السيئة للعنصرية

عندما يدخل السجناء الأمريكيون من أصل أفريقي أو لاتيني أو الأمريكيون الأصليون إلى السجون، ويرون الموظفين البيض المسئولين عن هذه الأعداد الكبيرة من الملونين، يتذكرون خبراتهم في المجتمع، مثل تعرضهم للضرب على أيدي ضباط الشرطة البيض، والإلقاء بهم في الحبس ظلمًا، واتهامهم بمقاومة الاعتقال. وتسفر التفرقة العنصرية عن صدمات لدى السجناء الأكثر استقرارًا، أما المعرضون لمخاطر المرض العقلي والانتحار، فتتضمن مضاعفات العنصرية لديهم التدهور العقلي الشديد وزيادة الميل نحو تدمير الذات.

(٢-١) الخوف والغضب واليأس لدى السجناء المستقرين

يقول لي السجناء السود إنهم يخافون على حياتهم في بيئة السجن التي يملك الحراس البيض فيها السلطة المطلقة على كل حركة من حركاتهم، ولا يُعاقَب فيها أي ضابط قاسٍ عند قتله أحد السجناء أو تسببه في عاهة له. لا يعني ذلك، بالطبع، أن جميع الحراس عنصريون، لكن الحوادث التي تتضمن تمييزًا ضد السجناء الملونين متعددة على نحو يبرر لهؤلاء السجناء الخوف من سوء المعاملة نتيجة للعنصرية، وهذا الخوف يسفر عن أعراض نفسية.

على سبيل المثال، قال لي سجين أسود في نهاية الثلاثينيات من عمره، قضى اثني عشر عامًا في السجن، ويتوقع النظر في إطلاق سراحه المشروط بعد عامين آخرين: «هؤلاء الحمقى [الحرَّاس] يتحكمون تمامًا في حياتي، ويعترفون بكرههم للسود، والسبيل الوحيد للنجاة من ذلك هو الخضوع لهم في كل أمر والسماح لهم بممارسة ألاعيبهم.» فسألته إن كان الوضع يسبب له توترًا عصبيًّا، فأجابني قائلًا:

أُصاب بنوبات أشعر فيها بأن قلبي يدق بعنف شديد كما لو كان على وشك الخروج من صدري، وأعجز عن التنفس، وأبدأ في رؤية أضواء، وأشعر بأنني سأُصاب بحالة إغماء. لا يمكنني أبدًا توقع متى سيحدث هذا الأمر. فلم أصب بمثل هذه النوبات قط قبل مجيئي إلى هنا. وأشعر دائمًا بالخوف من أن الضباط [الحرَّاس] سيتعرضون لي بسوء. ليس لدي أي فكرة عن الوقت الذي سيضربونني فيه أو يقتلونني! ففي إحدى المرات، ضربوا زميلي في الزنزانة ضربًا مبرحًا؛ ما جعله جليس الكرسي المتحرك منذ ذلك الحين. إنني أحاول فقط قضاء مدة عقوبتي بسلام حتى أتمكن من العودة إلى المنزل سليمًا.

يخبرني السجناء السود بأن ما يتعرضون له من إذلال يومي داخل السجن يذكرهم دومًا بالعبودية؛ فهم يُعامَلون كالحيوانات، ويُقيدون بالسلاسل في أثناء نقلهم، ويقف الحرَّاس بالبنادق فوق رءوسهم. وإذا اعترضوا على حارس عنصري سبَّهم بقوله: «أيها الزنجي!» أو أي شيء من هذا القبيل، فإنهم يتعرضون للضرب ومدة عقوبة طويلة في الحبس الانفرادي.

لا شك أن التعديل الثالث عشر للدستور الأمريكي قد ألغى الرق وحرر العبيد، لكنه تضمن بندًا يسمح بالعمل القسري كعقاب لارتكاب الجرائم. وقبل الحرب الأهلية الأمريكية، تضمنت السجون بالولايات الجنوبية عددًا قليلًا للغاية من الأمريكيين من أصل أفريقي؛ لأن مالكي الرقيق كان لهم الحق في تأديب عبيدهم على النحو الذي يرونه مناسبًا. لكن بعد إلغاء الرق، أُرسِلت على الفور أعداد كبيرة من العبيد السابقين إلى السجن، وكان ذلك في الغالب لجرائم بسيطة. وسُمِح أيضًا لأصحاب المزارع بتأجير المجرمين السود5 للعمل في حقولهم. وكان هذا الأمر في كثير من الحالات أسوأ من العبودية ذاتها؛ فمُلَّاك العبيد قبل الحرب كانوا يهتمون بالحفاظ على صحة عبيدهم، لكن مالكي المزارع كانوا يُنهكون قوى عبيدهم في العمل حتى الموت، ثم يطلبون بُدلاء لمن يمرضون أو يموتون؛ ومن ثم، لقي عدد هائل من المجرمين السود مصرعهم في أثناء عصر إعادة الإعمار جراء الإنهاك في العمل، أو الضرب، أو تعرضهم لظروف مناخية قاسية.

ويشير السجناء الملونون إلى أنهم يشعرون بالضعف الشديد «كما لو كانوا عبيدًا». وهم يعلمون أنه ما من ملاذ يمكنهم اللجوء إليه عند تعرضهم للعنصرية. ويذكر البعض شعورهم بالإحباط والغضب، بينما يقول آخرون إنهم يعانون اليأس الشديد. والقاسم المشترك بين جميع هؤلاء السجناء هو الشعور بأنه ما من شيء أمامهم يمكنهم فعله للتخلص من محنتهم، فيستسلم بعضهم لمصيره. وهم يحاولون الحفاظ على سلامة قواهم العقلية بالبقاء على اتصال مع أسرهم والمجتمع والتخطيط لما سيفعلونه بعد إطلاق سراحهم، أو يدخلون في حالة من الخمول في زنزاناتهم ويقعون فريسة للاكتئاب. ويلجأ البعض الآخر لتصرفات تحدٍّ عاجزة. ويشير السجناء المستقرون نسبيًّا إلى معاناتهم من أعراض حادة نتيجة للتعرض للتفرقة العنصرية، مثل التوتر والاكتئاب ونوبات الهلع والرهاب والكوابيس وتوارد التجارب السابقة القاسية على الذهن وردود الفعل الغاضبة التي يصعب التحكم فيها، وما إلى ذلك.

نعرف من واقع الأبحاث التي أُجريت على اضطراب توتر ما بعد الصدمة أن الآثار السلبية للصدمة الحادة تزداد سوءًا باعتقاد الضحية أنها قد تعرضت لمعاملة ظالمة في أثناء تعرضها للصدمة. ولقد التقيت بسجين أسود حكمت عليه لجنة تأديبية في السجن بقضاء مدة في الحبس الانفرادي بسبب دخوله في مشاحنة مع أحد الحرَّاس. وقضى مدة العقوبة في الحبس الانفرادي، ثم استأنف على حكم اللجنة بمقاضاة إدارة المؤسسات العقابية في محكمة خارج السجن. سألته لماذا استأنف على الحكم باللجوء إلى إحدى المحاكم بينما استكمل بالفعل مدة عقوبته في الحبس الانفرادي؛ هل كان يريد تعويضًا ماليًّا؟ فهزَّ رأسه نافيًا، وأجابني: «أريدهم فقط أن يعترفوا بأن ما فعله ذلك الضابط معي كان ظلمًا، فإن اعترفوا فقط بذلك؛ فلن يهمني ما قضيته من وقت في الحبس الانفرادي بغير ذنب اقترفته.»

(٢-٢) الانهيارات الانفعالية لدى السجناء الأقل استقرارًا

إن السجناء الذين يعانون اضطرابات عقلية خطيرة يعانون صعوبة في التأقلم مع أفضل البيئات. أما في السجون، فلا يتمكنون على الإطلاق من التأقلم مع بيئتها. وإذا كان هؤلاء السجناء من السود أو من ذوي الأصول اللاتينية أو من الأمريكيين الأصليين، وكان هناك قدر كبير من العنصرية في المؤسسة العقابية، فسيكونون أكثر عرضة من غيرهم لتدهور حالتهم العقلية.

وللانهيار أنواع عِدة. لكنني سألقي بالضوء على اثنين منها فقط، وهما النوعان اللذان يظهران عادةً في لقاءاتي مع السجناء المضطربين عقليًّا من الملونين:
  • (١)

    اليأس وفقدان الأمل المؤديان إلى الاكتئاب.

  • (٢)

    الغضب المتزايد المؤدي إلى الذهان.

تنتشر حالة الاستسلام اليائس بين السجناء الملونين الذين يعانون اكتئابًا حادًّا. فلسان حال أحدهم يقول: «هؤلاء البيض الحقراء هم المسئولون، هم لا يحبونني لأنني أسود، ولا حيلة لي في هذا الأمر. لن يسمحوا لي أبدًا بالخروج من هنا.» مرة أخرى، من الخطأ الجسيم افتراض أن جميع موظفي السجون عنصريون؛ فعدد كبير منهم يفخرون بأنفسهم فيما يتعلق بعدلهم واهتمامهم بسلامة السجناء. لكنْ، هناك أيضًا بعض النماذج السيئة في كل مكان، وضابط عنصري واحد يجعل من الحياة اليومية للسجناء السود وذوي الأصول اللاتينية حياة بائسة للغاية. والسجناء المعرضون للإصابة بالاكتئاب، الذين يرون كل صور القهر العنصري التي تحدث من حولهم ويشعرون بأنهم لا ملاذ لهم على الإطلاق ولا سبيل للخلاص من محنتهم، يقعون عادةً فريسة للاكتئاب.

ومن أنواع الانهيار الأخرى الغضب المتزايد المؤدي إلى تفكك الشخصية. وعلى الرغم من أن معظم الأفراد المستقرين يصابون بالغضب ويتجاوزونه، يملك الأشخاص الذين يعانون الفصام وغيره من صور الذهان «أنا» ضعيفة للغاية، وعندما يبدءون في الشعور بالغضب، تبدأ «الأنا» لديهم في الانهيار. ويستمر الغضب في التزايد كما لو كان يتغذى على نفسه، ويعود السجين إلى سلوكيات أكثر بدائية، ويتزايد غضبه مع فقدانه تواصله مع الواقع. وعندما يتعرض أي سجين أسود، لديه ميل لهذا النوع من الغضب المدمر للذات وتفكك الشخصية، لهذه المعاملة العنصرية في أثناء وجوده في السجن يزيد احتمال تدهور حالته وإصابته بالذهان.

من الصعب للغاية التنبؤ بدقة بالأفراد الذين ستتدهور حالاتهم في ظل درجة معينة من التوتر، لكن نسبة هائلة من السجناء، الذين ينتمي أغلبهم للأقليات في وحدات الحراسة المشددة، مصابون بقدر هائل من الغضب والذهان. وعندما أتحدث مع أي سجين من هذه الفئة من السجناء، أسمع دائمًا نفس القصة عن أنه في طريقه إلى الجنون. فالسجين يدرك أنه يتعرض لسوء المعاملة، ويشعر بأن هذا الأمر جزء من العنصرية المتوغلة في نظام العدالة الجنائية. وتتكون لديه قناعة بأنه ما من شيء يمكنه فعله حيال ذلك، ويؤمن بأنه لن يجني أي شيء باتباعه القواعد والتحكم في غضبه؛ نظرًا لأنه لن يستمع إليه أحد، فيتزايد غضبه، ويفقد سيطرته على نفسه، ويتورط في المشكلات. ويُودع الحبس الانفرادي حيث يؤدي التكاسل والعزلة إلى ازدياد غضبه. وتتعرض حالته إلى مزيد من التدهور.

وتتنوع التفاصيل في كل حالة، لكن حتى عندما يكون السجين مصابًا بالأوهام، يمكن تمييز شيء من الحقيقة بشأن نوع من المعاملة العنصرية في لب مخاوفه. على سبيل المثال:

السيد «بي» رجل أمريكي من أصول أفريقية طويل القامة مفتول العضلات يبلغ من العمر أربعة وثلاثين عامًا، قضى في السجن ما يزيد عن نصف مدة عقوبته البالغة اثني عشر عامًا محبوسًا في وحدات الحبس المشدد. وكان قد قضى بعض الوقت في مستشفًى للأمراض النفسية قبل دخوله السجن، حيث شُخِّصت حالته بأنها فصام ارتيابي. عندما تحدثت مع هذا الرجل، وقف منتصب القامة ونظر متوعدًا عبر فتحة إدخال الطعام الموجودة في الباب الصلب لزنزانته. وعندما سألته عن سبب حبسه في العزل الإداري، أجابني بأن الحرَّاس البيض يخافون منه.

سألته: «ولماذا يخافون منك؟»

فأجابني: «لأنني زعيم قبيلة أفريقية، وهم يعلمون أنه بإمكاني أن أستدعي أفراد قبيلتي في ساحة السجن وأطلب منهم قتل أي حارس يعاملني بازدراء.»

يتضمن الملف الأمني للسيد «بي» ملاحظة تشير إلى أنه بصق على أحد الحراس قبل لقائي به بشهر، وحصل على إنذار لإهانته ضابطًا. وعندما سألته عن الحادث، قال لي: «لم أهن أحدًا، وإنما هو الذي أهانني.» فسألته لماذا قد يتعمد حارس إساءة معاملته على وجه التحديد، فأجابني: «هذا حال الحرَّاس البيض، فهم يخشون قوتي، ويقولون إنني أنتمي إلى إحدى العصابات. لكنني لا أنتمي إلى أية عصابة، وإنما أنتمي إلى قبيلة، فأنا زعيم قبيلة أفريقية. والرجال البيض يأتون إلى أفريقيا ويسرقون الناس ليستعبدوهم؛ وقد أتيت إلى هنا لكي أعيدهم معي إلى أفريقيا، والحرَّاس يعلمون ذلك. وثمة حارس أسود في الوردية الليلية يعلم أنني زعيم؛ ولذلك يدعني وشأني. أما الحرَّاس البيض، فيحاولون الإيقاع بي، ويثيرون الشجارات دائمًا معي، ثم يدَّعون أنني هاجمتهم.»

ويُعلِّق أونيل ستاو،6 وهو سجين أبيض يتحلى بدرجة كبيرة من الوعي فيما يتعلق بالعلاقات العرقية في بيئة المؤسسات العقابية، على هذه المسألة قائلًا إنه على الرغم من أن السجناء السود يتعرضون بالتأكيد لمعاملة أكثر قسوة من البيض، فإن جميع السجناء يشهدون معاناة فيما يتعلق بالممارسات الظالمة والمتعسفة من جانب موظفي السجون. ويضيف:

إن مشاهدة تعرض أحد رفاقك في السجن للمعاملة القاسية والتحرش من جانب … [حرَّاس السجن]، وحالات الضرب والتهديد والقتل والاغتصاب وغير ذلك يؤثر سلبًا على نفسيتك. وتبدأ في التساؤل بشأن السلطة التي تسمح بهذا النوع من الوحشية، وسرعان ما تتساءل عن المجتمع ذاته الذي يبدو أنه يغض الطرف عن مثل هذه الانتهاكات بالتزامه الصمت تجاهها. ويزداد الغضب والاستياء من نفاق نظام يدعي تمثيله للعدالة، لكنه في الحقيقة يعكس ظلمًا سافرًا كل يوم.

(٣) الحصول على الخدمات العلاجية للصحة العقلية

عندما تُقدَّم خدمات الصحة العقلية في بيئة متعدد الأعراق، ولا سيما إذا كان مُقدِّم الخدمة أبيض والسجين/المريض الذي يحصل عليها من ذوي البشرة الملونة، فإن الموقف السريري يكون معقدًا؛ إذ يزخر بصور سوء الفهم وسوء التواصل.

ومن الأمثلة على ذلك أن الفرق بين «جنون الارتياب» و«الوعي الوقائي» يتعلق كثيرًا بلون البشرة. فحقيقة أن الطبيب السريري الأبيض يواجه صعوبة في فهم السبب وراء شعور السجين الأسود بالاضطهاد لها علاقة بحقيقة أن الرجل الأسود قد تعرض عادةً للإيقاف والتفتيش والتحرش من جانب الشرطة خارج السجن ومن الحرَّاس داخله، بينما يعتمد الطبيب السريري الأبيض على الشرطة سواء داخل السجن أم خارجه في حمايته. ويفترض الطبيب السريري الأبيض عادةً أن السجين الأسود مصاب بجنون الارتياب بشأن مدى انتشار العنصرية في السجن على الرغم من أن السجين الأسود لا يعبر إلا عن وعي وقائي بواقع أخطر مما يدركه الطبيب السريري الأبيض.

وتتدخل التفرقة العنصرية عادةً في اتخاذ القرار بمعاقبة الشخص أو إرساله إلى مُعالِج. يفصل معلمو المدارس الأطفال السود الفقراء فصلًا مؤقتًا بسبب السلوكيات المرفوضة ذاتها التي تؤدي إلى الإحالة لمُعالِج في حال كان المخطئ طفلًا أبيض من الطبقة المتوسطة. وبالمثل، عندما تُستدعَى الشرطة للسيطرة على رجل أسود غاضب يتصرف على نحو غريب، يلقون على الأرجح القبض عليه دون الوضع في الاعتبار احتمالية معاناته من اضطراب عقلي. وهؤلاء الضباط أنفسهم، عندما يُستدعون إلى أحد منازل الطبقة المتوسطة لاحتواء رجل يتصرف بعنف شديد، ينقلونه في الغالب إلى مستشفًى للأمراض النفسية.

يحصل الملونون الفقراء عادةً على قدر ضئيل للغاية من العلاج بالمحادثة، وعندما تتفاقم حالات العجز النفسي التي يعانونها لتصل إلى حد الحالات الطارئة، يُعالَجون عادةً في غرف طوارئ الحالات النفسية أو يتم إيداعهم في المستشفيات ليقيموا فيها فترات قصيرة للغاية. وعلى النقيض من ذلك، نجد أن البيض ميسوري الحال يزيد احتمال سعيهم للحصول على علاج نفسي عند وقوع أية أزمات لديهم ويتمكنون من الحصول عليها بالفعل، حتى إن وصِفت لهم أدوية في الوقت نفسه. بعبارة أخرى، ثمة ازدواج في المعايير في تقديم خدمات الصحة العقلية في المجتمع؛ إذ يُخصَّص العلاج بالمحادثة لميسوري الحال، بينما يحصل الفقراء على الأدوية ويودعون قسرًا في المستشفيات.

وفي السجن، توجد نفس الازدواجية في المعايير. فالحصول على الخدمات العلاجية يتوقف على إدراك الموظفين لفكرة أن السلوكيات المسببة للمشكلات — مثل العزل الذي يفرضه السجين على نفسه في الزنزانة أو خرقه للقواعد أو شجاره مع الآخرين — ترجع إلى حدٍّ بعيد إلى المرض العقلي. كذلك يجب على الموظفين معرفة أن السلوكيات المسببة للمشكلات ليست مجرد تلاعب من جانب السجين. ولقد توصلت إلى أن الحرَّاس يميلون إلى التعاطف مع السجناء الذين يشاركونهم نفس الخلفية الثقافية. على سبيل المثال، يشكو السجناء الملونون في العديد من السجون التي تجولت فيها من أن الحرَّاس يكتفون بمجرد توبيخ بسيط للسجناء البيض كعقاب لهم على نفس المخالفات التي يُودع من أجلها السجناء السود الحبس الانفرادي ليمكثوا فيه شهورًا. وأخبرني سجناء سود آخرون أيضًا أن السجين الأبيض المضطرب عقليًّا يُرسَل إلى برنامج صحة عقلية مريح نسبيًّا؛ لأن الموظفين يقررون أن انتهاكاته للقواعد ناتجة عما يعانيه من اضطراب عقلي، بينما يُرسَل السجين الأسود الذي يعاني نفس الاضطراب أو يخرق نفس القواعد إلى الحبس المشدد. ولا شك أن السجناء البيض يمثلون النسبة الأكبر في معظم برامج الصحة العقلية في السجون، بينما يمثل السجناء السود — بمن فيهم مَن يعانون اضطرابات عقلية حادة — الأغلبية في وحدات الحبس المشدد.

وحتى داخل وحدات الحبس المشدد، نجد أن السجناء الملونين الذين تظهر عليهم علامات المرض العقلي الشديد يزيد احتمال تعرضهم للتأديب بدلًا من تلقيهم العلاج المناسب. على سبيل المثال:

فينسن، رجل أمريكي من أصل أفريقي، أُودِع وحدة الحبس الانفرادي بسجن بيليكان باي في كاليفورنيا. وقد ظهرت عليه أعراض نفسية واضحة. وأشارت الملاحظات في السجل الطبي السريري الخاص به إلى أن العديد من الأطباء السريريين كانون يميلون إلى أنه يعاني حالة نفسية ذهانية مليئة بالهلاوس والأوهام، لكن جميع هؤلاء الأطباء أضافوا أنه ربما كان يتمارض. وكانوا يضعونه تحت «الملاحظة» ويفكرون في نقله إلى وحدة داخلية للعلاج النفسي في سجن آخر. لكن لم تكن هناك متابعة لأيٍّ من هذه الملاحظات، وتُرِك فينسن في الحبس الانفرادي حيث تدهورت حالته وبدأ في تلطيخ نفسه بالغائط.

وفي يوم ٢٢ أبريل من عام ١٩٩٢، لاحظ الحرَّاس البيض الرائحة، ودون أن يكلِّفوا أنفسهم عناء التحدث مع طبيب نفسي بشأن التدخلات البديلة الممكنة، قرروا التدخل بالقوة، فأمروه أولًا بالاستحمام. وعندما رفض، أخرجوه بالقوة من الزنزانة واصطحبوه إلى مستشفى السجن مكبلًا بالأغلال ودفعوه في حوض استحمام مليء بالماء شديد السخونة ويحتوي على الأقل على واحدة من المواد الكيميائية الكاوية. غمر العديد من ضباط السجن رأسه تحت الماء. وصرخ متألمًا، لكنهم تجاهلوا معاناته حتى أصيب بالإغماء ولزم عليهم إخراجه من حوض الاستحمام.

نتيجة لهذا الغمر الإجباري لفينسن، لوحِظ أن بشرته قد أصابها التقشر في الظهر والساقين والمؤخرة. وعانى حروقًا شديدة من الدرجة الثالثة تطلبت ترقيعًا للجلد بجزء كبير من جسده. وظل مع ذلك يعاني ندبات قبيحة المنظر. صدر حكمٌ لصالح فينسن في دعوى قضائية شخصية، وتم لفت انتباه المحكمة إلى قضيته في عدة دعاوى قضائية جماعية كبيرة، وصنَّفت منظمة العفو الدولية الحادث على أنه «تعذيب».

التقيت بفينسن بعد ذلك الحادث بستة أشهر، وأخبرني بأنه يعتقد أنه كان ضحية للتمييز العنصري. وأكد لي أنه رجل قد بلغ سن الرشد ولم يكن بحاجة لإجباره على الاستحمام. زعم فينسن أن ثمة مادة سائلة سامة وكوبًا من مادة على هيئة مسحوق قد سُكبا في الماء الساخن بحوض الاستحمام. وقد احتج على الغمر الوحشي بالماء الذي تعرض له، لكن الضباط استمروا في دفع رأسه تحت الماء. وعلى الرغم من أنه كان يعاني ألمًا شديدًا، لم يصرخ؛ لأنه لم يرغب في أن يقولوا عنه «جبان».

إن التمييز العنصري عند تقديم خدمات الصحة النفسية العلاجية ليس قاصرًا على السجناء الذين يعانون اضطرابات عقلية خطيرة. فالمُدانون البيض في جرائم إدمان المخدرات يزيد احتمال حصولهم على العلاج في المجتمع والمؤسسات العقابية على حدٍّ سواء، بينما يزيد احتمال إيداع المدانين السود السجن في مثل هذه الجرائم. وفي السجن، يقل احتمال إلحاق المدانين السود ببرامج إعادة التأهيل من إدمان المخدرات مقارنةً بالسجناء البيض. وقد أظهرت دراسة حديثة في كاليفورنيا7 أن ثلثي من تلقوا علاجًا من الإدمان كانوا من البيض، رغم أن سبعين بالمائة من المسجونين بجرائم تتعلق بالمخدرات كانوا من الأمريكيين من أصل أفريقي. وكشفت دراسة أخرى في نيويورك عن نتائج مماثلة.

إن التمييز العرقي والعنصرية السافرة منتشران على نحو هائل داخل السجون. وحتى إن علم السجين أنه عرضة لفقدان السيطرة على انفعالاته كلما دخل في شجار عرقي، فليس بإمكانه تجنب المواقف التي يمكن أن تمثل خطورة. ويتضاعف تأثر السجناء الملونين بالتمييز العرقي خلف القضبان. كما تلعب العنصرية دورًا كبيرًا في ظهور الأعراض النفسية وتفاقمها لديهم، ويزيد احتمال حرمانهم من خدمات الصحة العقلية الملائمة مقارنةً بالسجناء البيض.

•••

ليست العنصرية الصورة الوحيدة للتسلط داخل المؤسسات العقابية. وسأتناول في الفصل التالي صور معاناة السجينات عندما يتم تجاهل احتياجاتهن الخاصة ويصبحن ضحايا للتحرش الجنسي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤