الفصل الثاني عشر

العابد

الطبائع الأربع

طبيعة العبادة، وطبيعة التفكير، وطبيعة التعبير الجميل، وطبيعة العمل والحركة …

هذه طبائع أربع تتفرق في الناس، وقلما تجتمع في إنسان واحد على قوة واحدة. فإذا اجتمعت معًا فواحدة منهن تغلب سائرهن لا محالة، وتلحق الأخريات بها في القوة والدرجة على شيء من التفاوت.

طبيعة العبادة تدعونا إلى الاتصال بأسرار الكون للمعاطفة والتآلف بيننا وبينها، تدعونا إلى الحلول من الكون في أسرة كبيرة.

وطبيعة التفكير تثير في نفوسنا ملكات الكشف والاستقصاء، تدعونا إلى الحلول من الكون في معمل كبير.

وطبيعة التعبير الجميل تشب النار المقدسة في سرائرنا، فتصهر معادن الجمال من هذه الدنيا وتفرغها في قوالب حسناء من صنع قرائحنا وألسنتنا، أو صنع قرائحنا وأيدينا، أو صنع قرائحنا وأوصالنا، تدعونا إلى الحلول من الكون في متحف كبير.

وطبيعة العمل والحركة تعلمنا كيف نتأثر بدوافع الكون وكيف نؤثر فيها، وتجذبنا إليها فنستمد منها القدرة التي تجذبها إلينا، تدعونا إلى الحلول من الكون في ميدان صراع ومضمار سباق.

وقلما تشعر بالكون بيتًا لأسرة، ومعملًا لباحث، ومتحف فن، ومضمار سباق في وقت واحد. إنما هي حالة من هذه الحالات تجب سائر الحالات، وقد تلحقها بها إلحاق التابع بالمتبوع والمساعد بالعامل الأصيل.

محمد بن عبد الله كانت فيه هذه الطبائع جميعًا على نحو ظاهر في كل طبيعة: كان عابدًا ومفكرًا، وقائلًا بليغًا، وعاملًا يغير الدنيا بعمله ولكنه عليه السلام كان عابدًا قبل كل شيء، ومن أجل العبادة — قبل كل شيء — كان تفكيره وقوله وعمله، وكل سجية فيه.

تهيأ للعبادة بميراثه ونشأته وتكوينه فولد في بيت السدانة والتقوى، وتقدمه آباء يؤمنون بإيمانهم، ويعتقدون ويخلصون فيما اعتقدوه.

ونشأ يتيمًا من طفولته فانطوى على نفسه، وتعود التأمل والجد والعزوف عن عبث الصغار، والنظر إلى ما حوله بعين الناقد المترفع عن الدنايا، الجانح إلى الطهر واستقامة الضمير.

وتكون في بنيته عابدًا من صباه …

قيل إنه في الثانية أو الثالثة من عمره قد أدركته حالة يختلف شراح التاريخ في تفسيرها، ويرويها من سمعوا بها على روايات مختلفات لا ندري ما هو الواقع الصحيح منها، ويتعجل بعض المؤرخين الأوروبيين فيحسبها ضربًا من الصرع على غير سند علمي أو تاريخي محقق يستند إليه.

كل ما يمكن أن نجزم به من هذه الحالة أو من غيرها أن محمدًا قد تكون ليتلقى الوحي الإلهي، وأن لهذا التكوين استعدادًا لا بد أن يلحظ من أوائل صباه، لأن البنية الحية لن تتهيأ له في أيام ولا في أشهر ولا في سنوات، ولن تستطيعه إلا إذا تمت أهبتها له والمولود في صلب أبيه، ولا نقول في المهد أو في الرضاع.

فمن الأقوال المتواترة أنه كان عليه السلام إذا نزل عليه الوحي نكس رأسه، وكرب لذلك وتربد وجهه، وأخذته البرحاء حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان في اليوم الشاتي، وسمع عند وجهه كدوي النحل، وقد يصدع فيغلف رأسه بالحناء. وقد شاب فقال: «شيبتني هود وأخواتها.» وعدد حين سئل عن أخواتها سورًا أخرى من القرآن الكريم، وليس هذا من خليقة كل بنية إنسانية: إنما هو خليقة البنية التي تتلقى وحيًا وتستوعب سرًّا وتهتز لنبأ عظيم.

صفة العابد

وكانت أوصافه في غير حالة الوحي توافق الاستعداد الذي يرشحه لتلقي الوحي والنبوة، فكان حسًّا كله وحياة كله. يراه من ينظر إليه فيرى فؤادًا يقظًا يتنبه لكل خالجة نفسية وكل نبأة خفية، يسرع في مشيته، ويلتفت فيلتفت بكل جسمه، ويشير فيشير بكل كفه، ويفكر فلا يزال يطرق إلى الأرض أو يرفع بصره إلى السماء، ويدعو فيرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه، ويغضب فتحمر عيناه ووجنتاه، ويمتلئ عرق جبينه، وينام وقلبه يقظ لا ينام؛ حس مرهف يدني إليه ما وراء الحجاب، ويوقظ سريرته لأخفى البواطن، ويجعله أبدًا في حالة قريبة من حالة الوحي حيثما هبط الوحي عليه.

هذه صفة عابد يفكر ويعبر ويعمل، وليست بصفة عابد ينقطع للعبادة أو ينقطع للتفكير، أو يعمل كما يعمل بعض النساك الذين هزلت بنيتهم الجسدية فلم يبق لهم إلا عكوف الصومعة أو رحلة الزهادة.

كانت عبادة محمد خلوًّا بالنفس إلى حين، أو عجبًا من بدائع الكون التي ألفها الناس لأنهم لم يوهب لهم في أبصارهم وبصائرهم تلك النظرة الجديدة التي ترى كل شيء كأنه في خلق جديد.

ما أعظم دهشة الناظر أن يرى الشمس قد خلقت اليوم أمام عينيه.

دهشة لا تعدلها دهشة …

وهي هي دهشة العين التي أبت أن تكل من الألفة لأنها أبدًا في نظر جديد، أو في نظر إلى كل منظور كأنه مخلوق جديد.

وهكذا كانت عبادة محمد عليه السلام؛ عجب من بدائع الكون في كل نظرة يراها لأول مرة، وتفكير في الخلق ينتهي إلى الإيمان لأنه يبدأ بالعجب، ولا يزال أبدًا بين العجب والإيمان.

وإن محمدًا باعث الإيمان إلى القلوب، لقد كان يجدد إيمانه كما يجدد عجبه كل يوم، وكان يدعو الله فيقول: «يا مقلب القلوب ثبِّت قلبي على دينك» … وقيل له في ذلك فقال: «إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله. فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ.»

حركة متجددة في الحس وفي الفكر وفي الضمير.

فلا انقطاع عن الحس للعبادة كل الانقطاع.

ولا انقطاع عن الحس للتفكير كل الانقطاع.

وإنما هو تفكير من ينتظره العمل، وليس بتفكير من ترك العمل ليوغل في الفروض ومذاهب الاحتمال والتشكيك؛ ثلث أيامه لربه وثلثها لأهله، وثلثها لنفسه، وما كان في فراغه لنفسه ولا لأهله شيء يخرجه عن معنى عبادة الله والاتصال بالله، على نحو من التعميم.

بهره الجمال من صباه؛ جمال الشمس والقمر والنهار والليل والروض والصحراء، وجمال الوجوه التي يلمح عليها الحسن فيطلب عندها الخير. إنما هو الخير على كل حال ما قد طلب من الجمال، وإنما جمال الله هو الذي قد كان يدعوه إليه، كلما نظر إلى خلق جميل.

فكَّرَ في الخلق فآمن بالخالق، واستقر هنالك لا يتقدم ولا يتأخر. فقال: «إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول: من خلق السماء؟ فيقول: الله. فيقول: من خلق الأرض؟ فيقول: الله. فيقول: من خلق الله؟ فإذا وجد ذلك أحدكم فليقل: آمنت بالله ورسوله.»

تلك هي نهاية التفكير التي ينتهي إليها عقل مستقيم خلق لعبادة عامل، وتعليم الناس عبادة وعملًا، ولم يخلق ليوغل في الفروض ويتقلب بين الشكوك.

وإنا لنسأل مع هذا: إلى أين انتهى المفكرون الذين أوغلوا في شكوكهم وتطوحوا بها إلى قصوى ما تفرضه الفروض؟

إلى أين انتهى «كانت» Kant إمام المفكرين في هذا الباب بين فلاسفة العصر الحديث، إن لم نقل الحديث والقديم؟

انتهى إلى أن النفس نفسان والوجود وجودان: نفس حسية ونفس حقيقية … ووجود محسوس ووجود حق هو ذات الوجود.

النفس الحقيقية تدرك الوجود الحقيقي عندما ترجع إلى قرارها، ثم لا تتخطى بإدراكها عالم الباطن إلى عالم المحسوسات التي يتناولها التعبير وتصوير الكلام …

أليس معنى هذا أن إيمان النفس الباطنة أمر لا يتعلق بالبرهان؟ وأن المرجع غاية المرجع إنما هو الإيمان ولا شيء غير الإيمان؟

بل حتى البرهان الأكبر على وجود الله نعود إليه لنسأله ونسمع منه فماذا يقول؟

يقول لنا إن العدم معدوم فالوجود إذن موجود، وإنك إذا آمنت بالوجود فلا مناص لك من الإيمان به في صفته المثلى، لأنك تحتاج إلى مقتض لفرض النقص ولا تحتاج إلى مقتض لفرض الكمال في وجود لا يتطرق إليه العدم.

وما الفارق بين الإيمان بالله والإيمان بالوجود في صفته المثلى؟

هنا ينتهي الإيغال في الفروض والشكوك.

وهناك انتهى الإيمان، بغير إيغال في فروض ولا شكوك.

ألا تتلاقى النهايتان؟ … أولا تضل الفروض والشكوك حيث تضل ثم لا يخطو لها قدمان وراء خطو الإيمان؟

لهذه السنة التي استنها النبي عليه السلام في عبادته الروحية كثرت وصاياه بإدمان التفكير في خلق الله واجتناب التفكير في ذات الله فقال في حديث: «تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله.» وقال في هذا المعنى: «تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله فتهلكوا.» وقال في حديث قدسي: «كنت كنزًا مخفيًّا فأحببت أن أعرف، فخلقت الخلق لأعرف.» أو كما جاء في رواية: «فخلقت الخلق فبي عرفوني.»

طريق الوصول

وخلاصة هذه الأحاديث وما في معناها أن التفكير في حقائق الوجود هو طريق الوصول إلى الله ولا طريق غيره للحواس ولا للعقل ولا للبديهة: إيمان بالوجود الأبدي في صفته المثلى، وتفكير في حقائق الوجود كما نراه ونحسها ونعقلها، وذلك قصارى ما عند العقيدة، وقصارى ما عند الفلسفة، وقصارى ما عند العلم إذ يقف العلم عند حده، وهذا هو العلم الذي فرضه الإسلام على كل مسلم ومسلمة، وقال النبي في رواية ابن عباس: «أنه أفضل من الصلاة والصيام والحج والجهاد في سبيل الله» لأنه سبيل الوصول إلى الله.

ومن الواجب أن نذكر بعد هذا جميعه أن محمدًا نبي، وأن النبي يُعلِّم جميع الناس الإيمان، وتلك سبيل جميع الناس فيما يفتح لهم من أبواب التفكير وأبواب الاعتقاد. فهم يضلون في تيه الشكوك والمناقضات التي يتعمق فيها الفلاسفة والمنطقيون، ولا يبلغون إلى هداية أقوم وأسلم من هداية الإيمان بالخالق والتفكير في الخليقة، فإما هذه الهداية وإما الضلال الذي لا هداية وراءه، وليس لنبي أن يحجب طريق الهداية ويفتح طريق الضلال.

•••

وقد تكلمنا في هذا الفصل عن روح العبادة أو عن فطرة العابد التي توحي إليه «عبادته الروحية» …

أما عبادة الشعائر الظاهرة فهي عبادة الإسلام كما فُرِضت على جميع المسلمين؛ يصلي النبي ويصوم ويحج ويؤدي الزكاة على الشريعة التي يتبعها كل مسلم، وقد يطلب إلى نفسه في هذه العبادات ما ليس يطلبه إلى غيره، على سنة السماحة والتيسير التي أُثِرت عنه في كل عمل من أعماله وكل سجية من سجاياه …

«فكان أخف الناس صلاة على الناس وأطول الناس صلاة لنفسه»، وربما قام الليل أكثره أو أقله ولا يدين أحدًا بالتهجد كما كان يتهجد أو بالصلاة والصيام كما كان يصلي ويصوم، بل قد نهى الناس أن يشتدوا في العبادة؛ فيصبحوا كالمنبتِّ «لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقى»؛ لأن الناس جميعًا يتلقون الأمر بالعبادة كما يتلقون الأمر بفريضة واجبة، فهم في حاجة إلى الرفق والتيسير.

أما النفس المفطورة على العبادة فالصلاة عندها مناجاة حب وفرحة لقاء، ومطاوعة لميل الضمير وميل الجوارح على السواء.

•••

وكان محمد «إذا حزبه أمر صلى.»

كذلك إذا حزب الأمر نفسًا رجعت إلى من تحب فخف وقرها، وانفرج كربها، وأنِست بعد وحشة، واهتدت بعد حيرة.

ومتى وجدت النفس «فرحة اللقاء» في الصلاة فلا إجهاد فيها لجسد ولا تضييق فيها لوقت، بل فيها الترويح عن الجهد والتنفيس عن الضيق، ولا سيما إذا كانت النفس من سعة الأفق بحيث تُحْيي ما تحيي من ليلها ونهارها في الصلاة والعبادة، ثم تؤدي عملها وتفكر تفكيرها. ولا يحسب أحد يعرفها أنها تنقطع بالصلاة والعبادة عن حق من حقوق حياتها، أو عن حق من حقوق بني الإنسان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤