منا فنا

للكاتب البلجيكي «موريس ماترلانك»

مُثِّلَتْ منذ عشرين سنة ففُتن بها الناس، وكان النقاد يُجمعون على إكبارها، وغلا بعضهم في ذلك فذهب إلى أنها آية من آيات الفن، ولم يتردد «إميل فاجيه» في أنْ يثني عليها أجمل الثناء، ثم تناساها الناس في فرنسا، ولكنها طافت أقطار أوربا وأمريكا، ثم عادت في السنة الماضية إلى فرنسا، فمثلت في بيت «موليير»، ولم يتردد أحد من النقاد المعاصرين في باريس في أنْ يثني عليها، ويحمد «لبيت موليير» اتخاذه إياها بين قصصه التمثيلية؛ ذلك أنها خليقة بهذا الثناء، بل نستطيع أنْ نقول: إنها خليقة بالإعجاب الذي لا حد له، ففيها كل ما تمتاز به القصة التمثيلية المتقنة، فيها الفكرة التي تغذو العقل، وفيها العاطفة التي تغذو الشعور، وفيها الحركة التي تلذ الحس، ثم هي فوق هذا كله جميلة؛ لأنها تمثل فصلًا من فصول التاريخ.

وليس من شك في أنها ليست من الدقة التاريخية بحيث ترضي المؤرخ الحريص على الصدق والإصابة، ولست أقصد إلى هذا النحو حين أذكر أنها تمثل التاريخ، وإنما أريد أنها لا تمثل الحياة العصرية التي نحن فيها ولا تمثل عصرًا قريبًا من العصر الذي نعيش فيه، وإنما تمثل شيئًا بعد العهد به، فاشتد الميل إليه لا لشيء إلا أنه قديم؛ بل لشيء آخر غير أنه قديم، هو أنَّ هذا العصر الذي تقع فيه القصة كثيرًا ما تشتد الرغبة في درسه وتعرف أخباره وآثاره؛ لأنه عصر النهضة الأوربية يوم كانت هذه النهضة حديثة العهد، لا يتاح العلم بها والتنبؤ بمستقبلها إلا للأقلين عددًا، ثم تقع هذه القصة في إيطاليا مهد النهضة، فليس عجيبًا أنْ نجد شيئًا من اللذة حين نرى هؤلاء الإيطاليين الذين يتفاوتون في رقيِّ العقل تفاوتًا شديدًا، فمنهم من مسته النهضة، فقرأ آثار الفلاسفة من اليونان، وتأثر بما قرأ حتى أصبح فيلسوفًا يزدري ما حوله ويكره الحياة التي يحياها، ويتخذ للحياة مثلًا آخر غير المثل الذي يتخذه الناس، وأكثرهم لا يزال محتفظًا بما ورث من نظم الحياة في القرون الوسطى، فهو يجهل الفلسفة أو يزدريها، وهو يكره هذه المثل العليا التي يسعى إليها الفلاسفة ويحرصون عليها، ثم نجد نفس هذه الحياة — حياة القرون الوسطى — ممثلة أمامنا بما فيها من عادات وأخلاق ونظم ننكرها، فتقع من أنفسنا موقع العجب، كل ذلك يحبب إلينا هذه القصة، ولكن موضوعها نفسه خلاب مستهو للألباب؛ لأنه قديم وجديد معًا؛ ولأنه من هذه الموضوعات التي قد تختلف الأزمنة دون أنْ تنالها الشيخوخة، أو ينقص حظها من الشباب، فهي حية أبدًا، قوية أبدًا، مؤثرة أبدًا في نفوس الناس، ولقد قرأ الناس في تاريخ الرومان وفي تاريخ بني إسرائيل شيئًا يشبه هذا الموضوع شبهًا قويًّا، فكان مؤثرًا في نفوس شعرائهم وكتابهم وأهل الفن منهم، وتناولوه بالشعر والكتابة والتصوير، فلم يزده هذا إلا قوة وشبابًا وقدرة على التأثير في النفوس.

الموضوع في نفسه يسير: رجل قويٌّ جبار، ينتهك حرمة الآداب والأخلاق والديانات، ويستغل قوته وجبروته ليرضي لذة منكرة أو شهوة مرذولة، فيغتصب امرأة من الحق لها أنْ تُرعى حرمتها، وقد روت أساطير الرومان شيئًا من هذا كان من شأنه أنْ ثل عرش الملوك في روما وأقام مكانه الحكم الجمهوريَّ، وروى تاريخ بني إسرائيل شيئًا من هذا كان من شأنه أنْ أنقذ مدينة اليهود المقدسة من الفناء والدمار؛ لأن فاتحًا أغار عليها فحصرها وألح عليها في الحصار حتى لم يبق لها بدًّ من التسليم، ولكن امرأة جميلة كان الشعب بها مفتونًا ولها محبًّا، وكانت آية في الجمال والروعة، ذهبت إلى هذا الفاتح، فما زالت به تلاطفه وتداعبه حتى فتنته وأغوته ثم قتلته، فارتد الجيش عن المدينة خاسرًا، وقد أعجبت الشعوب بمثل هذه الأساطير، وتناقلت أخبار هؤلاء النساء على أنها تمثل البطولة.

فأنت ترى أنَّ الموضوع ليس في نفسه شيئًا جديدًا، وأنَّ الكاتب لم يخترعه اختراعًا، وسواء أصحت قصته من الوجهة التاريخية أم لم تصح، فليس من شك في أنه أحسن استثماره وتناوله على وجه أرضى العقل وأرضى الشعور وأرضى جمهور النظارة، ولقد مثلت سنة ١٩٢٣ قصة هذه المرأة الإسرائيلية التي قدمت الإشارة إليها، وكان واضع القصة «برنستين» الكاتب الفرنسي المشهور، فلم تنل ما كان ينتظره الكاتب من الفوز؛ لأنه لم يوفق فيها لمثل ما وفق له «ماترلانك» من الجمال والصدق والإتقان.

ولقد يكون من النافع أنْ نوازن بين هاتين القصتين لولا أننا لم نلخص لك قصة «برنستين»، فلنتكلف اليوم بتلخيص القصة التي نحن بإزائها، ولعلنا نعود إلى قصة «برنستين» في يوم آخر.

•••

نحن في أواخر القرن الخامس عشر في إيطاليا، والحرب قائمة بين مدينتين عظيمتين، إحداهما مدينة «فلورنسا» والأخرى مدينة «بيز»، وقد اشتدت هذه الحرب حتى بلغت أقصى ما كان يمكن أنْ تبلغ من القسوة والعنف، وأتيح النصر «لفلورنسا»، فهي تحاصر مدينة «بيز»، وتضيق عليها الحصار حتى استنفدت ما كان فيها من قوة ومئونة وذخيرة وصبر، فالمدينة مشرفة على التسليم، وهي ترسل الوفود تلو الوفود إلى القائد المنتصر تريد أنْ تفاوضه في شروط التسليم فلا تعود هذه الوفود.

وقد ضاق الشعب بالأمر، وسئم الجند هذا الموقف، فالجند ينذر بالفرار، والشعب يستعد للثورة، وقائد الجيش المحصور واسمه «جويدو» يدبر أمره مع اثنين من ضباطه، ينبئه الضابطان بما قدمنا من فشل الجيش، وإفلاس المدينة، واستعداد الأمر للفساد، وبأن جيشًا من مدينة «فنيس» كان مقبلًا لنجدة المدينة، ولكن جيشًا من «فلورنسا» لقيه فهزمه، وكان الشعب والجيش المحصوران ينتظران الخير من هذه النجدة، وهما يجهلان ما أصابهما، فينبئهما القائد بأنه قد بذل كل ما كان يستطيع ليتفق مع المنتصر على الإذعان والتسليم، ولكن هذا المنتصر لم يجبه ولم يرد عليه، فهو في حيرة من أمره، وقد انتهت به هذه الحيرة إلى أنْ أرسل أباه يفاوض هذا القائد، وهو ينتظر أباه من حين إلى حين، ويخشى أنْ يكون قد أصابه ما أصاب الوفود التي سبقته.

على أنه سيء الظن بمدينة «فلورنسا»، لا ينتظر منها إلا الشر كله، وهو يرى الخير لجنده ومواطنيه في أنْ يعرفوا الحقيقة كلها ويموتوا كرامًا، وهم يتحدثون في ذلك إذ يقبل الشيخ أبو القائد، واسمه «ماركو» فيسرع إليه ابنه وصاحباه يسألونه عن المفاوضة ونتائجها، ويسأله ابنه ماذا لقي من القائد المنتصر «برتز فالي»، فيجيبه بأنه لم يلق منه إلا خيرًا وإجلالًا؛ ذلك لأن هذا القائد المنتصر الذي يختلف الناس في أمره ليس فظًّا ولا متوحشًا، وإنما هو رجل رقيق الحاشية، مهذب، متعلم، قد قرأ كثيرًا، وكان مما قرأ كتب هذا الشيخ، فهو إذن قد لقيه في إجلال وإكبار، كما يلقى التلميذ أستاذه، ثم يتحدث الشيخ إلى ابنه وصاحبيه بأنه لقي فلانًا عند القائد، وأنه كان سعيدًا بهذا اللقاء؛ لأن فلانًا هذا من الذين استكشفوا فلسفة أفلاطون واعتنقوها وأذاعوها، فكأن أفلاطون قد بعث بعثًا جديدًا، ويمضي الشيخ في حديثه عن أفلاطون وفلسفته، وفي حديثه عما يستكشف الباحثون من آثار الأولين، فيحدثهم عن تمثال من تماثيل الآلهة وجد في غابة من الغابات، وكأنه قد نسي أنه أرسل ليفاوض في التسليم، وأنَّ من ورائه شعبًا يموت جوعًا، وجيشًا ينذر بالفرار والثورة، فيذكره ابنه بهذا كله، فيذكر ويجيب: نعم! لقد نسيت أنكم في حرب، على أني أحمل إليكم السلامة والعافية، ثم يسألونه عما يحمل، فتحس أنه يتكلف تأخير الجواب، ويقدم بين يديه كثيرًا من النصح والموعظة والتزهيد في لذات الحياة والترغيب في التضحية، ثم يضيق ابنه بهذه الفلسفة مبينًا أنَّ سعادة الفرد ليست شيئًا بالقياس إلى حياة رجل واحد، فكيف بحياة شعب بأسره! وكما مضى في هذا الحديث لم يزد الأمر إلا غموضًا على السامعين، فيلح ابنه وقد كاد يفقد الصبر، فيجيبه أبوه بأنه يحمل السلامة والعافية للناس جميعًا، ولكنه يحمل الشقاء لأحب الناس إليه وأكرمهم عليه، وهو قد قبل ووعد بتنفيذ ما شرط المنتصر، فإن لم يوفق لهذا التنفيذ، فقد وعد بأن يعود إلى هذا المنتصر ليلقى عنده ما أعد له من العذاب، وهو بار بوعده، فيلح ابنه في تبيين الأمر، فينبئه به وإذا هو منكر فظيع.

ذلك أنَّ القائد قد يئس من الحياة، فهو متهم في فلورنسا بالخيانة، وهو مقتول إنْ عاد إليها، وهو لا يريد أنْ يعود، ولكنه يريد أنْ ينتقم، فهو يريد أنْ يبعث إلى المدينة المحصورة بكل ما تحتاج إليه من قوة ومئونة وذخيرة، لتصبح بين اليوم والغد قادرة على أنْ تستأنف الحرب وتنتصر فيها، وهو لا يشترط لذلك إلا شرطًا واحدًا، ولكن الشيخ قبل أنْ ينبئهم بهذا الشرط ينبئهم بأن مدينة «فلورنسا» المنتصرة قد أزمعت أنْ تمحو هذه المدينة المحصورة محوًا لا تقوم بعده، فإذا تعجلوه في ذكر ما يشترط المنتصر أنبأهم بأن المنتصر يطلب أنْ ترسل إليه «منا فنا» زوج ابنه «جويدو» عارية لا يسترها إلا معطفها، فتمضي هذه الليلة، فإن قبل أهل المدينة هذا الشرط وأرسلوا إليه هذه المرأة، فهو مرسل إليهم كل ما وعد به من مئونة وذخيرة في الليلة نفسها، وإنْ أبوا فالحرب وتدمير المدينة.

لا يكاد القائد الشاب يسمع هذا الشرط حتى يثور ثائره، ويبلغ الغيظ منه أقصاه، وإذا هو مقتنع بأن أباه يرى رأيه، وإذا هو يهنئ أباه بهذه الشجاعة التي سيصطنعها حين يعود إلى القائد فيلقى عنده الموت، وإذا هو يزمع أنْ يذهب إلى الأسوار مع جيشه فيثبت لهجمة هذا الطاغية حتى يموت كريمًا ويموت أصحابه كرامًا، ولكن أباه ينبئه في هدوء وفلسفة أنه قبل الشرط، وأنه ينصح بقبوله وإنْ كان يراه عسيرًا أليمًا؛ لأن فيه حياة شعب وجيش، وليس من الحق لفرد مهما يكن أنْ يؤثر سعادته على حياة آلاف من الناس.

هنا حوار بين الأب وابنه مهما أقل فلن أستطيع أنْ أصف لك رقته وصدقه وجماله، هناك الشيخ يحب ابنه ويعطف عليه ويرثي له، ويرى أنه شقيٌّ مظلوم، ولكنه يحب الشعب ويعطف عليه ويرثي له من الجوع اليوم، ومن الموت والتشريد غدًا، وهو يُقدِّر الحياة الإنسانية والحرية الإنسانية، ويرى أنَّ سعادة ابنه مهما تكن ليست شيئًا، أو لا ينبغي أنْ تكون شيئًا بالقياس إلى حياة فرد فضلًا عن شعب بأسره، وهناك الشاب قويًّا شريفًا محتفظًا بشرفه مؤثرًا إيَّاه على كل شيء، محبًّا لزوجه شديد الغيرة عليها، فهو لا يسمع لأبيه إلا ساخطًا عليه، وهو لا يحفل بالشعب ولا بحياته ولا بآلامه، وهو لا يرى أنَّ من حق الجماعة على الفرد أنْ تكلفه مثل هذه التضحية التي لا يستطيع أنْ يحتملها الإنسان، فقد ضحى بقُوتِهِ ودمه، وهو مستعد لأن يضحي بحياته دفاعًا عن مدينته، ولكنه لا يستطيع أنْ يضحي، ولا يريد أنْ يضحي، وليس لأحد أنْ يطلب إليه أنْ يضحي بشرفه وحبه وسعادته دفاعًا عن هذه المدينة، فيجيبه أبوه بأن هذا كله قد يكون حقًّا في نظر الشباب، ولكنه إذا فكر وروَّى استيقن أنَّ التضحية بالحياة على ما فيها من جمال ليست شيئًا بالقياس إلى التضحية بالشرف التي تطلب إليه الآن، على أنَّ شيئًا من العقل والرويَّة يهون عليه احتمال هذه التضحية، فالشر واقع من غير شك، وستصبح امرأته في يد المنتصر غدًا إنْ لم تذهب إليه اليوم، ولكن الفرق أنها إنْ ذهبت إليه اليوم أحيت آلافًا من النفوس، وإنْ لم تذهب أضاعت شرفها وشرف زوجها، وأهلكت المدينة بأسرها.

أما الفتى فقد جن جنونه حتى أعتقد أنَّ أباه مجنون، وأنَّ الشيخوخة والإشفاق من الموت هما اللذان انتهيا به إلى هذه الضعة، وقد اعتزم ألا يسمع لأبيه، وهو يشفق إنْ ترك أباه حرًّا أنْ يتحدث أباه بشيء من هذا إلى الناس فيغريهم به، أليس الناس حريصين على الحياة! فهو يأمر إذن صاحبه بأن يتخذ أباه سجينًا، ولكن أباه يجيبه بأن ليس في ذلك خير ولا نفع؛ لأن الناس يعلمون من ذلك أنه تحدث إلى مجلس الحكم بما يشترط المنتصر قبل أنْ يتحدث به إلى ابنه القائد، وإذن فليس الأمر سرًّا، فإذا سأله عن رأي مجلس الحكم في هذا الشرط أجابه بأن مجلس الحكم لم يرد أنْ يقبل أو يرفض دون أنْ يسأل في ذلك «منا فنا» نفسها، يزداد سخط الفتى حين يعلم أنَّ شيئًا من ذلك قد يُلقى على مسامع امرأته، فهو مشفق على حيائها وعفتها وشرفها، ثم هو مع ذلك واثق بجوابها قابل له مطمئن إليه، فينبئه أبوه بأنه سعيد بهذا الرضا، ذلك أنَّ «منا فنا» قد قبلت ما اشترط المنتصر، وأزمعت أنْ تذهب إليه الليلة، وهم في ذلك إذ تقبل «منا فنا» شاحبة ممتقعة فيتلقاها زوجها متلهفًا يسألها ويعلن أنها رافضة، ولكنها تجيبه في هدوء: «سأذهب!» ومهما يلح ومهما يضرع ومهما يغضب ومهما ينذر، فهو لا يجد منها إلا جوابًا واحدًا: «سأذهب!»

•••

فإذا كان الفصل الثاني فنحن في خيمة القائد المنتصر «برنزفال» وهو بين اليأس والأمل، ينتظر الساعة الموقوتة، لا يدري أتقبل إليه المرأة التي ينتظرها أم يقبل إليه الشيخ، وقد دخل عليه كاتبه، يحمل إليه رسالة من ممثل حكومة «فلورنسا» في الجيش، وفي هذه الرسالة أمر بمهاجمة المدينة غدًا وإنذار بالقبض عليه إذا لم ينفذ هذا الأمر، فيسخر القائد من هذا الكتاب، فيظهر سخطه على ممثل الحكومة في الجيش وعلى مدينة «فلورنسا»، ونفهم منه أنَّ هذا الممثل كان قد كاد للقائد في «فلورنسا»، وأنَّ القائد عليم بهذا الكيد، ولكنه لا يريد أنْ يموت دون أنْ ينتقم، ودون أنْ يقضي ألذ ساعة من ساعات حياته وأسعد وقت من أوقاته بلقاء هذه المرأة، ثم يدخل عليه ممثل حكومة «فلورنسا»، فترى شخصًا قد بلغ الكاتب أقصى ما يمكن أنْ يبلغ من الإتقان في تصويره، هو ماهر في المكر والدهاء، هو النفاق ممثلًا، يتحدث إلى القائد، فإذا حديثه حلو خلاب، وإذا هو كأنه أحرص الناس عليه وأشدهم رغبة في استبقاء مودته ورفع شأنه، ولكنك تشعر بأنه لا يقول هذا كله إلا كذبًا ورياء، ويشتد الحوار بين الرجلين فإذا النفاق قد أزيل، وإذا هما يتصارحان، وإذا القائد ينبئ صاحبه بأنه على بصيرة بكل شيء، وأنه منتقم منه ومن «فلورنسا»، وأنَّ مدينة «بيز» ستصبح غدًا قوية منيعة عزيزة الجانب، وهو يتحدث بذلك إلى صاحبه، وإذا هذا الرجل الضعيف الذي لا يمثل إلا الخداع والمكر قد نهض إليه بخنجره يريد أنْ يقتله، ولكن الضربة أخطأت صدر القائد وأصابت وجهه، ثم يعفو القائد عن هذا الرجل ويأمر به، فيؤخذ سجينًا دون أنْ يصيبه أذى، وتقبل «منا فنا» فإذا دخلت تلقاها القائد في شيء من الاضطراب، أما هي فهادئة ثابتة مطمئنة لا تتكلم إلا قليلًا، تجيب «نعم» أو «لا» حين تُسأل، وهي تعلم ما ينتظرها، وهي مزمعة أنْ تكون عند ما يريد القائد، أليست قد أقبلت لهذا!

– أراضية أنت به؟

– نعم!

– ألا تأسفين له؟

– أكنت تريدني على ألَّا آسف!

– أتريدين أنْ تري ما سأرسله إلى المدينة من مئونة وذخيرة؟

– نعم!

فيأخذ بيدها، ويخرج أمام الخيمة، ويشهدان معًا انطلاق العربات تحمل ما يرسل به إلى المدينة، ثم يعودان وقد أدَّى ما عليه، فيجب أنْ تؤدي هي ما عليها، يقودها في لين ورفق إلى سرير غليظ جاف فتجلس، وإذا هو قد جثا بين يديها وإذا هو يدعوها باسمها الذي لا يعرفه إلا زوجها وأهلها، وإذا هو يتحدث إليها في صوت عذب، وإذا حديثه رفيق بريء من كل غلظة أو جفاء، وإذا هو ليس المنتصر الذي يريد أنْ يلهو، وإنما هو محبٌّ يعبد حبيبته.

– من أنت؟ أتعرفني؟

ثم يستمر بينهما حديث آية في الرقة والطهارة والعفة، ذلك أنهما كانا صديقين، كانت هي تعيش مع أمها في مدينة «فينيز» في قصر فخم عيشة الأغنياء، وكان هو يعيش مع أبيه الصائغ عيشة التجار، فأقبل أبوه ذات يوم إلى القصر يحمل إلى أمها عقدًا ورافق أباه وانتظره في الحديقة، فرأى عند فسقية طفلة في الثامنة من عمرها تنتحب؛ لأن خاتمها سقط في الماء، فألقى بنفسه في الماء يلتقط الخاتم، وكاد يفقد الحياة، وكان في الثانية عشرة من عمره، ولكنه استطاع أنْ يلتقط الخاتم، وأنْ يضعه في إصبع الطفلة، فقبلته وكانت بينهما مودة اتصلت حينًا.

– إذن! فأنت «جانلو»؟

– نعم!

– وكيف عبثت بك صروف الحياة؟ وكيف انقطعت بك الغيبة عني؟

– سافرت مع أبي إلى أفريقيا، فضللنا الطريق في الصحراء، ثم وقعت أسرًا في يد العرب ثم في يد الإسبانيين، ثم عدت إلى إيطاليا فالتمستك في «فينيز»، فعرفت أنَّ أمك فقدت ثروتها وماتت فقيرة، وأنك تزوجت من رجل غنيٍّ عظيم الجاه في مدينة «بيز»، وكنت أحبك حبًّا لا أستطيع أنْ أصفه.

– وكيف لم تسعَ في أنْ تلحق بي؟

– كنتِ سعيدة، وكنتُ شقيًّا، فآثرتُ لك السعادة، ولنفسي الشقاء، ولقد طفت حول هذه المدينة ووقفت على أبوابها، واجتهدت في أنْ أراك فلم أوفق لذلك، ثم حاربت وانتصرت وأجَّرت نفسي للمدن، وأجَّرت نفسي لمدينة فلورنسا، فانتصرت لها في حرب أو حربين، وإذا أنا قائدها أمام هذه المدينة، وإذا أنا أستطيع أنْ أراك! هذه هي القصة.

هنا حوار لذيذ بينهما في قمة هذا الحب الذي أضمره لها الشاب، ترى هي أنَّ هذا الشاب لم يَفِ للحب بحقه، فقد كان يجب عليه أنْ يسعى إليها ويلح في السعي حتى يصل إليها، ويرى أنه قد وفَّى للحب بحقه؛ لأنه إنما أحبها لنفسها لا لنفسه.

– وإذن فأنت تضحي بشرفك وماضيك ووطنك لتراني؟ يجب أنْ أعترف بأن هذه التضحية عظيمة جدًّا.

– يجب أنْ أنبئك بأني لم أُضَحِّ بشيء، فليس لي وطن، ولو أنَّ لي وطنًا لما ضحيت به في سبيل الحب، وإنما أنا أجير، وقد استيقنت أني مقتول في فلورنسا، فأنت ترين أني لم أخسر شيئًا بهذه الخيانة، ولم أشتر هذه السعادة التي أذوقها الآن بثمن قليل أو كثير.

فإذا اعترف لها بهذا في هذه الصراحة وهذا الصدق كان قد وصل من قلبها إلى كل شيء، فإذا هي تحبه، وإذا هي كانت تحبه، وإذا هي كانت تتكلف إخفاء هذا الحب، ولكنها وفية لزوجها تحبه أيضًا وتعطف عليه، وهو يحبها ولكنه يحبها حبًّا شريفًا نقيًّا، فهو لا يريدها على سوء، وهو يتعفف حتى عن تقبيل يدها، وهي تترك له يدها لا تضن عليه بشيء؛ لأنها تعلم أنه لا يطمع منها في شيء، وإذا هما يستكشفان معًا هذا الحب العظيم الذي لا يعدله شيء في الحياة عظمة وطهارة وقوة، وإنهما لفي هذه النجوى الطاهرة الحلوة التي تتجاوز بهما حدود الإنسانية، إذ يذكران من ينتظرها في المدينة، وهو شقيٌّ بهذا الانتظار، فتهم بالعودة لأن الفجر قد أقبل، ولكن كاتب القائد يدخل مضطربًا ينبئ بأن ممثلًا آخر لحكومة «فلورنسا» قد أقبل وقد انتصر على جيش «فنيز»، وهذا الممثل يتهم القائد بالخيانة، ويريد القبض عليه، فيجب أنْ يفر القائد وأنْ ينجو بنفسه، وهو يتحدث بهذا وإذا جلبة تسمع خارج الخيمة على بعد كأن الجيش يثور بقائده، أما القائد فهادئ مطمئن؛ لأنه ينتظر الموت دون أنْ يكرهه أو يخافه بعد هذه الليلة السعيدة التي قضاها مع من يحب، ولكنها جزعة مشفقة تريد أنْ تنجي صاحبها.

– تعال معي إلى المدينة، فأنت في ذمتي، ولن يكون زوجي أقل شرفًا وكرامة منك، فسأقص عليه كل شيء، وسيعرف لك مكانك مني.

يتردد القائد قليلًا ثم يَقبل، ويخرجان أمام الخيمة، وينظران في الأفق، فإذا مدينة «بيز» مضيئة، وإذا آيات الابتهاج والغبطة ظاهرة تملأ الأفق، وإذا هما مسحوران بهذه الزينة مبتهجان لما بعثا في هذه المدينة من حياة.

وإذا الحب والابتهاج قد بلغا من هذه المرأة أقصاهما، فضعفت لشدة ما قاومت ولشدة ما كظمت من عواطفها، فهي تضطرب الآن، وهي محتاجة إلى أنْ تعتمد على صاحبها لتمشي.

•••

فإذا كان الفصل الثالث فنحن في مدينة «بيز» في قصر «جويدو»، والصبح قد أخذ يشرق، «وجويدو» يتحدث إلى أبيه وإلى صاحبيه، فهو مثقل بما احتمل من هَمٍّ وما لقي من ضيم، وهو يذكر أنْ قد تم البيع والشراء، فأكلت المدينة وشربت وفرحت وابتهجت وأخذت بحظها من السعادة، وأخذ هو بحظه من الشقاء، وقد تمت إرادة المدينة فيجب أنْ تتم إرادته، أما أبوه فيرثي له ويعطف عليه، وينصح له بالإناة والروية، ويعترف بأن مصابه عظيم، ولكنه يعترف بأن الأمر لو استؤنف لما تردد في أنْ يسلك السبيل التي سلكها من قبل، ويشتد الحوار بينهما، فإذا القائد مغضب يريد أنْ ينتقم لنفسه، وإذا هو ساخط على أبيه يحتقره ويبغضه ولا يريد أنْ يراه، ولكن أصواتًا تسمع خارج القصر ولا تلبث أنْ تدنو، فإذا ضجيج وعجيج، وإذا صياح وهتاف، فإذا تبين القوم ذلك عرفوا أنَّ «منا فنا» قد أقبلت، وأنَّ الشعب يحييها ويحتفل بها ناثرًا عليها الأزهار باذلًا ما يستطيع لإجلالها وإكبارها، حتى إذا دخلت القصر ودخلت معها الجماعات المحتشدة ظهرت فرحة ومبتهجة، وتلقاها الشيخ فضمها إليه وقادها يريد أنْ يضمها إلى ابنه قبل أنْ ينصرف؛ لأن ابنه كان قد طرده، ولكن القائد لا يكاد يرى زوجه مقبلة إليه حتى يدفعها دفعًا عنيفًا، وحتى يصيح بهذه الجماعات المحتشدة يطردها ويزجرها.

– ماذا تريدون؟ لقد أكلتم وشربتم، وتستطيعون أنْ تأكلوا وتشربوا، فانصرفوا إلى ما تريدون، إنَّ في عيني دموعًا لستم أهلًا لأن تروها.

يدفعهم في عنف ويغري بهم الحرس، فينصرفون إلا شخصًا واحدًا هو «برتزفال» يدفعه وينذره ويهجم عليه يريد أنْ يؤذيه، فإذا امرأته قد قامت من دونه تحميه: دعه.

ثم ما تزال به حتى تنبئه بأن هذا هو «برنزفال»، فإذا سمع اسمه تغير في نفسه كل شيء، فابتهج ابتهاجًا لا حد له، وأقبل إلى الناس يدعوهم ويستعيدهم ليسمعوا النبأ العظيم؛ ذلك أنه استيقن أنَّ امرأته قد أسلمت نفسها لهذا القائد الوحشيِّ، ولكنها ما زالت به تخادعه حتى قادته إلى المدينة لينتقم لها زوجها منه وزوجها سعيد، فهو لم يكن يريد إلا أنْ يقتل هذا الرجل، وهو كان يعتقد أنه سيلقى في ذلك عناء، وسيتكلفه حينًا طويلًا، فكيف به وقد أصبح عدوه بين يديه!

يعلن هذا إلى الجماهير، ويقبل على امرأته يريد أنْ يضمها ويقبلها شاكرًا مغتبطًا، ولكنها تدفعه وما تزال به وبالناس حتى تسمعهم صوتها عاليًا، ألا إنَّ هذا الرجل لم يمسني، لقد قضيت الليل عنده وحيدة عارية لا يسترني إلا معطفي، ثم خرجت من عنده وكأني خرجت من عند أخي، ولقد دعوته إلى المدينة على أنه جارٌ لاجئ، فله ذمتي وله ذمتكم جميعًا.

أما زوجها فلا يكاد يسمع هذا حتى يسقط في يده، وكأنه قد فقد رشده وصوابه، فهو لا يصدق ما يسمع، وكيف يصدق ما يسمع! وهل مثل هذا الحديث يلائم طباع الناس! وكيف يستطيع أنْ يؤمن بأن هذا القائد قد أمسك عنده هذه المرأة الجميلة فخلا إليها وهي وحيدة عارية ثم لم يمسها ولم ينلها بأذى! ومن الذي يستطيع أنْ يصدق ذلك؟! وفي الحق أنَّ أحدًا من هذه الجماهير لا يصدق ذلك ولا يؤمن له إلا الشيخ، فإنه يخرج من الصفوف ويعلن أنَّ المرأة صادقة، فلا يلبث ابنه أنْ يتهمه بأنه يشارك هذين المجرمين في جريمتهما.

إذن فقد عجز عقل الزوج وعجزت معه عقول هذه الجماهير عن تصديق هذه القصة، فهم لا يستطيعون أنْ يؤمنوا بأن الإنسان يستطيع أنْ يصل من الطهارة والعفة والسمو إلى هذا الحد، وإذا هذا الزوج يلاطف زوجه، ويصطنع ما يملك من حيلة ليحملها على الاعتراف بالإثم، وإذا شيء من الجنون قد أصابه، فهو لا يستطيع أنْ يطمئن ولا أنْ يهدأ إلا إذا سمع من امرأته أنَّ هذا الرجل قد نالها بما تكره، وتيأس من تصديق زوجها، وتيأس من تصديق الجمهور، وهي واثقة بأن صاحبها مقتول إذا لم تكذب ولم تعترف بأنه قد نالها بالأذى، فما أسرع ما تتغير، وما أسرع ما تعترف كاذبة وهي تعلم أنها كاذبة بأن الرجل قد اقترف الإثم، وأنها قد خدعته ولاطفته حتى قادته إلى المدينة لينتقم لها منه، ولكنها هي تريد أنْ تنتقم، هي تريد أنْ تعذب هذا الرجل، وأنْ تقيس تعذيبها إياه بما منحته من لذة هناك حيث خلا إليها، هي تطلب وتلح في الطلب ألا يناله أحد بالأذى، وأنْ يوضع في غرفة من غرف السجن، وأنْ يكون إليها وحدها مفتاح هذه الغرفة لتفتن في تعذيبه! فما أسرع ما يطمئن زوجها، وتطمئن معه الجماهير إلى هذا الحديث، وإذا هم جميعًا مقتنعون بأنها الآن صادقة وهي تكذب، وبأنها كانت كاذبة حين كانت تصطنع الصدق.

خدعوا جميعًا إلا الشيخ فقد فطن لكل شيء، وأقبل إلى المرأة وقد أخذ ينالها شيء من الإغماء، أقبل إليها يشجعها همسًا، ويحثها على أنْ تمضي في الكذب، فالكذب وحده وسيلة النجاة لهذا الرجل الوفيِّ الشريف، أما هي فماضية في الكذب، ولكن حبها لصاحبها قد تجاوز كل حد، وأصبح لا يعدله إلا شيء واحد هو احتقار هؤلاء الناس الذين لا تستطيع عقولهم ولا نفوسهم أن تؤمن للحق إلا إذا صاغته على مثالها.

فانظر إلى هذه القصة وإلى فصولها الثلاثة، فأما الفصل الأول منها فآية في تمثيل البطولة والتضحية والأثرة، وهو يمثل هذا كله في صدق ودقة لا حد لهما.

وأما الفصل الثاني فآية في تمثيل البطولة النقية الطاهرة، التي لا يكاد يعرفها الإنسان أو يلقاها إلا في الكتب والأقاصيص.

وأما الفصل الثالث فهبط بك من هذه السماء الصافية النقية، التي صعد بك فيها الكاتب في الفصل الثاني إلى هذه الأرض التي يسكنها الناس ويعيشون فيها، متأثرين بأخلاقهم ورذائلهم ونقائصهم الاجتماعية، متأثرين فيها بالضعف الإنسانيِّ الذي يحول بينهم وبين أنْ يروا الحق، إلا إذا مُسخ هذا الحق مسخًا، وأصابه الفساد حتى لاءم نفوسهم.

نعم! ينحط بك هذا الفصل من ذلك الملأ الأعلى الذي خلق لتعيش فيه الملائكة، والذي هو جو كله صدق وصراحة وطهارة وبرٍّ إلى هذه الأرض، التي لا يمكن أنْ تستقيم أمورها إلا بالكذب والرياء.

فبراير سنة ١٩٢٤

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤