أميرة … ولكن في المنام

إذا كان الإنسان حيوانًا ناطقًا، ففي بلاد الأفريكان الإنسان حيوانٌ راقص … الرقص هناك على «البهلي»، وعلى عينك يا تاجر، واللي ما يتفرج يشوف. الراديو يرقص كثيرًا ويتكلم قليلًا، والأخبار هناك على فتراتٍ بعيدة والكلام بحساب. وتمثيلية واحدة فقط في اليوم ثم الموسيقى الراقصة على ودنه، وحتى التمثيلية الواحدة بطلها راقص وغلبان وصدمان، وواقع في حب رقَّاصة، وليس الإنسان وحده هو الذي يرقص، كل شيء هناك يرقص حتى الشجر والبيوت. فعندما تهب الريح من المحيط الأطلسي على الساحل تتراقص أشجار جوز الهند الجميلة الرشيقة، فتبدو وكأنها بنتٌ حلوة شعرها منكوش! وبيوت الساحل كلها أكواخ، وهي الأخرى ترقص عندما تهبُّ الريح، فيُخيَّل إليك أن ساحل غانا كله حاضر في حفلةٍ راقصة ليس لها مثيل. وفي الليل يتحول ساحل غانا كله إلى فرقة موسيقية تصدر ألحانًا غايةً في الغرابة، وغاية في الإرعاب. ملايين من الضفادع، وكل ضفدعة وضفدع في حجم القطة. وهات يا شخر ويا نخر، وبصوتٍ أعوذ بالرحمن الرحيم!

ولكن الغريب أنها متناسقة، يضمُّها إطار من الهارموني، وتَسمع قطَعًا موسيقيةً غايةً في الحلاوة والجمال، وكأنها الفرقة الضفدعية بقيادة أحمد فؤاد ضفدع!

كنت في شارعٍ مرةً أسأل عن مكان، واتجهْت إلى شابٍّ مهيب المنظر كأنه ضابط في جيش هانيبال، له لحية ولا لحية ثائر من كوبا، محترم ولا البابا بيوس، وعندما بدأ يُجيب على سؤالي، انبعثَت الموسيقى فجأةً من جهاز راديو قريب، فأهملني وأهمل سؤالي ونزل رقص يا ميت ندامة، كأنه جعان جوع الإبل لم يذق رقصًا منذ عام.

وفي وينيبا أجمل وأحلى قرية على الشاطئ الغربي لأفريكيا رأيت عُمالًا في عز الحر، عرايا كأنهم على بلاج، والشغل داير، والرقص داير في نفس الوقت. ورئيس العُمَّال ماسك لهم الواحدة، والدَّق على الحجر متناسق متجانس يعزف نغمة غايةً في الحلاوة والهداوة والجمال. رئيس العُمَّال — كما عرفْت — ليس أحسنَهم عملًا ولكن أحسنهم رقصًا، وهم بدونه لا يعملون … والصوت كما صوت الصعايدة الجدعان أبناء بلدي، أتمنى على الله أن تسافر إلى أفريكيا بعثةُ فنونٍ شعبية وستكشف العجب العجاب. ذات صباحٍ جميل استيقظتُ من نومي على أصواتٍ هادرةٍ صادرةٍ من قلب الغابة. كان اليوم عيد في وينيبا، وفي هذا العيد يعود الأفريكي إلى طبيعته. يخلع ملابسه ويرتدي ملابس الأجداد، وسترى في المهرجان نفْس المناظر التي تُصورها هوليوود على أنها أفريكيا اليوم … الوجوه المخطَّطة بأبيض وأحمر، والعظم الذي على المنخار، والريش المدكوك في الشعر، والملابس جلد غزال وجلد حمار، والحِراب عليها جماجم وعليها جثث طيور! مناظر هوليوود الكذابة ليست إلا ذكرى يحتفل بها الأفريكيون مرةً كل عام. المهم أنني استيقظْت ذات صباحٍ جميل على أصواتٍ هادرةٍ صادرةٍ من قلب الغابة، وانخلع قلبي وأسرعَت دقَّاته لما سمعتُ. أقسم لكم وأحلف بكل كتاب أن الصوت شدَّني إلى القاهرة وإلى الجامع الأزهر صباح يوم العيد الكبير، نفس التراتيل، نفس الأنغام، كلكم، لا بد تعرفونها، وكلكم لا بد تحفظونها «الله أكبر كبيرًا، والحمد لله بكرة وأصيلًا، لا إله إلا الله، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» … الكلام طبعًا مختلف، والمعنى طبعًا يختلف، ولكن النغم واحد، والصوت يتردد في أرجاء الغابة، ورجْع الصوت يرتعش في جو القرية، كما تنداح مياه بحيرة سقط فيها حجرٌ كبير! أغرب شيء على هذه الأرض أن البشر لا يختلفون كثيرًا، كلهم من آدم وآدم من تراب، الاختلافات بسيطة ويسيرة، وغير ذات وزنٍ كبير. ولكن بعض البشر استغل الفرصة فلهف امتيازاتٍ بسبب هذه الفروق. البعض خطفوا السود وباعوهم في المزاد، وخطفوهم وصدَّروهم لوش المدفع في الحرب، وخطفوهم وأخذوهم إلى بلادهم، ليصبح البيض سادةً والسود كما جرابيع الصحراء! أي فرقٍ بين الأسود والأبيض إلا كما الفرق بين المرور على الشمال في إنجلترا وعلى اليمين في مصر؟ هكذا سألَت العبد لله البنت القمحية الشقية مارسيل في حفلٍ راقص كبير في أكرا. وأنت لا تلتقي بالشعب الأفريكي ولا تعرفه إلا في حفلة رقص. والرقص هناك ليس حفلةً ولكنه شيءٌ مقدَّس، ولأنه شيء مقدس فله قواعد، وله أصول، وله مواعيد كما الصلاة، لا تتأخر دقيقة ولا تتقدم لحظات! يوم السبت بعد المغرب تتوقف الحياة كلها ليبدأ الرقص، والذي لا يرقص في غانا كالذي لا يصوم رمضان في مصر. قد يُوجَد من لا يحسن الرقص، ولكنه لا يجرؤ على الاعتراف … حتى السؤال نفسه إذا وجَّهتَه إلى إنسانٍ منهم فهو عيبٌ لا يليق! وتذكرة الدخول إلى المرقص بجنيه أخضر مقرقش كما السميط الطازة … هذا إذا كان الراقص وحده، أما إذا كان الراقص معه بنتٌ ترقص فالدخول بنصف الأجر … ذلك أن المجتمع الأفريكي مجتمع متحضر فشر مجتمعات أوروبا، ولا تستطيع أبدًا أن تجد شلة رجالة بشوارب مع بعض، أو شلة نسوان بكعوب عالية مع بعض. الرجل والمرأة جنبًا إلى جنب، في الغابة، وفي المصنع، وفي المكتب، وفي المرقص.

والبنت مارسيل أفريكيةٌ صميمة، بنت بلد ومثقفة، وحلوة كما حبة مانجة عويس، لونها كما لون ثمر الدوم، جسمها كما الأستك، شعرها أكْرَت صحيح ولكن مرفوع إلى أعلى، آخر موضة وآخر مزاج. ظلَّت ترقص مطهومة لمدة ساعة، لو حصان سبق يجاريها لَطَب ميِّت من شدة الرهقان. والبنت مارسيل اللهم صلِّ ع النبي صحيحة البدن كما مهرة مرتاحة وشبعانة في يوم مهرجان! ومع ذلك فحياتها كانت أشقى من حياة العبد لله. أبوها مات وهي على عتبة المدرسة الثانوية، وأمها هي الأخرى آثرت الرحيل إلى دار البقاء بعد زوجها بثلاثة أعوام.

واحتارَت مارسيل واحتار دليلها، ثم خرجَت من المدرسة إلى الشارع، وسرحَت في أكرا بموزٍ مشوي، وحكمة الله أن الموز هناك ينشوي كما نشوي الذُّرة على شارع الكورنيش! وكانت غانا تغلي كلها وقتئذٍ وتشتعل بالنار. الثورة تشمل الغابات والجبال والوديان، ومارسيل تسرح وراء الرغيف، وتطفح الكوتة من أجل لقمة العيش. ولكن الشقاء لم يمنع مارسيل من الانتظام في صفوف الثورة، ولم تمنع الثورةُ مارسيل من العودة إلى المدرسة.

هكذا أصبحت مارسيل ثائرةً وتاجرةً وتلميذة … ولكن مارسيل استطاعَت أن تصنع كل هذا، وأن تجمع بين التجارة والثورة والمدرسة في آنٍ واحد. ثم قُدِّر لها فجأةً أن ترتاح، مات خالها وكان على شيء من اليسار. وبالنقود القليلة التي ورثَتها أصبحَت مارسيل صاحبة دكان في «الكنجزاوي» وتفرغَت للمدرسة وتركَت الدكان لشقيقٍ كان يصغرها بأعوام. وتخرجَت مارسيل من الجامعة، وسافرَت إلى إنجلترا وتخرجَت من جامعة لندن وعادَت لتملأ الحياة ضجيجًا وعجيجًا وأملًا بغير حدود. البنت القمحية الشقية مارسيل الجميلة لم تتزوج بعد … مع أن الرجالة في أفريقيا على قفا من يشيل! وأي رجلٍ هذا الذي يرفض أن يشيل مارسيل على أم رأسه؟ ولكن لسببٍ غريبٍ مارسيل لا تريد أن تتزوج. كانت دائمًا تخشى الزواج؛ لأن الزواج يعقبه عيال، وقد يجيء الموت، وعندئذٍ يا ميت ندامة على العيال وعلى اللي خلفهم!

هكذا حدث لمارسيل في سالف الأيام، وهي تُدرك طعم الشقاء وتعرف مذاق الضياع؛ ولذلك فهي لا تريد أن تُطعمه لمخلوقاتٍ في علم الغيب. وهي تعتقد أن وجودهم دائمًا في الغيب خير لهم وأبقى! على أيةِ حال، وعلى كل حال، مارسيل الشقية القمحية التي تعمل في النهار وترقص في الليل، وجهٌ حلو من وجوه أفريكيا، وجهٌ صلب رغم التقاطيع الجميلة، وقلبٌ شجاع رغم الرقَّة والحنان، لهطة بسبوسة ما أحلاها وما أعرض وأعمق حياتها! ولكن ما أبعد الفرق بين مارسيل وكمفورت، وكمفورت كلمة في القاموس الإنجليزي معناها المريحة. الْتقيْت بالسِّت المريحة إياها في حفلة رقص. جالسة على كرسي رجْل على رجْل ومعنزة كما شيخ غفر متعين حديثًا! وجهها بزرميط، لا هو أفريكي ولا هو جريكي ولا هو أي شيء … عيون أشهد وأختم وأبصم أنها ولا عيون البقر، عيون تضرب شرار وتضرب رصاص، عيون كاسرة ولا عيون ملك مجنون على قبيلة، آخر تعب! ومناخير زي الكوز ولكن فيها شيء. وشفايف … لا ليست شفايف ولكن شفاتير، وكل شفتورة وشفتورة كما العيش الشمسي بتاع زمان! وشعر كما شوك نابت شيطاني في رأس صلعاء! وجسم … سبحان العاطي الخلَّاق، مفصَّص، معضَّل، مدكوك، موزون آخر ظبط وآخر تمام.

والبنت كمفورت ترطن بالإنجليزي وبطريقة بتوع لندن تمام. وملابسها ليست على ما يُرام. ملابس تكشف أكثر مما تخفي، والبنت نفسها لا تعرف الفرق بين التحرر والانحلال. البنت جاهلة وقوية، وعينها غليظة كما كانت تقول ستي في سالف الزمان! وعند الرقص رقصَت ولا فراشة، ودكَّت الأرض ولا حصان، وداخ الذي رقص معها ولم يصبها أي شيء من الدَّوَخان!

البنت جالسة مشمأنطة قرفانة تحتاج إلى غلق لمون بنزهير، أو غلق حامض، على رأي إخوانَّا في لبنان!

البنت أمُّها أميرة — هكذا قالت — وهي بالتالي أميرة، ولكن التطور الكاسح الماسح في أفريكيا اليوم بطَّط تحت رجليه كل الكلام الفارغ الذي كان محترَمًا ومقدَّسًا أيام زمان! وأكم أمراء كانوا في أفريكيا زمان، أكم ملوك كانوا في الأيام الخوالي، كل واحد كان صايع وضايع كابس على أنفاس قبيلة داخل الغابة وعامل أمير! كل صعلوك مهتوك راكب على أعناق حفنة من الناس وعامل ملك الملوك! البنت لا تزال تعيش في الماضي، ولذلك فهي تحتقر أفريكيا من أعماقها. هي ليست أفريكيةً إلا بالمولد، ولكنها تعيش في لندن من زمان. سألتُها في أي مكانٍ في لندن كانت تعيش؟ لم تستطع أن تجيب على السؤال، فزاغَت وقالت: في اسكتلندا، والعبد لله لم يذهب إلى اسكتلندا، ولذلك صدقْت العناوين التي ذكرتها. كذابة هي قطعًا ومهروشة الدماغ وأميرة … ولكن في المنام! وهي نجمة مشهورة في اسكتلندا، الصحف تنشر صورها، وتنشر أخبارها، ويتردد اسمها في الراديو في نشرات الأخبار، وهي تعمل فنانةً في بلاد الإنجليز، وأكرا لا تعجبها لأنها قرية، وأفريكيا ليست على مزاجها، والفن كله والعالم كله والنعيم كله يا قلبي … في بلاد الإنجليز!

سألَتني عن مصر باستعلاءٍ: هل فيها تماسيح؟ هل تعيشون في الصحراء؟ وتحسَّسْت — لا مؤاخذة — مداسي؛ لينوب عني في الجواب!

راقبْت البنت المعنزة كثيرًا، وفي كل مرة كان يزداد إيماني بأن صواميل مخها مفكوكة، ومسامير عقلها محلولة، وكل أبراج التفكير في رأسها ذهبَت مع الريح!

سألْت مارسيل عن كمفورت فكشفَت لي عن سرها. البنت إياها صايعة بنت صايعة، ولكنها بالنسبة لبنات أفريكيا حلوة بلا جدال! اشتغلَت في أكرا خدامة عند واحد اسكتلندي مهروش الدماغ، عوج رأسها فعوجَت مشيتها. أصبحَت معنزة كما الغراب. وعندما دقَّت طبول الثورة في أفريقيا سحبها الاسكتلندي معه إلى هناك. وأن تكون البنت خدامةً في أكرا شيءٌ معقول، ولكن في اسكتلندا يصبح الأمر … يا حفيظ! وتعرَّفت البنت المهروشة إلى ولدٍ من جامايكا كما الواد بتاع كريستين كيلر … معه مطوة مفتوحة على الدوام، وعنده ملهى ليلي في بدروم تحت الأرض، تجتمع فيه كلَّ مساءٍ عصابةٌ من الصيع والأنطاع! وسحَب الولد الجامايكاوي البنت من بيت أسيادها إلى الملهى الليلي وهات يا رقص كل مساء. ومضى عامٌ وتصورَت البنت نفْسها رقاصةً ولا جوزفين بيكر في زمانها! أخذَت تتمرد وتتمرد ثم هجرت الملهى واسكتلندا كلها وذهبت إلى لندن تبحث عن عمل في حي سوهو الشهير! ورحَّب بها الجميع كخدامة ولكن ليس كرقاصة. ولما انقفلَت جميع السكك في وشها، هجرَت لندن وعادَت إلى أكرا تبحث عن مكانةٍ تحت الشمس وليس عن مكان! مؤهِّلاتها كلها نظرة ازدراءٍ لكل ما هو أفريكي، ولسان معووج يرطن كما إنجليزي مولود في برمنجهام، مشمأنطة ومعنزة وجاهلة أجهل من حمار. فلما فشلَت في أكرا اخترعَت حكاية الأميرة، وراحَت تتردد كل مساء على المراقص تبحث عن واحدٍ غشيمٍ مستعد لتصديق كل شيء … من أول سمُوِّ الأميرة إلى الفنانة الكبيرة صاحبة الصِّيت الذائع عبر البحار! وهي في كل ليلة تجد رجلًا يُصدِّقها أثناء الظلام، وفي شمس النهار يكتشف أنها أكذَب من مسيلمة، وتكتشف هي أنه أمكر من ثعلب غيطان المنوفية، وهكذا تمضي الحياة في أكرا، الليل كله في المراقص، والنهار بطُوله في الفراش، ولقد كانت كمفورت في البداية امرأةً صايعة فأصبحَت امرأةً دايرة، وستظل تدور حتى تسقط من فرط الإعياء!

كمفورت الصايعة الدايرة ليست وجهًا من وجوه أفريكيا، ولكنها جزءٌ من قفاها! والبنت كمفورت ليست حالةً شاذة في أفريكيا، ولكنها مخلَّفات الحكم الأجنبي هناك. مضى الاستعمار خارج أفريكيا وترك بصماته على وجه الحياة. أنا شُفت بنت اسمها أودري عاشت فعلًا في لندن ١٧ سنة. هل تعرف العيال الصيع بتوع زمان في مصر؟ أبناء الناس المتريشين المليانين الذين كانوا يسافرون كل عام للاستشفاء والعلاج. والذي يذهب الواحد فيهم شهرًا واحدًا إلى فرنسا ليعود ببرنيطة وبايب وصوت مسلوخ كما صرصار يصوصو في الظلام؟! هل تعرف أثرياء الحرب، الذين استولوا على غنائم من الجيش الإنجليزي أكثر مائة مرة من الغنائم التي استولى عليها الألمان؟ هل تذكر تجارة الخردة والكارتة والأزايز الفاضية ومتعهدي اللحوم والبيض والعيش للمعسكرات؟ أنا أعرف واحدًا منهم كان يسكن في حارتنا، وهي حارةٌ متواضعة، الناس فيها إذا أرادوا شمَّ الهوا طلعوا فوق السطوح؛ لأنه ليس فيها بلكونات! هذا الرجل الغلبان مثل حالي عندما نشبَت الحرب اشتغَل مُتعهِّد كارتة، وبالعربي الفصيح اشتغل مُتعهِّد زبالة في المعسكرات. بعد سنواتٍ أصبح الواد ابن حارتنا راجل غني تمام، خلع الجلابية والشبشب وارتدى بدلة وقميص حرير وكرافتة إنجليزي آخر طراز. حكاية الرجل هيِّنة، ولكن حكاية مراته هي الحكاية اللي عليها القصد والنية، مراته أم ملاية لف وشبشب زحافي، وقمطة على الجبين، وكام عيل مسلوع معلول ماسكين في طرف الملاية حتى لا تهرب الأم منهم وتزوغ. المرأة إياها خلعَت هذا كله، واشترَت فستان موضة، ودهكت وشَّها جير، ودهنَت شفايفها أحمر قوطة، وكانت تدخل حارتنا تقول للستات أنا مستأسفة بدلًا من عواف! ولم يكن أحد في الحارة يدري لماذا هي مستأسفة، ولماذا تدهن نفسها بكل هذه الألوان حتى كأنها أراجوز يتفرج عليه العيال!

الست أم إبراهيم هذه … هي الخالق الناطق الست أودري الأفريكية التي الْتقيْت معها ذات مساءٍ في بيتٍ أنيق على الساحل الغربي في أفريكيا. الست أودري عاشت ١٧ عامًا في لندن صحيح، جرسونة في محل أكْل وشرْب على رأي شندي فنان بلدنا، وفي لندن الْتقَت برجُلٍ أفريكي طيب كان يطلب العلم هناك. أحبَّت أودري في الرجل عِلمه، وأحبَّ الرجل الطيب في أودري طريقة إعدادها للطعام. وتزوجا وعادا إلى أفريكيا. الرجل مثقفٌ فعلًا وابن حلال مصفي. والست أودري لا تريد أن تنسى اﻟ ١٧ عامًا في لندن … شكلها لا يفترق كثيرًا عن شكل العبد لله، أقصد أنني أحلى وأجمل. ومع ذلك فالبنطلون محزق على العظام، ووجهها — أستغفر الله — كصفيحةٍ قديمةٍ مطبقة من كل ناحية، ومع ذلك فالبلوزة تكاد تكشِف ليس عن أكتافها ولكن عن بطنها، والست أودري عندها عربية وهي تسوق، مرتَّب زوجها الطيب ضائع على البنزين والويسكي والبناطيل. ولأن زوجها واقع في دباديبها حتى صلعته فقد آثر أن يستلف. والسلف تلف والرد خسارة. وهات يا سلف حتى صار أشهر سلِّيف في بلاد الأفريكان، ولما انسدَّت أمامه سُبل السلف تحول من سلِّيف إلى نصَّاب … كتب شيكات بلا رصيد، وباع أرضًا وهمية، واتسعت أعماله أكثر فأصبح يُصدِّر لتجَّار في الخارج بضاعة في الخيال، وانكشف الرجل الطيب في النهاية ودخل السجن. وقضى في السجن شهورًا طويلة ثم خرج ليجد كل شيء على ما يُرام. البيت مفتوح وعامر، وحساب النور مدفوع، والسيارة أصبحت أكبر وبنزينها أصبح أكثر، شيء واحد تغيَّر في البيت، لم تعُد الست حرمُه وحدَها أصبح لديها عدد من الصديقات على كل لون، وعليهم عدد آخر من الأصدقاء من كل ملة! وغطرش الزوج وصهين؛ فالأكل والحمد له موجود. فراخ في حجم العِجل البتلو، وحمام كما النسور، والويسكي بالصندوق، والفلوس كما القمح في موسم الحصاد. وهكذا تحوَّل الرجل الطيب إلى رجل طيِّع. ولقد تعرفْت على أودري بالصدفة، وكانت نظرة فابتسامة فسلام فرغْي أزلي، فهي أيضًا حريفة كلام، وزكريا الحجاوي بالنسبة لها مجرد مبتدئ ناشئ يستحق الجَلد على ظهره! والبنت قبيحة وسليطة ولسانها كما الكرباج. كنا على ساحل المحيط هربًا من لهاليب النار. المحيط نفسُه حران وعرقان، وحكمة الله أن كل النساء على الشاطئ عواجيز نكاريش وأوحش من العبد لله ويقرفوا الكلب الجربان! هؤلاء هم نساء الطبقة الهاي لايف، وهي الطبقة التي اغتنَت وتريشَت بعون الاستعمار، تحويش العمر كله نازلين فيه بعزقة على البطالة والراحة وشاطئ المحيط. الست أودري رغم الوحاشة والعظام النخرة كانت تبدو جميلةً وسط هذه الباقة من البقر الهولندي السمان! ولكن أكون كذوبًا ابن كذوبين لو قلت لكم إن كل النساء كانوا في حجم سيد قشطة، وحشين كما شيتا في أفلام طرزان، فجأةً هبَّت علينا حسناء كما الحَربة المسنونة، جسمها مشدود كما الغربال، المايوه في حجم منديل اليد، وكل شيء ظاهر وواضح وعلى عينك يا غلبان! سبحان الله، جسم الست فن ولا فن الألحان. الست كما قطعة موسيقية من وضع شتراوس، والست الطعمة تدرك أنها طعمة فتمشي تتقصَّع كما التختروان، ليس على الجلد كله خدشة ولا هبشة ولا لطشة، كأنها مصنوعة من باركيه أسوَد غاية في النعومة واللمعان. كأنها عربية إنسيابية مضروبة بدوكو أسود شغل بلده آخر طلاوة وحلاوة وجمال. قطعة لحم فقط أعلى الذراع مكان التطعيم بارزة قليلًا في الجلد كله … ولكنها ليست منهوشة ولكنها مختومة فقط، كأنها فخدة بتلو خارجة من السلخانة وعليها ختم الدكتور. ورأت أودري الخبيرة أنني أنظر وأدقق وأكاد أخترق بنظراتي التي كالرصاص حتى الجلد والعظام! ودَعَتني السيدة أودري إلى البيت ولبَّيتُ؛ عملًا بالقول المأثور: إذا دُعِيتُم فاستجيبوا، ودخل علينا شحط جبلي سلم وجلس والست أودري لا تكف عن الكلام المكشوف، وبعد ساعة من الهزار قدَّمَتني للشحط الجبلي، وقدَّمَت الشحط البلدي للعبد الغلبان. ووقع قلبي في رُكَبي. فالشحط إياه جوز الست أودري وسَبعها المغوار. وهتفْت في أعماقي: يا خفيَّ الألطاف نجِّنا مما نخاف. فلو أن هذا الشحط البلدي إياه لهفني زغدة ولو على سبيل الهزار فحتمًا سيكون قبري هناك! والست أودري الله يخيبها لم تسكُت ولم تكُف عن الكلام إياه، العكس هو الذي حدث، تمادت وتبجحَت، والبنت والحق أقول مثقفة من منبع خاص. عندها مكتبة صحيح، وفيها كتب صحيح، ولكنها كلها من مدرسة: رجوع الشيخ إلى صِباه، وكتُب الثقافة الرفيعة قوي من صنف جيمس بوند وأجاثا كريستي، وكل حكاياتها تدور وتلف حول بريسلي والخنافس، وهي دائمًا تستشهد بلندن، ولندن يرد ذكرها على لسانها بسرعة مائة مرة في الدقيقة. الجو هنا فظيع، ولكن … أوه … ما أجمل جو لندن، وأنا آسفة لأن الشاي ليس جيدًا كما ترى، كم أتوق إلى رشفة شاي في أحد مقاهي شلسي، وهذه الكراسي غير مريحة … كم هي مريحة كراسي لندن … وليلة أعتم من ليالي الحرب هي التي سهرت فيها مع أودري. متكلفة ولا كبة يزيد، متعجرفة ولا تركي فلسان، كذابة ولا راديو إسرائيل، طماعة ولا يهودي في البندقية.

وألقيْت نظرةً على الحاضرين فإذا بهم جميعًا قرفانين آخر القرف، وأغلبهم نام واستراح. فلما رأيت النوم في الناس فاشيًا، تناومْت حتى قيل إني نائم، وعندما استأذنْت في الخروج، وأسرعَت تلهث ورائي ببلوزتها المكشوفة وبنطلونها المحزق … وكتمْت في صدري ضحكةً؛ فقد كانت شديدة الشبه بالبنات اللواتي يأكلْن نارًا في شوارع القاهرة. ولو ربنا رزقني بواحدة من نوع أودري لسرحْت بها في الشوارع أنا ألعب الهيلاهوب وهي تأكل نارًا وسنجمع عندئذٍ ثروةً لا بأس بها. لو نطوف الحواري أنا والست أودري بمنظرها وبنطلونها ندعو العيال إلى الفرجة على فيلم طَعنة في الظلام، تأليف وتخريج وتفريج عمر عبد العزيز فلا بد أننا سنتعشى وننام حامدين شاكرين الله! الست أودري كانت تلهث ورائي لغرض، ولم يكن الغرض غير شريف لا سمح الله، ولكن لغرض شريف خالص، سألَتني الست أودري: هل أجد معك عملة صعبة؟ قلت: والحمد لله … ولا سهلة! … وفشخَت بقها فبدَت كسحلية تضحك، وقالت: مش معقول، سائح مثلك ليس معه نقود! قلت لها: سيدتي، أنا لست سائحًا … أنا واقع وحكايتي تشيب الطفل الرضيع. قالت: إحكيلي أرجوك، أنا أهوى الحكايات الغريبة، عادة تعلمتُها منذ كنت في لندن. أنت لا تعرف كم أنا أعشق لندن، عندما رأيت لندن أول مرة أحسسْت أنني أعرفها من قبل، راودني اعتقادٌ بأنني وُلِدْت فيها من قبل ثم متُّ، ثم بُعِثْت بعد ذلك في أفريكيا. صدقني … أنا أكره أفريكيا، ولكن عزائي الوحيد أنني أعيش على أمل أن نهاجر من هنا إلى لندن في يوم قريب!

الست أودري الناشفة الحاشفة نموذجٌ مضحك ستجده كثيرًا في أفريكيا، حيث كانت السيادة والقيادة يومًا ما للرجل الأبيض الملظلظ كما الفطير. كان القانون السائد أن الرجل الأفريكي لا يصلح للحكم، الرجل الأفريكي للشغل والأبيض للإدارة والإمارة والسلطان العظيم، وناس ياما صدقوا أسطورة الرجل الأبيض، ويوم الاستقلال ياما فقدَ ناسٌ عقولهم. هل هذا صحيح؟ هل انتهت دولة الرجل الأبيض؟ ولكنهم عاشوا على أمل أن كل شيء سينهار وسيعود كل شيء إلى ما كان عليه … فلما مضَت سنوات وسنوات وكل شيء ينمو ويزداد في الاتجاه الجديد، انهار هؤلاء تمامًا. بعضهم انتحر، وبعضهم انهطل في عقله فصار مثل أودري المفقعة المبقعة … لا تملك إلا أن تهذي بكلام فارغ كثير.

ولأننا في أفريكيا، ولأن الصراع لا يزال على ودنه بين القديم والجديد، والحرب شغَّالة بين التحفُّظ والتحرُّر فسنجد على سطح الحياة نماذج حقيرة ونماذج عظيمة … نماذج حقيرة تركها الخواجات، نتاج سنوات الذل الطويلة، ونماذج عظيمة دفع بها الشعب على السطوح، نتاج سنوات الثورة العامرة بالكفاح. ويا صلاة الزين على النماذج التي سنعرضها عليكم بإذن واحد أحد قهار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤